لمَّا وَلِيَ عُمَرُ بن عبدِ العزيز الخِلافَةَ اسْتَعمَل على الأَندَلُس السَّمْحَ بن مالِك الخَوْلاني خَلَفًا للحُرِّ بن عبدِ الرَّحمن الثَّقَفي لِمَا رَأَى مِن أَمانَتِه ودِيانَتِه, وأَمَره أن يُمَيِّز أَرضَها، ويُخرِج منها ما كان عَنْوَةً ويَأخُذ منها الخُمُسَ، ويَكتُب إليه بِصِفَة الأَندَلُس. فقَدِمَها السَّمْحُ، وفَعَل ما أَمَره عُمَرُ، وعَهِدَ إليه بإجْلاءِ المسلمين مِن الأَندَلُس خَشيَةً مِنه على أَرواحِهم، إلَّا أنَّ السَّمْح حين نَزَل الأَندَلُس واطَّلَع على أَحوالِها، طَمْأَنَ الخَليفةَ إلى قُوَّةِ حالِ المسلمين في الأَندَلُس. أَصلَح السَّمْحُ قَنْطَرَةَ قُرْطُبة على نَهرِ الوادي الكَبير, ونَظَّمَ البِلادَ ثمَّ تَوَجَّه لِفَتْحِ ما وَراءَ جِبالِ البرانس، ودَخَل فَرنسا واسْتُشْهِدَ فيها بعدَ مَعركَة تولوز عام 102هـ.
كان جَدُّ السلاجقةِ بغاق من مشايخِ التُّركِ القُدَماء، الذين لهم رأيٌ ومَكيدة ومكانةٌ عند مَلِكهم الأعظَم، ونشأ ولدُه سلجوق نجيبًا شَهمًا، فقَدَّمه المَلِك ولقَّبه شباسي، فأطاعَتْه الجيوشُ وانقاد له النَّاسُ بحيث تخوَّفَ منه المَلِك وأراد قَتْلَه، فهرب منه إلى بلادِ المسلمين، فلمَّا خالط المسلمينَ أسلم فازداد عِزًّا وعلُوًّا، ثم توفِّيَ عن مِئَة وسبع سنين، وخلَّف من الأبناء أرسلان وميكائيل وموسى، فأمَّا ميكائيل فإنه اعتنى بقتالِ الكُفَّار من الأتراك، حتى قُتِلَ شَهيدًا، وخَلَّفَ ولديه طغرلبك محمد، وجعفر بك داود، فعَظُم شأنُهما في بني عَمِّهما، واجتمع عليهما التركُ مِن المؤمنين، وهم تُركُ الإيمانِ الذين يقول لهم النَّاسُ ترُكمان، وهم السَّلاجقة بنو سلجوق.
كانت أوَّل حركة الفرنج لأخذ سواحل المسلمين وخروجهم إليها في هذه السنة، ساروا إليها، وأوَّل ما أخذوا نيقية، وهو أوَّلُ بلد فتحوه وأخذوه من المسلمين. ثمَّ فتحوا حصونَ الدروب شيئًا بعد شيء، ووصلوا إلى البارة، وجبل السَّمَّاق، وفامية، وكفر طاب، ونواحيها. واستباح الفرنج تلك النواحي، فكان هذا أولَ مظهر للفرنج بالشام، قَدِموا في بحر القسطنطينية في جمعٍ عظيم، وانزعجت الملوك والرعية، وعَظُم الخَطبُ، وقيل: "إنَّ صاحب مصر لما رأى قوة السلجوقية واستيلاءَهم على الشام، كاتب الفرنجَ يدعوهم إلى المجيءِ إلى الشام ليملكوها، وكثُرَ النفيرُ على الفرنج من كل جهة"؛ فأسفرت حملتهم الأولى عن قيام 4 إمارات صليبية، هي: إمارة الرها، وأنطاكية، وطرابلس، ومملكة بيت المقدس.
هو السُّلطانُ الكبير، أبو يعقوبَ يوسفُ بن عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي صاحب المغرب, تمَلَّك بعد أخيه المخلوع محمد بن علي؛ لطَيشِه، وشُربِه الخمر، فخُلِعَ بعد شهر ونصف، وبُويع أبو يعقوب، وكان شابًّا مليحًا، أبيض بحُمرة، مستديرَ الوجه، أفوَهَ، أعيَنَ، تامَّ القامة، حُلوَ الكلام، فصيحًا، حُلوَ المفاكهةِ، عارفا باللغة والأخبار والفِقه، متفنِّنًا، عاليَ الهمة، سخيًّا، جوادًا، مَهيبًا شجاعًا، خليقًا للمُلك. قال عبد الواحد بن علي التميمي: "صحَّ عندي أنَّه كان يحفَظُ أحد (الصحيحين)، أظنُّه البخاري", وكان فقيهًا، يتكلم في المذاهب، ويقول: قولُ فلان صواب، ودليلُه من الكتاب والسنة كذا وكذا. نظر في الطبِّ والفلسفة، وجمع كُتُب الفلاسفة، وتطَلَّبَها من الأقطار، وكان يصحَبُه أبو بكر محمد بن طفيل الفيلسوف، فكان لا يصبِرُ عنه. قال أبو الوليد بن رشد الأندلسي: "لما دخلتُ على أبي يعقوب وجدتُه هو وابن طفيل فقط, فأخذ ابنُ طفيل يطريني، فكان أوَّلَ ما فاتحني أن قال: ما رأيُهم في السماء؟ أقديمةٌ أم حادثة؟ فخِفتُ، وتعَلَّلتُ، وأنكرتُ الفلسفة، ففَهِمَ، فالتفَتُّ إلى ابنِ طفيل، وذكرَ قول أرسطو فيها، وأورد حُجَجَ أهل الإسلام، فرأيتُ منه غزارة حِفظٍ لم أكن أظنُّها في عالِم، ولم يَزَلْ يبسطني، حتى تكَلَّمتُ، ثم أمر لي بخِلعةٍ ومال ومركوب". قال عبد الواحد: "لما تجهَّز أبو يعقوب لغزوِ الروم، أمَرَ العلماء أن يجمعوا أحاديثَ في الجهاد تُملى على الجند، وكان هو يُملي بنفسه، وكبارُ الموحدين يكتبونَ في ألواحهم". وكان يَسهُلُ عليه بذل الأموال لسَعةِ الخراج، فقد كان يأتيه من إفريقيَّةَ في العام مائة وخمسون وقرَ بغل, كان سديد الملوكيَّة، بعيدَ الهمَّة، جوادًا، استغنى الناسُ في أيامه. وزر له أخوه عمر أيامًا، ثم رفَعَ منزلته عن الوزارة، وولى إدريسَ بنَ جامع، إلى أن استأصله، ثم وزر له ولده يعقوب الذي تولى السلطة بعده، وكان له مِن الولد ستة عشر ابنًا. قال ابن خلكان: "كان يوسفُ فقيهًا حافظًا متقنًا؛ لأن أباه هَذَّبه وقرن به وبإخوتِه أكمَلَ رجال الحرب والمعارف، فنشؤوا في ظهور الخيل بين أبطال الفرسانِ، وفي قراءةِ العلم بين أفاضِلِ العلماء, وكان ميلُه إلى الحكمة والفلسفة أكثَرَ مِن ميله إلى الأدب وبقيَّة العلوم، وكان جمَّاعًا منَّاعًا ضابطًا لخراجِ مملكته عارفًا بسياسة رعيته، وكان ربما يحضُرُ حتى لا يكادُ يغيبُ، ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نُوَّاب وخلفاء وحكام قد فوَّضَ الأمور إليهم؛ لِمَا علم من صلاحِهم لذلك، والدنانير اليوسفية المغربية منسوبةٌ إليه. فلما مُهِّدَت له الأمورُ واستقَرَّت قواعِدُ مُلكِه، دخل إلى جزيرة الأندلس لكشف مصالحِ دولته وتَفقُّد أحوالها. ثم استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج". دخل الأندلسَ في سنة سبع وستين للجهاد، وهو يضمِرُ الاستيلاء على باقي الجزيرة، فجهَّزَ الجيش إلى محمد بن سعد بن مردنيش صاحِبِ مرسية، فالتقوا بقرب مرسية، فانكسر محمَّد، ثم ضايقه الموحِّدون بمرسية مدة، فمات، وأخذ أبو يعقوب بلاده، ثم سار فنازل مدينةَ وبذى، فحاصر فيها الفرنجَ أشهُرًا، وكادوا أن يسلِّموها من العَطَشِ، ثم استُسقُوا فسُقُوا، وامتلأت صهاريجُهم، فرحل بعد أن هادَنَهم، وأقام بإشبيليَّةَ سنتين ونصفًا، ودانت له الأندلس، ثم رجع إلى السوس، وفي سنة خمس وسبعين سار حتى أتى مدينةَ قفصة، فحاصرها، وقبضَ على ابن الرند. وهادَنَ صاحب صقلية، على أن يحمِلَ كُلَّ سنة ضريبة على الفرنج، وفي سنة تسع وسبعين استنفَرَ أهلَ السهل والجبل والعرب، فعَبَرَ إلى الأندلس، وقصد شنترين بيد ابن الريقِ فحاصر فيها الفرنجَ مُدَّةً، وجاء البرد، فقال: غدًا نترحل. فكان أوَّلَ من قَوَّض مخيمَه عليُّ بن القاضي الخطيب، فلما رآه الناسُ، قوَّضوا أخبيتهم، فكَثُر ذلك، وعَبَرَ ليلتئذ العسكر النهر، وتقدموا خوف الازدحام، ولم يَدْرِ بذلك أبو يعقوب، وعَرَفَت الروم، فانتهزوا الفرصةَ، وبرزوا، فحَمَلوا على الناس، فكشفوهم، ووصلوا إلى مخيَّم السلطان، فقُتِلَ على بابه خلقٌ من الأبطال، وخُلِصَ إلى السلطان، فطُعِنَ تحت سُرَّتِه طعنةً مات بعد أيام منها، وتدارك الناسُ، فهزموا الرومَ إلى البلد، وهرب الخطيبُ، ودخل إلى صاحِبِ شنترين، فأكرمه، واحترمه، ثم أخذ يكاتِبُ المسلمين، ويدلُّ على عورة العدو، فأحرقوه. ولما طُعِنَ أبو يعقوب ساروا به ليلتين، ثم توفِّي، فصُلِّيَ عليه، وصُيِّرَ في تابوت، ثم بعث إلى تينمل، فدُفِنَ مع أبيه، وابن تومرت. مات في سابع رجب، وكانت مدَّة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهرًا، ومات عن غيرِ وصية بالمُلك لأحد من أولاده، فاتَّفَق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليكِ ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فمَلَّكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه؛ لئلا يكونوا بغيرِ مُلكٍ يَجمَعُ كَلِمتَهم لقُربِهم من العدُوِّ.
كان مِن خَبَرِ أهلِ البَحرين أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان قد بَعَث العلاءَ بنَ الحَضْرميِّ إلى مَلِكِها؛ المنذِرِ بن ساوى العَبْديِّ، وأسلَمَ على يَدَيه وأقام فيهم الإسلامَ والعَدْلَ، فلمَّا توفِّيَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، توفِّي المنذِرُ بعده بقليلٍ، فلما مات المنذِرُ ارتدَّ أهلُ البحرينِ، وملَّكوا عليهم الغَرورَ، وهو المنذِرُ بنُ النُّعمانِ بنِ المنذِرِ. وقال قائِلُهم: لو كان محمَّدٌ نبيًّا ما مات. ولم يَبْقَ بها بلدةٌ على الثَّباتِ سِوى قريةٍ يقالُ لها جواثا من قرى الأحساء، كانت أوَّلَ قريةٍ أقامت الجُمُعةَ مِن أهلِ الرِّدَّةِ وبعث الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه إليهم العلاءَ بنَ الحَضْرميِّ، فلمَّا دنا من البحرينِ جاء إليه ثمامةُ بنُ أُثالٍ في محفَلٍ كبيرٍ، وجاء كُلُّ أمراءِ تلك النَّواحي فانضافوا إلى جيشِ العلاءِ بنِ الحَضرميِّ ثمَّ لَمَّا اقتَرَب من جيوشِ المرتدَّةِ -وقد حَشَدوا وجمَعوا خَلقًا عظيمًا- نزل ونزلوا، وباتوا متجاورينَ في المنازِلِ، فبينما المسلِمونَ في الليلِ إذ سَمِع العلاءُ أصواتًا عاليةً في جيشِ المرتدِّينَ، فقال: مَن رجُلٌ يكشِفُ لنا خبَرَ هؤلاء؟ فقام عبدُ اللهِ بنُ حذفٍ، فدخَلَ فيهم فوجَدَهم سُكارى لا يَعقِلون؛ مِن الشَّرابِ، فرجع إليه فأخَبَره، فركب العلاءُ مِن فَورِه والجَيشُ معه، فكَبَسوا أولئك فقَتَلوهم قتلًا عظيمًا، وقَلَّ مَن هَرَب منهم، واستولى على جميعِ أموالِهم وحواصِلِهم وأثقالِهم، فكانت غنيمةً عظيمةً جسيمةً، وكَتَب إلى الصِّدِّيقِ فأعلَمَه بذلك.
حصَرَ مَلِكُ الأبخاز- القوقاز- مدينة تفليس – عاصِمةَ جورجيا الآن، وتسمى تبليسي- وامتنع أهلُها عليه، فأقام عليهم محاصِرًا ومُضَيِّقًا، فنَفِدَت الأقوات، وانقطعت الميرةُ، فأنفذ أهلُها إلى أذربيجان يَستنفرون المسلمينَ، ويسألونهم إعانَتَهم، فلمَّا وصل الغز إلى أذربيجان، وسَمِعَ الأبخاز بقربهم، وبما فعلوا بالأرمن، رحلوا عن تفليس مُجفِلين خائفين. ولَمَّا رأى وهسوذان صاحِبُ أذربيجان قُوَّةَ الغز، وأنَّه لا طاقة له بهم، لاطَفَهم وصاهَرَهم واستعان بهم.
كان العلاءُ بن الحَضْرَميِّ رضِي الله عنه واليَ البَحْرين، وكان يُسابِق سعدَ بن أبي وَقَّاص في الفَتحِ، فلمَّا كتَب الله النَّصرَ في القادِسيَّة، وكان له الصَّدى الواسعُ أَحَبَّ العَلاءُ أن يكونَ له النَّصرُ على فارِسَ مِن جِهَتِهِ، فنَدَبَ النَّاسَ إلى الجِهادِ، فاجتمَع الجيشُ وعَبَروا البحرَ إلى فارِسَ، ولكن كلّ ذلك دون إذْنِ عُمَر بن الخطَّاب، واتَّجه العَلاءُ إلى إصْطَخْر -مدينة جنوب إيران- وقاتلوا حتَّى انتصروا وفتحوها، ولكنَّ الفُرْسَ قطَعَت طَريقَهُم إلى سُفُنِهم فبَقَوْا مُحاصَرين ممَّا أَدَّى إلى عَزْلِ العَلاءِ، وطلَب منه الالتحاقَ بسعدِ بن أبي وَقَّاص وطلَب مِن عُتبةَ بن غَزْوانَ أن يُنْجِدَ العَلاءَ، فانْتَصَر المسلمون ثمَّ عادوا إلى البَصْرَةِ.
هو عليُّ بنُ عبدالله بن جعفر المعروفُ بابنِ المديني، إمامُ عَصرِه في الجرحِ والتَّعديلِ والعِلَل، وُلِدَ سنةَ إحدى وستين ومائةٍ، أحدُ الأعلامِ، وصاحبُ التصانيفِ، روى عنه الأئمَّةُ: البُخاري، وأحمد، والنَّسائي، وغيرُهم، قال ابن عُيَينة: "لولا ابنُ المدينيِّ ما جَلَستُ"، وقال النَّسائيُّ: "كأنَّ اللهَ خلَقَ عليَّ بن المديني لهذا الشأنِ"، وقيل للبخاريِّ ما تشتهي؟ قال: "أقدَمُ العِراقَ وعَلِيُّ بنُ عبدالله حيٌّ فأجالِسُه". وقال البخاري: "ما استصغَرْتُ نفسي عند أحدٍ إلَّا عند عليِّ بنِ المَدِيني" له كتابُ العِلَل، وقَولُه في الجرحِ والتَّعديلِ مُقَدَّمٌ، توفِّيَ في سامرا، فرَحِمَه الله تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمسلمينَ خَيرًا.
بعد سيطرة فرديناند على بسطة أهم مدن شرق غرناطة التي كانت تحت حكم الأمير أبي عبد الله محمد بن سعد الزغل خرج الأمير الزغل من مدينة وادي آش تابعًا لصاحب قشتالة، فلما لحقه بايعه ودخل في ذمتة وتحت طاعته على أن يعطيه مدينة وادي آش وكل مدينة وحصن وقرية كانت تحت طاعته وحكمه، فأجابه إلى مطلبه ورجع معه إلى وادي آش وهو فرح مسرور، فدخلها العدو وقبض قصَبَتها واستولى عليها في العشر الأُوَل من شهر صفر، ودخل في ذمته جميع فرسان الأمير الزغل وجميع قواده، وصاروا له عونًا على المسلمين وطوَّعوا له جميع البلاد والقرى والحصون التي كانت تحت طاعتِهم من مدينة المرية إلى مدينة المنكب، ومن مدينة المنكب إلى قرية البذول، فقبض صاحب قشتالة ذلك كله من غير قتال ولا حصار ولا تعب ولا نصب، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وجعل في كل قصبة قائدًا نصرانيًّا مع جماعة من النصارى يحكم في ذلك الموضع، وفي هذا الشهر خلصت جميع بلاد الأندلس لصاحب قشتالة، ودخلت تحت طاعته وتدجن-داهن- جميع أهلها ولم يبقَ للمسلمين في الأندلس غير مدينة غرناطة وما حولها من القرى خاصة، وزعم كثير من الناس أن الأمير محمد بن سعد الزغل وقواده باعوا صاحب قشتالة هذه القرى والبلاد التي كانت تحت طاعتهم وقبضوا منه ثمنها، وذلك على وجه الانتقام من ولد أخيه الأمير أبي عبد الله الصغير وقواده؛ لأنهم كانوا في غرناطة ولم يكن تحت طاعتهم غيرها، فأراد بذلك قطع علائق غرناطة؛ لتهلك كما هلك غيرها, ولا حول ولا قوة إلا بالله!
هو أبو محمد الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، هو الإمامُ الحادي عشر عند الشيعة الذين يدَّعون عِصمَتَهم, كان مولدُه بسامرَّا بلد العسكرِ، ومنها أخذ لقبه، وأمُّه أمُّ ولدٍ. توفِّيَ في سامرا وله تسع وعشرون سنة. ودُفِنَ إلى جانب والده. والحسَنُ العسكري هو والد محمَّد المهدي الذي تزعمُ الرافضة أنَّه الإمام المنتظَر الذي سيخرجُ من السرداب، ولِدَ سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة ست وخمسين. عاش بعد أبيه سنتين، ولم يُعلَم كيف مات. وهم يدَّعون بقاءَه في السرداب منذ عام 262ه، وأنَّه صاحِبُ الزمان، وأنه حيٌّ يعلَمُ عِلمَ الأوَّلينَ والآخرين، ويعتَرِفون أنَّ أحدًا لم يَرَه أبدًا، فنسأل اللهُ أن يثبِّتَ علينا عُقولَنا وإيمانَنا!!
بعد عزل باي تونس إبراهيم الشريف اجتمع أهل الحل والعقد من العلماء وأكابر العسكر بتونس، فنصبوا ديوانًا لتولية من يصلح للقيام بأمر الخلق، فلم يجدوا أصلح من حسين باي بن علي الحسيني، فجددوا بيعته وأبقوه على ما هو عليه من ولايته؛ لِما يعلمون من شفقته وعطفه وحسن عهده وسلامة صدره من المكر والحقد والغدر، ولِما جبله الله عليه من اللين والرفق وحسن التدبير والسياسة، ففرح الخلقُ عامة من أهل تونس وأوطانها وعجمها وعربها وبلدانها بتوليته، وسُقِط في يد أهل الفساد ما كانوا يتمنون، وازداد أهل الخير فرحًا به؛ لِما كانوا منه يرتقبون، وكان عفيف البطن من المسكرات، والفرج من الفواحش والمنكرات، فاستقامت أحواله وانتظمت آماله، وسَعِدت رعيته بسعده، ودافع عنهم بجِدِّه وجهده، وبتوليه انتهى عهد المراديين في تونس، وبدأ عهد البايات الحسينيين، والذي استمر إلى عهد الاستعمار الحديث وتمكين الحبيب أبي رقيبة من رئاسة تونس.
هو جمال الدين أبو المحاسن يوسف ابن الأمير سيف الدين تغري بردي بن عبد الله الظاهري الحنفي، ولد في القاهرة سنة 813، كان أبوه من مماليك الظاهر برقوق ومن أمراء جيوشه، بل صار نائب دمشق في آخر حياته وتوفي فيها، وتفقه ابنه جمال الدين وقرأ الحديث وبرع في التاريخ، وامتاز به واشتهر بتآليفه التاريخية التي منها: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ومنها حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور، وله المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، وهو معجم تراجم، وله نزهة الرأي في التاريخ، وله كتب أخرى في غير التاريخ، مثل: نزهة الألباب في اختلاف الأسماء والألقاب، والبحر الزاخر في علم الأوائل والأواخر، وغيرها من المصنفات. توفي بالقاهرة
حضر القضاةُ والعُلَماءُ وفيهم الشيخُ تقيُّ الدين ابن تيمية في يوم الاثنين ثامِنَ رجب عند نائب السلطنةِ بالقَصرِ، وقُرئت عقيدةُ الشيخ تقي الدين ابن تيمية الواسطيَّة، وحصل بحثٌ في أماكِنَ منها، وأُخِّرَت مواضِعُ إلى المجلس الثاني، فاجتمعوا يومَ الجمعة بعد الصلاة في الثاني عشر من هذا الشهر, وحضر الشيخُ صفي الدين الهندي، وتكلَّمَ مع الشيخِ تقيِّ الدين كلامًا كثيرًا، ولكِنَّ ساقِيَتَه لاطمت بحرًا، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخُ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاقِقُه من غيرِ مُسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر النَّاسُ من فضائل الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني وجَودةِ ذِهنِه وحُسنِ بحثِه حيث قاومَ ابن تيميَّة في البحث، وتكَلَّم معه، ثم انفصل الحالُ على قبول العقيدة، وعاد الشيخُ إلى منزله مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وكان الحامِلُ على هذه الاجتماعات كتابًا ورد من السلطان في ذلك، كان الباعِثُ على إرسالِه قاضي المالكيَّة ابن مخلوف، والشَّيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه، وذلك أنَّ الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يتكَلَّم في المنبجي وينسِبُه إلى اعتقادِ ابن عربي، وكان للشيخِ تقي الدين من الفُقَهاءِ جماعة يحسُدونَه لتقَدُّمِه عند الدولة، وانفرادِه بالأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وطاعةِ الناس له ومحبَّتِهم له، وكثرةِ أتباعِه، وقيامه في الحق، وعِلمِه وعَمَلِه، ثم وقع بدمشقَ خَبطٌ كثير وتشويشٌ بسبب غيبةِ نائب السلطنة، وطَلَب القاضي جماعةً من أصحاب الشيخ وعَزَّرَ بَعضَهم ثمَّ اتفق أن الشيخ جمال الدين المِزِّي الحافظ قرأ فصلًا بالردِّ على الجهميَّة من كتابِ أفعال العباد للبخاريِّ تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء، فغضب بعضُ الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدوًّا للشيخ تقي الدين ابن تيمية, فسَجَن المزِّي، فبلغ الشيخَ تقي الدين فتألَّم لذلك وذهب إلى السجنِ فأخرجه منه بنَفسِه، وراح إلى القصرِ فوجد القاضيَ ابن صصرى هنالك، فتقاولا بسبب الشيخِ جمالِ الدين المزِّي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيدَه إلى السجن وإلَّا عزل نفسَه فأمر النائِبُ بإعادتِه تطييبًا لقلب القاضي فحَبَسه عنده في القوصيَّة أيامًا ثم أطلقه، ولما قدم نائبُ السلطنة ذكر له الشيخُ تقي الدين ابن تيمية ما جرى في حقِّه وحَقِّ أصحابه في غيبته، فتألم النائِبُ لذلك ونادى في البلدِ ألَّا يتكلم أحدٌ في العقائِدِ، ومن عاد إلى تلك حَلَّ مالُه ودَمُه ورُتِّبَت داره وحانوته، فسكنت الأمور، ثم عُقِدَ المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصرِ واجتمع جماعةٌ على الرضا بالعقيدة الواسطية, وفي هذا اليوم عزلَ ابنُ صصرى نفسَه عن الحكم بسبب كلامٍ سمعه من بعض الحاضرينَ في المجلس، وهو من الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتابُ السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادةُ ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارةِ المنبجي، وفي الكتابِ: إنا كنا سمعنا بعقدِ مَجلِسٍ للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقد بلَغَنا ما عُقِدَ له من المجالس، وأنه على مذهب السَّلَفِ، وإنما أردنا بذلك براءةَ ساحتِه مِمَّا نسب إليه، ثم جاء كتابٌ آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشفُ عن ما كان وقع للشيخِ تقي الدين ابن تيمية في أيَّام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني، وأن يُحمَلَ هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجَّها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخِ خَلقٌ من أصحابه وبَكَوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائبُ السلطنة ابن الأفرم بترك الذَّهابِ إلى مصر، وقال له: أنا أكاتِبُ السلطان في ذلك وأصلِحُ القضايا، فامتنع الشيخُ من ذلك، وذكَرَ له أن في توجُّهِه لمصر مصلحةً كبيرة، ومصالحَ كثيرة، فلما كان يومُ السبت دخل الشيخُ تقيُّ الدين غزَّةَ فعَمِلَ في جامعها مجلسًا عظيمًا، ثم دخلا معا إلى القاهرة والقلوبُ معه وبه متعلِّقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل إنَّهما دخلاها يوم الخميس، فلما كان يومُ الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاةُ وأكابر الدولة وأراد أن يتكَلَّم على عادته فلم يتمكَّن من البحث والكلامِ، وانتدب له الشَّمسُ ابن عدنان خصمًا احتسابًا، وادَّعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنَّه يقول: إنَّ الله فوق العَرشِ حَقيقةٌ، وأنَّ الله يتكَلَّمُ بحَرفٍ وصَوتٍ، فسأله القاضي جوابَه فأخذ الشيخُ في حمد اللهِ والثناء عليه، فقيل له: أجِبْ، ما جئنا بك لتخطب! فقال: ومن الحاكِمُ فيَّ؟! فقيل له: القاضي المالكي، فقال له الشَّيخُ: كيف تحكمُ فيَّ وأنت خصمي، فغضب غضبًا شديدًا وانزعج وأقيمَ مَرسمٌ عليه وحُبِسَ في برج أيامًا، ثم نقِلَ منه ليلة العيد إلى الحبس المعروفِ بالجُبِّ، هو وأخوه شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن، وأما ابن صصرى فإنه جُدِّدَ له توقيعٌ بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشقَ يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوبُ له ماقتة، والنفوسُ منه نافرة، وقرئ تقليدُه بالجامع، وبعده قرئ كتابٌ فيه الحطُّ على الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشاميَّة، وألزِمَ أهلُ مذهبه بمخالفتِه، وكذلك وقع بمصر، قام عليه جاشنكير وشيخُه نصر المنبجي، وساعدهم جماعةٌ كثيرةٌ من الفقهاء والصوفيَّة وجرت فِتَنٌ كثيرة منتشرة، نعوذُ بالله من الفتن، وحصل للحنابلةِ بالديار المصرية إهانةٌ عظيمة كثيرة، وذلك أنَّ قاضِيَهم كان قليلَ العِلمِ مُزجَى البضاعةِ، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابُهم ما نالهم، وصارت حالُهم حالًا مؤلمة.
لما انقضت مدة الصلح بين المسلمين بغرناطة وبين الطاغية صاحب قشتالة، أبى الطاغية الصلح، فبعث السلطان أبو سعيد عثمان صاحب ماس عشرين غرابًا أوسقها بالعدد والزاد، وجهز ثلاثة آلاف فارس، قدم عليهم القائد مارح، وجعل الشيخ عمر بن زيان الوساطي على ألف فارس أخرى، فنزلوا سبتة، وجهز أبو عبد الله محمد بن أبي الحجاج يوسف -صاحب غرناطة- أسطوله إلى جبل الفتح، فلقيهم أسطول الطاغية بالزقاق في يوم الجمعة السادس عشر، وقاتلهم، وقد اجتمع أهل فاس وأهل غرناطة، فكانت النصرة للفرنج، ولم ينجُ من المسلمين إلا القليل، وغنم الفرنج المراكبَ كلها بمن فيها وما فيها، فكانت مصيبة عظيمة، تكالب فيها الفرنج على المسلمين، وقوي طمعُهم فيهم.
هو أميرُ المؤمنينَ، أبو العاصِ الحَكَمُ بنُ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن المستنصر بالله الأموي، صاحبُ الأندلس، وُلِدَ سنة 302, وبويع بعد أبيه، في رمضان، سنة 350. وكان حسَنَ السيرة، جامعًا للعلم، مُكرِمًا للأفاضل، كبيرَ القَدرِ، ذا نَهمةٍ مُفرِطةٍ في العلم والفضائل، عاكفًا على المطالعة. جمع من الكتُبِ ما لم يجمَعْه أحدٌ من الملوك، لا قَبله ولا بعدَه، وتطَلَّبَها وبذَلَ في أثمانِها الأموالَ، واشُتِرَيت له من البلاد البعيدةِ بأغلى الأثمان، مع صفاءِ السَّريرةِ، والعقلِ والكرم، وتقريبِ العُلَماء. ضاقت خزائنُه بالكتب إلى أن صارت إليه، وآثَرَها على لذَّاتِ الملوك، فغَزُرَ عِلمُه، ودَقَّ نَظَرُه، وكان له يدٌ بيضاء في معرفة الرجال والأنساب والأخبار، وقلما تجدُ له كتابًا إلَّا وله فيه قراءةٌ أو نظَرٌ، من أيِّ فَنٍ كان، ويكتُبُ فيه نسبَ المؤلِّف، ومولِدَه ووفاته، ويأتي من ذلك بغرائِبَ لا تكاد تُوجدُ. ومن محاسنه أنَّه شَدَّدَ في مملكته في إبطالِ الخُمورِ تشديدًا عظيمًا. قال اليسع بن حزم: "كان الحَكَمُ عالِمًا، راويةً للحديثِ، فَطِنَا وَرِعًا ". وكان أخوه الأمير عبد الله المعروف بالولد، على أنموذَجِه في محبَّة العلم، فقُتِلَ في أيام أبيه. همَّت الروم بأخذ مواضِعَ مِن الثغور، فقَوَّاها الحكمُ بالمال والجيوش، وغزا بنَفسِه، وزاد في القطيعةِ على الرومِ وأذَلَّهم. وكان موتُه بالفالج، كانت إمارتُه خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، ولَمَّا توفِّيَ ولِيَ بعدَه ابنُه هشامٍ بعهد أبيه، وله عشرُ سنين، ولقِّبَ بالمؤيَّد بالله. فأقيم في الخلافةِ بتدبير الوزيرِ ابنِ أبي عامر القحطانيِّ.