تم الإعلانُ عن قيام دولة الكيان الصهيوني يوم 14 مايو 1948م، وفيما يلي نصُّ إعلان الكيان نفسِه، ونحن نذكُرُه هنا لأغراضِ المعرفةِ بالعَقلِ الصهيوني ومبادئِه في تأسيس دولته.. بصَرفِ النظر عما يعتريه من تشويهٍ متعَسِّف للتاريخ والجغرافيا. "أرضُ إسرائيل هي مهْدُ الشعب اليهودي، هنا تكوَّنت شخصيتُه الروحية والدينية والسياسية، وهنا أقام دولةً للمرة الأولى، وخَلَق قيمًا حضارية ذات مغزًى قومي وإنساني جامع، وفيها أعطى للعالم كتابَ الكتب الخالد. بعد أن نُفِيَ عَنوةً من بلاده حافَظَ الشَّعبُ على إيمانه بها طيلةَ مدة شتاته، ولم يكُفَّ عن الصلاة أو يفقِدِ الأملَ بعودته إليها واستعادة حريته السياسية فيها. سعى اليهود جيلًا تلوَ جيل مدفوعين بهذه العلاقةِ التاريخية والتقليدية إلى إعادة ترسيخ أقدامِهم في وطنهم القديم. وعادت جماهيرُ منهم خلالَ عقود السنوات الأخيرة. جاؤوا إليها روَّادًا ومدافعين فجعلوا الصحارى تتفتَّحُ وأحيوا اللغة العبرية وبنَوا المدن والقرى وأوجَدوا مجتمعًا ناميًا يسيطِرُ على اقتصاده الخاص وثقافته، مجتَمع يحب السلام لكنه يعرف كيف يدافع عن نفسه، وقد جلب نعمةَ التقدم إلى جميع سكان البلاد، وهو يطمح إلى تأسيس أمة مستقلة. انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في سنة 5657 عبرية (1897 ميلادية) بدعوةٍ من تيودور هرتزل الأب الروحي للدولة اليهودية، وأعلن المؤتمرُ حَقَّ الشعب اليهودي في تحقيق بَعثه القومي في بلاده الخاصة به. واعترف وعد بلفور الصادر في 2 نوفمبر 1917 بهذا الحَقِّ، وأكَّدَه من جديدٍ صَكُّ الانتداب المقَرَّر في عصبة الأمم، وهي التي منحت بصورةٍ خاصة موافَقَتَها العالمية على الصلة التاريخية بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل، واعترافها بحَقِّ الشعب اليهودي في إعادة بناء وطنه القومي"!!
بعدَ نَجاح غَزوَة طَريف بن مالِك بَعَث موسى بن نُصَير مَولاهُ على طَنْجَة طارِقَ بن زِياد في سَبعةِ آلاف مُقاتِل فسار فنَزَل في جَبَل مُنِيف يُعرَف إلى اليومِ بِجَبَلِ طارِق، ثمَّ دَخَل الجَزيرَة الخَضْراء ثمَّ تابَع مَسيرِه ومعه يُولْيان يَدُلُّه على طُرُق الأَندَلُس, ولمَّا بَلَغ لُذْرِيق (رودريغو) غَزْو طارِق بِلاده عَظُمَ ذلك عليه، وكان غائِبًا في غَزاتِه، فرَجَع منها وطارِق قد دَخَل بلاده، فجَمَع له جَمْعًا يُقالُ بَلَغ مائةَ ألف، فلمَّا بَلَغ طارِقًا الخَبَرُ كَتَب إلى موسى يَسْتَمِدُّه ويُخْبِرُه بما فَتَح، وأنَّه زَحَف إليه مَلِكُ الأندَلُس بما لا طاقةَ له به. فبَعَث إليه بخمسةِ آلاف، فتَكامَل المسلمون اثني عَشر ألفًا، ومعهم يُولْيان يَدُلُّهم على عَوْرَةِ البِلادِ، ويَتَجَسَّس لهم الأَخبارَ. فأَتاهُم لُذْرِيق في جُنْدِه، فالْتَقوا على نَهرِ لَكَّة مِن أَعمالِ شَذُونَة لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتا مِن رَمضان سنة اثنتين وتِسعين، واتَّصَلت الحَرْبُ ثَمانِيَة أيَّام، فانْهَزموا وهَزَم اللهُ لُذْرِيق ومَن معه، وغَرِقَ لُذْرِيق في النَّهرِ، وسار طارِق إلى مَدينَة إسْتِجَة مُتَّبِعًا لهم، فلَقِيَه أَهلُها ومعهم مِن المُنهزِمين خَلْقٌ كَثيرٌ، فقاتَلوه قِتالًا شَديدًا، ثمَّ انْهَزَم أَهلُ الأندَلُس ولم يَلْقَ المسلمون بعدَها حَربًا مِثلَها. ونَزَل طارِق على عَيْن بينها وبين مَدينَة إسْتِجَة أَربعَة أَميال فسُمِّيَت عَيْن طارِق إلى الآن. لمَّا سَمِعَت القُوط بهاتين الهَزِيمَتَين قَذَف الله في قُلوبِهم الرُّعْبَ. فَرَّقَ طارِقُ بن زِياد جَيْشَه لِفَتْح المُدُن مِن مَدينَة إسْتِجَة، فبَعَث جَيْشًا إلى قُرْطُبَة، وجَيْشًا إلى غَرْناطَة، وجَيْشًا إلى مالَقَة، وجَيْشًا إلى تُدْمِير، وسار هو ومُعظَم الجَيْش إلى جَيَّان يُريدُ طُلَيْطُلَة، فلمَّا بَلَغَها وَجَدَها خالِيَة فَضَمَّ إليها اليَهودَ، وتَرَك معهم رِجالًا مِن أَصحابِه، ثمَّ مَضَى إلى مَدينَة ماية، فغَنِمَ منها ورَجَع إلى طُلَيْطُلة في سنة ثلاث وتِسعين. وقِيلَ: اقْتَحَم أَرضَ جِلِّيقِيَّة، فخَرَقَها حَتَّى انْتَهى إلى مَدينَة إِسْتَرْقَة، وانْصَرَف إلى طُلَيْطُلَة، ووافَتْهُ جُيوشُه التي وَجَّهَها مِن إسْتِجَة بعدَ فَراغِهم مِن فَتْحِ تلك المُدُن التي سَيَّرَهم إليها.
الخلجيُّونَ أصلُهم من الترك الأفغانيين، وكانوا أسرةً مُحارِبةً، ظهر أمرُها من أيام الغزنويِّينَ، ويرى بعضُ المؤرخين أنَّهم ينتَسِبونَ إلى "قليج خان" أحدِ أصهار "جنكيز خان" والذي نزل بجبال الغورِ بعد هزيمة "خوارزم شاه"، وحرَّف اسمه بعد ذلك إلى خلج، وعُرِفَ ورثته بالخلجيون، واندمجوا في الحياةِ في "أفغانستان"، واعتنقوا الإسلامَ في عهد سلاطين الدولةِ الغزنوية، وضم الجيشُ الغزنوي فرقًا منهم أسهمت في فتح الهند. وظهر أمرُهم منذ أيامِ الدولة الغورية، وازداد نفوذُهم في عهد المماليك، وتولَّوا حكمَ إقليم البنغال، ونهضوا بالوظائفِ الكبرى في الدولةِ، وبعد وفاة غياث الدين بلبن تولى حفيدُه كيقباد الحُكمَ، وكان شابًّا لاهيًا منصرفًا عن إدارة الدولة، وهو ما أطمعَ الخلجيينَ في الإطاحة بنظام الحُكمِ في دلهي، فجمعوا أمرَهم تحت قيادة زعيمِهم فيروز، ودخلوا دلهي، وأسقطوا حكمَ بيت غياث الدين بلبن، وأعلن فيروزُ نَفسَه سُلطانًا، ولقَّب نفسَه بجلال الدين، وذلك في الثاني من جمادى الآخرة 689هـ (13 من يونيو1290م) واستطاع السلطانُ جلال الدين أن يجذِبَ القلوبَ التي كانت نافرةً منه بعد اجتياحِ قُوَّاتِه مدينةَ دلهي وقَتلِها كيقباد، وقد كان شيخًا كبيرًا في السبعينَ مِن عُمُرِه، يميلُ إلى الحِلمِ والسماحة؛ فنجح في أن يتألَّف القلوبَ مِن حوله، وبلغ من سماحتِه أنَّه عفا عن بعض الثائرين عليه، وفكَّ أغلالَهم، وأجلَسَهم بمجلِسِه، وقال لهم: كنتم زملائي، وقد جعلني اللهُ ملكًا، فأنا أشكر الله على نعمته، ولا أنسى الماضي، وأنتم بوفائِكم لأميرِكم من آلِ بلبن قد قمتُم بواجِبِكم، ولا يمكِنُ أن أحاسِبَكم على هذا الوفاءِ. وقد نجح السلطانُ جلال الدين في ردِّ غارات المغول حين عاودوا هجومَهم على الهند، وأسَرَ منهم ألوفًا، وأنزلهم بضواحي دلهي, ثم خرج في سنة 694هـ لفتح الدكن، وتمكَّنَ من التغلُّبِ على إمارة ديوكر الهندية، ودخل الدكن، فكان أوَّلَ من دخلها من سلاطينِ المسلمين، وكان من إفراطِ السلطان في حُسنِ الظن بمن حوله أن استطاع ابنُ أخيه علاء الدين محمد أن يستدرِجَه إلى مقامِه في "كره"، بدعوى مشاهدةِ بعضِ الغنائِمِ الثمينةِ التي أتى بها من الدكن، ودَبَّرَ له مَن قتَلَه قبل أن يلتقيا في 4 من رمضان 694هـ (18 يوليو 1295م).
كان أبو بكرٍ قد أَمَر خالدَ بن الوَليد بعدَ أن انتهى مِن الفِراض بالانتقالِ إلى الشَّامِ؛ لِمُساندةِ جُيوشِ الفَتحِ هناك، فسار خالدٌ مِن الفِراض حتَّى وصل اليَرْموكَ وجاء كِتابُ عُمَر بعدَ اليَرْموك: أن ابْدَؤوا بِدِمشقَ فإنَّها حِصْنُ الشَّام. ولمَّا وصلت جُيوشُ المسلمين دِمشقَ شَدَّدوا الحِصارَ عليها سبعين يومًا، طَوَّقوها مِن جِهاتِها كُلِّها، ومَنعوا المَدَدَ إليها، فانْكَسرت حَمِيَّتُهم وفُتِحَت المدينةُ بعدَ أن تمَّ احْتِلال الغُوطةِ منعًا للإمدادات، ووُلِّيَ عليها يَزيدُ بن أبي سُفيانَ، ثمَّ سار المسلمون إلى فِحْلٍ، ثمَّ إلى حِمْصَ، ثمَّ إلى قِنَّسْرِينَ واللَّاذِقِيَّةِ وحَلَب.
خرج الخزر بسبب ابنة خاقان من بابِ الأبواب، وقيل: إنَّ سببَ خُروجِهم أنَّ سعيد بن سلم قتَلَ المنجم السلميَّ فدخل ابنُه بلاد الخزر، واستجاشهم على سعيد، فخرجوا ودخَلوا أرمينيَّة من الثُّلمة، فانهزم سعيدٌ، وأقاموا نحو سبعينَ يومًا، وسَبَوا أكثَرَ من مائة ألف رأس، وأوقعوا بالمسلمينَ وأهل الذمَّة أمرًا عظيمًا لم يُسمَعْ بمِثلِه في الأرضِ، فولَّى الرشيدُ أرمينيَّةَ يزيدَ بن مزيد مضافًا إلى أذربيجان، ووجَّهَه إليهم، وأنزل خزيمةَ بن خازم نصيبين ردءًا لأهل أرمينيَّة، فأصلحا ما أفسد سعيدٌ، وأخرجا الخزر وسَدَّا الثُّلْمة.
لما فتح الفرنج معظم بلاد الشام عَظُمَ خوفُ المسلمين منهم وبلغت القلوبُ الحناجِرَ، وأيقنوا باستيلاء الفرنج على سائر الشام لعدم الحامي له والمانع عنه، فشرع أمراء بلاد الشام في الهدنة معهم، فامتنع الفرنج من الإجابة إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة، فصالحهم الملك رضوان، صاحب حلب، على اثنين وثلاثين ألف دينار وغيرها من الخيول والثياب، وصالحهم صاحب صور على سبعة آلاف دينار، وصالحهم ابن منقذ، صاحب شيزر، على أربعة آلاف دينار، وصالحهم علي الكردي، صاحب حماة، على ألفي دينار، وكانت مدة الهدنة إلى وقت إدراك الغَلَّة وحصادها.
لما نزل الفرنج بمرج عكَّا تجَّهزوا، وأخذوا معهم آلةَ الحصار من مجانيقَ وغيرها، وقصدوا قلعةَ الطور، وهي قلعةٌ منيعة على رأس جبلٍ بالقرب من عكا العادل قد بناها عن قريبٍ، فتقدموا إليها وحصروها وزحفوا إليها، وصَعِدوا في جبلها حتى وصلوا إلى سورها، وكادوا يملِكونه، فاتَّفق أن بعض المسلمين ممَّن فيها قتَل بعضَ ملوكهم، فعادوا عن القلعة فتركوها، وقصدوا عكَّا، وكانت مدة مُقامهم على الطور سبعة عشر يومًا، ولَمَّا فارقوا الطور أقاموا قريبًا، ثم ساروا في البحرِ إلى ديار مصر، فتوجَّه الملك المعظَّم إلى قلعة الطورِ فخَرَّبها إلى أن ألحَقَها بالأرض؛ لأنَّها بالقُربِ مِن عكا ويتعَذَّر حِفظُها.
ضرَبَ زِلزالانِ عَنيفانِ متتاليانِ مدينة الأصنام (الشلف حاليًّا) في غرب الجزائرِ، الأول في يوم الجمعة 30 ذي القعدة / 10 أكتوبر، بقوَّة سبْعِ درجاتٍ وثلاثة أعشارِ الدرجةِ، وقد كان زلزالًا عَنيفًا جِدًّا لدرجةِ تَدميره 80 بالمائةِ من المدينةِ، واستمرَّت الهزات الارتداديةُ لهذا الزلزالِ عدَّة أشهرٍ بعد الهزةِ الأولى، فوقَع زلزالٌ ثانٍ بقوَّة ست درجاتٍ وثلاثة أعشار الدرجةِ حسَب مِقياس رِيخترَ، وأدَّيا إلى صَدْع طوله 36 كيلو مترًا، وخسائرَ بشريةٍ بلَغَت 10.000 ضحية، من بينهم نحو ثلاثةُ آلاف قتيلٍ، وتدمير مُعظَم أجزاء المدينةِ.
اقتحمتْ مجموعةٌ من مُقاتلي الإنقاذِ (الجَناح العَسْكري للجَبْهة الوطنيَّة لإنقاذِ ليبيا) مُعَسكَرَ باب العزيزيةِ في طرابلس، وقد اشتبكتْ هذه المجموعةُ مع قُوَّات ليبيَّةٍ وأجنبيةٍ تحرُسُ المُعَسكَرَ لفترةٍ تراوحتْ بين خَمسِ وسَبعِ ساعاتٍ استُخدمت فيها كافَّةُ الأسلحة، وقد قُتل جميعُ الذين اشتركوا في العملية من المُقاتِلينَ وعددُهم ثمانية، ولم يتمكَّنْ بعض الموجودين في المُعَسكَرِ من الفَرار عبر أحد المخابئ السِّريَّةِ، إلا بعدما تدخَّلت قُوَّات مُدرَّعة، وحَرَس أجنبيٌّ، وعلى الأخصِّ الألمانُ الشرقيُّون، وسقط في هذه المعركة من الجانب الآخر عددٌ يتراوح بين 100 و120 شخصًا ما بين قَتيلٍ وجَريحٍ، وقد انضمَّ عددٌ من الجُنود الليبيِّينَ إلى جانِبِ المُقاتِلينَ.
ظَفِرَ أهلُ الإسكندرية وعسكَرُ مصرَ بأسطولِ الفِرنجِ مِن صقليَّةَ، وكان سبَبُ ذلك إرسالَ أهل مصر إلى ملك الفرنج بساحلِ الشَّامِ، وإلى صاحبِ صقليَّةَ، ليَقصِدوا ديارَ مِصرَ ليثُوروا على صلاحِ الدين ويُخرجوه من مصر، فجَهَّزَ صاحبُ صقلية أسطولًا كبيرًا، وسَيَّرَه إلى الإسكندرية من ديار مصر، فوصلوا إليها في التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة 569، على حينِ غَفلةٍ مِن أهلها وطمأنينةٍ، فخرج أهل الإسكندرية بعُدَّتِهم وسلاحِهم ليمنَعوهم من النزول، وأبعدوا عن البلدِ، فمنعهم الوالي من ذلك، وأمرهم بملازمة السور، ونزل الفرنجُ إلى البَرِّ مما يلي البحر والمنارة، وتقدموا إلى المدينة ونَصَبوا عليها الدبَّابات والمجانيق، وقاتلوا أشد قتال، وصبر لهم أهلُ البلد، وسُيِّرَت الكتُبُ بالحال إلى صلاح الدين يستدعونه لدفعِ العَدُوِّ عنهم، ووصل من العساكِرِ المسلمين كلُّ من كان له في أقطاعه، وهو قريبٌ من الإسكندرية، فقَوِيَت بهم نفوسُ أهل الإسكندرية، وأحسنوا القتالَ والصبر، فلما كان اليومُ الثالث فتح المسلمون باب البلَدِ وخرجوا منه على الفرنجِ مِن كل جانب، وهم غارُّون، واشتد القتالُ، فوصل المسلِمونَ إلى الدبابات فأحرقوها، وصَبَروا للقتال، فأنزل الله نَصْرَه عليهم، وفَشِلَ الفرنجُ وفتَرَ حربُهم، وكثُرَ القتل والجراح في رجالاتهم، وأما صلاح الدين فإنَّه لما وصله الخبر سار بعساكِرِه، وسيَّرَ مملوكًا له ومعه ثلاث جنائب ليجِدَّ السير عليها إلى الإسكندرية يبشِّرُ بوصوله، وسيَّرَ طائفة من العسكر إلى دمياط خوفًا عليها، واحتياطًا لها، فسار ذلك المملوك، فوصل الإسكندريةَ مِن يَومِه وقت العصر، والناسُ قد رجعوا من القتال، فنادى في البلدِ بمجيءِ صلاحِ الدين والعساكِر مُسرعين، فلمَّا سمع الناس ذلك عادوا إلى القتال، وقد زال ما بهم من تعَب وألمِ الجراح، وسمع الفرنجُ بقرب صلاح الدين في عساكره، فسُقِطَ في أيديهم، وازدادوا تعبًا وفتورًا، فهاجمهم المسلمونَ عند اختلاط الظلام، ووصلوا إلى خيامِهم فغَنِموها بما فيها من الأسلحةِ الكثيرة والتحمُّلات العظيمة، وكثُرَ القتل في رجالة الفرنجِ، فهرب كثيرٌ منهم إلى البحر، فغَلَبَهم أهلُ البلد وقهروهم، فصاروا بين قتيل وأسير، وكفى الله المسلمينَ شَرَّهم، وحاق بالكافرين مَكرُهم.
هو قَدْري بن صَوْقَل بن عَبْدُول بن سِنَان المشهور بعبد القادر الأرناؤوط، وُلد سنةَ 1347هـ بقرية «فريلا» في «إقليم كوسوفا» من بلاد الأرنؤوط في ما كان يُعرف بيوغوسلافيا، والألبانيون يُسمُّون هذا الإقليم: كوسوفا، والصرب يقولون: كوسوفو، والأرنؤوط جِنسٌ يندَرِجُ تحته شعوبٌ كثيرةٌ من الألبان واليوغسلاف وغيرهم هاجَرَ سنةَ 1353هـ من جرَّاء اضطهاد المحتلِّين الصرب إلى دِمَشقَ بصحبةِ والدِه وبقيَّةِ عائلته، وكان عمرُه آنذاكَ ثلاثَ سنواتٍ، ترعرع الشيخ في دِمَشق الشام، وتلقَّى تعليمَه أولَ الأمر في مدرسة «الإسعاف الخيري» بدِمَشق بعد دراسة سَنتينِ في مدرسة «الأدب الإسلامي» بدِمَشق. وبعد نهاية المرحلة الابتدائية تركَ العلم لغرض العمَلِ لحاجته للمال، فعمِلَ «ساعاتيًّا» في تصليح الساعات في محلة «المسكية» بدِمَشق، وكان يعمل في النهارِ، ويدرُس القرآنَ والفقهَ مساءً، وانضمَّ إلى حلقة الشيخ عبد الرزاق الحلبي، رغبةً في تعلُّم علوم الشرعِ واللغةِ والأدبِ، تقلَّد الخطابة، فكان خطيبًا في جامع «الدِّيوانية البَرَّانيَّة» بدِمَشق، ثم خطيبًا في جامع «عمر بن الخطاب»، ثم انتقَلَ إلى منطقة «الدحاديل» بدِمَشق، وكان خطيبًا في جامع «الإصلاح»، ثم انتقل إلى جامع «المُحمَّدي» بحيِّ الـمِـزَّة، لكنَّ الشيخَ بَقيَ يُلقي دروسَه في معهد الأمينية (وهي مدرسة قديمة للشافعية)، وبَقيَ يقوم بالتدريس والوعظ، ويُنبِّهُ الناس إلى السُّنة الصحيحة، ويَدْعوهم إلى ضرورة ترك البِدَع والمخالَفات في الشريعة، هذا مع انكبابه على التحقيق والتأليف وتدريسه العلمَ للناس، وإلقاء المحاضرات، كان الشيخ سَلَفيَّ العقيدة، لا يلتزم مذهبًا فقهيًّا مُعيَّنًا، وإنَّما يعمَل بالكتابِ والسُّنة على منهج السلَف الصالحِ -رِضوانُ الله عليهم- ومن كُتبه وتحقيقاته: إتمام تحقيق كتاب ((غاية المنتهى)) في الفقه الحنبلي، وتحقيق كتاب ((جامع الأصول)) لابن الأثير، وتحقيق كتاب ((زاد المعاد)) لابن القَيِّم، و((زاد المسير في علم التفسير)) لابن الجَوْزي، و((المبدع في شرح المقنع)) لابن مفلح، و((رَوْضة الطالبين)) للنووي، و((الشفا)) للقاضي عياض، و((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة))، وغيرها، تُوفيَ في دِمَشق فجرَ الجمُعة 13شوال 1425، ودُفن بمقبرة الحقلة، وكانت جنازته مشهودةً رحمه اللهُ.
كان مالِكُ بنُ نُوَيرةَ قد صانَعَ سَجاحَ حينَ قَدِمَت من أرضِ الجزيرةِ، فلمَّا اتَّصَلت بمُسَيلِمةَ الكَذَّابِ، ثمَّ ترحَّلَت إلى بلادِها، نَدِمَ مالِكٌ على ما كان من أمرِه، وتلَوَّم في شأنِه، وهو نازِلٌ بمكانٍ يقالُ له: البِطاحُ في نجد، فقَصَدَها خالدٌ بجُنودِه وتأخَّرت عنه الأنصارُ، وقالوا: إنَّا قد قَضَينا ما أمَرَنا به الصِّدِّيقُ، فقال لهم خالِدٌ: إنَّ هذا أمرٌ لا بدَّ مِن فِعْلِه، وإنَّه لم يأتِني فيها كتابٌ، وأنا الأميرُ وإليَّ تَرِدُ الأخبارُ، ولستُ بالذي أجبُرُكم على المسيرِ، وأنا قاصِدٌ البِطاحَ، فسار يومينِ ثمَّ لَحِقَه رسولُ الأنصارِ يَطلُبون منه الانتِظارَ، فلَحِقوا به، فلمَّا وَصَل البِطاحَ وعليها مالِكُ بنُ نُوَيرةَ، بَثَّ خالِدٌ السَّرايا في البِطاحِ يَدْعونَ النَّاسَ، فاستقبَلَه أمراءُ بني تميمٍ بالسَّمعِ والطَّاعة، وبَذَلوا الزكَواتِ، إلَّا ما كان من مالكِ بنِ نُوَيرةَ؛ فإنَّه متحيِّرٌ في أمرِه، مُتَنَحٍّ عن النَّاسِ، فجاءته السَّرايا فأسَروه وأسَروا معه أصحابَه، واختَلَفت السَّرِيةُ فيهم؛ فشَهِدَ أبو قتادةَ -الحارثُ بنُ ربعيٍّ الأنصاريُّ- أنَّهم أقاموا الصَّلاةَ، وقال آخرون: إنَّهم لم يؤذِّنوا ولا صَلَّوا، فيقالُ: إنَّ الأُسارى باتوا في كُبولِهم في ليلةٍ شديدةِ البردِ، فنادى منادي خالدٍ: أنْ أَدْفِئوا أَسْراكم، فظَنَّ القومُ أنَّه أراد القَتلَ، فقتلوهم، وقَتَل ضرارُ بنُ الأزوَرِ مالِكَ بنَ نُوَيرةَ، فلمَّا سَمِعَ الدَّاعية خرجَ وقد فرَغوا منهم، فقال: إذا أراد اللهُ أمرًا أصابه، ودخل خالِدٌ على أبي بكرٍ فاعتَذَر إليه فعَذَره وتجاوزَ عنه ما كان منه في ذلك، ووَدَى مالِكَ بنَ نُوَيرةَ.
بعث الصِّدِّيقُ خالدَ بنِ الوليدِ إلى قِتالِ مُسَيلِمةَ الكَذَّابِ وقَومِه من بني حَنيفةَ باليمامةِ، وأوعب معه المسلمون، وعلى الأنصارِ ثابتُ بنُ قيسِ بنِ شماسٍ، فسار لا يمُرُّ بأحدٍ مِن المرتدِّين إلَّا نكَّل بهم، وقد اجتاز بخُيولٍ لأصحابِ سَجاحٍ فشَرَّدهم وأمَرَ بإخراجِهم مِن جزيرةِ العَرَبِ، وأردف الصِّدِّيقُ خالِدًا بسَرِّيةٍ لتكونَ رِدءًا له من ورائِه، فلمَّا سَمِع مُسَيلِمةُ بقدومِ خالدٍ عَسكَرَ بمكانٍ يقالُ له عقربا في طَرَفِ اليمامةِ، والريفُ وراء ظهورِهم، ونَدَب النَّاسَ وحَثَّهم، فحَشَد له أهلُ اليمامةِ، فاصطدم المسلِمون والكُفَّارُ، فكانت جولةٌ عظيمة وجَعَلت الصَّحابةُ يتواصَون بينهم ويقولون: يا أصحابَ سُورةِ البَقَرةِ، بَطَل السِّحرُ اليومَ، ودارت رحى المسلمين، وقد مَيَّز خالِدٌ المهاجرينَ من الأنصارِ من الأعرابِ، وكُلُّ بني أبٍ على رايتِهم، يقاتِلون تحتَها، حتى يَعرِفَ النَّاسُ مِن أين يُؤتَون، وصَبَرَت الصَّحابةُ في هذا الموطِنِ صبرًا لم يُعهَدْ مِثْلُه، ولم يزالوا يتقدَّمون إلى نحورِ عَدُوِّهم حتى فتح اللهُ عليهم، ووَلَّى الكُفَّارُ الأدبارَ، ودخل المسلِمونَ الحديقةَ مِن حيطانِها وأبوابِها يقتُلونَ من فيها من المرتَدَّةِ من أهلِ اليمامةِ، حتى خَلَصوا إلى مُسَيلِمةَ، فتقَدَّم إليه وَحشِيُّ بنُ حَربٍ مولى جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ، فرماه بحَرْبتِه فأصابه وخَرَجَت من الجانِبِ الآخَرِ، وسارع إليه أبو دُجانةَ سِماكُ بنُ خَرشةَ، فضَرَبه بالسَّيفِ فسقط، فكان جملةُ مَن قُتِلوا في الحديقةِ وفي المعركةِ قريبًا مِن عَشرةِ آلافِ مُقاتِلٍ. وقيل: أحدٌ وعشرون ألفًا، وقُتِل من المسلمين سِتُّمائةٍ، وقيل: خمسُمائةٍ.
خرج المعتَصِمُ إلى سامِرَّا لبنائِها، وكان سببُ ذلك أنَّه قال إني أتخوَّفُ هؤلاء الحربيَّةَ أن يَصيحوا صيحةً فيَقتُلوا غِلماني، فأريدُ أن أكونَ فوقهم، فإن رابني منهم شيءٌ أتيتُهم في البَرِّ والماء، حتى آتيَ عليهم، فخرج إليها فأعجَبَه مكانَها، وقيل: كان سببُ ذلك أنَّ المعتصِمَ كان قد أكثَرَ مِن الغِلمان الأتراك، فكانوا لا يزالونَ يَرَون الواحِدَ بعد الواحدِ قتيلًا، وذلك أنَّهم كانوا جفاةً، يركبون الدوابَّ، فيَركُضونَها إلى الشوارع، فيَصدِمون الرجُلَ والمرأةَ والصبيَّ، فيأخُذُهم الأبناءُ عن دوابِّهم، يَضرِبونَهم، وربما هلك أحَدُهم فتأذَّى بهم الناس. ثمَّ إن المعتَصِمَ رَكِبَ يومَ عيد، فقام إليه شيخٌ فقال له: يا أبا إسحاق، فأراد الجندُ ضَربَه، فمنعهم وقال: يا شيخُ، ما لك، ما لك؟ قال: لا جزاك اللهُ عن الجِوارِ خَيرًا، جاوَرْتَنا وجِئتَ بهؤلاء العُلوجِ مِن غِلمانِك الأتراك، فأسكَنْتَهم بيننا، فأيتمْتَ صِبيانَنا وأرمَلْتَ بهم نسوانَنا وقتَلْتَ رِجالَنا؛ والمعتَصِمُ يسمع ذلك، فدخل منزلَه، ولم يُرَ راكبًا إلى مثل ذلك اليومِ، فخرج فصلى بالناس العيدَ، ولم يدخُل بغداد، بل سار إلى ناحيةِ القاطول، ولم يرجِعْ بغداد. قال مسرور الكبير: سألني المعتَصِمُ أين كان الرشيدُ يتنَزَّه إذا ضَجِرَ ببغداد، قلت: بالقاطول، وكان قد بنى هناك مدينةً آثارُها وسورُها قائم، وكان المعتصِمُ قد اصطنع قومًا من أهلِ الحوف بمصر، واستخدمهم وسمَّاهم المغاربة، وجمع خَلقًا من سمرقند، وأشروسنة، وفرغانة، وسمَّاهم الفراغنة، فكانوا من أصحابِه، وبَقُوا بعده، فبُني بها الجامِعُ المشهورُ بمنارته الملْتَوية ذات الدَّرج الخارجي الملتَفِّ على المنارة، ويُذكَرُ أنَّ أصلَ الكلمةِ هو سُرَّ مَن رأى، ثم صارت سامِرَّا.
أرسل العزيزُ بالله الفاطمي بمصرَ داعيًا له إلى كتامةَ، يقال له أبو الفهمِ، واسمُه حسَنُ بنُ نصر، يدعوهم إلى طاعتِه، وغَرَضُه أن تميلَ كتامة إليه وترسِلَ إليه جندًا يقاتِلونَ المنصور صاحِبَ إفريقيةَ، ويأخذون إفريقيةَ منه، لَمَّا رأى مِن قُوَّتِه، فدعاهم أبو الفهم، فكثر أتباعُه، وقاد الجيوشَ، وعَظُمَ شأنُه، وعزم المنصورُ على قَصدِه، فأرسل إلى العزيزِ بمصرَ يُعَرِّفُه الحال، فأرسل العزيزُ رَسولينِ إلى المنصور ينهاه عن التعرُّضِ لأبي الفهم وكتامة، وأمرهما أن يسيرا إلى كتامة بعد الفراغِ مِن رسالة المنصور، فلمَّا وصلا إلى المنصور وأبلغاه رسالةَ العزيز أغلَظَ القَولَ لهما وللعزيز أيضًا، وأغلَظا له، فأمَرَهما بالمُقامِ عنده بقية شعبان ورمضان، ولم يترُكْهما يَمضِيان إلى كتامة، ثم سارَ إلى كتامة والرَّسولانِ معه، فكان لا يمُرُّ بقصرٍ ولا مَنزلٍ إلا هَدَمه، حتى بلغ مدينة سطيف، وهي كرسيُّ عِزِّهم، فاقتتلوا عندها قتالًا عظيمًا، فانهزمت كتامة، وهرب أبو الفهم إلى جبلٍ وعرٍ فيه ناسٌ مِن كتامة يقال لهم بنو إبراهيم، فأرسل إليهم المنصورُ يتهَدَّدُهم إن لم يسَلِّموه، فقالوا: هو ضيفُنا ولا نسَلِّمُه، ولكن أرسِلْ أنت إليه فخُذْه ونحن لا نمنعُه. فأرسل فأخَذَه، وضربه ضربًا شديدًا، ثم قتَلَه وسلَخَه، وأكَلَت صنهاجةُ وعَبيدُ المنصور لحمَه، وقُتِلَ معه جماعةٌ مِن الدعاة ووجوهُ كتامة، وعاد إلى أشير، ورد الرسولينِ إلى العزيز فأخبَرَاه بما فُعِل بأبي الفهم، وقالا: جئْنا من عند شياطينَ يأكلونَ النَّاسَ، فأرسل العزيزُ إلى المنصورِ يطَيِّبُ قَلبَه، وأرسل إليه هديَّةً، ولم يذكر له أبا الفَهمِ.