زادت الفِتنةُ بين شِيعَةٍ مِن أَهلِ الكَرخِ وغَيرهِم مِن أَهلِ السُّنَّةِ، وكان ابتِداؤُها أواخرَ سَنَةِ أربعٍ وأربعين في ذي القعدة، فلمَّا كان الآن عَظُمَ الشَّرُّ، واطَّرَحَت المُراقبَة للسُّلطان، واختَلطَ بالفَريقينِ طوائفُ مِن الأتراكِ، فلمَّا اشتَدَّ الأمرُ اجتمع القُوَّادُ واتَّفَقوا على الرُّكوبِ إلى المَحالِّ، وإقامةِ السِّياسةِ بأهلِ الشَّرِّ والفَسادِ، وأَخَذوا مِن الكَرخِ إِنسانًا عَلويًّا وقَتلوهُ، فَثارَ نِساؤُه، ونَشَرْنَ شُعورَهُنَّ واسْتَغَثْنَ، فتَبِعَهُنَّ العامَّةُ من أهلِ الكَرخِ، وجَرى بينهم وبين القُوَّاد ومن معهم من العامَّةِ قِتالٌ شَديدٌ، وطَرحَ الأتراكُ النَّارَ في أَسواقِ الكَرخ، فاحتَرقَ كَثيرٌ منها، وأَلحَقَتها بالأرضِ، وانتَقَل كَثيرٌ من الكَرخِ إلى غَيرِها من المَحالِّ، ونَدِمَ القُوَّادُ على ما فَعلوهُ، وأَنكرَ الخَليفةُ القائمُ بأَمرِ الله ذلك، وصَلُحَ الحالُ، وعاد النَّاسُ إلى الكَرخِ، بعد أن استَقرَّت القاعدةُ بالدِّيوان بِكَفِّ الأتراكِ أَيديَهم عنهم.
احتَرَقت دارُ السُّلطانِ مَحمودِ بنِ مُحمَّد السُّلجوقي، كان قد بناها مُجاهِدُ الدِّينِ بهروز للسُّلطانِ مُحمَّد، ففُرِغَت قبل وفاتِه بيَسيرِ، وسَبَبُ الحَريقِ أنَّ جاريةً كانت تخضَّبَت ليلًا، فأسندت شمعةً إلى الخيش فاحتَرَق، وعَلِقَت النار منه في الدار، واحتَرَق فيها مِن مالِ زَوجةِ السُّلطان محمود بنت السُّلطان سنجر ما لا حَدَّ له من الجواهِرِ والحُلي والفَرشِ والثِّيابِ، وأقيم الغَسَّالون يُخَلِّصونَ الذَّهَب، وما أمكن تخليصُه، وكان الجوهَرُ جَميعُه قد هلك إلَّا الياقوت الأحمر. وترك السُّلطانُ الدارَ لم تجدَّد عِمارتُها، وتطيَّرَ منها؛ لأنَّ أباه لم يتمتَّع بها، ثمَّ احتَرَق فيها من أموالِهم الشيءُ العظيم، واحترق قبلها بأسبوعٍ جامِعُ أصبهان، وهو من أعظَمِ الجوامِعِ وأحسَنِها، أحرَقَه قومٌ مِن الباطنيَّةِ ليلًا وكان السُّلطانُ قد عزم على أخذِ حَقِّ البيع، وتجديدِ المُكوس بالعراق، بإشارةِ الوزيرِ السَّميرمي عليه بذلك، فتجَدَّد من هذين الحَريقَينِ ما هاله، واتَّعَظ فأعرَضَ عنه.
بعد أن قامت هولندا بإعطاء اعتراف للحكومة الأندونيسية بسيطرتِها على بعضِ الجُزُرِ عادت للتدخُّل العسكري وأعمال عسكرية ضِدَّ الحكومة، ثم تدخَّلت الأمم المتحدة وألزمت هولندا بإيقافِ إطلاق النار، ثمَّ وقِّع اتفاق رانفيل (اسم الباخرة الأمريكية التي عُقِدَت على متنها المفاوضات) واقتصرت على قسمٍ مِن جزيرة جاوه وقطعةٍ مِن سومطرة، وكانت العاصمة جوكجاكرتا (عاصمة أندونيسيا القديمة) ولم ينتهِ العامُ حتى عاد الهولنديون للأعمال العسكرية واحتلُّوا العاصمةَ واعتَقَلوا الزعماء والوزراء، وعاد القتالُ وقامت حربُ العصابات التي أنهكت الهولنديين الذين اضطرُّوا إلى الموافقة على عقد مؤتمر المائدة المستديرة في لاهاي في شوال 1368هـ / آب 1949م للمفاوضة على نقل السلطات كاملةً إلى الحكومة الأندونيسية، ودون قيدٍ أو شرط، ثم في 7 ربيع الأول 1369هـ / 27 ديسمبر 1949م تمَّ نَقلُ السلطات في احتفالٍ في مدينة لاهاي، وكان يمثِّلُ أندونيسيا محمد حتا.
أعلَنَ الرَّئيسُ اليَمَنيُّ عبد ربه منصور هاديقرارًا بتشكيلِ مجلِسِ قيادةٍ رئاسيٍّ، ونَقلِ جميعِ صلاحيَّاتِه إليه لاستكمالِ تنفيذِ مهامِّ المرحلةِ الانتقاليَّةِ، وأعفى نائبَه علي محسن الأحمر من منصِبِه.
وعُيِّن رشاد محمَّد العليمي رئيسًا للمجلِسِ مع سبعةِ أعضاءٍ، ووَفْقَ القرارِ سيُديرُ مجلِسُ القيادةِ الرِّئاسيُّ الدَّولةَ سياسيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا طَوالَ المرحلةِ الانتقاليَّةِ.
ويشمَلُ القرارُ تكليفَ المجلِسِ بالتفاوُضِ مع الحوثيِّينَ بشأنِ وَقفِ إطلاقِ نارٍ دائمٍ في كافَّةِ أنحاءِ اليَمَنِ، والتفاوُضِ للتوصُّلِ إلى حَلٍّ سياسيٍّ نهائيٍّ وشاملٍ،وسيكون لرئيسِ المجلِسِ تولِّي القيادِة العُليا للقوَّاتِ المُسلَّحةِ، وتمثيلُ اليمَنِ في الدَّاخِلِ والخارِجِ.
وتنتهي ولايةُ المجلِسِ بعدَ إقرارِ السَّلامِ الكاملِ في كافَّةِ أنحاءِ اليَمَنِ، وبعد إجراءِ الانتخاباتِ العامَّةِ وتنصيبِ رئيسِ الجمهوريَّةِ الجديدِ.
لمَّا مات يَزيدُ بن مُعاوِيَة أَقْلَع جَيشُه عن مكَّة، وهم الذين كانوا يُحاصِرون ابنَ الزُّبيرِ وهو عائِذٌ بالبيتِ، فلمَّا رجَع حُصينُ بن نُميرٍ السَّكونيُّ بالجيشِ إلى الشَّام بعدَ أن عرَض الحُصينُ على ابنِ الزُّبيرِ أن يُبايِعَه بالخِلافَة شَرْطَ أن يَأتِيَ معهم للشَّامِ؛ لكنَّ ابنَ الزُّبيرِ رفَض الذِّهابَ إلى الشَّام, كان يَزيدُ قد أَوْصى بالخِلافَة لابنِه مُعاوِيَة؛ لكنَّه لم يكُن راغِبًا فيها فترَكَها وجعَلَها شُورى للمسلمين. اسْتَفْحَل أَمْرُ ابنِ الزُّبير بالحِجازِ وما والاها، وبايَعَهُ النَّاسُ في العِراق وما يَتْبَعُه إلى أقصى مَشارِق دِيارِ الإسلامِ، وفي مِصْرَ وما يَتْبَعُها إلى أقصى بِلادِ المغربِ، وبايَعَت الشَّامُ أيضًا إلَّا بعضَ جِهاتٍ منها، ففي دِمشقَ بايَع الضَّحَّاكُ بن قيسٍ الفِهرىُّ لابنِ الزُّبيرِ، وفي حِمْص بايَع النُّعمانُ بن بَشيرٍ، وفي قِنَّسْرين زُفَرُ بن الحارثِ الكِلابيُّ، وفي فِلَسْطين بايَع ناتِلُ بن قيسٍ، وأَخرَج منها رَوْحَ بن زِنْباع الجُذاميَّ، ولم يكُن رافضًا بَيْعَة ابنِ الزُّبيرِ في الشَّام إلَّا مِنطقةُ البَلْقاءِ وفيها حَسَّان بن مالكِ بن بَحْدَل الكَلبيُّ. وقد كان الْتَفَّ على عبدِ الله بن الزُّبيرِ جَماعةٌ مِن الخَوارِج يُدافِعون عنه، منهم نافعُ بن الأزرقِ، وعبدُ الله بن إباض، وجَماعةٌ مِن رُؤوسهم, فلمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرهُ في الخِلافَة قالوا فيما بينهم: إنَّكم قد أَخْطأتُم لأنَّكم قاتَلتُم مع هذا الرَّجُلِ ولم تَعْلَموا رَأيَه في عُثمان بن عفَّان -وكانوا يَنْتَقِصون عُثمانَ- فاجْتَمَعوا إليه فسألوه عن عُثمانَ فأجابهم فيه بما يَسُوؤهُم، فعند ذلك نَفَرُوا عنه وفارقوه وقَصَدوا بِلادَ العِراق وخُراسان، فتَفَرَّقوا فيها. صَرَّح العديدُ مِن العُلماءِ والمُؤَرِّخِين بأنَّ بَيْعَة ابنِ الزُّبير بَيْعَة شَرْعِيَّةٌ، وأنَّه أَوْلى بها مِن مَرْوان بن الحكمِ, فيَروِي ابنُ عبدِ البَرِّ، عن مالكٍ أنَّه قال: إنَّ ابنَ الزُّبيرِ كان أفضل مِن مَرْوان وكان أَوْلى بالأمرِ منه، ومِن ابنِه عبدِ المَلِك. ويقولُ ابنُ كثيرٍ عن ابنِ الزُّبيرِ: ثمَّ كان هو الإمام بعدَ مَوتِ مُعاوِيَة بن يَزيدَ لا مَحالَة، وهو أَرْشَدُ مِن مَرْوان بن الحكمِ، حيث نازَعَهُ بعدَ أن اجْتَمَعت الكَلِمَةُ عليه، وقامَت البَيْعَة له في الآفاقِ، وانْتَظَم له الأمرُ، والله أعلم.
هو أبو عبدِ الرَّحمن عبدُ الله بن عُمَر بن الخَطَّاب العَدَويُّ القُرشيُّ المَكِّيُّ ثمَّ المَدنيُّ، صَحابيٌّ جَليلٌ، وابنُ ثاني خُلفاءِ المُسلمين عُمَر بن الخَطَّاب، وعالِمٌ مِن عُلماءِ الصَّحابةِ، لُقِّبَ بِشَيخِ الصَّحابةِ رضي الله عنه، أَسْلَمَ قَديمًا مع أَبيهِ ولم يَبلُغ الحُلُمَ، وهاجَرا وعُمُرُهُ عشرُ سِنين، وقد اسْتُصْغِر يومَ أُحُدٍ، فلمَّا كان يومُ الخَندقِ أَجازَهُ وهو ابنُ خمسَ عشرةَ سَنة فشَهِدَها وما بعدها، وهو شَقيقُ حَفصةَ بنتِ عُمَر أُمِّ المؤمنين، أُمُّهُما زينبُ بنتُ مَظْعون أُختُ عُثمان بن مَظْعون، وكان عبدُ الله بن عُمَر رِبْعَةً مِن الرِّجال، آدَمَ له جُمَّةٌ تَضرِب إلى مَنْكِبَيْهِ، جَسِيمًا, وهو أَحدُ المُكْثِرين في الرِّوايَةِ عن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، عُرِضَتْ عليه الخِلافَةُ بعدَ مَوتِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة فأبى ذلك حتَّى لا يُقْتَلَ بِسَبَبِه أَحدٌ تَوَجَّهَ للمَدينةِ بعدَ الحَرَّةِ وبَقِيَ فيها إلى مَقْدَمِ الحَجَّاج. كان عبدُ الله بن عُمَر حَريصًا كُلَّ الحِرْصِ على أن يَفْعَلَ ما كان الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم يَفعلُه، فيُصَلِّي في ذاتِ المكانِ، ويَدعو قائمًا كالرَّسولِ الكريمِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان صاحِبَ عِبادَةٍ منذ صِغَرِهِ، وكان ينامُ في المَسجِد. قال عنه صلَّى الله عليه وسلَّم: (نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ الله، لو كان يُصَلِّي مِن اللَّيلِ). فصار لا ينامُ مِن اللَّيلِ إلَّا قليلًا إلى أن مات، وكان إذا صلَّى مِن اللَّيلِ، قال لِمَولاهُ نافع: أَسْحَرْنا؟ -يعني: هل دَخَلْنا في وَقتِ السَّحَرِ- فيقول: لا. ثمَّ يُصلِّي، فيقولُ: أَسْحَرْنا؟ حتَّى يقولُ: نعم. فيُوتِرُ، هكذا يُصلِّي سائِرَ اللَّيلِ، وكان يُغْفِي إغْفاءةَ الطَّائرِ، ينامُ نَوْمَةً يَسيرةً. تُوفِّي بمكَّة وهو ابنُ أربعٍ وثمانين سَنَة، وكان ابنُ عُمَر يُسابِق الحَجَّاجَ في الحَجِّ إلى الأماكنِ التي يَعلَم أنَّ رسولَ الله يَسْلُكُها، فَعَزَّ ذلك على الحَجَّاجِ، وكان ابنُ عُمَر قد أَوْصى أن يُدْفَنَ في اللَّيلِ، فلم يُقدَرْ على ذلك مِن أجلِ الحَجَّاج, ودُفِنَ بذي طُوى في مَقْبَرةِ المُهاجِرين، وصلَّى عليه الحَجَّاجُ نَفسُه، فرضِي الله عن ابنِ عُمَر وأَرضاهُ وجَزاهُ عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
خَرجَت خارِجَة مِن الحَرورِيَّة بالعِراق، يَتَزَعَّمُهم شَوْذَب واسْمُه بِسْطام مِن بَنِي يَشْكُر في ثمانين فارِسًا أَكثرُهم مِن رَبيعَة، فبَعَث أَميرُ المؤمنين عُمَرُ بن عبدِ العزيز إلى عبدِ الحَميدِ نائِب الكوفَة يَأمُرهُ بأن يَدعوهم إلى الحَقِّ، ويَتَلَطَّف بِهم، ولا يُقاتِلهم حتَّى يُفسِدوا في الأَرضِ، فلمَّا فَعَلوا ذلك بَعَث إليهم جَيْشًا فكَسَرهُم الحَرورِيَّةُ، فبَعَث عُمَرُ إليه يَلومُه على جَيْشِه، وقد أَرسَل عُمَرُ إلى بِسْطام يَقولُ له: ما أَخْرَجَك عَلَيَّ؟ فإن كُنتَ خَرجتَ غَضَبًا لله فأنا أَحَقُّ بذلك مِنك، ولستَ أَوْلى بذلك مِنِّي، وهَلُمَّ أُناظِرُك; فإن رَأيتَ حَقًّا اتَّبَعْتَه، وإن أَبْدَيْتَ حَقًّا نَظَرْنا فيه. فبَعَث طائِفَةً مِن أَصحابِه إليه، فاخْتارَ منهم عُمَرُ رَجُلين فسَأَلهُما: ماذا تَنْقِمون؟ فقالا: جَعْلَكَ يَزيد بن عبدِ الملك مِن بَعدِك. فقال: إنِّي لم أَجْعَله أَبَدًا، وإنَّما جَعلَه غَيْري. قالا: فكيف تَرْضَى به أَمينًا للأُمَّةِ مِن بَعدِك؟ فقال: أَنْظِرْني ثَلاثَة. فيُقال: إنَّ بَنِي أُمَيَّة دَسَّتْ إليه سُمًّا فقَتَلوه; خَشْيَةَ أن يَخرُج الأَمرُ مِن أَيديهِم. فلمَّا مات عُمَرُ أراد عَبدُ الحَميد بن عبدِ الرحمن أن يَحْظَى عند يَزيد بن عبدِ الملك، فكَتَب إلى محمَّدِ بن جَريرٍ يَأمُرُه بمُحارَبَة شَوْذَب وأَصحابِه، فبَرَزَ له شَوْذَب فاقْتَتَلوا، وأُصِيبَ مِن الخَوارِج نَفَرٌ، وأَكثَروا في أَهلِ الكوفَة القَتْل، فوَلُّوا مُنْهَزِمين والخَوارِجُ في أَكتافِهم حتَّى بَلَغوا أَخْصاص الكوفَة، فأَقَرَّ يَزيدُ عبدَ الحَميد على الكوفَة، ووَجَّهَ مِن قِبَلِهِ تَميمَ بن الحُباب في أَلْفَيْنِ فقَتَلوه وهَزَموا أَصحابَه، فوَجَّهَ إليهم نَجْدَةَ بن الحَكَم الأَزْدِي في جَمْعٍ، فقَتَلوه وهَزَموا أَصحابَه، فبَعَث آخَر في أَلْفَيْنِ فقَتَلوه، فأَنْفَذَ يَزيدُ أَخاهُ مَسلمةَ بن عبدِ الملك، فنَزَل الكوفَة، ودَعا سَعيدَ بن عَمرٍو الحَرَشِي، فعَقَدَ له على عَشرَة آلافٍ ووَجَّهَهُ، فقال لأَصحابِه: مَن كان يُريدُ الله عَزَّ وجَلَّ فقد جاءَتْهُ الشَّهادَة، ومَن كان إنَّما خَرَج للدُّنيا فقد ذَهبَت الدُّنيا منه. فكَسَروا أَغْمادَ سُيوفِهِم وحَمَلوا على الخَوارِج حتَّى طَحَنوهُم وقَتَلوا شَوْذَبًا.
هو حاكِمُ مصر الفائزُ بنَصرِ الله أبو القاسمِ عيسى بن الظَّافِرِ إسماعيلَ بن الحافِظِ عبدِ المَجيدِ بن محمدِ بن المُستَنصِر بالله العُبيديُّ، المصريُّ الفاطِميُّ. كانت مُدَّةُ حُكمِه سِتَّ سِنين ونحوَ شَهرينِ؛ وكان عُمرُه لمَّا وَلِيَ خمسَ سِنين، قال الذَّهبيُّ: "لمَّا اغتَالَ عبَّاسٌ الوَزيرُ الظَّافِرَ، أَظَهَرَ القَلقَ، ولم يكُن عَلِمَ أَهلُ القَصرِ بمَقتَلِه, فطَلَبوه في دُورِ الحَرَمِ فما وَجَدوهُ، وفَتَّشُوا عليه وأَيِسُوا منه، وقال عبَّاسٌ لأَخوَيهِ: أَنتُما الذين قَتَلتُما مولانا، فأَصَرَّا على الإنكارِ، فقَتَلَهُما نَفْيًا للتُّهمَةِ عنه, واستَدعَى في الحالِ عيسى هذا، وهو طِفلٌ له خَمسُ سِنين, وقِيلَ: بل سَنَتانِ. فحَمَلهُ على كَتِفِه، ووَقَفَ باكِيًا كَئيبًا، وأَمَرَ بأن تَدخُل الأُمراءُ، فدَخَلوا, فقال: هذا وَلَدُ مَولاكُم، وقد قَتَلَ عَمَّاهُ مَولاكُم، فقَتَلتُهُما به كما تَرَونَ، والواجِبُ إِخلاصُ النِّيَّةِ والطَّاعةُ لهذا الوَلَدِ، فقالوا كلُّهم: سَمْعًا وطاعَةً، وضَجُّوا ضَجَّةً قَوِيَّةً بذلك، ففَزِعَ الطِّفلُ، ولَقَّبوهُ الفائِزَ، وبَعَثوهُ إلى أُمِّهِ، واختَلَّ عَقلُه من حينئذٍ، وصار يَتَحرَّك ويُصرَع، ودانَت الممالِكُ لعبَّاسٍ. وأمَّا أَهلُ القَصرِ، فاطَّلَعوا على باطِنِ القَضِيَّةِ، فكاتَبُوا طَلائِعَ بنَ رزيك الأرمنيَّ الرَّافِضيَّ، والِيَ المنية" كان ابنُ رزيك ذا شَهامَةٍ وإِقدامٍ, فسَألوهُ الغَوْثَ، والأَخذَ بالثَّأْرِ من عبَّاسٍ الوَزيرِ لقَتْلِه الظَّافِرَ وأَخَوَيْهِ, فلَبِسَ الحِدادَ، وكاتَبَ أُمراءَ القاهرةِ، وهَيَّجَهُم على طَلَبِ الثَّأْرِ، فأَجابوهُ, فسار إلى القاهرةِ، وكان عبَّاسٌ في عَسكرٍ قَليلٍ. فخارَت قُواهُ وهَرَبَ هو وابنُه نَصرٌ ومَماليكُه والأَميرُ ابنُ مُنقِذٍ, واستَولَى الصَّالِحُ طَلائعُ بن رزيك على دِيارِ مصر بلا ضَربَةٍ ولا طَعنَةٍ، فنَزلَ إلى دارِ عبَّاسٍ، ثم استَدعَى خادِمًا كَبيرًا، وقال له: مَن هاهنا يَصلُح للحُكمِ؟ فقال: هاهنا جَماعةٌ؛ وذَكَرَ أَسماءَهُم، وذَكَرَ له منهم إِنسانٌ كَبيرُ السِّنِّ، فأَمَرَ بإحضارِهِ، فقال له بَعضُ أَصحابِه سِرًّا: لا يكون عبَّاسٌ أَحزَمَ منك حيث اختارَ الصَّغيرَ وتَرَكَ الكِبارَ واستَبَدَّ بالأَمرِ؛ فأَعادَ الصالحُ الرَّجُلَ إلى مَوضِعِه، وأَمَرَ حينئذٍ بإحضارِ العاضِدِ لدِينِ الله أبي محمدٍ عبدِ الله بن يوسفَ بن الحافظِ، ولم يكُن أَبوهُ حاكِمًا، وكان العاضِدُ في ذلك الوَقتِ مُراهقًا قارَبَ البُلوغَ، فبايَعَ له بالحُكمِ.
في شهر رجب ورد الخبر على السلطان بخروج الأمير إينال نائب صفد عن الطاعة، وكان سبب خروجه عن الطاعة أنه كان من جملة مماليك الملك الظاهر ططر، ربَّاه صغيرًا، ثم ولاه نيابة قلعة صفد بعد سلطنته، فلما قام الملك الأشرف برسباي بعد الملك الظاهر ططر بالأمر ولى إينال نيابة صفد، وبلغه خلع ابن أستاذه الملك الصالح محمد من السلطنة، فشَقَّ عليه ذلك، وأخذ في تدبيرِ أمره، واتَّفق مع جماعة على العصيان، وخرج عن الطاعة، وأفرج عمن كان محبوسًا بقلعة صفد، وهم: الأمير يشبك أنالي المؤيدي الأستادار، ثم رأس نوبة النوب، والأمير إينال الجكمي أمير سلاح ثم نائب حلب، والأمير جلبان أمير آخور أحد مقدَّمي الألوف، وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها، ففي الحال كتب السلطان الملك الأشرف للأمير مقبل الحسامي الدوادار حاجب حجاب دمشق باستقراره في نيابة صفد، وأن يستمِرَّ إقطاع الحجوبية بيده حتى يتسلم صفد، ثم كتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشام أن يخرج بعسكر دمشق لقتال إينال، ثم ورد على السلطان الأشرف كتاب الأمير تنبك ميق نائب الشام بمجيء الأمير إينال الجكمي، ويشبك أنالي، وجلبان أمير آخور إليه من صفد طائعين للسلطان، وكان من خبر هؤلاء وإينال نائب صفد أنه لما قدم عليه الأمير مقبل الدوادار بعساكر دمشق انهزم إلى قلعة صفد إلى يوم الاثنين رابع شوال، فنزل إليه إينال بمن معه، بعد أن ترددت الرسل بينهم أيامًا كثيرة، فتسلم أعوان السلطان قلعةَ صفد في الحال، وعندما نزل إينال أمر الأمير مقبل أن تفاض عليه خلعة السلطان ليتوجه أميرًا بطرابلس، وكان قد وعد ذلك، لما ترددت الرسل بينهم وبينه مرارًا حتى استقرَّ الأمر على أن يكون إينال من جملة أمراء طرابلس، وكتب له السلطان أمانًا ونسخةَ يمين فانخدع الخمول ونزل من القلعة، فما هو إلا أن قام بلبس الخلعة وإذا هم أحاطوا به وقيَّدوه وعاقبوه أشد عقوبة على إظهار المال، ثم قتلوه وقتلوا معه مائة رجل ممن كان معه بالقلعة، وعلَّقوهم بأعلاها.
تمرَّدَ عِمرانُ بن مجالد الربيعيُّ، وقُريشُ بن التونسي بتونُسَ على إبراهيمَ بنِ الأغلب أميرِ إفريقيَّةَ، واجتمع فيها خلقٌ كثير، وحُصِرَ إبراهيمُ بن الأغلب بالقصرِ وجمعٌ ممَّن أطاعه، وخالفَ عليه أيضًا أهلُ القيروان، فكانت بينهم وقعةٌ وحَربٌ قُتِلَ فيها جماعةٌ مِن رجالِ ابن الأغلب. وقَدِمَ عِمرانُ بنُ مجالد فيمن معه، فدخل القيروانَ عاشر رجب، وقَدِمَ قُريش من تونس عليه، فكانت بينهم وبين ابن الأغلبِ وَقعةٌ في رجب، فانهزم أصحابُ ابن الأغلب، ثم التَقَوا في العشرين منه فانهزموا ثانيةً أيضًا، ثم التقوا ثالثةً فيه أيضًا فكان الظَّفَرُ لابن الأغلب، وأرسل عِمرانُ بن مجالد إلى أسدِ بن الفرات الفقيهِ ليخرُجَ معهم، فامتنع، فعاد الرسولُ يقول له: تخرجُ معنا وإلَّا أرسلتُ إليك من يجُرُّ برِجلِك، فقال أسدٌ للرسول: قل له: واللهِ إن خَرجتُ لأقولنَّ للنَّاسِ إنَّ القاتلَ والمقتولَ في النَّارِ، فتَرَكه.
عَصِيَ روزبهان الديلميُّ على معِزِّ الدولة وانحاز إلى الأهوازِ ولَحِقَ به عامَّةُ من كان مع المهلبي وزيرِ مُعِزِّ الدولة الذي كان يحارِبُه، فلمَّا بلغ ذلك مُعِزَّ الدولةِ لم يصَدِّقْه؛ لأنَّه كان قد أحسن إليه ورفع مِن قَدْرِه بعد الضَّعةِ والخمول، ثم تبيَّنَ له أنَّ ذلك حَقٌّ، فخرج لقتالِه وتَبِعَه الخليفةُ المطيع لله خوفًا مِن ناصرِ الدَّولةِ بنِ حمدان؛ فإنَّه قد بلغه أنَّه جهَّزَ جَيشًا مع ولدِه أبي المرجا جابر إلى بغداد ليأخُذَها، فأرسل معِزُّ الدولة حاجِبَه سبكتكين إلى بغداد، وصمَدَ مُعِزُّ الدولة إلى الروزبهان فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وهزمه معِزُّ الدولة وفَرَّق أصحابَه وأخذه أسيرًا إلى بغداد فسَجَنه، ثم أخرجه ليلًا وأغرَقَه؛ لأنَّ الديلمَ أرادوا إخراجَه من السجن قهرًا، وانطوى ذِكرُ روزبهان وإخوتِه، وكان قد اشتعل اشتعالَ النَّارِ، وحَظِيَت الأتراكُ عند معِزِّ الدولة وانحطَّت رتبةُ الديلم عنده؛ لأنَّه ظهر له خيانتُهم في أمر الروزبهان وإخوتِه.
كان المعِزُّ بنُ باديس الصِّنهاجيُّ ناصِرًا للسُّنَّةِ وقامِعًا لبدعةِ الرَّفضِ الإسماعيليَّة العُبَيديَّة بإفْريقيَّةَ، وفي هذه السَّنَةِ قَتَل الرَّافِضةَ الإسماعيليَّةَ أتباعَ العُبَيديِّينَ في بلاد إفْريقيَّةَ، وبدايتُه أنَّ المُعِزَّ بنَ باديس رَكِبَ في عاشوراء ومشى في القيروانِ والنَّاسُ يُسَلِّمونَ عليه ويَدعُونَ له، فاجتاز بجَماعةٍ، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافِضةٌ يسُبُّونَ أبا بكرٍ وعُمَرَ، فقال: رَضِيَ اللهُ عن أبي بكرٍ وعُمَرَ، فانصرَفَت العامَّةُ مِن فَورِها إلى دَربِ المقلى من القيروانِ، وهو مكانٌ تجتَمِعُ به الشِّيعةُ، فقَتَلوا منهم، فقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، وأُحرِقوا بالنَّارِ، ونُهِبَت ديارُهم، وقُتِلوا في جميعِ إفريقيَّةَ، واجتمَعَ جماعةٌ منهم إلى قصر المنصورِ قَريب القيروان، فتحَصَّنوا به، فحصَرَهم العامَّةُ وضَيَّقوا عليهم، فاشتَدَّ عليهم الجوعُ، فأقبلوا يَخرُجونَ والنَّاسُ يَقتُلونَهم حتى قُتِلوا عن آخِرِهم، ولجأ مَن كان منهم بالمهديَّةِ إلى الجامِعِ فقُتِلوا كُلُّهم، وكانت الشِّيعةُ تُسمَّى بالمغرب المشارِقةَ، نسبة إلى أبي عبدِ اللهِ الشِّيعيِّ، وكان مِن المَشرِقِ.
لما رجع سعود من الحج أطلق آلَ خليفة أهل البحرين والزبارة، وأذِنَ لهم بالرجوع إلى بلدهم، ووعدوه بالسمع والطاعة وعدم المخالفة، ووافق وقتُ وصولهم البحرين وقوعَ مقاتلة عظيمة في البحر بين عشايرهم وأبنائهم وبين أتباع الدولة السعوديةِ الذين في ناحيتِهم، وهم رحمة بن جابر بن عذبي أمير خوير حسان المعروف، وأبا حسين أمير الحويلة البلد المعروفة في قطر، وإبراهيم بن عفيصان أمير شوكة المرابِطة من أهل نجد وغيرهم، وذلك أنَّ هؤلاء سار بعضُهم على بعض في السفُنِ، فوقعت الملاقاة في البحر قربَ البحرين، فوقع قتالٌ شديد وكثُر القتلى بين الفريقين، ثم اشتعلت النار في السفُنِ، ومات بينهم خلق كثيرٌ قتلًا وحرقًا وغَرَقًا، فاحترقت السفن بمن فيها، واحترق لابن جابر وأبا حسين ومن معهم من المسلمين سبعةُ مراكب، واحترق لآل خليفة نحو ذلك, وقُتِل من أهل البحرين وأتباعهم ومن أتباع آل سعود نحو 1600 قتيل.
حاول العثمانيون عقدَ اتفاقٍ مع روسيا مماثلٍ لِما جرى بين إنكلترا وروسيا، ولكنَّه فَشِل واشتعلت نارُ الحرب بينهما، وهُزم العثمانيون واستولى الروسُ على بعض المواقع، وعُزِل الصدر الأعظم ضياء يوسف باشا وتولى مكانه أحمد باشا الذي انتصر على الروس، وأجلاهم عن المواقِعِ التي دخلوها، وساءت العلاقة بين فرنسا وروسيا، وكادت تقعُ الحرب بينهما، فطلبت روسيا الصلحَ مع الدولة العثمانية، وعقدت بين الطرفين مُعاهدة بوخارست التي نصَّت على بقاء الأفلاق والبغدان وبلاد الصرب تابعة للدولة العثمانية. وقد مكَّنَ الصُّلحُ السلطانَ محمود الثاني من القيام ببعض الإصلاحاتِ والقضاءِ على الثورات والتمَرُّد في الدولة، ولَمَّا عَلِم الصربيون بمعاهدة بوخارست، وإعادة خضوعهم للدولة العثمانية، قاموا بالثورة غيرَ أنَّ القوات العثمانية أخضعَتْهم بالقوة، وفَرَّ زعماء الثورة إلى النمسا، ولكِنَّ أحدهم وهو ثيودور فِتش أظهر الولاء للعثمانيين وخضع للسلطةِ العثمانية، وحصل على امتيازات خاصةٍ مِن الدولة.
بعد خَلعِ السلطانِ عبد الحميد الثاني أصبح كُلُّ شيء في الخلافةِ بيَدِ الاتحاديِّين، أمَّا الخليفةُ محمد رشاد فكان صورةً، غيرَ أن الأمر لم يطُلْ؛ إذ لم يتعاقَبْ على الخلافة سوى ثلاثة خلفاء، وكانت الدولةُ قد اشتركت في الحربِ العالمية الأولى بجانب ألمانيا، فهُزِمَت وتجزَّأت، وغادر البلادَ رِجالُ الاتحاد البارزين، أو الذين بيَدِهم الأمرُ والنهي، وجاء إلى الحُكمِ مصطفى كمال، وفي أيامِ الخليفة محمد رشاد الذي عُيِّنَ بدل عبد الحميد جرت الانتخاباتُ النيابية عام 1330هـ وفاز الاتحاديون وانتَشَرت الدعوة القوميَّة، وبدأت شعاراتُ الاتحاد والترقي في المساواة تذهَبُ هدرًا بعَدَمِ تَساوي الترك مع بقية العناصِرِ التي تؤلِّفُ الدولةَ العثمانية، وبدأت المهاتراتُ الصحفيةُ، وظهر الاختلافُ بين الدعوة المركزية واللامركزية، وتعني أن تأخُذَ الولايات غيرُ التركية استقلالًا ذاتيًّا، وتبقي خاضعة خارجيًّا لاستانبول، وتبنَّى الاتحاديون المركزيةَ، وبدأت التياراتُ الفكريةُ تتخَبَّطُ ويُشعِلُ نارَها اليهودُ والنصارى!