هي شجرةُ الدر الصالحيَّة بنت عبد الله أم خليل التركيَّة، ذاتُ حُسنٍ وظرف ودهاء وعقل، ونالت من العِزِّ والجاه ما لم تنَلْه امرأة في عصرها، كانت جاريةً اشتراها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وحَظِيَت عنده بمكانةٍ كبيرة، وكانت أمَّ ولدٍ عنده؛ فقد ولدت منه خليلًا، من أحسن الصور، فمات صغيرًا، وكانت تكونُ في خدمة الملك الصالحِ لا تفارقه حضرًا ولا سفرًا من شدة محبته لها, فأعتَقَها وتزوَّجَها. وكانت تقومُ بتدبير شؤون الدولة في أثناء مرض زوجِها، فلما تُوفى الملك الصالح بدمياط في أثناء حربه مع الإفرنج سنة 647 كتمت خبَرَ موته، وأرسلت إلى ابنه توران شاه ليتولى أمورَ الملك من بعده، إلَّا أن توران شاه هدَّدها، وطالبها بأموال الملك الصالح، فدبَّرت لقَتلِه، وبعد مقتَلِه اجتمعت الآراء على توليتها السلطنة في صفر سنة 648, وكان مماليك الصالح يخضعون لها، فمَلَّكوها بعد قتل المعظَّم توران شاه ثمانين يومًا، وكان المعِزُّ لا يقطع أمرًا دونها، ولها عليه صولةٌ، وكانت جريئةً وَقِحة، قتَلَت وزيرَها الأسعَدَ، وكانت تحجُر على الملك المعز، فأنِفَ من ذلك, ولما بَلَغَها عزمُ المعز الزواجَ مِن بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل قتَلَتْه, ولما توفِّيَ لم يصَدِّقْ مماليك عز الدين بأنه توفي بغير سببٍ، وقام الأمير علم الدين سنجر الغتمي - وهو يومئذٍ شَوكةُ البحرية وشديدُهم- وبادر هو والمماليك إلى الدور السلطانية، وقبضوا على الخُدَّام والحريم وعاقبوهم، فأقَرُّوا بأن شجرة الدر أمرت مماليكَها بقتله، وعند ذلك قبضوا على شجرةِ الدر، ومحسن الجوجري، وناصر الدين حلاوة، وصدر الباز، وفر العزيزي إلى الشام، فأراد مماليكُ المعز قَتْلَ شجرة الدر، فحماها الصالحيَّة، ونُقِلَت إلى البرج الأحمر بالقلعة، ثم لما أقيم ابنُ المعز في السلطنة، حُمِلَت شجرةُ الدر إلى أمِّه في اليومِ السابع عشر، فضرَبَها الجواري بالقباقيبِ إلى أن ماتَت، وألقوها من سور القلعة إلى الخندقِ، وليس عليها سراويل وقميص، فبَقِيَت في الخندق أيامًا، ثم دفنت بعد أيام - وقد نتنت، وحُمِلَت في قفة- بتربتها قريب المشهد النفيسي، وكانت من قُوَّةِ نَفسِها، لما عَلِمَت أنها قد أحيطَ بها، أتلفت شيئًا كثيرًا من الجواهِرِ واللآلئ، كسَّرَته في الهاون، وقد قيل إنه لما سمع مماليك عز الدين أيبك بخبر وفاته أقبلوا بصحبة مملوكه الأكبر سيف الدين قطز، فقتلوها وألقوها على مزبلةٍ غيرَ مستورةِ العورةِ.
هو الإمامُ العلَّامة الشيخُ عبد العزيز بن الشيخ الإمام حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر من آل معمر أهل العُيَينة، وهم من بين سعد بن زيد مناة بن تميم، وُلِدَ في الدرعية مركزِ الحركة العلمية في ذلك الحين سنة 1203هـ ونشأ في وسط العلماء العاملين الذين كانت تزخَرُ بهم الدرعيةُ ونجد في ذلك الزمنِ، فكان من شيوخِه والِدُه الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ الإمام عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، والشيخ العلامة المؤرخ أبو بكر حسين بن غنام، والشيخ أحمد بن حسين بن رشيد بن عفالق الحنبلي نزيل الدرعية، وغيرهم من العلماء، فمَهَر في جميعِ العلوم والفنون فصار عالِمًا محَقِّقًا وفقيهًا متبحرًا، له اليد الطولى والباع الواسع في التصنيف والتأليف ونشْر العلم وتخريجِ الكثير من الطلاب، والرَّد على المعارضين، وله عِدَّةُ مصَنَّفات وفتاوى ورسائل وأشعار، ومن أشهر مصنَّفاتِه وأجَلِّها الكتابُ المسمى: منحة القريب العجيب في الرد على عُبَّاد الصليب، ومن مصنَّفاته أيضًا: اختصار نظم ابن عبد القوي للمُقنِع. أخذ عنه العلم وانتفع به كثيرٌ من العلماء، وفي زمَنِه جرى على الديار النجدية والدولةِ السعودية ما جرى من التقتيل والتخريبِ، فدُمِّرَت الدرعية وتشَتَّت علماؤها وقادةُ الدعوة الذين كانوا بها؛ أخرجهم إبراهيم باشا من أوطانِهم ونفاهم إلى مِصرَ، وفر الشيخُ عبد العزيز بن معمر من الدرعية إلى البحرين، وكان لا يزال شابًّا في العقد الثالث من عمرِه، فأقام بها ولم تنقَطِعْ صلته بآل الشيخ الذين نُقِلوا إلى مصرَ، فكان يكاتب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بأشعارٍ يتوجَّعُ فيها على ما حَلَّ بنجدٍ مِن الدمار والخراب. أرسل شيخُ البحرين عبد الله بن خليفة عليه شُبهةً كتَبَها قسيس نصراني إنجليزي عجز عن الردِّ عليها علماءُ البحرين والأحساء، فتناوله الشيخ عبد العزيز وأمعن النظرَ فيه وقال: تأخذونَ مني دحض هذه الشبهةِ بعد شهر إن شاء الله تعالى، فلبث شهرًا وأتمَّ الردَّ وبعث به إلى الأميرِ وفَرحَ به أشَدَّ الفَرَحِ، ودُعِيَ القسيس الإنكليزي وأعطاه الردَّ، فلما طالعه عَجِبَ له واندهش جدًّا لِما كان يظنه من عجز ِعلماء البحرين، وقال: هذا الرد لا يكونُ مِن هنا وإنما يكون من البحر النجدي، فقال له الأمير: نعم، إنه أحَدُ طلبة العلم النجديين. أقام الشيخ عبد العزيز في البحرين حتى توفِّيَ فيها.
شرع الله سُبحانه وتعالى زكاةَ الفِطرِ, وهي واجبةٌ على كُلِّ مُسلمٍ حُرٍّ أو عبدٍ، ذَكَرٍ أو أُنثى، صغيرٍ أو كبيرٍ مِنَ المسلمين قادرٍ عليها. والحِكمةُ منها تَطهيرُ الصَّائمِ ممَّا عسى أن يكونَ قد وقع فيه أثناءَ الصِّيامِ مِن لَغْوٍ أو رَفَثٍ، وإعانةٌ للفقراءِ على إدخالِ السُّرورِ عليهم في يومِ العيدِ.
عقد عبد الناصر اتفاقياتِ دفاع مشترك مع بعض الدولِ العربية، مثل سوريا والأردن والسعودية واليمن وذلك بعد أن رفَضَت كلٌّ من أمريكا وبريطانيا وفرنسا تمويلَ بناء السد العالي مما كان سببا في تأميمَ قناة السويس في 16 أغسطس 1956م من أجل الاستفادة من عائداتها لبناءِ السد العالي.
طرَدَت السُّلطات السودانيةُ جماعةً إغاثيةً في مِنطقةِ دارفور التي يَدينُ كلُّ سكانِها بالإسلامِ، بعدَمَا وجد بعضُ المسؤولين آلافَ النسخِ من الإنجيل باللُّغة العربيةِ مُخزَّنةً في مكتبٍ تُديرُه منظمةُ (ثرست نو مور) أي (لا مزيد من العطش) في شمالِ دارفور. وتتَّخذ هذه الجماعةُ من ولايةِ تكساس الأمريكيةِ مقرًّا لها.
هو الإمامُ، قاضي القضاة أبو الفضل كمال الدين محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، الفقيه الموصلي الشافعي، بقيَّةُ الأعلام. وُلِدَ سنة 491, وكان والدُه أحد علماء زمانه يُلقَّب: بالمرتضى. لَمَّا قُتِلَ عماد الدين زنكي عند قلعةِ جعبر كان كمال الدين حاضرًا في العسكر هو وأخوه تاج الدين أبو طاهر يحيى، فلما رجع العسكَرُ إلى الموصل كانا في صُحبتِه, ولَمَّا تولى سيفُ الدين غازي بن عماد الدين زنكي فوَّضَ الأمورَ كُلَّها إلى القاضي كمال الدين وأخيه بالموصِل وجميع مملكته، ثمَّ إنه قبض عليهما في سنة 542 واعتقَلَهما بقلعة الموصل، ثمَّ إن الخليفة المقتفي شَفَعَ فيه وفي أخيه فأُخرِجا من الاعتقال، وقَعَدا في بيوتهما وعليهما الترسيمُ، ولما مات سيف الدين غازي رُفِعَ الترسيم عنهما، ثم انتقل كمال الدين إلى خدمة نور الدين محمود صاحب الشام في سنة 550 الذي احتفى به وأكرم وِفادتَه، فأقام بدمشق، ثم فوَّضَه نور الدين محمود في صفر سنة 555، نظَرَ الجامِعِ ودارَ الضرب وعمارة الأسوار والنَّظَر في المصالح العامة. واستناب ولَدَه وأولاد أخيه ببلاد الشام، وترقَّى القاضي كمال الدين إلى درجة الوزارة، وحَكَم في بلاد الشام في ذك الوقت، واستناب ولَدَه القاضي محيي الدين في الحُكم بمدينة حلب، ولم يكنْ شَيءٌ من أمور الدولة يخرجُ عنه، حتى الولاية وشد الديوان، ولَمَّا مات نور الدين وملك صلاح الدين دمشقَ أقَرَّه على ما كان عليه. وكان فقيهًا أديبًا شاعرًا كاتبًا ظريفًا فَكِهَ المجالسة، يتكَلَّمُ في الخلاف والأصول كلامًا حسنًا، وكان شهمًا جَسورًا كثير الصدقة والمعروف، وقَّفَ أوقافًا كثيرة بالموصل ونصيبين ودمشق، وكان عظيمَ الرياسة خبيرًا بتدبير المُلك، لم يكُنْ في بيته مثلُه ولا نال أحدٌ منهم ما ناله من المناصِبِ مع كثرة رؤساءِ بَيتِه، توفي القاضي كمال الدين في السادس من المحرم من هذه السنة، وقد كان من خيار القضاة وأخصِّ الناس بنور الدين محمود، ولَمَّا حضرته الوفاةُ أوصى بالقضاء لابنِ أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري، مع أنَّه كان يجِدُ عليه؛ لِمَا كان بينه وبينه حين كان صلاحُ الدين سَجَنه بدمشق، وكان يعاكِسُه ويخالِفُه، ومع هذا أمضى وصيَّتَه لابن أخيه، فجلس في مجلسِ القضاءِ على عادةِ عَمِّه وقاعدتِه.
رحل المغولُ مِن دمشق على أنَّهم سيعودون زمن الخريف ليدخلوا مصر أيضًا، وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشقَ يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الأولى ومعه الألبكي وجماعة، وبين يديه السيوفُ مُسَلَّلة وعلى رأسه عصابةٌ، فنزل بالقصر ونودي بالبَلَدِ: نائبُكم قبجق قد جاء فافتَحوا دكاكينَكم واعملوا معاشَكم، ولا يغرر أحدٌ بنفسه هذا الزَّمان والأسعارُ في غاية الغلاءِ والقِلَّة، ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد أن يخرُجَ الناس إلى قُراهم، وأمر جماعة وانضاف إليه خلقٌ من الأجناد، وكَثُرت الأراجيف على بابه، وعَظُم شأنه ودُقَّت البشائر بالقلعة، وركب قبجق بالعصائبِ في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحوًا من ألف فارس نحو خربة اللصوصِ، ومشى مشيَ الملوك في الولاياتِ وتأمير الأمراءِ والمراسيم العالية النافذة، ثم إنَّه ضمن الخماراتِ ومواضِعَ الزنا من الحاناتِ وغيرها، وجُعِلَت دارُ ابن جرادة خارج من باب توما خمارةً وحانة أيضًا، وصار له على ذلك في كلِّ يومٍ ألفُ درهم، وهي التي دمَّرَتْه ومحقت آثارَه، وأخذ أموالًا أخرى من أوقاف المدارس وغيرها، ورجع بولاي من جهة الأغوار وقد عاث في الأرض فسادًا، ونهب البلادَ وخَرَّب ومعه طائفةٌ من التتر كثيرة، وقد خربوا قرًى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسَبَوا خلقًا من أطفالها، وجبى لبولاي من دمشق أيضًا جباية أخرى، وخرج طائفةٌ من القلعة فقَتَلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقُتِلَ جماعة من المسلمين في غبون ذلك، وأخذوا طائفةً ممن كان يلوذ بالتتر، ورَسَمَ قبجق لخطيبِ البلَدِ وجماعة من الأعيان أن يدخُلوا القلعة فيتكَلَّموا مع نائِبِها في المصالحةِ، فدخلوا عليه يومَ الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلَّموه وبالغوا معه فلم يجِب إلى ذلك، وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيَّضَ اللهُ وَجهَه، وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاةَ والأعيان فحَلَّفَهم على المناصحة للدولة المحمودية- يعني قازان- فحلفوا له، وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقيُّ الدين ابن تيمية إلى مخيَّم بولاي فاجتمع به في فكاكِ مَن كان معه من أسارى المُسلمين، فاستنقذ كثيرًا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثةَ أيامٍ ثم عاد، ثم راح إليه جماعةٌ من أعيان دمشق ثم عادوا من عنده فشُلحوا عند باب شرقي وأخَذَ ثيابَهم وعمائِمَهم ورجعوا في شرِّ حالة، ثم بعَثَ في طلبهم فاختفى أكثَرُهم وتغيَّبوا عنه.
قامت ثورةٌ عارمة في تركستان الشرقية ضِدَّ الصين سنة 1350هـ / 1931م كان سببُها تقسيمَ الحاكم الصيني المنطقةَ التي يحكمها "شاكر بك" إلى وحداتٍ إدارية، فبدأ التذمُّر، ثم وقع اعتداءٌ على امرأةٍ مسلمة من قِبَل رئيس الشرطة، فامتلأ الناسُ غيظًا وحِقدًا على الصينيين، وتظاهروا بإقامة حفلٍ على شَرفِ رئيس الشرطة وقَتَلوه أثناء الحَفلِ مع حرَّاسه البالغ عددُهم اثنين وثلاثين جنديًّا. وقد كانت ثورةً عنيفة، اعتصم خلالها بعضُ المسلمين في المرتفعات، ولم تستطع القواتُ الصينية إخمادَها، فاستعانوا بقوات من روسيا فلم تُجْدِ نفعًا مع بركان الغضب المسلِم، وانتصر المسلِمون عليهم، واستولوا على مدينة "شانشان"، وسيطروا على "طرفان" -شمال تركستان الصينية غرب الصين-، واقتربوا من "أورومجي" -مدينة في شمال غربي الصين- قاعدة تركستان الشرقية. وأرادت الحكومةُ الصينية تهدئةَ الأوضاعِ، فعزلت الحاكمَ العامَّ، غير أن المسلمين كانوا قد تمكَّنوا من الاستيلاء على "أورومجي"، وطردوا الحاكِمَ العامَّ قبل أن تعزِلَه الدولة، وتسلَّم قادةُ المسلمين السلطةَ في الولاية، ووزَّعوا المناصب والمراكز على أنفُسِهم، فما كان من الحكومة الصينية إلا أن رضخت للأمر الواقع، واعترفت بما حدث، وأقرَّت لقادة الحركة بالمراكز التي تسلَّموها. وقد امتَدَّ هذا الأمر إلى منطقة تركستان الشرقية كلِّها، وقام عددٌ من الزعماء بالاستيلاء على مدنهم، ثم اتجهوا إلى "كاشغر" -أشهر مدن تركستان الشرقية- واستولوا عليها، وكان فيها "ثابت داملا" أي: الملا الكبير، فوجدها فرصةً وأعلن قيامَ حكومة "كاشغر الإسلامية"، أما "خوجانياز" أو "عبد النياز بك"، فقد جاء إلى الثائرين في كاشغر ليفاوِضَهم وينهي ثورتَهم، إلا أنه اقتنع بعدالةِ ثورتِهم، فانضَمَّ إليهم وأعلن قيامَ حكومة جديدة باسم "الجمهورية الإسلامية في تركستان الشرقية"، وكان ذلك في (2 رجب 1352هـ / 12 نوفمبر 1933م، وقد اختير "خوجانياز" رئيسًا للدولة، و"ثابت داملا" رئيسًا لمجلس الوزراء. ولم تلبث هذه الحكومة طويلًا، فقد ذكر "يلماز أوزتونا" في كتابه "الدولة العثمانية" أنَّ الجيشَ الصيني الروسي استطاع أن يهزم "عبد النياز بك" مع جيشه البالغ (80) ألف جندي، بعد مقتل "عبد النياز" في 6 جمادى الآخرة 1356هـ / 15 أغسطس 1937م، وبذلك أسقط التحالفُ الصيني الروسي هذه الجمهوريةَ المسلِمةَ، وقام بإعدام أعضاء جميع أعضاء الحكومةِ مع عشرة آلاف مسلمٍ.
لمَّا بلغَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَمسًا وعِشرين سنةً وليس له بمكَّةَ اسمٌ إلا "الأمينُ"؛ لِمَا تكامَلَ فيه من خِصال الخير، قال له عمُّه أبو طالِبٍ: "يا ابنَ أخي، أنا رجلٌ لا مالَ لي، وقد اشتَدَّ الزَّمانُ علينا، وألَحَّت علينا سِنونَ مُنكَرةٌ، وليس لنا مادَّةٌ ولا تجارةٌ، وهذه عيرُ قومِك قد حَضَرَ خروجُها إلى الشامِ، وخديجةُ بِنتُ خوَيلدٍ تبعَثُ رِجالًا من قومِك في عيرانِها، فيتَّجِرون لها في مالِها، ويُصيبون مَنافِعَ، فلو جِئتَها فوَضَعْتَ نفسَك عليها لأسرَعَت إليك، وفَضَّلَتْكَ على غيرِك، لِمَا يبلُغُها عنك من طهارَتِك، وإن كنتُ لَأكرَهُ أن تأتيَ الشامَ، وأخافُ عليك من يهودَ، ولكن لا نَجِدُ من ذلك بُدًّا".
وكانتْ خديجةُ بِنتُ خوَيلدٍ امرأةً تاجرةً ذاتَ شرفٍ ومالٍ كثيرٍ وتجارةٍ تبعَثُ بها إلى الشَّامِ، فتكونُ عِيرُها كعامَّةِ عِيرِ قُرَيشٍ، وكانت تستأجِرُ الرِّجالَ وتدفَعُ إليهمُ المالَ مُضاربةً، وبلغ خَديجةَ ما كان من صِدقِ حديثِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعِظَمِ أمانَتِه، وكرمِ أخلاقِه، فأرسلَتْه في تجارَتِها، فخَرَج مع غُلامِها مَيسَرةَ حتى قدِمَ الشامَ، وجعل عُمومَتُه يوصون به أهلَ العيرِ حتى قدِمَ الشامَ، فنَزَلَا في سوقِ بُصرَى في ظلِّ شجرةٍ قريبًا من صَومعةِ راهِبٍ يُقال له: نِسْطُورَا، فاطَّلَع الرَّاهبُ إلى مَيسَرةَ -وكان يعرِفُه-؛ فقال: "يا مَيسَرةُ، مَن هذا الذي نزَل تحتَ هذه الشجرةِ؟"، فقال مَيسَرةُ: "رجلٌ من قريش من أهلِ الحرمِ". فقال له الرَّاهبُ: "ما نَزَل تحتَ هذه الشجرةِ إلا نبيٌّ".
ثم باع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِلعتَه -يعني: تِجارَتَه- التي خَرَج بها، واشترى ما أراد أن يشتريَ، ثم أقبل قافِلًا إلى مكةَ ومعه مَيسَرةُ؛ فلما قدِمَ مكةَ على خديجةَ بمالِها باعت ما جاء به بأضعَفَ أو قريبًا، وحدَّثها مَيسَرةُ عن قَولِ الراهبِ، وما رَأى من شأنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَرَضَت نَفسَها عليه رَضي اللهُ عنها، وكانتْ أوسَطَ نساءِ قُريشٍ نَسَبًا وأعظمَهُنَّ شَرَفًا، وأكثَرَهُنَّ مالًا، فلمَّا قالت ذلك لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَكَر ذلك لأعمامِه، فخرج معه عمُّه حمزةُ حتى دَخَل على خويلِدِ بنِ أسَدٍ فخَطَبها إليه، فتزوَّجها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانتْ أوَّلَ امرأةٍ تزوَّجَها، ولم يتزوَّج عليها غيرَها حتى ماتت رَضي اللهُ عنها.
هو أبو الفضلِ جَعفرُ بنُ أحمدَ المعتَضِد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفَّق بن جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، أمير المؤمنين العبَّاسي، ولد في رمضان سنة 282، وأمُّه أمُّ ولَد اسمها شغب، بويعَ له بالخلافةِ بعد أخيه المُكتفي في ذي القَعدة، سنة 295، وهو يومئذٍ ابنُ ثلاث عشرة سنة وشهر وأيام. وما وليَ أحدٌ قبله أصغَرُ منه، فانخرم نظامُ الإمامة في أيَّامِه، وصَغُرَ منصِبُ الخلافة؛ ولهذا أراد الجُندُ خَلعَه في بداية خلافتِه في ربيع الأول سنة 296 محتجِّينَ بصِغَرِه وعدَمِ بلوغِه، وتوليةَ عبد الله بن المعتَزِّ، فلم يتمَّ ذلك، وانتقض الأمرُ في ثاني يوم, ثم خلَعوه في المحرَّم سنة 317، وولَّوا أخاه محمَّدًا القاهر، فلم يتِمَّ ذلك سوى يومين، ثم رجع إلى الخلافةِ, وقد كان المقتَدِر رَبْعةً مِن الرجال حسَنَ الوَجهِ والعَينينِ، بعيدَ ما بين المَنكِبَين، حسَنَ الشَّعرِ، مدوَّرَ الوَجهِ، مُشرَبًا بحُمرةٍ، حسَنَ الخُلُقِ، قد شاب رأسُه وعارضاه، وقد كان مِعطاءً جَوادًا، وله عقلٌ جَيِّد، وفهمٌ وافِرٌ، وذِهنٌ صحيح، وقد كان كثيرَ التحجُّبِ والتوسُّع في النفقاتِ مِتلافًا للأموال، مَحَقَ ما لا يُعَدُّ ولا يُحصى منها. كان في دارِه أحد عشر ألفَ خادم خَصِيٍّ، غير الصقالبة وأبناء فارس والروم والسُّودان، وكان له دارٌ يقال لها دارُ الشجرة، بها من الأثاثِ والأمتعة شيءٌ كثيرٌ جِدًّا، وكان كثيرَ الصَّدَقة والإحسانِ إلى أهل الحرمين وأربابِ الوظائف، وكان كثيرَ التنفُّل بالصَّلاةِ والصوم والعبادة، ولكنَّه كان مؤثِرًا لشهواتِه، مطيعا لخَدَمِه وغلمانِه، كثيرَ العَزلِ والولاية والتلَوُّن. وما زال ذلك دأبَه حتى كان هلاكُه على يدي غِلمانِ مُؤنسٍ الخادم، فقُتِلَ عند باب الشماسية لليلتين بقيتا من شوالٍ من هذه السنة، وله من العمر ثمانٍ وثلاثون سنة، قال الذهبي: "كان منهومًا باللَّعِب والجواري، لا يلتَفِتُ إلى أعباء الأمور، فوهَنَت دولتُه، وفارقَه قائِدُه مؤنِسٌ الخادم مغاضِبًا له إلى الموصل، وتمَلَّكَها، ووصلت القرامطةُ في أيَّامِه إلى الكوفة، فهرب أهلُها منها. ودخلت الديلم الدينور فاستباحوها، وأقبلت جيوشُ الرومِ حتى بلغوا عَمُّورية، فقَتَلوا وسَبَوا" كانت مدة خلافته أربعًا وعشرين سنةً وأحد عشر شهرًا وأربعة عشر يومًا. كان أكثَرَ مُدَّةً ممَّن تقَدَّمَه من الخُلَفاء.
جمع البرنس الفرنجي، صاحب أنطاكية، جموعًا كثيرة وقصد الأرمن الذين في الدروب بلاد ابن ليون، فكان بينهم حربٌ شديدةٌ، وسَبَبُ ذلك أنَّ ابن ليون الأرمني، صاحِبَ الدروب، توفِّيَ قبلُ ولم يخلف ولدًا ذكرًا، إنما خلف بنتًا، فملَّكَها الأرمنُ عليهم، ثمَّ عَلِموا أنَّ المُلكَ لا يقومُ بامرأة، فزوجوها من ولد البرنس، فتزوجَّها، وانتقل إلى بلَدِهم، واستقَرَّ في الملك نحو سنة، ثم نَدِموا على ذلك، وخافوا أن يستولي الفرنجُ على بلادهم، فثاروا بابن البرنس، فقَبَضوا عليه وسجنوه، فأرسل أبوه يطلبُ أن يُطلَق ويعاد في المُلك، فلم يفعلوا، فأرسل إلى بابا ملك الفرنجِ برومية الكبرى يستأذنُه في قصد بلادهم، ومِلك روميَّة، فمنعه عنهم، فخالفه وأرسلَ إلى علاء الدين كيقباذ ملك قونية وملطية وما بينهما من بلاد المسلمين، وصالحه، ووافقه على قصدِ بلاد ابن ليون، والاتفاق على قصدها، فاتفقا على ذلك، وجمع البرنس عساكره ليسير إلى بلاد الأرمن، فخالف عليه الداوية والاسبتارية، وهما جمرة الفرنج، فدخل أطراف بلاد الأرمن، وهي مضايق وجبال وعْرة، فلم يتمكَّن مِن فِعلِ ما يريد، وأمَّا كيقباذ، فإنه قصدَ بلاد الأرمن من جهتِه، وهي أسهَلُ من جهة الشام، فدخلها سنة 622، فنهبها، وأحرقها، وحصر عِدَّة حصون، ففتح أربعةَ حصون، وأدركه الشتاءُ فعاد عنها، فلما سَمِعَ بابا ملك الفرنج برومية أرسل إلى الفرنج بالشام يُعلِمُهم أنَّه قد أصدر صك حرمان بحق البرنس، فكان الداوية والاسبتارية وكثيرٌ من الفرسان لا يحضُرونَ معه، ولا يسمعون قوله، وكان أهل بلاده، وهي أنطاكية وطرابلس، إذا جاءهم عيد يخرجُ من عندهم، فإذا فرغوا من عيدهم دخل البلد، ثم إنه أرسل إلى ملك رومية يشكو من الأرمن، وأنَّهم لم يطلقوا ولده، ويستأذنه في أن يدخلَ بلادَهم ويحاربَهم إن لم يطلقوا ابنه، فأرسل إلى الأرمن يأمرُهم بإطلاق ابنه وإعادته إلى الملك، فإن فعلوا وإلَّا فقد أذن له في قصدِ بلادهم، فلما بلغَتْهم الرسالةُ لم يطلقوا ولده، فجمع البرنس وقصد بلادَ الأرمن، فأرسل الأرمن إلى الأتابك شهاب الدين بحلب يستنجدونَه، ويخيفونَه من البرنس إن استولى على بلادِهم لأنها تجاور أعمال حلب، فأمدهم بجند وسلاح، فلما سمع البرنس ذلك صمم العزمَ على قصد بلادهم، فسار إليهم وحاربَهم، فلم يحصل على غرض، فعاد عنهم.
هو الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله المحمدي، نائب قلعة دمشق، هو مملوك سودون بن عبد الله المحمدي المتوفي سنة 818، وعتيقه، وإليه يُنسَب بالمحمدي. واستمرَّ بخدمته إلى أن قتله المؤيد شيخ، واستمرَّ من جملة المماليك السلطانية إلى أن صار في الدولة الأشرفية برسباي خاصكيًّا، ورأَسَ نوبةَ الجمدارية مدةً طويلة. ثم أراد الأشرفُ أن يؤمِّرَه فامتنع وترك وظيفته أيضًا، وصار من جملة المماليك السلطانية على إقطاعه، ودام على ذلك إلى أن وثب الأتابك جقمق على الملك العزيز يوسف، فانضَمَّ سودون المحمدي إلى الملك العزيز، ولم يوافِق الأتابك جقمق، فعدَّها عليه جقمق إلى أن تسلطن فنفاه، ثم شُفِعَ فيه بعد أشهر، وكَتَبَ بعوده إلى القاهرة، وأنعم عليه بإمرةِ عشرة بسفارة خوند مغول بنت القاضي ناصر الدين البارزي زوجة الملك الظاهر جقمق، فإن سودون هذا هو زوج أختها لأبيها, فاستمرَّ سودون مدة ثم توجَّه إلى مكة المشرفة ناظرًا بها وشاد العمائر، كما كان توجَّه في الدولة الأشرفية برسباي. واستمر بمكة نحو السنتين أو أكثر، وعاد إلى القاهرة وأقام بها مدة يسيرة، واستقرَّ في نيابة قلعة دمشق في سنة 848، فتوجَّه إليها ودام بها إلى أن مات في صفر. قال ابن تغري بردي: "كان ديِّنًا خَيِّرًا، عفيفًا عن المنكرات والفروج، عاقلًا ساكنًا، إلا أنه كان قليل المعرفة كثيرَ الظن برأي نفسِه. من ذلك أنه لما توجه إلى مكة ليصلِحَ ما تشعَّثَ من حيطان الحرم، فلما وصل إلى مكَّةَ هدم سقْفَ البيت الشريف، ورفع الأخشابَ التي كانت بأعلى البيت وغيرَها، فمنعه أكابِرُ مكة من ذلك، فأبى، فقالوا له: هذا عليه كتابةٌ تمنع الطيرَ أن يقعُدَ بأعلى البيت، فلم يلتفِتْ إلى كلامهم، وهدم السقفَ واعتذر بأنه يدلِفُ المطرَ إلى داخل البيت، فرحل جماعةٌ من أهل مكة خوفًا من أن ينزل عليهم بلاء من الله، وصار البيت مكشوفًا أيامًا بغير كسوة إلى أن جَدَّد له سقفًا، فتَلِفَ ما صنعه أكثَرَ من السقف القديم، وتكرر منه هذا الفعل، فلم يُحمَدْ على ما فعل، وساءت سيرتُه بمكة لأجل ذلك، ونَقَم عليه كل أحد، وصار سقفُ البيت مأوًى للطيور، وأتعب الخدامَ ذلك؛ فإنهم صاروا كل قليل ينزلون من أعلى البيت بقُفَف من زبلِ الحمام وغيره، فما شاء الله كان، ونَدِمَ هو أيضًا على فعلته، فلم يُفِدْه الندم، وهو غير الأمير سودون بن عبد الله النوروزي المتوفى سنة 847.
حضر ابنُ أخت ملك النوبة واسمه مشكد متظلمًا من داود ملك النوبة، فجَرَّد السلطانُ الظاهر بيبرس معه الأميرَ آقسنقر الفارقاني، ومعه من العسكَرِ وأجناد الولاة والعربان، والزرَّاقون والرُّماة والحراريقُ والزردخاناه-خزانة السلاح- فخرج مشكد في مستهل شعبان حتى تجاوز أسوان، وقاتل خالَه الملك داود ومن معه من السودان، فقاتلوه على النجب، وهَزَمَهم وأسر منهم كثيرًا، وبعث الأميرُ آقسنقر الأميرَ عزَّ الدين الأفرم، فأغار على قلعة الدقم، وقَتَل وسبى، ثم توجه الأمير سنقر في أثَرِه يقتل ويأسر حتى وصل إلى جزيرة ميكاليل وهي رأس جنادل النوبة، فقتل وأسر، وأقَرَّ الأميرُ آقسنقر قمر الدولة صاحب الجبل وبيده نصفُ بلاد النوبة على ما بيده، ثم واقَعَ الملك داود حتى أفنى معظَمَ رجاله قتلًا وأسرًا، وفر داود بنفسه في البحر وأُسِرَ أخوه شنكو، فساق العسكر خَلفَه ثلاثة أيام، والسيفُ يعمل فيمن هناك حتى دخلوا كلُّهم في الطاعة، وأُسِرَت أم الملك داود وأخته، وأقيم مشكد في المملكة، وأُلبِسَ التاج وأُجلِسَ في مكان داود، وقُرِّرَت عليه القطعة في كل سنة، وهي ثلاثة فيلة، وثلاث زرافات، وخمس فهود إناث، ومائة صهب جياد، ومائة من الأبقار الجياد منتخبة, وقرر أن تكون البلادُ مشاطرة، نصفُها للسلطان ونصفُها لعمارة البلاد وحفظِها، وأن تكون بلادُ العلى وبلاد الجبل للسلطان، وهي قدر ربع بلاد النوبة لقُربِها من أسوان، وأن يحمِلَ القُطن والتمر مع الحقوق الجاري بها العادةُ من القديم، وعرض عليهم الإسلامَ أو الجزية أو القَتلَ، فاختاروا الجزيةَ، وأن يقومَ كُلٌّ منهم بدينار عينًا في كلِّ سنةٍ، وعُمِلَت نسخة يمين بهذه الشروط، وحلف عليها مشكد وأكابِرُ النوبة، وعملت أيضًا نسخةٌ للرغبة بأنهم يطيعون نائِبَ السلطان ما دام طائعًا له، ويقومون بدينارٍ عن كلِّ بالغٍ، وخُرِّبَت كنيسة سرس، التي كان يزعم داود أنَّها تحدِّثُه بما يريده، وأخَذَ ما فيها من الصُّلبان الذَّهَب وغيرها، فجاءت مبلغ أربعة آلاف وستمائة وأربعين دينارًا ونصف، وبلغت الأواني الفِضَّة ثمانية آلاف وستمائة وستين دينارًا، وكان داودُ قد عَمَرَها على أكتاف المسلمين الذين أسَرَهم من عيذاب وأسوان، وقرر على أقارب داود حمل ما خلفه من رقيقٍ وقماشٍ إلى السلطان، وأُطلِقَت الأسرى الذين كانوا بالنوبة من أهل عيذاب وأسوان، ورُدُّوا إلى أوطانهم، ومن العسكرِ مِن الرقيق شيئًا كثيرًا، حتى بِيعَ كُلُّ رأس بثلاثة دراهم، وفضَل بعد القتل والبيع عشرة آلاف نفس، وأقام العسكر، بمدينة دنقلة سبعة عشر يومًا، وعادوا إلى القاهرة في خامس ذي الحجة بالأسرى والغنائم، فرسَمَ السلطان للصاحب بهاء الدين بن حنا أن يستخدم عمالًا على ما يستخرج من النوبة من الخَراجِ والجزية بدنقلة وأعمالا، فعمل لذلك ديوان.