أقام شارل الخامس (شارلكان) ملك إسبانيا محكمةَ تفتيش بغرناطة مهمتُها القبض على المسلمين في حال قيامِهم بأحد الأنشطة التالية: الاتجاه للقبلة (وهذا يعني مجرد الصلاة), أو ذبح الماشية على الطريقة الإسلامية, أو التكلم باللغة العربية, أو ارتداء الملابس العربية، وغيرها من الأشياء الأخرى، وكلها قاضية بقمع الهُوية الإسلامية نهائيًّا في إسبانيا ظاهرًا وباطنًا!
هو فَيصلُ بن وطبان بن محمد الدويش الملقَّب بالأكوخ، شيخ قبيلة مطير. تولى المشيخة من عام 1205هـ. انضَمَّ مع القوات العثمانية بقيادةِ إبراهيم باشا في الاستيلاءِ على مدن القصيم والعارض وحصار الدرعية، وكان سببُ انضمامه قتل 12 رجلًا من شيوخ مطير وأقربائه من قِبَلِ عبد الله بن سعود، وكان له مراسلات عديدةٌ مع إبراهيم باشا
عاد جلال الدين بن خوارزم شاه من كرمان، إلى تفليس، وسار منها إلى مدينة آني، وهي للكرج، وبها إيواني مقدَّم عساكر الكرج فيمن بقي معه من أعيان الكرج، فحصره وسيَّرَ طائفةً مِن العسكر إلى مدينة قرس، وهي للكرج أيضًا، وكلاهما من أحصَنِ البلاد وأمنَعِها، فنازلهما وحصَرَهما، وقاتل من بهما، ونصَبَ عليهما المجانيقَ، وجدَّ في القتال على مدينتي آني وقرس، وبالغ الكرج في حفظِهما والاحتياطِ لهما لخوفِهم منه أن يفعَلَ بهما ما فعل بأشياعِهم مِن قبلُ بمدينة تفليس، وأقام عليهما إلى أن مضى بعضُ شوال، ثم ترك العسكَرَ عليهم يحصرونَهم وعاد إلى تفليس، وسار من تفليس مجدًّا إلى بلاد أبخاز وبقايا الكرج، فأوقعَ بمن فيها، فنهب وقتل وسبى، وخرَّب البلادَ وأحرقها، وغَنِمَ عساكرُه ما فيها، وعاد منها إلى تفليس، أما خلاط فإنَّ جلال الدين عاد من مدينة آني إلى تفليس ودخل بلاد أبخاز، وكان رحيلُه مكيدةً؛ لأنَّه بلغه أن النائِبَ عن الملك الأشرف، وهو الحاجب حسام الدين علي بمدينة خلاط، قد احتاط واهتم بالأمر وحفظ البلد لقُربِه منه، فعاد إلى تفليس ليطمَئِنَّ أهل خلاط ويتركوا الاحتياطَ والاستظهارَ ثم َّيقصِدَهم بغتة؛ وسار مجدًّا فوصل الخبَرُ إليهم قبل وصوله بيومين، ووصل جلالُ الدين فنازل مدينة ملازكرد يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة، ثم رحل عنها؛ فنازل مدينة خلاط يوم الاثنين خامس عشر ذي القعدة، فلم ينزل حتى زحف إليها، وقاتل أهلها قتالًا شديدًا، فوصل عسكرُه سور البلد، وقُتِلَ بينهم قتلٌ كثير، ثم زحف إليها مرة ثانية، وقاتل أهل البلد قتالًا عظيمًا، فعَظُمت نكايةُ العسكر في أهل خلاط، ووصلوا إلى سور البلد، ودخلوا الربضَ الذي له، ومدوا أيديَهم في النهب وسبي الحريم، فلمَّا رأى أهل خلاط ذلك تذامروا، وحَرَّضَ بعضهم بعضًا، فعادوا إلى العسكَرِ فقاتلوهم فأخرجوهم من البلد، وقُتِل بينهم خلق كثير، وأسر العسكرُ الخوارزمي من أمراء خلاط جماعةً، وقُتِلَ منهم كثيرٌ، ثمَّ إن جلال الدين استراح عدَّة أيام، وعاود الزحفَ مثل أول يوم، فقاتلوه حتى أبعدوا عسكره عن البلد، ثم أقام عليها إلى أن اشتَدَّ البرد، ونزل شيءٌ من الثلج، فرحل عنها يوم الثلاثاء لسبعٍ بَقِين من ذي الحجة من السنة، وكان سببُ رحيله مع خوف الثلج ما بلغه عن التركمان الإيوانية من الفسادِ ببلاده.
هو أبو الفتح موسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، الملقب بالملك الأشرف مظفر الدين. ولد سنة 576، بالديار المصرية بالقاهرة، وقيل بقلعة الكرك, ونشأ بالقُدس الشريف بكفالة الأمير فخر الدين عثمان الزنجاري، وكان أبوه يحبه، وكذلك أخوه المعظَّم, مليحَ الهيئة، حلو الشمائل، وكان فيه دينٌ وخوف من الله وفضيلة، على لَعِبِه, وعكوف على الملاهي- عفا الله عنه - وكان جوادًا سمحًا فارسًا شجاعًا. وكان يبالغ في الخضوع للفقراء ويزورهم ويعطيهم، ويجيز على الشعر، ويبعث في رمضان بالحلاوات إلى أماكن الفقراء. كان محبوبًا إلى الناس مسعودًا مؤيَّدًا في الحروب، قيل: ما هُزِمَت له راية, لقِيَ نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل، وكان من الملوك المشاهير الكبار، وتواقعا في مصافَّ فكَسَره الأشرف، وذلك سنة 600, وله فهمٌ وذكاء وسياسة, وهو باني دار الحديث الأشرفية، وجامع التوبة، وجامع جراح، وكان قد بنى دار حديث بالسفح وبالمدينة للشافعية أخرى، ونقل إليها كتبًا سَنيَّة نفيسة، وبنى جامع التوبة بالعقبية، والذي كان محله خانًا للزنجاري فيه من منكرات كثير، وبنى مسجِدَ القصب وجامع جراح ومسجد دار السعادة, وقد استنابه أبوه على مدن كثيرة بالجزيرة، منها الرها وحران، ثم اتسعت مملكته حين ملك خلاط وميافارقين، وبسط العدل على الناس وأحسن إليهم إحسانًا لم يعهدوه ممَّن كان قبله، وعَظُمَ وَقعُه في قلوب الناس، وبَعُدَ صِيتُه، ثم ملك نصيبين وسنجار ومعظم بلاد الجزيرة. لَمَّا أخذت الفرنج دمياط سنة 616 تأخَّر عن إنجاد أخيه الملك الكامل؛ لِمنافرةٍ كانت بينهما، فجاءه أخوه الملك المعظَّم وأرضاه، ولم يزل يلاطفه حتى استصحبه معه، فصادف عقيبَ وُصولِه إلى مصر بأشهر انتصار المسلمين على الفرنج وانتزاع دمياط من أيديهم، وكانوا يرَون ذلك بسبب يُمن غرة الأشرف, ولما مات الملك المعظم سنة 624 قام بالأمر بعده ولده الملك الناصر داود، فقصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخُذَ دمشق منه، فاستنجد بعَمِّه الملك الأشرف، فوصل إليه، واجتمع به في دمشق، ثم توجَّه إلى الكامل واتفقا على أخذ دمشق من الناصر وتسليمها إلى الأشرف، ويبقى للناصر الكرك والشوبك ونابلس وبيسان وتلك النواحي، وينزل الأشرفُ عن حران والرها وسروج والرقة ورأس عين، ويسَلِّمها إلى الكامل، فاستتب الحالُ على ذلك, وانتقل الأشرف إلى دمشق واتخذها دارَ إقامة وأعرض عن بقية البلاد، ولَمَّا ملك الأشرف دمشق في سنة 626 نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطقِ وعلوم الأوائل نفي من البلد، وكان البلد به في غاية الأمن والعدل، توفِّيَ الأشرف يوم الخميس رابع المحرم، بقلعة المنصورة، ودُفِنَ بها حتى أنجزت تربته التي بنيت له شمالي الكلاسة، ثم حُوِّلَ إليها في جمادى الأولى، وقد كان ابتداء مرضه في رجب من السنة الماضية، واختلفت عليه الأدواءُ، فلما كان آخر السنة تزايد به المرض واعتراه إسهال مفرط، فخارت قوته حتى توفي، وكانت مدة ملكه بدمشق ثماني سنين وأشهر, وقد أوصى الأشرف بالملك من بعده لأخيه الصالح إسماعيل، فلما توفي أخوه ركب في أبهة الملك ومشى الناسُ بين يديه، وركب إلى جانبه صاحب حمص وعز الدين أيبك المعظمي حامل الغاشية على رأسه.
هو سعيدُ بن زيدِ بن عَمرِو بن نُفيلٍ، أَحَدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّة، أَسلَم قديمًا قبلَ عُمَرَ، هو وامرأتُه فاطمةُ بنتُ الخطَّاب، وهي كانت سببَ إسلامِ عُمَر، وكان مِن المُهاجرين الأوَّلين، وآخَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين أُبَيِّ بن كعبٍ، صلَّى عليه عبدُ الله بن عُمَر، ونزَل في قَبرِه هو وسعدُ بن أبي وقَّاصٍ.
كان من أوائل ما قام به السلطان عثمان الثالث بعد توليه السلطنةَ مَنْعُ كلِّ ما يخالف الشرعَ، سواء كان ما يفعله النصارى واليهود أو غيرُهم، فشَدَّد بذلك الخناقَ على أهل الذمَّةِ الذين كانوا قد توسَّعوا أكثر من حقوقِهم، وخاصة تحت اسم الحماية التي كانت عليهم من قِبَل دولهم النصرانية الأوربية تحت ظلِّ البابوية. كما اهتم بالإصلاحاتِ الداخلية، وأُسِّسَت في عهده مطبعة, وقمَعَ كثيرًا من الثورات الداخلية.
في هذه السَّنةِ كان الغلاءُ والقحطُ في نجدٍ على حالِه في الشدَّةِ، وانتهى سعرُ البُرِّ أربعة أصوع بريال، والتمر عشر وزنات بريال، وعَمَّ الغلاء جميعَ نواحي نجد واليمن والتهايم والحجاز والأحساء, ووقع مع ذلك مرضٌ ووباءٌ مات فيه خلقٌ كثير من نواحي نجد، ودخلت السنةُ التالية والأمرُ على حالِه من الغلاءِ والمرضِ، ومات فيها والسَّنةِ التي قبلها مئاتٌ من سوادِ النَّاسِ.
تعَذَّرت الأقواتُ بديار مصر، وتزايدت الأسعارُ، وعَظُم الغلاءُ، حتى أكل النَّاسُ الميتاتِ، وأكَلَ بَعضُهم بعضًا، وتَبِعَ ذلك فناءٌ عظيم، وابتدأ الغلاءُ من أول العام، وتمادى الحالُ ثلاث سنين متواليةً، لا يَمُدُّ النيلُ فيها إلا مدًّا يسيرًا، حتى عَدِمَت الأقوات، وخرج من مصرَ عالمٌ كثيرٌ بأهليهم وأولادهم إلى الشام، فماتوا في الطُّرُقاتِ جُوعًا، وشَنع الموتُ في الأغنياء والفقراء، وأُكِلَت الكلابُ بأسرِها، وأُكِلَ من الأطفال خلقٌ كثير، ثم صار الناس يحتالُ بعضُهم على بعض، ويؤخَذُ مَن قَدَر عليه فيُؤكَل، وإذا غَلَب القويُّ ضعيفًا ذبَحَه وأكله، وفُقِدَ كثيرٌ مِن الأطباء لكثرةِ مَن كان يستدعيهم إلى المرضى، فإذا صار الطبيبُ إلى داره ذبَحَه وأكله، وخَلَت مدينة القاهرة ومِصرُ أكثَر أهلها، وصار من يموتُ لا يجِدُ من يواريه، فيصير عِدَّة أشهر حتى يؤكَلَ أو يبلى، واتَّفَق أن النيل توقَّفَ عن الزيادة في سنة ست وتسعين، فخاف النَّاسُ، وقَدِمَ إلى القاهرةِ ومِصرَ من أهل القرى خلقٌ كثير، فإنَّهم لم يجدوا شيئًا من القُوتِ، لا الحبوب ولا الخضروات، وكان الناس قد فَنُوا بحيث بَقِيَ من أهل القرية الذين كانوا خمسمائة نفر، إمَّا نفرانِ أو ثلاثة، فلم تجِدِ الجسورُ من يقوم بها، ولا القُرى من يعمل مصالحُها، وعَدِمَت الأبقار وجافت الطرقاتُ بمصر والقاهرة وقراهما، ثم أكلَت الدودةُ ما زُرِعَ، فلم يوجَدْ مِن التقاوى ولا من العقر ما يمكن به رَدُّه، ولم يبقَ بمصرَ عامِرٌ إلا شَطُّ النيل، وكانت أهل القرى تخرج للحَرثِ فيموتُ الرجلُ وهو ماسِكٌ المحراثَ، ثمَّ وقع في بني عنزة بأرضِ الشراة- بين الحجاز واليمن- وباءٌ عظيمٌ، وكانوا يسكُنونَ في عشرين قرية، فوقعَ الوباء في ثماني عشرة قريةً، فلم يبقَ منهم أحد، وكان الإنسانُ إذا قرب من تلك القرى يموت ساعةَ ما يقاربها، فتحاماها النَّاسُ، وبقيت إبلُهم وأغنامُهم لا مانع لها، وأمَّا القريتان الأخريان فلم يمُتْ فيهما أحد، ولا أحسُّوا بشيءٍ مِمَّا كان فيه أولئك, فسُبحانَ مُقَدِّرِ الأقدارِ!!
في ليلة الاثنين سادس عشر صفر في هذه السنة وقَعَ حَريقٌ عظيم عند باب جيرون شرقيَّه فاحترق به دكان القفاعي الكبيرة المزخرفة وما حولها، واتَّسع اتساعًا عظيمًا، واتَّصَل الحريق بالباب الأصفر من النحاس، فبادر ديوان الجامع إليه فكَشَطوا ما عليه من النحاس ونقلوه من يومه إلى خزانة الحاصل، بمقصورة الحلبية، بمشهد علي، ثم عَدَوا عليه يكَسِّرون خشبه بالفؤوس الحداد، والسواعد الشداد، وإذا هو من خشب الصنوبر الذي في غاية ما يكونُ مِن القوة والثبات، وتأسَّفَ الناس عليه؛ لكونه كان من محاسِنِ البلد ومعالمه، وله في الوجودِ ما ينَيِّفُ عن أربعة آلاف سنة، وباب جيرون المشهور بدمشق هو باب سر في جامع دمشق لم يُرَ باب أوسع ولا أعلى منه، فيما يُعرَفُ من الأبنية في الدنيا، وله عَلَمان من نحاس أصفر بمسامير نحاس أصفر أيضًا بارزة، من عجائبِ الدنيا، ومحاسن دمشق ومعالِمها، وقد تم بناؤها، وقد ذكَرَته العَرَبُ في أشعارها والناس، وهو منسوب إلى ملك يقال له جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وهو الذي بناه، وكان بناؤه له قبل الخليلِ عليه السلام، بل قبل ثمود وهود أيضًا، على ما ذكره الحافِظُ ابن عساكر في تاريخه وكان فوقه حصنٌ عظيم، وقَصرٌ منيف، ويقال: بل هو منسوب إلى اسم المارد الذي بناه لسليمان عليه السلام، وكان اسمُ ذلك المارد جيرون، والأولُ أظهَرُ وأشهَرُ، فعلى الأول يكونُ لهذا الباب من المُدَد المتطاولة ما يقارب خمسة آلاف سنة، ثم كان انجعاف هذا الباب لا من تلقاء نفسِه بل بالأيدي العاديةِ عليه، بسبب ما ناله من شَوطِ الحريق، وذكر ابن كثير: "أن أبواب دمشق كانت سبعةً كُلٌّ منها يُتَّخَذُ عنده عيدٌ لهيكل من الهياكل السبعة، فبابُ القمر باب السلامة، وكانوا يسمونَه باب الفراديس الصغير، ولعطارد باب الفراديس الكبير، وللزهرة باب توما، وللشمس الباب الشرقي، وللمريخ باب الجابية، وللمشتري باب الجابية الصغير، ولزحل باب كيسان"
في سابع جمادى الأولى استُدعِيَ بطرك النصارى، وقد اجتمع القضاة ومشايخ العلم عند السلطان، فأُوقِفَ على قدميه، ووُبِّخ وقُرِّع، وأنكر عليه ما بالمسلمين من الذلِّ في بلاد الحبشة، تحت حكم الحطي متملِّكِها، وهُدِّد بالقتل، فانتدب له محتسب القاهرة صدر الدين أحمد بن العجمي وأسمعه المكروه له من أجل تهاون النصارى فيما أُمروا به من التزام الذلة والصغار في ملبسهم وهيأتهم، وطال الخطابُ في معنى ذلك إلى أن استقر الحال على ألَّا يباشر أحد من النصارى في ديوان السلطان، ولا عند أحد من الأمراء، ولا يخرج أحد منهم عمَّا يُلزمون به من الصَّغار، ثم طلب السلطان الأكرم فضائل النصراني كاتب الوزير، وكان قد سُجِنَ منذ أيام، فضربه بالمقارع وشَهَره بالقاهرة، عُريانًا بين يدي المحتَسِب، وهو ينادي عليه: هذا جزاء من يباشر من النصارى في ديوان السلطان، ثم سُجِن بعد إشهاره، فانكفَّ النصارى عن مباشرة الديوان ولزموا بيوتهم، وصغَّروا عمائِمَهم، وضيَّقوا أكمامهم، والتزم اليهود مثل ذلك، وامتنعوا جميعهم من ركوب الحمير في القاهرة، فإذا خرجوا من القاهرة ركبوا الحمير عَرضًا، وأنف جماعة من النصارى أن يفعلوا ذلك، وبذلوا جهدهم في السعي لإبطاله، فلما لم يجابوا إلى عودهم إلى ما كانوا عليه، تتابع عدةٌ منهم في إظهار الإسلام، وصاروا من ركوب الحمير إلى ركوبِ الخيول المسوَّمة، والتعاظم على أعيان أهل الإسلام، والانتقام منهم بإذلالِهم، وتعويق معاليمِهم ورواتِبِهم، حتى يخضعوا لهم، ويتردَّدوا إلى دورهم، ويلحُّوا في السؤال لهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونادى المحتسب في شوارع القاهرة ومصر بأن النصارى واليهود لا يمرون في القاهرة إلا مشاةً غيرَ ركَّاب، وإذا ركبوا خارج القاهرة فليركبوا الحمير عرضًا، ولا يلبَسوا إلا عمائم صغيرة الحجم، وثيابًا ضيقةَ الأكمام، ومن دخل منهم الحمَّام فليكُنْ في عنُقِه جَرَس، وأن تلبس نساءُ النصارى الأُزُرَ الزُّرْقَ، ونساءُ اليهود الأزُرَ الصُّفْرَ، فضاقوا بذلك، واشتدَّ الأمر عليهم، فسَعَوا في إبطاله سعيًا كبيرًا، فلم ينالوا غرضًا، وكبست عليهم الحمامات، وضُرِب جماعة منهم لمخالفته، فامتنع كثير منهم عن دخول الحمَّام، وعن إظهار النساءِ في الأسواق.
بعدَ أن قامَ ألفونسو السادسُ –أدفونش- بالاستِيلاءِ على طُليطلة بدأَ بتَهديدِ إشبيلية، فأَرسلَ كِتابًا لصاحِبِها المُعتَمِد بن عبَّاد قال فيه: "مِن الإمبراطورِ ذي الملتين المَلِكِ أدفونش بن شانجة، إلى المُعتَمِد بالله، سَدَّدَ الله آراءَه، وبَصَّرَهُ مَقاصِدَ الرَّشادِ. قد أَبصرتَ تَزَلزُلَ أَقطارِ طُليطلة، وحِصارَها في سالفِ هذه السِّنين، فأَسلَمتُم إخوانَكم، وعَطَّلتُم بالدَّعَةِ زَمانَكم، والحَذِرُ مَن أَيقظَ بالَه قبلَ الوُقوعِ في الحِبالَة. ولولا عَهدٌ سَلَفَ بيننا نَحفظُ ذِمامَه نَهَضَ العَزمُ، ولكنَّ الإنذارَ يَقطَع الأعذارَ، ولا يَعجَل إلَّا مَن يَخاف الفَوْتَ فيما يَرومُه، وقد حَمَّلنَا الرِّسالةَ إليك البرهانس، وعندَه مِن التَّسديدِ الذي يَلقَى به أَمثالَك، والعَقلِ الذي يُدَبِّر به بِلادَك ورِجالَك، ما أَوجَبَ استِنابَتَه فيما يَدِقُّ ويَجِلُّ". فلمَّا قَدِمَ الرَّسولُ أَحضرَ المُعتَمِدُ الأكابرَ، وقُرئ الكِتابُ، بَكَى أبو عبدِ الله بنُ عبدِ البَرِّ وقال: قد أَبصرَنا ببَصائِرِنا أن مآلَ هذه الأَموالِ إلى هذا، وأن مُسالَمَةَ اللَّعينِ قُوَّةٌ بلاده لبلاده، فلو تَضافَرنا لم نُصبِح في التلافِ تحتَ ذُلِّ الخِلافِ، وما بَقِيَ إلا الرُّجوعُ إلى الله والجِهادُ. وأمَّا ابن زيدون وابن لبون فقالا: الرَّأيُ مُهادَنتُه ومُسالمَتُه. فجَنَحَ المُعتَمِدُ إلى الحَربِ، وإلى استِمدادِ مَلِكِ البَربرِ ابنِ تاشفين، فقال جَماعةٌ: نَخافُ عليك من استِمدادِه. فقال: رَعْيُ الجِمالِ خَيرٌ مِن رَعْيِ الخَنازيرِ". فرَدَّ على الأدفونش يَتهدَّدهُ و يَتَوعَّدهُ, ثم اتَّفقَ المُعتَمِدُ بن عبَّاد صاحِبُ أشبيلية والمُتوكِّلُ بن الأَفطَس صاحِبُ بطليموس وعبدُالله بن بلقين أَميرُ غِرناطة، على إرسالِ وَفْدٍ من القُضاةِ والأَعيانِ إلى يُوسفَ بن تاشفين يَدعونَهُ إلى الحُضورِ إلى الأندلسِ لِقِتالِ النَّصارَى ويَستَنصِرونَه على ألفونسو السادس، فلمَّا استَجابَ ابنُ تاشفين لِطَلَبِهم إرسال أَرسلَ رِسالةً إلى ألفونسو يَدعوهُ فيها إلى الإسلامِ أو الجِزيَةِ أو الحَربِ، فاختارَ الحَربَ.
بعد أن ظلَّت العراق تحت الحكم الصفوي من أيام مؤسِّسها الأول إسماعيل شاه، قام الخليفة سليمان القانوني بإعلان الحرب في هذه السنة على الصفويين، فسار بجيشِه من أجل إبطال محاولات شاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي لنشر المذهب الشيعي في العراق بدلًا من المذهب السنِّي. فتحرك موكب الجيشِ العثماني تحت قيادة سليمان القانوني، وكبار قادته والأعيان، وكتائب الخيالة؛ حيث خرج الجميعُ من إسكدار عبر آسيا الصغرى، مرورًا بسيواس وأرزنجان، حتى وصل الجيش العثماني إلى تبريز، بعد ذلك توجه نحو همذان؛ ليجد الشاه الفارسي قد فرَّ بقواته إلى أصفهان، ثمَّ إلى منطقة سهل علي، ففضَّل العثمانيون قضاء الشتاء في همذان قبل التوجه إلى بغداد. عندما بلغ أسماعَ محمد خان- أمير بغداد من قِبَل الشاه الصفوي- اقترابُ جحافل العثمانيين، سارع بتقديم فروض الطاعة والولاء، وعلى الرغم من قبول السلطان القانوني ذلك، فإنَّ هواجس الخوف من انتقام العثمانيين راودت محمد خان، فاستقرَّ عزمه على الفرار برفقة جنودِه من بغداد إلى البصرة، ومنها إلى مقرِّ الشاه طهماسب، فتقدم العثمانيون إلى بغداد، ووصلوا في ربيع الآخر من هذه السنة. وعندما حل الربيع شرعت القواتُ العثمانية في حملات تأديب لفلول القوات الموالية للشاه الصفوي. ثم أرسل إلى أحمد خان حاكم الأقاليم العثمانية في هنغاريا ورومانيا بسرعةِ إرسال الجنود؛ لمساندة حملته ضد الصَّفويين، كما لم ينسَ تذكيرَه بإعداد الطبول والفِرَق الموسيقية للاحتفال بالنصر العثماني المرتقَب. وبمجرد دخول سليمان القانوني إلى بغداد ارتفعت الخطبة وضُرِبت السكة باسمه، وجرى إبطال القوانين الصفوية السابقة كافةً، بعد ذلك أرسل السلطان العثماني للشاه الصفوي رسالةَ تهديد فحواها أنه قادِمٌ للاستيلاء على أقاليمه وضمِّها لدولة العثمانيين. كما أرسل إلى سليمان باشا والي مصر الذي خرج بعدة آلاف من المحاربين للانضمام إلى سليمان القانوني في العراق.
وُلِد الشَّيخُ محمَّد علي الصابوني عام 1930 بمدينة حلب، وتعلَّم على يد والِدِه الشَّيخ جميل الصَّابوني أحَدِ عُلَماءِ حَلَب، ودرَس علومَ اللُّغةِ والدِّينِ على يَدِ شُيوخِ المدينةِ؛ مِثلُ محمد سعيد الإدلبي، ومحمد راغب الطبَّاخ. التحق بثانويَّةِ حَلَب الشرعيَّة (الخسروية)؛ حيث درَسَ علومَ التفسير والحديثِ والِفقهِ، والعلومَ الطبيعيَّةَ، وتخرج منها عام ١٣٦٨هـ الموافق 1949م، ثمَّ أكمل دراستَه في الأزهَرِ على نفقَتِها؛ حيث نال شهادةَ كُلِّيَّة الشَّريعة عام ١٣٧١هـ الموافق 1952م، وحصل على درجة التخَصُّص "العالِمية" في القضاءِ الشَّرعيِّ عام ١٣٧٣هـ الموافق 1954م.
بعد أن أنهى دراستَه في الأزهَرِ عاد الشَّيخ إلى سوريا وعَمِلَ أستاذًا لمادَّةِ الثَّقافةِ الإسلاميَّةِ في ثانويات حَلَب، وبَقِيَ في مهنةِ التدريسِ حتى عام ١٣٨٢هـ الموافق 1962م. بعد ذلك انتُدِبَ إلى المملكةِ العَرَبيَّةِ السُّعوديَّةِ لكي يعمَلَ أستاذًا مُعارًا من قِبَل وزارةِ التربيةِ والتعليمِ السُّوريَّةِ، وذلك للتدريسِ بكُلِّيَّةِ الشَّريعةِ والدِّراساتِ الإسلاميَّةِ، وكليَّةِ التربيةِ بالجامعةِ بمكَّةَ المكَرَّمة، فقام بالتدريسِ قُرابةَ ثلاثين عامًا. قامت بعدها جامعةُ أُمِّ القرى بتعيينِه باحثًا عِلْميًّا في مركَزِ البحثِ العِلميِّ وإحياءِ التراثِ الإسلاميِّ، ثم عَمِلَ بعد ذلك في رابطةِ العالمِ الإسلاميِّ كمستشارٍ في هيئةِ الإعجازِ العِلميِّ في القرآنِ والسُّنَّةِ، ومكث فيها عِدَّةَ سَنَواتٍ.
كان له دَرسٌ يوميٌّ في المسجِدِ الحرامِ بمكَّةَ المكرَّمةِ، ودرسٌ أُسبوعيٌّ في التفسيرِ في أحَدِ مَساجِدِ مدينةِ جُدَّة وبرنامج تفسيرِ القُرآنِ الكريمِ في التلفزيونِ السعوديِّ.
تولَّى رئاسةَ رابِطةِ العُلَماءِ السُّوريِّين، وله العديدُ من الكُتُبِ، أبرَزُها "صفوة التفاسير" و "مختَصَر تفسير ابن كثير"، و "مختَصَر تفسير الطَّبري"، و"التبيان في علوم القرآن"، و "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام"، و "قبس من نور القرآن". تُوفِّيَ -رحمه الله- في تركيا عن عمر تجاوز الـ 90 عامًا.
وليَ عيسى بن يزيد الجلودي مصرَ مِن قِبَل أبي إسحاقَ محمَّد المعتَصِم بعد قتل القيسيَّة واليمانية عميرَ بنَ الوليد الباذغيسي التميمي عامِلَ المعتَصِم على الصلاة، ولَمَّا قَدِمَ عيسى بن يزيد مصر، قصَدَه قيسٌ ويمن على العادةِ، وقد كثُرَ جَمعُهم من أهل الحوف وقطَّاع الطريق، فوقع لعيسى معهم حروبٌ وفِتَن، وجمع عساكِرَه وخرج إليهم حتى التقاهم بمنية مطَر (بقرب مدينة عينِ شَمس) وقاتلهم، فكانت بينهم حروبٌ هائلة انكسر فيها الأميرُ عيسى بمن معه، وقُتِل من عسكَرِه خلائِقُ، وانحاز إلى مصر، وبلغ المأمونَ ذلك، فعَظُمَ عليه وطلب أخاه أبا إسحاقَ محمَّدًا المعتَصِمَ وندَبَه للخروجِ إلى مصر، وقال له: امْضِ إلى عمَلِك وأصلِحْ شأنَه، وكان المعتَصِمُ شُجاعًا مِقدامًا؛ فخرج المعتصِمُ مِن بغداد في أربعةِ آلاف من أتراكِه وسافر حتى قَدِمَ مِصرَ في أيام يسيرةٍ، وعيسى كالمحصورِ مع أهل الحوف، وقبلَ دُخولِه إلى مصرَ بدأ بقتالِ أهل الحوف من القيسيَّة واليمانية وقاتَلَهم وهزَمَهم، وقتل أكابِرَهم ووضَعَ السَّيفَ في القيسية واليمانية حتى أفناهم، وذلك في شعبانَ مِن السنة، ومَهَّدَ البلادَ وأباد أهلَ الفساد، ثم دخل الفسطاطَ وفي خدمته عيسى الجلودي وجميعُ أعيان المصريين.
كان أبو الحَسَنِ بنُ المعَلِّم وزيرُ بَهاءِ الدولة البُويهيِّ, قد استولى على الأمورِ كُلِّها، وخَدَمَه النَّاسُ كُلُّهم، حتى الوزراء، فمنع أهلَ الكرْخِ وبابَ الطاقِ مِن النَّوْحِ يومَ عاشوراء، ومِن تعليق المُسُوحِ، الذي كان يُعمَلُ به من نحوِ ثلاثينَ سَنَة، وكان المقرِّبُ مَن قرَّبه، والمُبْعَدُ مَن بعَّده، فثَقُلَ على الأُمَراء أمرُه، ولم يُراعِهم هو، فأجابهم السُّلطانُ، فشَغَّبَ الجندُ في هذا الوقت، وشَكَوا منه، وطلبوا منه تسليمَه إليهم، فراجَعَهم بهاءُ الدولة، ووعَدَهم كَفَّ يَدِه عنهم، فلم يَقبَلوا منه، فقَبَض عليه وعلى جميعِ أصحابِه، فظَنَّ أنَّ الجُندَ يَرجِعون، فلم يرجِعوا، فسَلَّمَه إليهم، فسقوه السُّمَّ مَرَّتين، فلم يَعمَلْ فيه شيئًا، فخَنَقوه ودَفَنوه، وكان هذا الوزيرُ قد أبطل ما كان يفعَلُه الرَّافِضةُ يوم عاشوراء ومَنَعَهم من القيامِ بتلك البِدَع.