هو الشيخُ الفقيه محمد بن عبد العزيز بن محمد بن مانع الوهيبي التميمي النجدي. ولِدَ في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم سنة 1300 هـ، ولما بلغ السابعةَ أدخله والده الكتاتيبَ؛ ليتعلم بها القرآنَ، ولم يلبث والدُه أن توفِّي، فشرع في القراءةِ على عُلماء بلده، فقرأ على عمِّه الشيخ عبد الله، وعلى الشيخ صالح العثمان القاضي، ولما بلغ الثامنةَ عَشْرة من عمره سافر إلى بغداد، واتصل بالعلامة السيد محمود شكري الألوسي، فقرأ عليه وعلى ابن عمه السيد علي الألوسي، وقرأ على غيرِهما من مشاهير العلماء ببغداد، فقرأ في النحو والصرف والفقه، والفرائض والحساب، ثم توجَّه إلى مصر فأقام في الأزهر مدةً قرأ فيها على الشيخ محمد الذهبي، ثم سافر إلى دمشق الشام ولازم الشيخ جمال الدين القاسمي، وحضر دروسَ الشيخ بدر الدين محدِّث الشام، وحضر دروس العلامة الشيخ عبد الرزاق البيطار، ثم رجع إلى بغدادَ ولازم القراءةَ على العلامة محمود شكري الألوسي، فقرأ عليه كثيرًا من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وكثيرًا من الكتب والشروح والرسائل المختصرة، وفي هذه المدة دعاه بعضُ الأكابر من أهل بغداد؛ ليكونَ إمامًا له ويقرأ عليه كتبَ الحديث، فقرأ عليه بعضًا من صحيح البخاري، وجميعَ صحيح مسلم، والجزءَ الأوَّلَ مِن زاد المعاد لابن القيم، والجزءَ الأوَّلَ من مسند الإمام أحمد بن حنبل، والموطَّأ للإمام مالك، وكثيرًا من كتب التاريخ، وقرأ نزهةَ النظر للحافظ ابن حجر، ثم رجع إلى بلده مدينة عنيزة سنة 1329هـ وقرأ على قاضيها الرَّوض المُرْبِع، ثمَّ توجه إلى بلد الزبير سنة 1330هـ وقرأ على الفقيه الحنبلي المشهور في بلدة الزبير محمد العوجان في الفقه الحنبلي والفرائض والحساب، ثم دعاه مُقبل الذكير أحد تجار نجد وأعيانها -المقيمين في البحرين للتجارة- دعاه لمكافحة التنصير، وفتح له لهذا الغرض مدرسة لتعليم علوم الشريعة واللغة سنة 1330هـ، فأقام في البحرين أربعَ سنين شرح في أثنائها العقيدةَ السفارينية، ثم دعاه حاكم قطر عبد الله بن قاسم بن محمد بن ثاني، فتوجَّه إليها في شوال سنة 1334هـ فتولَّى القضاءَ والخطابة والتدريس، ورحل إليه كثيرٌ من الطلاب أخذوا عنه العلمَ في قَطَر، وأقام في قطر أربعًا وعشرين سنة تولى خلالها القضاءَ والفتيا، وتزوَّج في قطر وأنجب أبناءه الثلاثة: الشيخ عبد العزيز، وأحمد، وعبد الرحمن، وأنشأ في قَطَر أوَّلَ مدرسةٍ علمية سنة 1336هـ، واستمرَّت نحو سبعة عشر عامًا. وبَقِيَ في قَطَر إلى صَفَر سنة 1358هـ، فقَدِمَ الأحساءَ ومكث بها إلى شهر جمادى الآخرة، وفي هذه الأثناء قَدِمَ الأحساءَ معالي الوزير ابن سليمان وزير الملك عبد العزيز، فاتصل به وقابله وأشار عليه ابن سليمان أن يقابِلَ الملك عبد العزيز، فقَدِمَ عليه في مدينة الرياض فأكرمه وعيَّنه مدرسًا في الحرم المكي الشريف، فأقام في مكَّةَ واجتمع عليه كثيرٌ من طلاب العلم يقرؤون عليه في الفقه والحديث، والنحو والفرائض، منهم الشيخ عبد العزيز بن رشيد رئيس هيئة التمييز بنجد، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف الباهلي، والشيخ البصيلي، والشيخ ناصر بن حمد الراشد الرئيس العام لتعليم البنات، والشيخ عبد الله بن زيد بن محمود، ومن أبرز تلامذته: الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ علَّامة القصيم، وبعد قيامه بواجب التدريس بالمسجد الحرام عيَّنه الملك عبد العزيز زيادةً على ذلك رئيسًا لثلاث هيئات: هيئة تمييز القضايا، وهيئة الأمر بالمعروف، وهيئة الوعظ والإرشاد. وقام بهذه الأعمال إلى جانب قيامِه بالتدريس في المسجد الحرام بعد صلاتَي الفجر والمغرب، وفي عام 1364هـ عيَّنه الملكُ مديرًا للمعارف، وفي سنة 1366هـ أسند إليه رئاسةَ دار التوحيد، ولما شُكِّلت وزارةُ المعارف سنة 1373هـ وعُيِّن الأمير فهد بن عبد العزيز وزيرًا لها نُقِلَ الشيخ ابن مانع مستشارًا برتبة وكيل وزارة إلى عام 1377ه،ـ حيث طلبه حاكِمُ قطر، ولازم الشيخ علي بن الشيخ عبد الله بن قاسم بن ثاني إلى أن توفي رحمه الله ببيروت على إثر عملية جراحية أُجريت له، ونُقِل جثمانه إلى قَطَر ودُفِن بها، وخَلَّف ثلاثة أبناء: عبد العزيز، وأحمد، وعبد الرحمن, ومكتبةً كبيرة حافلة بنوادر الكتب، ومؤلفات كثيرة، منها: ((إقامة الدليل والبرهان بتحريم الإجارة على قراءة القرآن))، و ((تحديث النظر في أخبار الإمام المهدي المنتظر))، و ((إرشاد الطلاب إلى فضيلة العلم والعمل والآداب))، و ((الأجوبة الحميدة: رسالة تتعلق بالتوحيد))، و ((حاشية على دليل الطالب))، و ((سبل الهدى شرح قطر الندى))، وله ((الكواكب الدرية شرح الدرة المضيئة))، و ((القول السديد فيما يجب لله على العبيد)).
هو الإمامُ العلَّامة البارع الفقيه أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي، الجماعيلي، الدمشقي، الصالحي، الحنبلي، صاحب (المُغني). ولد بجماعيل، من عمل نابلس، في شعبان سنة 541. صاحب كتاب المغني المشهور في المذهب الحنبلي، قدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين، وهو ابن عشر سنوات ومعه ابن خاله الحافظ عبد الغني, وقرأ القرآن وسمع الحديث الكثير، ورحل مرتين إلى العراق إحداهما مع الحافظ عبد الغني، فأدركا نحو أربعين يومًا من جنازة الشيخ عبد القادر، فنزلا عنده بالمدرسة، واشتغلا عليه تلك الأيام، وسمعا منه، تفقه ببغداد على مذهب الإمام أحمد، وبرع وأفتى وناظر وتبحَّر في فنون كثيرة، مع زهد وعبادة، وورع وتواضع وحسن أخلاق، وجودٍ وحياء وحسن سمت وكثرة تلاوة، وصلاة وصيام وقيام، وطريقة حسنة واتباع للسلف الصالح، فكان عالم أهل الشام في زمانه. قال ابن النجار: "كان إمام الحنابلة بجامع دمشق، وكان ثقة حجة، نبيلًا، غزير الفضل، نزهًا، وَرِعًا، عابدًا، على قانون السلف، عليه النور والوقار، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامَه", وقال عمر بن الحاجب: "هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة، خصه الله بالفضل الوافر، والخاطر الماطر، والعلم الكامل، طنَّت بذكره الأمصار، وضَنَّت بمثله الأعصار، أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية...، إلى أن قال: وله المؤلفات الغزيرة، وما أظن الزمان يسمح بمثله، متواضع، حسن الاعتقاد، ذو أناة وحلم ووقار، مجلسه معمور بالفقهاء والمحدثين، وكان كثير العبادة، دائم التهجد، لم نرَ مثله، ولم ير مثل نفسِه". عمل الشيخ الضياء (سيرته) في جزأين، فقال: "كان تام القامة، أبيض، مشرق الوجه، أدعج، كأن النور يخرج من وجهه لحسنه، واسع الجبين، طويل اللحية، قائم الأنف، مقرون الحاجبين، صغير الرأس، لطيف اليدين والقدمين، نحيف الجسم، ممتَّعًا بحواسه". وقال الضياء: "سمعت المفتي أبا بكر محمد بن معالي بن غنيمة يقول: ما أعرف أحدًا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق, وسمعت الحافظ أبا عبد الله اليونيني يقول: أما ما علمته من أحوال شيخنا وسيدنا موفق الدين، فإنني إلى الآن ما أعتقد أن شخصًا ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه؛ فإنه كان كاملًا في صورته ومعناه من حيث الحسن، والإحسان، والحلم والسؤدد، والعلوم المختلفة، والأخلاق الجميلة، رأيت منه ما يعجز عنه كبار الأولياء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً أفضل من أن يلهِمَه ذِكْرَه)), فقلت بهذا: إن إلهام الذكر أفضل من الكرامات، وأفضل الذكر ما يتعدى إلى العباد، وهو تعليمُ العلم والسنة، وأعظمُ من ذلك، وأحسن ما كان جبلة وطبعًا، كالحلم، والكرم، والعقل، والحياء، وكان الله قد جبله على خُلق شريف، وأفرغ عليه المكارم إفراغًا، وأسبغ عليه النعم، ولطف به في كل حال. قال الضياء: كان الموفَّق لا يناظر أحدًا إلا وهو يتبسم, وقيل: إن الموفق ناظر ابن فضلان الشافعي الذي كان يُضرَبُ به المثل في المناظرة، فقطَعَه. وبقي الموفق يجلسُ زمانًا بعد الجمعة للمُناظرة، ويجتمع إليه الفقهاء، وكان يشغلُ إلى ارتفاع النهار، ومن بعد الظهر إلى المغرب ولا يضجر، ويسمعونَ عليه، وكان يقرئُ في النحو، وكان لا يكاد يراه أحد إلا أحبَّه, وما علمت أنه أوجع قلبَ طالب، وكانت له جارية تؤذيه بخُلُقِها، فما يقول لها شيئًا، وأولاده يتضاربون وهو لا يتكلم, وسمعت البهاءَ يقول: ما رأيتُ أكثر احتمالًا منه." كان يؤمُّ الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد، فلما توفي العماد استقل هو بالوظيفة، وله مصنفات عديدة مشهورة، أشهرها المغني في شرح مختصر الخرقي، والكافي في الفقه الحنبلي، والمقنع للحفظ، والروضة في أصول الفقه، وغير ذلك من التصانيف المفيدة، وكانت وفاته في يوم عيد الفطر، وقد بلغ الثمانين، وكان يوم سبت وحضر جنازته خلق كثير، ودفن بتربته المشهورة، ورئيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى. كان له أولاد ذكور وإناث، ماتوا في حياته, ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولد له ولدان ثم ماتا وانقطع نسله.
هو الأمير ألوغ بك بن القان معين الدين شاه رخ، ابن الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، وقيل: اسمه تيمور على اسم جدِّه، وقيل: محمد. صاحب سمرقند، فريد دهره ووحيد عصره في العلوم العقلية، والهيئة، والهندسة، طوسي زمانه، وهو حنفيُّ المذهب. ولد في حدود 790، ونشأ في أيام جدِّه، وتزوج في أيامه, ولما مات جدُّه تيمور وآل الأمر إلى أبيه شاه رخ ولَّاه سمرقند وأعمالها فحكمها نيِّفًا وثلاثين سنة، وعمل بها رصدًا عظيمًا انتهى به إلى سنة وفاته، وقد جمع لهذا الرَّصد علماء هذا الفنِّ من سائر الأقطار، وأغدق عليهم الأموالَ، وأجرى لهم الرواتبَ الكثيرة، حتى رحل إليه علماء الهيئة والهندسة من البلاد البعيدة، وهُرِعَ إليه كل صاحب فضيلة، وهو مع هذا يتلفت إلى من يسمع به من العلماء في الأقطار، ويُرسِلُ يطلب من سمِعَ به. هذا مع علمه الغزير وفضله الجمِّ واطلاعه الكبير وباعه الواسعِ في هذه العلوم، مع مشاركةٍ جيدة إلى الغاية في فقه الحنفية، والأصلين، والمعاني، والبيان، والعربية، والتاريخ، وأيام الناس. قيل: إنه سأل بعض حواشيه: ما تقول الناس عنِّي؟ وألحَّ عليه، فقال: يقولون: إنك ما تحفظ القرآنَ الكريم، فدخل من وقته وحَفِظَه في أقل من ستة أشهر حفظًا مُتقَنًا. وكان أسنَّ أولاد أبيه، واستمَرَّ بسمرقند إلى أن خرج عن طاعتِه ولدُه عبد اللطيف، وسببه أنه لما ملك ألوغ بك هراة طَمِعَ ابنه عبد اللطيف أن يوليَه هراة فلم يفعل، وولَّاه بلخ، ولم يعطِه من مال جدِّه شاه رخ شيئًا. وكان ألوغ بك هذا مع فضله وغزير علمِه مسيكًا كوالده لا يصرف المال إلا بحقه، فسأمَتْه أمراؤه لذلك، وكاتبوا ولده عبد اللطيف في الخروج عن طاعتِه، وكان في نفسه ذلك، فانتهز الفرصة وخرج عن الطَّاعة، وبلغ أباه الخبر فتجرَّد لقتاله، والتقى معه، وفي ظنِّه أن ولده لا يثبُت لقتالِه، فلما التقى الفريقان وتقابلا هرب جماعة من أمراء ألوغ بك إلى ابنه، فانكسر ألوغ بك وهرب على وجهه، وملك ولدُه سمرقند، وجلس على كرسي والده أشهرًا ثم بدا لألوغ بك العود إلى سمرقند، ويكون المُلك لولدِه، ويكون هو كآحاد الناس، واستأذن ولدَه في ذلك فأذن له، ودخل سمرقند وأقام بها، إلى أن قبض عبد اللطيف على أخيه عبد العزيز وقتله صبرًا في حضرة والده ألوغ بك، فعظم ذلك عليه، فإنَّه كان في طاعته وخدمته حيث سار، ولم يمكِنْه الكلام فاستأذن ولده عبد اللطيف في الحجِّ فأذن له، فخرج قاصدًا للحجّ إلى أن كان عن سمرقند مسافة يوم أو يومين، وقد حذَّر بعض الأمراء ابنَه منه، وحسَّن له قتله، فأرسل إليه بعض أمرائه ليقتُلَه، فدخل عليه مخيَّمه واستحيا أن يقول: جئتُ لقَتْلِك، فسلَّم عليه ثم خرج، ثم دخل ثانيًا وخرج، ثم دخل ففطن ألوغ بك، وقال له: لقد علمتُ بما جئتَ به فافعل ما أمَرَك به، ثم طلب الوضوء وصلَّى، ثم قال: واللهِ لقد علمت أنَّ هلاكي على يد ولدي عبد اللطيف هذا من يومِ وُلِدَ، ولكن أنساني القدر ذلك، والله لا يعيشُ بعدي إلَّا خمسة أشهُرٍ ثم يقتل أشرَّ قِتلةٍ، ثم سلَّم نفسَه فقُتِل، وقُتِلَ ولدُه عبد اللطيف بعد خمسة أشهر!!
في النصف من ربيع الأول كانت وقعة عظيمة بين الأخوين السلطان محمود ومسعود ابني محمد بن ملكشاه عند عقبة اسداباذ، وحصلت بينهما حروب وقتال كانت نهايتها انهزام عسكر مسعود وأسْر وزيره الأستاذ أبي إسماعيل وجماعة من أمرائه، فأمر السلطان محمود بقتل الوزير أبي إسماعيل، فقُتِل، ثم إن مسعودًا رحل إلى الموصل وحاول الذهابَ إلى العراق مع دبيس، لكن أخاه محمودًا أرسل إليه الأمان واستقدمه عليه، فلما التقيا بكيا واصطلحا.
قام الملك الناصرُ صلاح الدين صاحِبُ دمشق بطَلَب العونِ مِن ملك الفرنجِ فريدريك الثاني وهو في عكَّا على أن يُسَلِّمَه القُدسَ مقابِلَ هذه المساعدة ضِدَّ العسكر المصري، ولكِنَّ فريدريك رفض طلبَه ذاك لوجودِ معاهدة بينه وبين المماليكِ تمنعُ مناصرةَ خُصومِهم في الحرب، وقد قال ابن كثير في تاريخه "إن الجيشَ المصريَّ قد تمالأ أيضًا مع الفرنج على تسليمِهم القدس إن هم نصروهم على الشاميِّين, فالله أعلمُ بحقيقة الحال".
عاد أبو العبَّاس الفضل بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الواحد بن أبي حفص في ذي القعدة ليملِكَ تونس مرة أخرى، وكان قد قَدِمَ إلى تونس السلطانُ أبو الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق ملك بني مرين صاحب فاس، وملك تونس وإفريقيَّة ثم سار منها للنصف من شوال، واستخلف ابنَه أبا العباس الفضل.
هو الشيخُ عبد الله الأول بن صباح بن جابر بن سليمان بن أحمد تولى حكم الكويت بعد أن توفِّي والده سنة 1190هـ وقد بقي في حكم الكويت 39 سنة, وبعد وفاته تولى حكمَ الكويت ابنُه جابر الأول، الذي كان في البحرين وقتَ وفاة والده، فتسلم الحكم في الكويت الشيخُ محمد السلمان جد المالك الصباح بعد مبايعةِ الكويتيين له إلى حينِ عَودةِ الشيخِ جابرٍ مِن البحرين.
تُوفِّي محمد علي العمري، المرجِعُ الأعلى لأتباعِ المذهبِ الشيعيِّ بالمدينة النبوية، عن عمرٍ يناهِزُ المئةَ عام، في مستشفى المدينة الوطني، وذَكَر ابنُه كاظم العمري أنَّ والِده تُوفِّي بعد صراعٍ مع المرض، وهو من مواليد عام (1327هـ)، ودرس في الحَوزَات العلمية في النجف عامَ (1349هـ) ثم عاد إلى المدينة بعد عامٍ بسببِ وفاةِ والدِه، ورَجَع بعد ذلك إلى العراق ومَكَث فيها (20) عامًا، ثمَّ عاد بعد ذلك إلى المدينةِ وتزعَّم الطائفةَ الشِّيعيَّةَ هناك حتى وفاتِه.
كانت سَريَّةُ أبي سَلَمةَ عبدِ الله بنِ عبدِ الأسَدِ، وهو ابنُ عمَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَرَّةَ بنتِ عبد المطلب، وأخوه من الرَّضاعةِ، أرضَعَتهما ثُوَيبةُ. وقَطَنٌ: هو جبلٌ، وقيل: ماءٌ مِن مياهِ بني أسَدٍ. وسَبَبُها: أن رجلًا مِن طيِّئٍ اسمُه الوليدُ بن زُهَيرِ بن طَريفٍ قَدِم المدينةَ زائرًا ابنةَ أخيه زَينَبَ، وكانت تَحتَ طُلَيبِ بنِ عُمَيرِ بن وَهبٍ، فأُخبِرَ أنَّ طُليحةَ وسَلَمةَ ابنَي خوَيلِدٍ تَرَكَهما قد سارا في قَومِهِما ومَن أطاعَهما لحَربِ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنَهاهم قَيسُ بن الحارِثِ فعَصَوه؛ فلمَّا بَلَغ ذلك رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعا أبا سَلَمةَ رضي اللَّه تعالى عنه وقال: "اخرُج في هذه السَّريَّةِ فقدِ استَعمَلتُكَ عليها". وعَقَد له لِواءً وقال: "سِر حتَّى تَرِدَ أرضَ بَني أسَدِ بنِ خُزَيمةَ، فأغِرْ عليهم قبلَ أن يَتلاقَى عليك جُموعُهم". وأوصاه بتقوى اللَّه تعالى وبمَن معه من المسلمين خيرًا.
فخَرَج معه في تلك السَّريَّةِ خمسون ومئةُ رجلٍ، ومعه الرَّجلُ الطَّائيُّ دَليلًا، فأسرَعَ السَّيرَ وعَدَل بهم عن سَيفِ الطَّريقِ، وسار بهم ليلًا ونهارًا، فسَبَقوا الأخبارَ وانتَهَوا إلى ذي قَطَنٍ -ماءٍ من مياهِ بني أسَدٍ وهو الذي كان عليه جَمعُهم-، فأغاروا على سَرحٍ لهم، وأسَروا ثلاثةً من الرُّعاةِ وأفلَتَ سائِرُهم، فجاؤوا جَمْعَهم فأخبَروهم الخَبَرَ وحَذَّروهم جَمْعَ أبي سَلَمةَ، وكثَّروه عندهم، فتَفرَّق الجمعُ في كُلِّ وَجهٍ، ووَرَدَ أبو سَلَمةَ الماءَ، فوَجَد الجَمْعَ قد تَفرَّق. فعَسكَرَ وفرَّق أصحابَه في طَلَبِ النَّعَمِ والشَّاءِ؛ فجَعَلهم ثلاثَ فِرَقٍ: فِرقةٌ أقامت معه، وفِرقَتان أغارَتا في ناحيَتينِ شتَّى، وأوعَزَ إليهما ألا يُمعِنوا في الطلب، وألَّا يَبيتوا إلَّا عنده إن سَلِموا، وأمَرَهم ألَّا يَفتَرِقوا، واستَعمَل على كلِّ فِرقةٍ عامِلًا منهم فآبوا إليه جَميعًا سالِمين قد أصابوا إبِلًا وشاءً، ولم يَلْقَوا أحدًا، فانحَدَر أبو سَلَمةَ بذلك كُلِّه راجعًا إلى المدينةِ ورَجَع معه الطَّائيُّ.
فلمَّا ساروا ليلةً قسَّمَ أبو سَلَمةَ الغنائِمَ، وأخرَجَ صَفيَّ رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عبدًا وأخرَجَ الخُمُسَ وأعطَى الطائيَّ الدليلَ رِضاهُ من المَغنَمِ، ثم قَسَّم ما بَقي بين أصحابِه فأصاب كلُّ إنسانٍ سبعةَ أبعِرةٍ، وقَدِم بذلك إلى المدينةِ ولم يَلْقَ كَيدًا.
هو الخليفةُ أبو العَبَّاسِ أحمَدُ بنُ الأميرِ إسحاقَ بنِ المُقتَدِرِ جَعفرِ بنِ المُعتَضِدِ العباسيِّ البغداديِّ. ولِدَ سنة 336. وأمُّه اسمُها: تمني, ماتت في دولتِه، وكان أبيضَ كَثَّ اللِّحيةِ يَخضِبُ, دَيِّنًا عالِمًا متعَبِّدًا وقورًا، مِن جِلَّةِ الخُلفاءِ وأمثَلِهم. عَدَّه ابنُ الصَّلاحِ في الشَّافعيَّة؛ فقد تفَقَّه على أبي بشرٍ أحمَدُ بنُ محمَّدٍ الهَرَويِّ. قال الخطيبُ البغدادي: "كان القادِرُ باللهِ مِن السِّترِ والدِّيانةِ، وإدامةِ التهَجُّدِ باللَّيلِ وكثرةِ البِرِّ والصَّدَقات على صِفةٍ اشتُهِرَت عنه" وكان قد صَنَّفَ كِتابًا في الأصولِ ذكر فيه فضائِلَ الصَّحابةِ على ترتيبِ مَذهَبِ أهل الحديث, وأورد في كتابِه فضائِلَ عُمَرَ بنِ عبد العزيز، وإكفارَ المُعتَزِلة والقائلينَ بخَلقِ القُرآنِ, وكان الكِتابُ يُقرأُ كُلَّ جُمعةٍ في حلقةِ أصحابِ الحديث. قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: "كان في أيَّامِ المتوكِّلِ قد عَزَّ الإسلامُ حتى ألزَمَ أهلَ الذِّمَّةِ بالشُّروطِ العُمَرِيَّة وألزموا الصِّغارَ، فعَزَّت السُّنَّة والجماعة, وقُمِعَت الجَهميَّةُ والرَّافِضةُ ونحوهم، وكذلك في أيَّامِ المُعتَضِد، والمُهتدي، والقادرِ بالله، وغيرِهم من الخُلفاِء الذين كانوا أحمَدَ سِيرةً وأحسَنَ طريقةً مِن غَيرِهم, وكان الإسلامُ في زَمَنِهم أعَزَّ، وكانت السُّنَّةُ بحَسَبِ ذلك" أمَرَ القادِرُ باللهِ بعَمَلِ مَحضَرٍ يتضَمَّنُ القَدحَ في نَسَبِ العُبَيديَّة، وأنَّهم منسوبونَ إلى ديصان بنِ سعيدٍ الخرَّميِّ، أخذَ عليه خُطوطَ العُلَماءِ والقُضاة والطَّالبيِّينَ، كما استتابَ فُقَهاءَ المُعتَزِلة، فأظهروا الرُّجوعَ وتبَرَّؤوا من الاعتزالِ والرَّفضِ والمقالاتِ المخالفةِ للإسلامِ. تُوفِّيَ القادِرُ بالله وكانت خلافتُه إحدى وأربعينَ سَنةً وثلاثةَ أشهُرٍ وعشرين يومًا، وكانت الخلافةُ قَبلَه قد طَمِعَ فيها الديلَمُ والأتراك، فلَمَّا وَلِيَها القادِرُ بالله أعاد جِدَّتَها، وجَدَّد ناموسَها، وألقى اللهُ هَيبَتَه في قلوبِ الخَلقِ، فأطاعوه أحسَنَ طاعةٍ وأتَمَّها، فلمَّا مات القادِرُ بالله جلَسَ ابنُه القائِمُ بأمرِ الله أبو جعفرٍ عبدُ الله، وجُدِّدَت له البيعةُ، وكان أبوه قد بايَعَ له بولايةِ العهدِ سنةَ 421، واستقَرَّت الخلافةُ له، وأوَّلُ مَن بايَعَه الشَّريفُ أبو القاسِمِ المرتضى، وأرسل القائِمُ بأمرِ اللهِ قاضيَ القُضاةِ أبا الحسَن الماوَرديَّ إلى المَلِك أبي كاليجار؛ ليَأخُذَ عليه البَيعةَ، ويَخطُبَ له في بلادِه، فأجابَ وبايَعَ، وخَطَب له في بلادِه.
كان تتش بن ألب أرسلان صاحِبُ دِمشقَ وما جاوَرَها من بلادِ الشامِ، سار من دِمشقَ إلى أَخيهِ السُّلطانِ ملكشاه ببغداد، فلمَّا كان بهيت بَلَغَهُ مَوتُه، فأَخَذَ هيت، واستَولَى عليها، وعاد إلى دِمشقَ يَتجهَّزَ لِطَلَبِ السَّلطَنَة، فجَمعَ العَساكِرَ، وأَخرجَ الأَموالَ وسار نحوَ حَلَب، وبها قَسيمُ الدولةِ أتسز فرأى قَسيمُ الدولةِ اختِلافَ أَولادِ صاحِبِه ملكشاه، وصِغَرَهُم، فعَلِمَ أنه لا يَطيقُ دَفْعَ تتش، فصالَحَهُ، وصار معه، وأَرسلَ إلى باغي سيان، صاحِبِ أنطاكية، وإلى بوزان، صاحِبِ الرها وحران، يُشيرُ عليهما بطَاعةِ تاجِ الدولةِ تتش حتى يَروا ما يكون مِن أَولادِ ملكشاه، ففَعَلوا، وصاروا معه، وخَطَبوا له في بِلادِهم، وقَصَدوا الرحبةَ، فحَصَروها، ومَلَكوها في المُحرَّم من هذه السَّنَةِ، وخَطَبَ تتش لِنَفسِه بالسَّلطَنَةِ، ثم ساروا إلى نصيبين، فحَصَروها، ففَتَحَها عُنوةً وقَهرًا، ثم سَلَّمَها إلى الأَميرِ محمدِ بن شرفِ الدولةِ العقيلي، وسار يُريد المَوصِلَ، وأَتاهُ الكافي بن فَخرِ الدولةِ بن جَهيرٍ، وكان في جَزيرةِ ابن عُمرَ، فأَكرَمهُ، واسْتَوْزَرَهُ، فلمَّا مَلَكَ تتش نصيبين أَرسلَ إليه يَأمرُه أن يَخطُبَ له بالسَّلطَنَةِ، ويُعطِيهُ طَريقًا إلى بغداد لِيَنحَدِرَ، ويَطلُب الخُطبةَ بالسَّلطنَةِ، فامتَنعَ إبراهيمُ من ذلك، فسار تتش إليه، وتَقدَّم إبراهيمُ أيضًا نَحوَهُ، فالتَقوا بالمُضَيَّعِ، من أَعمالِ المَوصِل، في رَبيعٍ الأَوَّل، فحَمَلَ العَربُ على بوزان، فانهَزمَ، وحَمَلَ أتسز على العَربِ فهَزَمَهم، وتَمَّت الهَزيمةُ على إبراهيمَ والعَربِ، وأُخِذَ إبراهيمُ أَسيرًا وجَماعةٌ مِن أُمراءِ العَربِ، فقُتِلوا صَبرًا، ومَلَكَ تتش بِلادَهم المَوصِلَ وغَيرَها، واستَنابَ بها عليَّ بنَ شَرفِ الدولةِ مُسلمٍ، وأَرسلَ إلى بغداد يَطلُب الخُطبةَ، وساعَدَهُ كوهرائين على ذلك، فقِيلَ لِرَسولِه: إنَّا نَنتظِر وُصولَ الرُّسُلِ من العَسكرِ، فعاد إلى تتش بالجوابِ، فانتَهَى خَبَرُه إلى ابنِ أَخيهِ رُكنِ الدِّين بركيارق، وكان قد استَولَى على كَثيرٍ من البِلادِ، منها: الرَّيُّ، وهمذان، وما بينهما، فلمَّا تَحقَّقَ الحال سارَ في عَساكرِه لِيَمنعَ عَمَّهُ عن البِلادِ، فلمَّا تَقارَب العَسكرانِ قال قَسيمُ الدولةِ أتسز لبوزان: إنَّما أَطَعنا هذا الرَّجُلَ لنَنظُرَ ما يكون مِن أَولادِ صاحبِنا، والآن فقد ظَهرَ ابنُه، ونُريدُ أن نكون معه. فاتَّفَقا على ذلك وفارَقَا تتش، وصارا مع بركيارق، فلمَّا رأى تاجُ الدولةِ تتش ذلك عَلِمَ أنه لا قُوَّةَ له بهم، فعادَ إلى الشامِ، واستَقامَت البِلادُ لبركيارق.
هو أميرُ مكة، قتادة بن إدريس العلوي، الحسني. كان في أول ملكه، لَمَّا ملك مكة، حرسها الله، حسنَ السيرة أزال عنها العبيد المفسِدين، وحمى البلاد، وأحسن إلى الحُجَّاج، وأكرمهم، وبقي كذلك مدة، ثم إنه بعد ذلك أساء السيرة، وجدد المكوسَ بمكة، وفعل أفعالًا شنيعة، ونهب الحاجَّ في بعض السنين، وقيل في موت قتادة إن ابنه حسنًا خنقه فمات، وسبب ذلك أن قتادة جمع جموعًا كثيرة وسار عن مكة يريد المدينة، فنزل بوادي الفرع وهو مريض، وسير أخاه على الجيش ومعه ابنه الحسن بن قتادة، فلما أبعدوا بلغ الحسن أن عمه قال لبعض الجند: إن أخي مريض، وهو ميت لا محالة، وطلب منهم أن يحلفوا له ليكون هو الأمير بعد أخيه قتادة، فحضر الحسن عند عمه، واجتمع إليه كثير من الأجناد والمماليك الذين لأبيه، فقال الحسن لعمه: قد فعلتَ كذا وكذا، فقال: لم أفعل؛ فأمر حسن الحاضرين بقتلِه، فلم يفعلوا، وقالوا: أنت أميرٌ وهذا أمير، ولا نمد أيدينا إلى أحدكما، فقال له غلامان لقتادة: نحن عبيدُك، فمُرْنا بما شئت؛ فأمرهم أن يجعلا عمامةَ عمِّه في عنقه، ففعلا، ثمَّ قتَلَه، فسمع قتادة الخبر، فبلغ منه الغيظُ كُلَّ مبلغ، وحلف ليقتُلَنَّ ابنه، وكان على ما كان من المرض، فكتب بعض أصحابه إلى الحسَنِ يعرفه الحال، ويقول له: ابدأ به قبل أن يقتُلَك، فعاد الحسن إلى مكة، فلما وصلها قصد دار أبيه في نفر يسير فوجد على باب الدار جمعًا كثيرًا، فأمرهم بالانصرافِ إلى منازلهم، ففارقوا الدارَ وعادوا إلى مساكِنِهم، ودخل الحسَنُ إلى أبيه، فلما رآه أبوه شَتَمه، وبالغ في ذمِّه وتهديده، فوثب إليه الحسن فخنقه لوقتِه، وكان عمره نحو تسعين سنة، ثم خرج الحسن إلى الحرم الشريف، وأحضر الأشرافَ، وقال: إن أبي قد اشتد مرضه، وقد أمركم أن تحلِفوا لي أن أكونَ أنا أميركم، فحلفوا له، ثم إنه أظهر تابوتًا ودفنه ليظُنَّ الناسُ أنه مات، وكان قد دفنه سرًّا، فلما استقرت الإمارةُ بمكة له أرسل إلى أخيه الذي بقلعة ينبع على لسان أبيه يستدعيه، وكتم موتَ أبيه عنه، فلما حضر أخوه قتَلَه أيضًا، واستقَرَّ أمره، وثَبَت قدمُه، فارتكب عظيمًا: قتل أباه وعمه وأخاه في أيام يسيرةٍ.
هو السُّلطانُ الملك الصالحُ نجمُ الدين أيوب بن السلطان الملك الكامِل ناصِرِ الدين محمد بن السلطان الملك العادل أبي بكر محمد بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي. وُلِدَ سنة 603 بالقاهرة، فلمَّا قَدِمَ أبوه دمشقَ في آخر سنة خمس وعشرين استنابه على ديار مصر، فلمَّا رجع انتقَدَ عليه أبوه أحوالًا، ومال عنه إلى ولَدِه الملك العادل الثاني. ولما استولى الكامِلُ على حران، وعلى حِصنِ كيفا وآمد وسنجار سلطَنَه على هذه البلادِ، أرسل الملك الصالح أيوب إليها, فلما توفِّيَ الكامل تملَّك بعده ديارَ مصر ابنُه العادل الثاني أبو بكر، فطَمِعَ الملك الصالح وقَوِيَت نفسُه، وكاتَبَ الأمراء، واستخدم الخوارزميَّة, واستقَرَّت له الأحوال، وسَلَّم له أمراء بني أيوب، وتفرَّغ لجهاد الصليبيين حتى استردَّ بيت المقدسِ منهم مرةً ثانيةً في أيَّامه, وأستكثر من استجلاب المماليك لمساعدتِه في حروبه ضِدَّ الصليبيين. كان السلطان أيوب في دمشق ثمَّ سار عنها في المحرَّم إلى مصرَ بعد أن سَمِعَ بوصول الفرنجِ إلى سواحل مصر من دمياط، وكان قد أصابه المرضُ ولم يقدر السلطاُن على الحركة لمرضه، ونودي في مصر من كان له على السلطانِ أو عنده له شيءٌ، فليحضر ليأخُذَ حَقَّه، فطلع الناسُ وأخذوا ما كان لهم، ثم لما كان ليلة الاثنين نصف شعبان مات السلطان الملك الصالح بالمنصورة، وهو في مقابلةِ الفرنج، عن أربع وأربعين سنة، بعدما عهد لولده الملك المعظَّم توران شاه، وكانت مُدَّة ملكه بمصر عشر سنين إلا خمسين يومًا، فغسَّلَه أحد الحكماء الذين تولوا علاجه، لكي يخفى موتَه، وحُمِلَ في تابوت إلى قلعة الروضة، وأخفى موتَه، فلم يشتهر إلا في شوَّال بعد وصول ابنه المعظم توران شاه مصر، ثم نُقِلَ بعد ذلك بمدة إلى تربته بجوارِ المدارس الصالحية بالقاهرة، وقد كانت كَتَمَت جاريته أم خليل المدعوَّة شجرةَ الدرِّ مَوتَه، وأظهرت أنَّه مريضٌ لا يُوصَلُ إليه، وبَقِيَت تُعلِمُ عنه بعلامتِه سواء، وأعلمت إلى أعيان الأمراء فأرسلوا إلى ابنه الملك المعظم توران شاه وهو بحصن كيفا فأقدموه إليهم سريعًا، وذلك بإشارةِ أكابر الأمراء منهم فخر الدين بن الشيخ الشيوخ، فلما قَدِمَ عليهم مَلَّكوه عليهم وبايعوه أجمعينَ.
كانَ الطاهريُّون مشايخَ مَحلِّيينَ مِن منطقةِ رَداعَ حيث كانت لهمُ الرياسةُ فيها، وتابِعينَ لِبَني رَسولٍ، وقد توَطَّدتِ العَلاقةُ بينَ بَني طاهرٍ ودولةِ بَني رَسولٍ في أواخِرِ الدولةِ الرَّسوليةِ بمُصاهرةٍ تمت عامَ 836هـ بينَ المَلكِ الظاهرِ الرَّسوليِّ وابنةِ كَبيرِ آلِ طاهرٍ، الشَّيخِ طاهرِ بنِ معوضةَ، ثم صارَ آلُ طاهرٍ وُلاةً لآلِ رَسولٍ في جِهاتِهم، بل وامتَدَّ حُكمُهم إلى عَدَنٍ في فَتراتٍ لاحِقةٍ. وعندَما أيقنَ آلُ طاهرٍ مِن أنَّ أمرَ الرَّسوليِّينَ إلى زَوالٍ لا مَحالةَ، أعَدَّ الشيخُ علِيُّ بنُ طاهِرِ بنِ معوضةَ، الملقَّبُ بالمُجاهدِ مع أخيه المُلقَّبِ بالظافرِ، حَملةً لِحَربِ المَلكِ الرَّسوليِّ المَسعودِ في عَدَنٍ، ولكِنَّه عادَ مِن حَملتِه خائِبًا ولم يَتمَكَّنْ مِنَ القَضاءِ على خَصمِه المَسعودِ، ثم أعَدَّ نَفسَه إعدادًا أفضَلَ، فكَرَّرَ حَملَتَه على عَدَنٍ في عامِ 858هـ وتمكَّنَ هذه المرَّةَ مِن طَردِ المَسعودِ، ثم في شَهرِ رَجَبٍ مِنَ العامِ نَفسِه تمكَّنوا مِن دُخولِ عَدَنٍ وأسْرِ المؤيَّدِ هناك، آخرِ مُلوكِ دولةِ بَني رَسولٍ، وابتدأتِ الدولةُ الطاهريةُ بحُكم الأخوَيْنِ المُجاهدِ والظافرِ مِن آلِ طاهرٍ سنةَ 855هـ يَحكمان معًا، فبَسَطا سيطرتَهما على مناطقِ اليَمنِ، وأصبحا في حالةِ صِراعٍ مع الأئمةِ الزَّيديِّينَ، وفي حَربِ السيطرةِ على صَنعاءَ قُتِلَ المَلكُ الظافرُ، فتراجَعَ أخوه عنِ احتلالِها وترَكَها تحتَ سَيطرةِ الزَّيديِّينَ، بعدَ المَلكِ المُجاهدِ تولَّى ابنُ أخيه عبدُ الوهَّابِ بنُ داودَ الطاهريُّ، ولُقِّب بالمَنصورِ، وفي عهدِه انتقلت عاصمةُ الطاهريِّينَ مِن جُبَنَ إلى عَدَنٍ ثم تَعِزَّ، تولَّى بعدَه ابنُه عامرُ بنُ عبدِ الوهَّابِ، ولُقِّب بالظافرِ، وواجَه تمَرُّداتٍ وأخمَدَها، واستولى على ذِمارَ ثم دَخَل صَنعاءَ، حاول الإمامُ شَرَفُ الدِّينِ مُواجهةَ تَوسُّعِ الطاهريِّينَ، واتَّصلَ بالمماليكِ الشركسيةِ لِيُعينوه، وكانَ القائدُ المملوكيُّ حُسينٌ الكُرديُّ قد طلب مِنَ الطاهريِّينَ أنْ يُمدُّوه بقوةٍ في مُحاربةِ البُرتُغاليِّينَ، ولكنهم رَفضوا، فنزلَ إلى السَّواحلِ اليَمنيةِ وحارَبَهم، وكانت آخِرَ المَعارِكِ بَينَهم قُربَ صَنعاءَ، ولَقيَ المَلكُ الظافرُ عامِرُ بنُ عبدِ الوهَّابِ حَتفَه، وذلك عامَ 923هـ، وانتَهتْ بمَوتِه الدولةُ الطاهريةُ بعدَ 65 عامًا مِن قيامِها، ولم يَبقَ منها إلا جَيبُ عَدَنَ الذي تمكَّنَ الأميرُ عامرُ بنُ داودَ الطاهريُّ مِنَ الاحتِفاظِ به حتى قَضى عليه الأتراكُ.
لَمَّا بلغ الأمير فاروق سن الرابعة عشرة طلب السير مايلز لامبسون من الملك فؤاد ضرورةَ سفر ابنه الأمير فاروق إلى بريطانيا لمواصلةِ الدراسة وأصَرَّ على ذلك بشدة رافضًا أيَّ محاولة من الملك فؤاد لتأجيل سفره حتى يبلغ سن السادسة عشرة، فتقرَّر سفرُ فاروق إلى بريطانيا ولكن دون أن يلتحِقَ بكلية إيتون، بل تم َّإلحاقه بكلية وولتش للعلوم العسكرية؛ ونظرًا لكونه لم يبلغ الثامنة عشرة -وهو أحد شروط الالتحاق بكلية وولتش- فقد تم الاتفاق على أن يكون تعليمُه خارج الكلية على يد معلِّمين من نفس الكلية، وقد رافق فاروق خلال سفرِه بعثةٌ مُرافِقةٌ له برئاسة أحمد حسنين باشا؛ ليكون رائدًا له -والذي كان له دور كبير في حياته بعد ذلك- بالإضافة إلى عزيز المصري الذي كان نائبًا لرئيس البعثة وكبيرًا للمعلمين، بالإضافة إلى عمر فتحي حارسًا للأمير وكبير الياوران فيما بعد، وكذلك الدكتور عباس الكفراوي كطبيب خاص، وصالح هاشم أستاذ اللغة العربية، بالإضافة إلى حسين باشا حسني كسكرتير خاص، والذي كان وجوده عاملًا مساعدًا للأمير على الانطلاق؛ فقد شجَّعه على الذهاب إلى المسارح والسينما ومصاحبة النساء ولعب القمار، بينما كان عزيز المصري دائم الاعتراض على كل تلك التصرفات، وكان فاروق بحُكمِ ظروف نشأته القاسية والصارمة يميل إلى حسين باشا ويتمرَّدُ على تعليمات وأوامر عزيز المصري، وفي تلك الفترة كان المرض قد اشتَدَّ على الملك فؤاد، وأصبح على فراش الموت، فاقترحت بريطانيا تشكيل مجلس وصاية مكوَّن من ثلاثة أعضاء، هم: الأمير محمد علي توفيق؛ ابن عم الأمير فاروق، وقد كان ذا ميول إنجليزية، وكان يرى دائمًا أنه أحق بعرش مصر، والثاني: هو محمد توفيق نسيم باشا، رئيس الوزراء الأسبق، وهو من رجال القصر، والثالث: هو الإمام الأكبر الشيخ المراغي، وعندما علم الأمير فاروق بشدَّةِ مرض والده ورغبته في أن يرى ابنه، طلب العودةَ إلى مصر لرؤية والده ووافقت بريطانيا بعد تردُّد على عودة فاروق إلى مصر في زيارة ليعودَ بعدها لاستكمال دراسته إلَّا أنه وقبل أن يسافر فاروق إلى مصر لرؤية والده كان والده الملك فؤاد الأول قد لقِيَ ربه في 28 أبريل 1936م. وعاد فاروق إلى مصر وقطع دراستَه ليجلس على كرسي العرش.