هو أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن فرج بن خلف بن قومس بن أحمد بن دحية بن خليفة الكلبي الحافظ، شيخ الديار المصرية في الحديث، ولد سنة 546. كان يذكر أنه من ولد دحية الكلبي، وأنه سبطُ أبي البسام الحسيني الفاطمي. كان بصيرًا بالحديث معتنيًا بتقييده، مكبًّا على سماعه، حسنَ الحَطِّ معروفًا بالضبط، له حظٌّ وافر من اللغة، ومشاركة في العربية وغيرها. وهو أول من باشر مشيخة دار الحديث الكامليَّة بها، وقد كان يتزيد في كلامه، فترك الناس الرواية عنه وكذَّبوه، وقد كان الكامِلُ مقبلًا عليه، فلما انكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه، توفي بالقاهرة ودفن بقرافة مصر، قال ابن خلكان: وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء، متقنًا لعلم الحديث وما يتعلَّقُ به، عارفًا بالنحو واللغة وأيَّام العرب وأشعارها، اشتغل ببلادِ المغرِب، ثمَّ رحل إلى الشام ثم إلى العراق، واجتاز بإربل سنة 604، فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب " التنوير في مولد السراج المنير " وقرأه عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار، ولي قضاء دانية مرتين، ثم صُرِف عن ذلك لسيرة نُعِتَت عليه، فرحل منها. روى عنه الدبيثي فقال: "كان له معرفة حسنة بالنحو واللغة، وأنسة بالحديث، فقيهًا على مذهب مالك، وكان يقول: إنه حفظ " صحيح مسلم " جميعه، وأنه قرأه على بعض شيوخ المغرب من حفظه، ويدعي أشياء كثيرة. قلت (الذهبي): كان صاحب فنون، وله يد طولي في اللغة، ومعرفة جيدة بالحديث على ضعف فيه. قرأت بخط الضياء الحافظ قال: لقيت الكلبيَّ بأصبهان، ولم أسمع منه شيئًا، ولم يعجبني حالُه، وكان كثير الوقيعة في الأئمة، وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب، وأن مشايخ المغرب كتبوا له جرحه وتضعيفَه. وقد رأيتُ منه أنا غير شيء ممَّا يدل على ذلك" قال ابن نقطة: "كان موصوفًا بالمعرفة والفضل، ولم أره إلَّا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها. ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام - ثقة - قال: نزل عندنا ابنُ دحية، فكان يقول: أحفظ " صحيح مسلم "، و" الترمذي "، قال: فأخذت خمسة أحاديث من " الترمذي "، وخمسة من " المسند " وخمسة من الموضوعات فجعلتها في جزء، ثم عرضتُ عليه حديثًا مِن " الترمذي "، فقال: ليس بصحيح، وآخر فقال: لا أعرفه. ولم يعرف منها شيئًا. قلت (الذهبي): ما أحسن الصدق، لقد أفسد هذا المرءُ نَفسَه". قال ابن كثير: وقد تكلَّمَ الناس فيه بأنواع من الكلام، ونسبه بعضهم إلى وضعِ حديثٍ في قَصرِ صلاة المغرب، ولابن دحية مصنفات منها: المطرب في أشعار أهل المغرب، ونهاية السول في خصائص الرسول، والنبراس في خلفاء بني العباس، وغيرها.
هو المُحَدِّث الإمامُ الفقيهُ الحافِظُ الأوحَدُ البارعُ: عماد الدين أبو الفداء إسماعيلُ بن الخطيب شهاب الدين أبي حفص عمر بن كثير القرشي البصروي ثم الدمشقي الشافعي، صاحِبُ التفسيرِ والتاريخِ، صِهْرُ الشيخِ أبي الحجَّاج المِزِّي، مَولِدُه بقريةٍ شرقيَّ بُصرى من أعمال دمشق في سنة 701 كان أبوه خطيبًا بها، ثم انتقل إلى دمشق في سنة 706. تفقه ابن كثير بالشيخ برهان الدين الفزاري وغيره، وصاهر الحافِظَ المزِّيَّ فأكثَرَ عنه، وأفتى ودرَّس، وناظر وبرع في الفقه والتفسير والنحو، وأمعَنَ النظر في الرجال والعِلَل، وولي مشيخةَ أم الصالح والتنكزية بعد الذهبي، ذكره الذهبيُّ في المعجم المختص فقال: "هو فقيهٌ مُتقِنٌ، ومُحَدِّث مُحَقِّق، ومفَسِّر نقَّاد، وله تصانيفُ مُفيدة يدري الفِقهَ ويَفهَمُ العربيَّة والأصول، ويحفَظُ جملةً صالحة من المتونِ والتفسيرِ والرِّجال وأحوالهم، سَمِعَ مني، وله حِفظٌ ومَعرِفة " كان قدوةَ العُلَماء والحُفَّاظ، وعُمدةَ أهلِ المعاني والألفاظ، وسَمِعَ وجَمَع، وصنف ودرَّس، وحدَّث وألَّف، وكان له اطلاعٌ عظيم في الحديث والتفسير والتاريخ، واشتهَرَ بالضبط والتحرير، وقد تتلمذ على شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة، وكان على عقيدتِه؛ قال ابنُ حجر: "وقع بينَ ابنِ كثير وبين إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قَيِّم الجوزية مُنازعةٌ في تدريس النَّاسِ، فقال له ابنُ كثيرٍ: أنت تكرهُني لأنَّني أشعريٌّ! فقال له: لو كان من رأسِك إلى قَدَمِك شعرٌ ما صَدَّقَك النَّاسُ في قَولِك أنَّك أشعريٌّ، وشَيخُك ابنُ تيميَّة!!" انتهى إليه علمُ التاريخ والحديث والتفسير، وله مُصنَّفات عديدة مفيدة، ومن مصنفاته: تفسير القرآن الكريم، وكتاب طبقات الفقهاء، ومناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه، والتاريخ المسمى بالبداية والنهاية، وخرج أحاديث مختصر ابن الحاجب، وكتب على البخاري ولم يكمله، وله التكميل في الجرح والتعديل، ومعرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، جمع فيه بين تهذيبِ الكمالِ للمِزِّي، وميزانِ الاعتدال لشيخهِ الذهبي، مع زياداتٍ وتحرير عليهما في الجرح والتعديل. قال ابن حجر: " ولازم المزِّي وقرأ عليه تهذيب الكمال، وصاهره على ابنتِه، وأخذ عن ابن تيميَّةَ، ففُتِنَ بحُبِّه وامتُحِنَ لِسَبَبِه، وكان كثير الاستحضارِ، حَسَن المُفاكَهة، سارت تصانيفُه في البلاد في حياتِه، وانتفع بها الناسُ بعد وفاته ". توفي في يوم الخميس سادس عشرين شعبان، وكانت جنازته حافلة مشهودة، ودُفِنَ بوصية منه في تربة شيخِ الاسلام ابنِ تيميَّة بمقبرة للصوفيَّة، خارج باب النصر من دمشق. وهو غير عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن بردس البعلبكي الحنبلي المتوفى سنة 786.
هو الإمامُ تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، من أمراءِ نجد، وَلِيَها بعد مقتل ابنِ عَمِّه مشاري بن سعود. كان تركي بن عبد الله فارًّا من وجه التُّرك وعُمَّال والي مصر محمد علي، في الخَرجِ بنجد، وعلم بأنَّ مشاري بن معمر قبض على ابنِ عَمِّه مشاري وسَلَّمه إلى الترك فقَتَلوه، فخرج من مخبئه ودخل العارضَ فنازع ابن معمر برهةً مِن الزمن، ثم قتَلَه بابن عمه، وتولى الحكمَ مكانه. وبولايةِ تركي بن عبد الله انتقل الحكمُ في آل سعود من سلالةِ عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى سلالة أخيه عبد الله بن محمد بن سعود، وكان تركي شجاعًا؛ أخذ على عاتقه إخراجَ الترك ومَن معهم من المصريين عن بلادِه، فاستردَّ الأحساء والقطيف، وصالحَه أميرُ حائل، وانبسط نفوذُه في القصيم. واستمَرَّ إلى أن قام مشاري بن عبد الرحمن ابن أخت تركي بن عبد الله -وهو ابنُ عمه أيضًا- بقَتلِه غدرًا، قال ابن بشر: "عزم مشاري على إظهارِ ما أبطن وجَرَّد سيفه لإثارة الفِتَن، وذلك بمساعدة رجالٍ أسافِلَ مِن الخدمِ الأراذلِ، وقد تواعدوا عليه بعد صلاةِ الجمعة إذا خرج من المسجِدِ، فلما صلى الجمعة وخرج.. من المسجدِ، وقف له البغاة عند الدكاكين بين القصر والمسجد، وبيده مكتوبٌ يقرؤه، وفي جنبه رَجُلٌ على يساره، واعترضهم منهم عبدٌ خادم لهم يقال له إبراهيم بن حمزة، فأدخل الطبنجة مع كُمِّه وهو غافِلٌ فثورها فيه، فخَرَّ صريعًا، فلم تخط قلبه، وإذا مشاري قد خرج من المسجد فشَهَر سيفَه وتهدَّد الناس وتوعَّدَهم، وشهر أناسٌ سُيوفَهم معه فبُهِتَ الناس وعَلِموا أن الأمر تشاوروا فيه وقُضِيَ بليلٍ، فلما رأى زويد العبد المشهور مملوكُ تركي عمَّه صريعًا، شهر سيفه ولَحِقَ برجلٍ من رجاجيل مشاري فجَرَحَه.. ثم إن مشاري دخل القصرَ من ساعته وأعوانه معه.. وجلس للناسِ يدعوهم إلى البيعةِ، فلما علم آلُ الشيخِ وقوعَ هذا الأمر جلسوا في المسجد، فلم يخرجوا منه حتى أرسل إليهم مشاري يدعوهم فأبَوا أن يأتوا إلا بالأمانِ، فكتب لهم بالأمان، فأتوا إليه وطلب منهم المبايعةَ فبايعوه، ثمَّ نُقِلَ تركي من موضعه ذلك، وأدخلوه بيت زويد فجُهِّزَ وصلى عليه المسلمون بعد صلاة العصر، ودُفِنَ في مقبرة الرياض آخر ساعة من يوم الجمعة"، وكان قتلُ تركي بن عبد الله على يد ابن عمه مشاري بن عبد الرحمن أوَّل جريمةٍ مِن نوعِها في آل سعود. وكان ابنُه فيصل في القطيف على رأس جيشٍ، فلما علم بمقتلِ أبيه رجع من فوره واستطاع أن يقتُلَ مشاري، ثم يتولى الإمامةَ والحُكمَ.
كان مِن آثارِ هِجرتِه صلى الله عليه وسلم وأصحابِه إلى المدينةِ تلك المُؤاخاةُ التي حَدثت بين المُهاجرين والأنصارِ رضي الله عنهم، حتَّى كان يَرِثُ بعضُهم بعضًا في أوَّلِ الأمرِ. فعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: «وَرَثَةً»: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: " كان المُهاجِرون لمَّا قَدِموا المدينةَ يَرِثُ المُهاجِرُ الأنصاريَّ دون ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلأُخُوَّةِ التي آخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بينهم، فلمَّا نزلت: {{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسَختْ". ثمَّ قال: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} «إلَّا النَّصرَ، والرِّفادَةَ، والنَّصيحةَ، وقد ذهب الميراثُ، ويوصي له».
وعن أنسٍ قال: لمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاهُ المُهاجرون فقالوا: يا رسولَ الله، ما رَأينا قومًا أَبْذَلَ مِن كثيرٍ، ولا أحسنَ مُواساةً مِن قليلٍ مِن قومٍ نزلنا بين أَظهُرهِم، لقد كَفَوْنا المُؤنَةَ وأشرَكونا في المَهْنَإِ حتَّى لقد خُفْنا أن يَذهبوا بالأجرِ كُلِّهِ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا ما دَعَوتُم الله لهم، وأَثْنَيْتُم عليهِم».
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رضي الله عنه: لمَّا قَدِمْنا المدينةَ آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعدِ بنِ الرَّبيعِ، فقال سعدُ بنُ الرَّبيعِ: إنِّي أَكثرُ الأنصارِ مالًا، فَأَقْسِمُ لك نِصفَ مالي، وانْظُرْ أيَّ زَوجتيَّ هَوِيتَ نَزلتُ لك عنها، فإذا حَلَّتْ تَزوَّجتَها. قال: فقال له عبدُ الرَّحمنِ: لا حاجةَ لي في ذلك، هل مِن سوقٍ فيه تِجارةٌ؟ قال: سوقُ قَيْنُقاعٍ. قال: فغَدا إليه عبدُ الرَّحمنِ، فأتى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قال: ثمَّ تابع الغُدُوَّ، فما لَبِثَ أن جاء عبدُ الرَّحمنِ عليه أثرُ صُفْرَةٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَزوَّجتَ؟». قال: نعم. قال: «ومَن؟»، قال: امرأةً مِنَ الأنصارِ. قال: «كَم سُقْتَ؟»، قال: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهبٍ -أو نَواةً مِن ذَهبٍ- فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ ولو بِشاةٍ».
بعد أن ترددت الرسل بين الملك الكامل صاحب مصر وفردريك الثاني ملك ألمانيا انتهوا على صلح عشر سنوات يسلم الكامل بيت المقدس للصليبيين نكاية بإخوانه في الشام بسبب خلاف بينه وبينهم, وجاء في بنود الاتفاق الذي عرف باتفاق يافا: 1/ أن ملك الفرنج يأخذ القدس من المسلمين، ويبقيها على ما هي من الخراب، ولا يجدد سورها. 2/ أن يكون سائر قرى القدس للمسلمين، لا حكم فيها للفرنج. 3/ أن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى يكون بأيدي المسلمين، لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه والٍ من المسلمين، ويقيمون فيه شعار الإسلام من الأذان والصلاة. 4/ أن تكون القرى التي فيها بين عكا وبين يافا، وبين القدس، بأيدي الفرنج، دون ما عداها من قرى القدس. ثم في 22 ربيع الأول من هذه السنة، ( 18فبراير 1229 م) تسلم الفرنج بيت المقدس صلحًا، ولما تسلم الفرنج البيت المقدس، استعظم المسلمون ذلك وأكبروه واستقبحوا ما فعله الكامل، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه. وقد ذكر سبط ابن الجوزي ردة الفعل على تسليم الكامل بيت المقدس للصليبيين بقوله: "قامت القيامة في جميع بلاد الإسلام، واشتدت العظائم، بحيث أقيمت المآتم، وأشار علي الملك الناصر داود بن الملك المعظم أن أجلس بجامع دمشق، وأذكر ما جرى على البيت المقدس، فما أمكنني مخالفته، ورأيت من جملة الديانة الحمية للإسلام موافقته، فجلست بجامع دمشق، وحضر الناصر داود، على باب مشهد علي، وكان يومًا مشهورًا، لم يتخلف من أهل دمشق أحد, وقد انقطعت عن البيت المقدس وفود الزائرين، فيا وحشة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة، وكم خرت لهم على تلك المساكن من دمعة، والله لو صارت عيونهم عيونًا لما وفت، ولو تقطعت قلوبهم أسفًا لما شفت، أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين لمثل هذه الحادثة تسكب العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظم الحسرات"
لمَّا استقَرَّ الملك ناصر بالكرك وعَزَم على الإقامة بها بعد أن خرج من مصرَ على أنَّه يريد الحَجَّ، كتب كتابًا إلى الديار المصرية يتضَمَّنُ عَزلَ نَفسِه عن المملكة، فأثبت ذلك على القُضاةِ بمصر، وكان قد اشتَدَّ حَنَقُه، وصار في غاية الحَصرِ مِن تحَكُّم بيبرس الجاشنكيري- متذوِّق طعام السلطان- وسيف الدين سلار المغولي عليه، وعَدَم تصَرُّفِه ومَنْعه من كلِّ ما يريد، حتى إنه ما يصِلُ إلى ما يشتهي أكلَه لقِلَّةِ المُرَتَّب، فلولا ما كان يتحَصَّلُ له من أوقاف أبيه لما وجد سبيلًا إلى بلوغِ بعض أغراضِه، فكانت مُدَّةُ سلطنة الملك الناصر هذه عشر سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يومًا، ثم نفذَ على قضاة الشامِ وبُويِعَ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنةِ في الثالث والعشرين من شوَّال يوم السبت بعد العصر، بدار الأمير سيف الدين سلار، اجتمع بها أعيانُ الدولة من الأمراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالمَلِك المظَفَّر، ورَكِبَ إلى القلعة ومَشَوا بين يديه، وجلس على سريرِ المَملكة بالقلعة، ودُقَّت البشائِرُ وسارت البريدية بذلك إلى سائِرِ البلدان، وفي مستهَلِّ ذي القعدة وصل الأميرُ عز الدين البغدادي إلى دمشق فاجتمع بنائِبِ السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان بالقَصرِ الأبلقِ، فقرأ عليهم كتابَ الناصر إلى أهل مصر، وأنَّه قد نزل عن الملك وأعرض عنه، فأثبَتَه القضاة وامتنع الحنبليُّ من إثباته وقال: ليس أحدٌ يترُكُ المُلكَ مُختارًا، ولولا أنَّه مُضطهدٌ ما تركه، فعُزِلَ وأقيم غيره، واستحلَفَهم للسلطانِ الملك المظفر ركن الدين بيبرس، وكُتِبَت العلامة على القلعة، وألقابُه على محالِّ المملكة، ودُقَّت البشائِرُ وزُيِّنَت البلد، ولما قرئَ كتاب الملك الناصر على الأمراءِ بالقصر، وفيه: إني قد صَحِبتُ الناس عشر سنين ثم اخترت المقامَ بالكرك، تباكى جماعةٌ من الأمراء وبايعوا كالمُكرَهين، وتولى مكانَ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأميرُ سيف الدين بن علي، ويُذكَرُ أن أصل بيبرس هذا من مماليكِ الملك المنصور قلاوون البرجية، وكان شركسي الجِنسِ، ولم نعلم أحدًا ملَكَ مِصرَ مِن الشراكسة قبله إن صَحَّ أنه كان شَركسيًّا.
استولى النصارى الأسبان على العرائش، وذلك بعد إخراجهم للمسلمين منها باتفاق مع حاكمها الشيخ المأمون ابن المنصور السعدي، الذي استعان بهم على أخيه السلطان زيدان، فاشترطوا عليه وقتها إعطاءهم العرائش وإخلاءها من سكَّانها، ففعل- خذَلَه اللهُ- ولما خرج منها المسلمون أقام بها القائد الكرني إلى أن دخلها النصارى واستولوا عليها في رابع رمضان من هذه السنة، ووقع في قلوب المسلمين من الامتعاض لأخذ العرائش أمرٌ عظيم، وأنكروا ذلك أشدَّ الإنكار، وقام الشريف أبو العباس أحمد بن إدريس العمراني ودار على مجالس العلم بفاس، ونادى بالجهاد والخروج لإغاثة المسلمين بالعرائش، فانضاف إليه أقوامٌ وعزموا على التوجه لذلك، ففَتَّ في عَضُدِهم قائدُهم حمو المعروف بأبي دبيرة وصرف وجوههم عما قصدوه في حكايةٍ طويلةٍ، وكان الشيخ المأمون لما خاف الفضيحةَ وإنكار الخاصة والعامة عليه إعطاءه بلدًا من بلاد الإسلام للكفَّار، احتال في ذلك وكتب سؤالًا إلى علماء فاس وغيرها يذكُرُ لهم فيه أنه لَمَّا وغل في بلاد العدو الكافرِ واقتحمها كرهًا بأولاده وحشَمِه، منعه النصارى من الخروج من بلادِهم حتى يعطيَهم ثغر العرائش وأنَّهم ما تركوه خرج بنفسِه حتى ترك لهم أولادَه رهنًا على ذلك، فهل يجوز له أن يفدِيَ أولاده من أيدي الكفار بهذا الثغرِ أم لا؟ فأجابوه: بأن فداء المسلمين سيما أولاد أمير المؤمنين سيما أولاد سيد المرسلين صلَّى الله عليه وسلم من يد العدو الكافر بإعطاء بلدٍ من بلاد الإسلام له- جائزٌ، وإنا موافقون على ذلك، ووقَّع هذا الاستفتاء بعد أن وقع ما وقع، وما أجاب من أجاب من العلماء عن ذلك إلا خوفًا على نفسه، وقد فرَّ جماعة من تلك الفتوى، كالإمام أبي عبد الله محمد الجنان صاحب الطرر على المختصر، وكالإمام أبي العباس أحمد المقري التلمساني مؤلف نفح الطيب، فاختفيا مدةً استبراءً لدينهما حتى صدرت الفتوى من غيرهما، وبسبب هذه الفتوى أيضًا فرَّ جماعة من علماء فاس إلى البادية، كالشيخ أبي علي الحسن الزياتي شارح جمل ابن المجراد، والحافظ أبي العباس أحمد بن يوسف الفاسي، وغيرهما.
لمَّا افْتُتِحَتْ أفريقيا أَمَرَ عُثمانُ عبدَ الله بن نافعٍ وعبدَ الله بن عبدِ القيسِ أن يَسِيرا إلى الأَندلُس، فغَزاها مِن قِبَلِ البَحرِ، وكتَب عُثمانُ إلى مَن انْتَدَبَ معهما: أمَّا بعدُ فإنَّ القُسطنطينيَّة إنَّما تُفْتَحُ مِن قِبَلِ الأَندلُس. فخَرجوا ومعهم البَرْبَرُ، ففتَح الله على المسلمين وزادَ في سُلطانِ المسلمين مِثل أفريقيا.
خرج بأذربيجان رجلٌ ادَّعى حُرمةَ اللُّحومِ وما يخرُجُ مِن الحيوان، وأنَّه يعلَمُ الغَيبَ، فأضافه رجلٌ وأطعَمَه كشكيَّةً بشَحمٍ، فلمَّا أكَلَها قال له: ألستَ تُحَرِّمُ اللحم، وما يخرجُ مِن الحيوان، وأنَّك تعلمُ الغيبَ؟ قال: بلى! قال: فهذه الكشكيَّة بشَحمٍ، ولو عِلمْتَ الغيبَ لَمَا خَفِيَ عليك ذلك، فأعرض النَّاسُ عنه.
لَمَّا نَشَبت فتنةٌ في طُلَيطلة قام أهلُها بإنهاء حُكمِ ابنِ يعيش، واستدعوا عبد الرَّحمن بن ذي النون أميرَ شنتمرية لتولِّي رئاسة مدينتهم، فأرسل ابنَه إسماعيل فكان أوَّلَ مَن حكم طُلَيطلة من بني ذي النُّونِ، فأحسن إدارتَها إلى أن مات، فتولَّى بعده ابنُه المأمون. هذه بدايةُ قيام دولةِ ذي النون في طُلَيطلة.
لما رأى أبو كاليجار البويهيُّ الشيعيُّ- وكان بخوزستان- ما تمَلَّكه السَّلاجقةُ مِن الجَبَل والدينور، وأصبح شأنُهم في علوٍّ وقوَّةٍ، تَجهَّزَ لقتال السلاجقةِ الذين تعَدَّوا على أتباعِه، فلم يمكِنْه ذلك لقِلَّةِ الظهر، وذلك أنَّ الآفةَ اعتَرَت في هذه السَّنةِ الخيلَ، فمات له فيها نحوٌ مِن اثني عشر ألفَ فَرَس، بحيث جافَت بغدادُ مِن جِيَف الخَيلِ.
لَمَّا استَقَرَّت أحوالُ الفرنجِ في المهديَّة وصفاقِسَ سار قائِدُهم جرجي في أسطولٍ إلى قلعةِ إقليبيَّةَ، وهي قلعةٌ حَصينةٌ، فلَمَّا وصَلَ إليها سَمِعَت به العرب، فاجتَمَعوا إليها، ونزل إليهم الفِرنجُ، فاقتتلوا فانهزم الفِرنجُ وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، فرجعوا خاسرين إلى المهديَّة، وصار للفِرنجِ مِن طرابلس الغَرب إلى قريبِ تُونُسَ ومِن المغرب إلى دونَ القَيروان.
لَمَّا رأى الصليبيون قوةَ التَّتار وأنَّهم لا قِبَل لهم بهم وخافوا عليهم من أن يُسلِموا بحكم احتكاكهم بالمسلمين، أرادوا أن يَجُرُّوهم إلى النصرانيَّة، فقام البابا إينوسان الرابع بإرسال بعثة إلى خاقان ملك المغول إلى عاصمتِهم قره كروم يدعوه فيها إلى اعتناق النصرانيَّة، فاشترط الخاقان لاعتناقها دخول البابويَّة وجميع ملوك وأمراء الغرب تحت سيادتِه.
نقض دهام بن دواس عهدَه مع الأمير محمد بن سعود أمير الدرعية، فعدا على أهل أبي الكباش، ثم رجع فلمَّا تبيَّنَ منه أهلُ الدِّينِ في الرياض المكرَ والغدرَ تركوا أموالَهم وبلدهم وهاجروا إلى منفوحة، ثم هاجروا إلى الدرعية، لما تبين لهم أن رئيس المنفوحة محمد بن فارس قد انضمَّ مع دهام بن دواس في نقضِ العَهدِ.
هو سعيدُ بنُ حُسين بن أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن عَمْرِو بن ميمون القدَّاح بن دَيصان الأهوازي. قال القاضي عبد الجَبَّار بن أحمد بن عبد الجبار البصري: "اسمُ جَدِّ الخلفاء المصريِّين سعيدٌ، ويلقَّبُ بالمهديِّ". المعروف بالمهديِّ أبو محمَّد عبيدالله، مؤسِّسُ الدولة الفاطمية العُبيدية الباطنيَّة في إفريقيا، كان أبوه يهوديًّا حدَّادًا بسَلَمية. زعم سعيدٌ هذا أنَّه ابنُ الحُسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القدَّاح. وقال بعض دُعاة العُبَيديين: "إنَّ سعيدًا إنما هو ابنُ امرأة الحُسين بن محمد. وإنَّ الحُسين ربَّاه وعلَّمه أسرار الدَّعوة، وزوَّجه ببنت أبي الشَّلَغْلَغ فجاءه ابن سمَّاه عبد الرحمن، فلمَّا دخل المغرب وأخذ سِجِلماسة تسمَّى بعُبَيد الله وتكنى بأبي محمد، وسمَّى ابنَه الحسن". كانت طائفةٌ من أتباعه تزعُمُ أنَّه الخالق الرَّازق، وطائفةٌ تزعم أنَّه نبيٌّ، وطائفة تزعم أنَّه المهدي حقيقة. قال القاضي أبو بكر ابن الباقلَّانيِّ: "إنَّ القدَّاح جدُّ عُبَيد الله كان مجوسيًّا, ودخل عُبَيد الله المغرب، وادَّعى أنَّه علويٌّ، ولم يعرفْه أحد من علماء النَّسَب، وكان باطنيًّا خبيثًا، حريصًا على إزالة مِلَّة الإسلام. أعدَمَ العُلَماء والفقهاء ليتمكَّنَ مِن إغواء الخلْق. وجاء أولادُه على أُسلوبه. أباحوا الخُمور والفُرُوج، وأشاعوا الرَّفْضَ، وبثُّوا دُعاةً فأفسدوا عقائِدَ خلقٍ من جبالِ الشَّام كالنُّصَيْريَّة والدَّرزيَّة. وكان القدَّاح كاذبًا مُمَخْرقًا. وهو أصلُ دُعاة القرامطة. وجدُّ القدَّاح هو دَيصَان أحدُ الثَّنَويَّة. وعُبَيد الله المهدي صاحب القيروان، وجدُّ بني عُبَيدٍ الذينَ تُسَمِّيهم جَهَلَةُ النَّاسِ الخُلَفاء الفاطميِّين". قال الذهبي: "وأهلُ العلم بالأنسابِ المحقِّقينَ يُنكِرونَ دعواه في النَّسبِ لفاطمةَ رضي الله عنها، ويقولون: اسمُه سعيدٌ، ولَقَبه عُبَيدُ الله، وزوج أمِّه الحُسين بنُ أحمد القدّاح. وكان كحَّالًا يقدحُ العينَ". لَمَّا مات عُبيد الله بالمهديَّة أخفى ولدُه أبو القاسم القائِمُ مَوتَه سنةً؛ لتدبيرٍ كان له، وكان يخافُ أن يختَلِفَ النَّاسُ عليه إذا عَلِموا بموته، وكان عمرُ المهديِّ لمَّا توفِّيَ ثلاثًا وستِّينَ سنة، وكانت ولايتُه منذ دخل رقاده ودُعِيَ له بالإمامة إلى أن توفِّيَ أربعًا وعشرينَ سنة وشهرًا وعشرين يومًا، ولمَّا توفِّيَ مَلَك بعدَه ابنُه أبو القاسم محمَّد القائم، وكان أبوه قد عَهِدَ إليه، ولَمَّا أظهرَ وفاة والده كان قد تمكَّنَ وفرغ من جميعِ ما أراده، واتَّبَع سُنَّة أبيه، وثار عليه جماعةٌ، فتمكَّنَ منهم. وكان من أشدِّهم رجلٌ يقال له ابنُ طالوت القرشيُّ، في ناحية طرابلس، ويزعُمُ أنَّه ولد المهديِّ، وزحف بمن معه على مدينة طرابلس، فقاتَلَه أهلها، ثم تبيَّنَ للبربر كَذِبُه، فقتلوه وحملوا رأسَه إلى القائمِ.