قُتِلَ الفتح أحمدُ بن البققي بالدِّيار المصريَّة في يوم الاثنين الرابعَ والعشرين من ربيع الأول، حَكَم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثَبَت عنده من تنقيصِه للشَّريعةِ واستهزائِه بالآيات المحكماتِ، ومعارضةِ المُشتَبِهاتِ بَعضِها ببعض، فيُذكَرُ عنه أنه كان يحِلُّ المحَرَّمات من اللواطِ والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتَمِعُ به من الفَسَقةِ من الترك وغيرِهم من الجهلة، هذا وقد كان له اشتغالٌ وهيئةٌ جميلة في الظاهر، وبزّتُه ولبستُه جيدة، وقد كان ذكيًّا حاد الخاطِرِ له معرفةٌ بالأدب والعلوم القديمة، فحُفِظَت عنه سقطاتٌ، منها أنه قال: لو كان لصاحِبِ مقامات الحريري حظٌّ لتُلِيَت مقاماتُه في المحاريبِ، وأنَّه كان يُنكِرُ على من يصوم شهر رمضانَ، ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناوَلَ حاجةً مِن الرَّفِّ صَعِدَ بقدميه على الربعةِ، وكان مع ذلك جريئًا بلسانِه، مستخفًّا بالقضاة يَطنُزُ بهم ويستجهِلُهم، ثم أكثَرَ من الوقيعة في حقِّ زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكيَّة وتنَقَّصَه وسَبَّه، فلما بلغه ذلك عنه اشتَدَّ حَنَقُه وقام في أمرِه، فتقَرَّبَ الناس إليه بالشَّهادةِ على ابن البققي، فاستدعاه وأحضَرَ الشهود فشَهِدوا وحكَم بقتله، وأراد مِن ابن دقيق العيد تنفيذَ ما حَكَم به فتوقَّفَ، وقام في مساعدةِ ابن البققي ناصرُ الدين محمد بن الشيخي وجماعةٌ من الكُتَّاب، وأرادوا إثباتَ جنِّه ليُعفى من القتل، فصَمَّمَ ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطانِ ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، وما زالا به حتى أذِنَ في قتله، فنزلا إلى المدرسة الصالحيَّة بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجنِ في الحديد ليُقتَلَ، فصار يصيحُ ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقولَ ربِّيَ اللهُ، ويتشَهَّد؟!! فلم يلتَفِتوا إلى ذلك، وضُرِبَ عُنُقُه وطيف برأسِه على رمح، وعُلِّقَ جَسَدُه على باب زويلة، وفيه يقولُ شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحَرِّضُ على قتله، وكتَبَ بها إلى ابنِ دقيق العيد:
قل للإمامِ العادل المرتضي
وكاشِفِ المُشكِلِ والمبهَمِ
لا تمهِلِ الكافِرَ واعمَلْ بما
قد جاء في الكافِرِ عن مُسلمِ
ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملةِ حماقاته:
يا لابسًا لي حُلَّةً مِن مَكْرِه
بسلاسة نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زردًا تضايقَ نَسجُه
وعلى خرق عيونها بالأسهم
فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أنَّ اللهَ لا يُمهِلُه لذلك.
لَمَّا رحل الشريف محمد بن عون العامَ الماضي من القصيم عائدًا إلى مكة بعد الفشل في تحقيق مرادِه، أوفد أهل القصيم إلى الإمام فيصل منهم رجالًا يعتذرون عمَّا بدر منهم، فقَبِلَ عُذرَهم وغفر لهم خطأَهم، ثم إن الإمام فيصل عزل عن إمارة عُنيزة إبراهيمَ بن سليمان بن زامل؛ لأن الشريف لم ينزِلْ عُنَيزةَ إلا بإذنه، وجعل مكانَه ناصِرَ بن عبد الرحمن السحيمي من أهل العقيلية، الذي قدِمَ إلى عنيزة بكتابٍ فيه توليته الإمارة من الإمام فيصل، فأخرج آل زامل من القصر وأنزله أخاه وضبَطَه برجالٍ واستقام له الأمرُ وبايعه أهلها، ثم تعرَّض لمحاولة اغتيالٍ فاشلة، فقَتَل السحيميُّ إبراهيمَ بن سليمان أميرَ عنيزة السابق فاشتعلت الفتنة، فأراد فيصل إخمادها فأرسل إلى السحيمي ليقدمَ عليه في الرياض، فلما قَدِم حكم عليه القضاءُ بديةِ إبراهيم بن سليمان وأقعده فيصلٌ عنده في الرياضِ، ثم جهَّزَ الإمام عبد الله المداوي ورجالًا معه إلى عُنيزة وأمرهم أن يدخلوا القصرَ فلم يتمكَّنْ من دخولِه، ثم إن أهل عنيزة أجمعوا على الحربِ، فلما علم بذلك السحيمي عرض على الإمام أنَّه هو الذي يُخمِدُ الفتنة وأعطى العهودَ والمواثيق بذلك، فأذِنَ له الإمام بالذهاب إلى عُنيزة، فلما وصلها نقضَ عهودَه ودخل مع أهل عنيزةَ في أمرِهم، ثم عرضوا على أميرِ بريدة عبد العزيز المحمد أبو العليان أن يدخُلَ معهم وهو أميرُ الجميع فوافَقَهم فتعاقدوا على نكثِ عهد الإمام، وقاموا لحربه وجمعوا جموعًا كثيرة من رجالِ بلدانهم ومن كان حولَهم من بُدوانهم، فأعطوهم السلاحَ وبذلوا لهم الأموالَ وعاقدوهم على بيع الأرواح، وضربوا طبولهم بالليلِ والنهار، وكان الإمام فيصل قد أمَرَ على أهل البلدان من رعيتِه بالغزوِ، فتجهَّز غازيًا وخرج من الرياض لثلاثٍ بَقِين من ربيع الثاني، وخرج معه أولاده عبد الله ومحمد، ولحق به ابنه سعود بأهل الخَرج، وخرج معه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ إمامًا وقاضيًا، ولَمَّا نزل قرب المجمعة لقِيَه ابن بشر (صاحب كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد) الذي يقول: "ثم رحل ونزل قريبًا من المجمعة، فركبتُ إليه للسلام عليه، فكان وصولي إلى مخيَّمِه قبل صلاة العصر، فصليت معهم وإذا المسلمون مجتمعون للدرس في الصيوان الكبير، وإذا الإمام جالس فيه والمسلمون يمينه وشماله، ومِن خَلفِه وبين يديه، والشيخ عبد اللطيف إلى جنبه، فأمر القارئ عليه بالقراءةِ، فقرأ عليه في كتاب التوحيد، فقرأ آية وحديثًا، فتكلم بكلامٍ جَزْلٍ وقولٍ صائبٍ عَدْلٍ، بأوضح إشارة وأحسن عبارة، فتعجَّبْت من فصاحته وتحقيقه وتبيينه وتدقيقِه... ثم سلمتُ على الإمام فقابلني بالتوقير والإكرام ورحَّبَ بي أبلغَ ترحيب وقرَّبني أحسن تقريب.. وسلمت على الشيخين عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وعبد الله بن جبر، فقمنا ودخلنا مع الإمام خيمته وجلسنا عنده، فابتدأ الشيخ عبد الله يقرأ على الإمام في كتاب سراج الملوك، والشيخ عبد اللطيف يسمع، ولكِنَّ الإمامَ هو الذي يتكلم على القراءة ويحقِّق المعنى". ثم في الصباح رحل الإمام إلى المجمعة ومنها إلى أُشيقر إلى أن نزل المذنب فبايعه أهلها، ثم أرسل إلى أهل القصيم يذكِّرُهم أن الدِّينَ لا يستقيم إلَّا بجماعة ولا يكون إلا بالسمع والطاعة، وأنَّه يعِزُّ عليه أن يُقتَلَ رجلٌ واحد من المسلمين، فلا تكونوا سببًا في إهراق دمائكم، فأرسلوا إليه رجلًا من رؤساء بريدة يقال له مهنا بن صالح، فلما وصل تم الصلحُ على أن يؤدِّيَ أهل القصيم الزكاةَ للإمام، ويركبون معه غزاةً ويدخلون في الجماعة والسمع والطاعة.
هو إمامُ اللُّغةِ، أبو الحُسينِ عَلِيُّ بن إسماعيلَ المرسي نِسبةً إلى مَدينةِ مرسية في شَرقِ الأَندَلُس المُعروفُ بابنِ سِيدَه، وأَحَدُ مَن يُضرَب بِذَكائِه المَثَلُ. كان إمامًا حافِظًا في اللُّغةِ، وكان ضَريرَ البَصَرِ، أَخذَ عِلمَ العَربيَّةِ واللُّغةِ عن أَبيهِ، وكان أَبوهُ ضَريرًا أَيضًا، واشتَغلَ على أبي العَلاءِ صاعدٍ البغداديِّ، وله ((المُحكَم في لِسانِ العَربِ)) في مُجلَّداتٍ عَديدةٍ، وله ((شَرحُ الحَماسَةِ)) في سِتِّ مُجلَّداتٍ، وغيرُ ذلك، وقَرأَ على الشيخِ أبي عُمَرَ الطلمنكي كِتابَ ((الغريب)) لأبي عُبيدٍ سَرَدَها مِن حِفظِه، قال الطلمنكي: "دَخلتُ مرسية فتَشَبَّثَ بي أَهلُها يَسمَعون عَلَيَّ "غَريب المُصَنَّف" فقلتُ لهم: انظُروا لي مَن يَقرأُ لكم وأُمسِكُ أنا كِتابي، فأَتوني برَجُلٍ أَعمَى يُعرَف بابنِ سِيدَه، فقَرأهُ عَليَّ مِن أَوَّلِه إلى آخرِهِ، فتَعجَّبتُ مِن حِفظِه". وكان الشيخُ يُقابِل بما يَقرأُ في الكِتابِ، فسَمِعَ الناسُ بقِراءتِه مِن حِفظِه، فتَعجَّب الناسُ لذلك، وكان له في الشِّعْرِ حَظٌّ وتَصَرُّفٌ. قال اليسعُ بنُ حزمٍ: "كان ابنُ سِيدَه شُعوبِيًّا يُفضِّل العَجَمَ على العَربِ". قال الذهبيُّ: "وحَطَّ عليه السّهيليُّ في ((الرَّوْض الأَنِف)) فقال: "تَعَثَّر في ((المُحكَم)) وغَيرِه عَثراتٍ يَدْمَى منها الأَظَلّ، ويَدْحَضُ دَحَضاتٍ تُخرِجُه إلى سَبيلِ مَن ضَلّ، حتى إنَّه قال في الجِمارِ: هي التي تُرمَى بِعَرفَة. قلتُ (الذَّهبيُّ): هو حُجَّةٌ في نَقلِ اللُّغةِ، وله كِتابُ ((العالم في اللُّغةِ)) نحو مائة سِفْرٍ، بَدأَ بالفَلَكِ، وخَتَمَ بالذَّرَّةِ" تُوفِّي وله سِتُّونَ سَنَةً ولم يَتَيَسَّر له الحَجُّ.
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة الناقِدُ في فنون العلوم: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ عماد الدين أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، من تلاميذ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ. كان مولِدُه في رجب سنة 705. توفي ولم يبلغِ الأربعين، وكان قد حَصَّل من العلومِ ما لا يَبلُغُه الشُّيوخُ الكبار، وتفَنَّنَ في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين، والتاريخ والقراءات، وله مجاميعُ وتعاليقُ مُفيدة كثيرة, وكان حافِظًا جيِّدًا لأسماءِ الرجال وطُرُقِ الحديث، عارفًا بالجَرحِ والتعديل، بصيرًا بعِلَلِ الحديث، حَسَن الفَهمِ له، جَيِّد المذاكرة، صَحيحَ الذِّهنِ مُستقيمًا على طريقةِ السَّلَفِ، واتِّباع الكِتابِ والسنَّة، مثابرًا على فِعلِ الخيرات، ومن مصنَّفاته كتاب العلل، وهو مؤلِّفُ كِتاب العقود الدريَّة في مناقب شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة، وله كتاب قواعد أصول الفقه، وفضائل الشام، والأحكام في الفقه، وغيرها كثير, وكان قد مَرِضَ قريبًا من ثلاثة أشهر بقُرحة وحُمَّى سُل، ثم تفاقم أمرُه وأفرط به إسهالٌ، وتزايد ضَعفُه إلى أن توفِّيَ يوم الأربعاء عاشرَ جمادى الأولى قبل أذانِ العصر، وكان آخِرَ كلامِه أنْ قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ الله، اللهُمَّ اجعَلْني من التوَّابينَ واجعَلْني من المتطَهِّرينَ، فصُلِّيَ عليه يومَ الخميس بالجامِعِ المظفري وحضر جنازتَه قُضاةُ البلد وأعيانُ الناس من العلماء والأمراء والتجَّار والعامة، وكانت جنازتُه حافلةً، ودُفِن بالروضة.
غزا يمينُ الدَّولةِ مَحمودُ بنُ سبكتكين بهاطيةَ مِن أعمالِ الهِندِ، وهي وراءَ الملتان، وصاحِبُها يُعرَفُ ببحيرا، وهي مدينةٌ حَصينةٌ، عاليةُ السُّورِ، يُحيطُ بها خَندقٌ عَميقٌ، فامتنَعَ صاحِبُها بها، ثمَّ خرج هو وجُندُه إلى ظاهرِ المدينةِ، فقاتلوا المُسلِمينَ ثلاثةَ أيَّامٍ، ثمَّ انهزموا في الرَّابِعِ، وطَلَبوا المدينةَ ليَدخُلوها، فسَبَقَهم المُسلِمونَ إلى بابِ المدينةِ فمَلَكوه عليهم، وأخذَتْهم السُّيوفُ مِن بينِ أيديهم ومِن خَلفِهم، فقُتِلَ المُقاتِلةُ وسُبِيَت الذُّرِّية وأُخِذَت الأموالُ، وأمَّا بحيرا فإنَّه لَمَّا عاين الهلاكَ، أخذ جماعةً مِن ثقاتِه وسار إلى رؤوسِ تلك الجبالِ، فسَيَّرَ إليه يمينُ الدولة سَرِيَّةً، فلم يشعُرْ بهم بحيرا إلَّا وقد أ حاطوا به، وحَكموا السُّيوفَ في أصحابِه، فلمَّا أيقَنَ بالعَطبِ أخَذَ خِنجرًا معه فقتَلَ به نفسَه، وأقام يمينُ الدَّولةِ ببهاطية حتى أصلَحَ أمْرَها، ورَتَّبَ قواعِدَها، وعاد عنها إلى غزنةَ. واستخلَفَ بها من يُعلِّمُ من أسلَمَ مِن أهْلِها وما يجِبُ عليهم تعَلُّمُه، ولَقِيَ يمينُ الدولة في عَودِه شِدَّةً شديدةً من الأمطارِ، وزيادة الأنهارِ، فغَرِقَ منها مِن عَسكَرِه عدَدٌ كبيرٌ.
هو المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة ظالم، أبو سَعيد الأَزْدِيُّ، الأميرُ البَطَل، قائدُ الكَتائِب أحدُ أَشْرافِ أهلِ البَصْرَةِ، ووُجَهائِهِم ودُهاتِهِم وأَجْوادِهِم وكُرَمائِهِم، وُلِدَ عامَ الفَتْح، نَزَل المُهَلَّبُ البَصْرَة وغَزا في أيَّام مُعاوِيَة أرضَ الهِنْد سنةَ أربع وأربعين، ووَلِيَ الجزيرةَ لابنِ الزُّبير سنةَ ثمانٍ وسِتِّين، ثمَّ وَلِيَ حَربَ الخَوارِج أوَّلَ دَولةِ الحَجَّاج، وقَتَل منهم في وَقعةٍ واحدة أربعةَ آلاف وثمانمائة، فعَظُمَت مَنزِلتُه عندَ الحَجَّاج, وكان فاضلًا شُجاعًا كريمًا، وله كلامٌ حسن، منه: نِعْمَ الخَصْلَة السَّخاء، تَسْتُر عَورةَ الشَّريف، وتَلْحَق خَسِيسَة الوَضِيع، وتُحَبِّب المَزْهُود فيه. وقال: يُعْجِبُني في الرَّجُل خَصْلَتان: أن أرى عَقْلَه زائِدًا على لِسانِه، ولا أرى لِسانَه زائدًا على عَقْلِه. تُوفِّي المُهَلَّبُ غازيًا بِمَرْو الرُّوذ، وعُمُرهُ سِتَّة وسبعون سنة رَحِمَه الله، وكان مِن الشُّجْعان، وله مَواقِف حَميدة، وغَزَوات مَشْهورة في التُّرْك والأَزارِقَة وغَيرهِم مِن أنواعِ الخَوارِج، وجَعَل الأمرَ مِن بَعدِه لِوَلَدِه يَزيدَ بن المُهَلَّب على إِمْرَةِ خُراسان، فأَمْضَى له ذلك الحَجَّاجُ وعبدُ الملك بن مَرْوان.
هو يَمينُ الدَّولةِ، فاتِحُ الهِندِ: أبو القاسِمِ، المَلِكُ السُّلطانُ مَحمودُ بنُ سَيِّد الأمراءِ ناصِر الدَّولةِ سبكتكين، التُّركيُّ، صاحِبُ خُراسان والهِند. وُلِدَ في غزنة سنةَ 361. كان- رحمه الله- صادِقَ النِّيَّة في إعلاءِ الدِّينِ، مُظَفَّرًا كثيرَ الغَزوِ، وكان ذكيًّا بعيدَ الغَورِ، صائِبَ الرَّأيِ، وكان مَجلِسُه مَورِدَ العُلَماءِ. كان والِدُه أبو منصورٍ سبكتكين قد تولَّى إمرةَ غزنة بعد وفاةِ واليها ابنِ السكين, فتمكَّنَ فيها وعَظُمَ أمْرُه، ثمَّ أخَذَ يُغيرُ على أطرافِ الهِندِ، وافتتح قِلاعًا، وتَمَّت له ملاحِمُ مع الهنودِ، وافتَتَح ناحيةَ بُست، وكان سبكتكين ناصِرًا للسُّنَّة وقامِعًا للبِدعةِ, ولَمَّا مات سنة 387، تولَّى حُكم غزنةَ ابنُه محمود بعد نزاعٍ مع أخيه إسماعيلَ الذي كان والدُهما عَهِدَ له مِن بعده. حارب محمودٌ النوَّابَ السامانيِّينَ، وخافَتْه الملوكُ. وضَمَّ إقليمَ خُراسان، ونفَّذ إليه الخَليفةُ العباسيُّ القادِرُ بالله خِلَعَ السَّلْطنةِ، ولَقَّبَه يمينَ الدَّولة، وفَرَضَ على نفسِه كُلَّ سَنةٍ غَزوَ الهندِ، فافتتح بلادًا شاسعةً منها، وكسَّرَ أصنامَ الهندِ، وأعظَمُها عند الهُنودِ سومنات. كان السُّلطانُ محمود رَبعةً، فيه سِمَنٌ وشُقرةٌ، ولحيتُه مُستديرةٌ، غَليظَ الصَّوتِ، وفي عارِضَيه شَيبٌ, وكان مُكْرِمًا لأمرائِه وأصحابِه، وإذا نَقِمَ عاجَلَ، وكان لا يَفتُرُ ولا يكادُ يَقِرُّ. كان يعتَقِدُ في الخليفة العباسيِّ القادِرِ بالله، ويخضَعُ لجَلالِه، ويحمِلُ إليه قناطيرَ مِن الذَّهَب، وكان إلبًا على القرامِطةِ والإسماعيليَّةِ، والفلاسِفةِ المتكَلِّمةِ، وكان فيه شِدَّةُ وطأةٍ على الرعيَّة؛ لكِنْ كانوا في أمنٍ وإقامةِ سياسةٍ. من سلاطينِ ومُلوك الإسلامِ الذين كان لهم دَورٌ عَظيمٌ في نَشرِ السُّنَّةِ وقَمعِ البِدعةِ, قال ابنُ كثير: "في سنة 408 استتاب القادِرُ باللهِ الخَليفةُ فُقَهاءَ المُعتَزِلة، فأظهروا الرُّجوعَ وتبَرَّؤوا من الاعتزالِ والرَّفضِ والمقالاتِ المُخالِفةِ للإسلامِ، وأمَرَ عُمَّالَه بالمِثلِ, فامتَثَلَ محمودُ بنُ سبكتكين أمْرَ أميرِ المؤمنين في ذلك, واستَنَّ بسُنَّتِه في أعمالِه التي استخلَفَه عليها من بلادِ خُراسانَ وغَيرِها في قَتلِ المُعتَزِلة والرَّافِضةِ والإسماعيليَّةِ والقَرامطة، والجَهميَّة والمُشَبِّهة، وصَلَبَهم وحَبَسَهم, ونفاهم وأمَرَ بلَعنِهم على المنابِرِ, وأبعَدَ جَميعَ طوائفِ أهلِ البِدَعِ، ونفاهم عن ديارِهم، وصار ذلك سُنَّةً في الإسلامِ" قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة: "لَمَّا كانت مملكةُ مَحمودِ بنِ سبكتكين من أحسَنِ ممالِكِ بني جِنسِه، كان الإسلامُ والسُّنَّة في مملكَتِه أعَزَّ؛ فإنَّه غزا المُشرِكينَ مِن أهلِ الِهندِ، ونشَرَ مِن العدلِ ما لم ينشُرْه مِثلُه، فكانت السُّنَّةُ في أيامِه ظاهِرةً، والبِدَعُ في أيَّامِه مَقموعةً". قال ابنُ كثير: "كان يمينُ الدَّولة يخطُبُ في سائِرِ ممالِكِه للخليفةِ القادر بالله، وكانت رسُلُ الفاطميِّينَ مِن مصر تَفِدُ إليه بالكُتُبِ والهدايا لأجلِ أن يكونَ مِن جِهَتِهم، فيحرِقُ بهم ويحرِقُ كتُبَهم وهداياهم، وفتَحَ في بلاد الكُفَّارِ مِن الهند فتوحاتٍ هائلةً، لم يتَّفِقْ لغَيرِه من الملوكِ، لا قَبلَه ولا بعده، وغَنِمَ منهم مغانمَ كثيرةً لا تَنحَصِرُ ولا تنضَبِطُ، مِن الذَّهَب والمجوهرات، والسَّبْي، وكسَرَ مِن أصنامِهم شيئًا كثيرًا، وأخذ مِن حِليَتِها, ومِن جملةِ ما بلغ تَحصيلُه مِن سومنات أعظَمِ أصنامِهم مِن حُلِيِّ الذَّهَبِ عشرون ألف ألف دينار، وكَسَرَ مَلِكَ الهِندِ الأكبَر الذي يُقالُ له صينال، وقهَرَ مَلِكَ التُّركِ الأعظَم الذي يقال له إيلك الخان، وأباد مُلْكَ السَّامانيَّة، الذين ملكوا العالَمَ في بلاد سمرقند وما حولها، وبنى على جيحون جسرًا عظيمًا أنفَقَ عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيءٌ لم يتَّفِقْ لغيره، وكان في جيشِه أربعُمِئَة فيلٍ تُقاتِلُ معه، وهذا شيءٌ عظيمٌ وهائِلٌ، وكان مع هذا في غايةِ الدِّيانةِ والصِّيانةِ وكراهةِ المعاصي وأهلِها، لا يحِبُّ منها شيئًا، ولا يألَفُه، ولا أن يَسمَعَ بها، ولا يَجسرُ أحَدٌ أن يُظهِرَ مَعصيةً ولا خَمرًا في مملَكتِه، ولا غير ذلك، ولا يُحِبُّ الملاهيَ ولا أهلَها، وكان يحِبُّ العُلَماءَ والمُحَدِّثين ويُكرِمُهم ويُجالِسُهم، ويحِبُّ أهلَ الخيرِ والدِّينِ والصَّلاح، ويُحسِنُ إليهم، وكان حنفيًّا ثمَّ صار شافعيًّا على يدي أبي بكرٍ القَفَّال الصغيرِ على ما ذكره إمامُ الحَرَمينِ وغَيرُه". ثمَّ إنَّه مَلَك سجستان سنة 393، بدخُولِ قُوَّادها وولاةِ أمورِها في طاعتِه مِن غَيرِ قِتالٍ, ولم يَزَلْ يفتَحُ بلادَ الهِندِ إلى أن انتهى إلى حيثُ لم تَبلُغْه في الإسلامِ رايةٌ، ولم تُتْلَ به سورةٌ قَطُّ ولا آية، فدحَضَ عنها أدناسَ الشِّركِ، وبنى بها مساجِدَ وجوامِعَ. توفِّيَ يمينُ الدَّولةِ أبو القاسِمِ محمودُ بنُ سبكتكين في ربيعٍ الآخِرِ، وقيل: في أحدَ عَشَر صَفَر، وكان مرضُه سوءَ مزاجٍ وإسهالًا، وبقي كذلك نحو سنتينِ، فلم يزَلْ كذلك حتى توفِّيَ قاعِدًا، فلمَّا حَضَره الموتُ أوصى بالمُلْك لابنِه مُحمَّد، وهو ببَلْخ، وكان أصغَرَ مِن مَسعود، إلَّا أنَّه كان مُعرِضًا عن مسعود؛ لأنَّ أمْرَه لم يكن عنده نافِذًا، وسعى بينهما أصحابُ الأغراضِ، فزادوا أباه نُفورًا عنه، فلَمَّا وصَّى بالمُلْكِ لولَدِه مُحَمَّد توفِّيَ، خُطِبَ لمحَمَّد من أقاصي الهندِ إلى نَيسابور، وكان لَقَبُه جلالَ الدَّولةِ، وأرسَلَ إليه أعيانُ دَولةِ أبيه يُخبِرونَه بموت أبيه ووصِيَّتِه له بالمُلك، ويَستَدعونَه، ويَحُثُّونَه على السُّرعةِ، ويُخَوِّفونَه مِن أخيه مسعود، فحين بلَغَه الخبَرُ سار إلى غزنة، فوصلها بعد موتِ أبيه بأربعينَ يومًا، فاجتَمَعَت العساكِرُ على طاعتِه، وفَرَّقَ فيهم الأموالَ والخِلَعَ النَّفيسةَ، فأسرف في ذلك. لكِنَّ أخاه مسعودًا نازَعَه الحُكمَ فانتزَعَه منه.
هو أميرُ المؤمنينَ أبو العَبَّاس أحمدُ بنُ طلحة الموفَّق بالله بن المتوكل على الله جَعْفَر بن المُعْتَصم بن الرشيد الهاشمي العباسي. ولد في ذي القَعدة سنة 242 في دولةِ جَدِّه، استخلف بعد عَمِّه المعتَمِد في رجبٍ سنة تسع وسبعين. وكان ملكًا شجاعًا مهيبًا، أسمرَ نحيفًا، معتدِلَ الخَلقِ، ظاهِرَ الجبروت، وافِرَ العقل، شديدَ الوطأة، من أفراد خلفاءِ بني العَبَّاس. وكان ذا سياسةٍ عظيمة. وكان المُعْتَضِدُ يبخل ويجمَعُ المال، وقد وليَ حَربَ الزِّنجِ وظَفِرَ بهم، وفي أيَّامِه سكنت الفتَنُ لفَرطِ هيبتِه. وكان غلامُه بدرٌ على شرطتِه، وعبيد الله بن سُلَيْمَان على وزارته، ومحمَّد بن سِياه على حرسه، وكانت أيامُه أيامًا طيبة كثيرةَ الأمن والرخاء. وكان قد أسقط المُكوسَ، ونشَرَ العدل، ورفع الظُّلمَ عن الرعية. وكان يُسمَّى السفاحَ الثانيَ؛ لأنَّه جدَّد مُلكَ بني العباس، وكان مُلْكُهم قد خلقَ وضعُف وكاد يزولُ. أصيب المعتَضِد في آخر أيامه بمرضٍ واشتدَّ به المرض حتى توفِّيَ، فتولى غَسلَه محمَّدُ بن يوسف، وصلَّى عليه الوزيرُ عبيد الله بن سُلَيمان، ودُفِنَ ليلًا في دار محمَّد بن طاهر، وجلس الوزيرُ في دار الخلافة للعزاء، وجدَّد البيعة للمُكتفي, وكانت مُدَّةُ خلافة المعتَضِد سبعَ سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يومًا. لَمَّا توفِّيَ المعتَضِد كتب الوزيرُ إلى أبي محمد علي بن المُعتَضِد، وهو المكتفي باللهِ، يعَرِّفُه بذلك وبأخذِ البيعة له، وكان بالرقَّة، فلما وصله الخبَرُ أخذ البيعةَ على مَن عِندَه من الأجناد، ووضع لهم العطاءَ وسار إلى بغداد، ووجَّه إلى النواحي من ديارِ ربيعةَ ومُضَرَ ونواحي العرَبِ مَن يحفظُها ودخل بغدادَ لثمانٍ خَلَونَ مِن جمادى الأولى.
تجهَّزَ المهدي لغزو الروم، فخرج وعسكرَ بالبردان، وجمع الأجناد من خراسان وغيرها، وسار عنها، وكان قد توفِّي عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس في جمادى الآخرة، وسار المهدي من الغد، واستخلفَ على بغداد ابنَه موسى الهادي، واستصحَبَ معه ابنه هارون الرشيد، وسار على الموصِل والجزيرة، وعزل عنها عبد الصمد بن علي في مسيرِه ذلك، ولما حاذى قصرَ مسلمة بن عبد الملك، قال العباس بن محمد بن علي للمهدي: إنَّ لِمَسلمةَ بن عبد الملك في أعناقنا مِنَّة، كان محمد بن علي مَرَّ به، فأعطاه أربعةَ آلاف دينار، وقال له: إذا نَفِدَت فلا تحتَشِمْنا, فأحضر المهديُّ ولدَ مَسْلمة ومواليَه، وأمرَ لهم بعشرين ألفَ دينار، وأجرى عليهم الأرزاقَ، وعبَرَ الفُرات إلى حلب، وأرسل وهو بحلب فجَمَع مَن بتلك الناحية من الزَّنادقة، فجُمِعوا فقَتَلهم، وقطَّعَ كُتُبَهم بالسَّكاكين، وسار عنها مشيِّعًا لابنه هارون الرشيد، حتى جاز الدربَ وبلغ جيحان، فسار هارون، ومعه عيسى بن موسى، وعبد الملك بن صالح، والربيع، والحسن بن قحطبة، والحسن وسليمان ابنا برمك، ويحيى بن خالد بن برمك، وكان إليه أمرُ العَسكر، والنَّفَقات، والكتابة وغير ذلك، فساروا فنزلوا على حصنِ سمالوا، فحصره هارونُ ثمانية وثلاثين يومًا، ونصَبَ عليه المجانيقَ، ففتحه الله عليهم بالأمانِ، ووفى لهم، وفتحوا فتوحًا كثيرةً.
هو الإمامُ العلَّامةُ الأميرُ السيد الشريف المحقِّقُ محيي السنة وقامِعُ البدعة: أبو الطيب محمد صديق بن حسن بن علي بن لطف الله القنوجي البخاري، نزيل بهوبال، ويرجع نَسَبُه إلى زين العابدين بن علي بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب. ولِدَ في بلدة "بريلي" موطِنِ جَدِّه من جهةِ الأمِّ، عام 1248هـ ولما بلغ السادسةَ مِن عمره توفِّيَ والدُه، فرحل مع أمِّه إلى قِنَّوج موطِنِ آبائهِ بالهندِ، فنشأ فيها في حجرِ أمِّه يتيمًا فقيرًا على العَفافِ والطهارة، وتلقَّى الدروس في علومٍ شتى على صفوةٍ مِن علماءِ قِنَّوج ونواحيها وغيرهم. درسَ صِدِّيق على شيوخٍ كثيرين من مشايخِ الهند واليمن، واستفاد منهم في علومِ القرآن والحديثِ وغيرهما، ولقد أجازه شيوخٌ كثيرون ذكَرَهم في ثَبتِه "سلسة العَسْجَد في مشايخ السند". وله تلاميذ كثيرون درَسوا عليه واستجازوه، وبعد عودتِه مِن الحجازِ إلى الهند انتقل العلامةُ صِدِّيق حسن خان من (قنوج) إلى مدينة (بهوبال) في ولاية (مادهيا براديش) في وسط الهند، وقد ذاع صيتُه في تلك الأيام، كإمام في العلومِ الإسلامية، ومؤلِّفٍ بارع في العلوم العقليَّةِ والنَّقلية، وكاتبٍ قديرٍ في اللغات العربية والفارسية والأوردية، ومجتهدٍ متواصلٍ في الدرس والتأليف والتدوين، ولم يلبَثْ أن تزوَّجَ بأميرة بهوبال (شاهجان بيجوم) التي كانت تحكُمُها حينذاك، تزوَّجَت به لَمَّا عَلِمَت من شَرَفِ نَسَبِه وغزارة عِلمِه واستقامة سيرتِه، سنة 1287هـ، وجعلَتْه مُعتَمِدَ المهامِّ، ومنحته أقطاعًا من الأرضِ الخراجيَّة تغلُّ له خمسين ألف ربيَّة في كلِّ سنة، وخلعت عليه ولقَّبَتْه الدولةُ البريطانيةُ الحاكِمةُ بالهند نواب أمير الملك سيد محمد صديق حسن خان بهادر، ومنحته حَقَّ التعظيم في أرض الهند بطولِها وعرضِها بإطلاقِ المدافِعِ سَبعَ عشرة طلقةً، وخلَعَت عليه بالخِلَعِ الفاخرةِ، ومنَحَه السلطانُ عبد الحميد خان الوسامِ المجيدي من الدرجةِ الثانية. عَمِلَ صديق خان وزيرًا لزوجته الأميرة (شاهجان بيجوم) ونائبًا عنها. كان زواجُ العلَّامة صديق حسن خان بالأميرة شاهجان وتلقُّبه بأمير بهوبال نقطةَ تحوُّلٍ لا في حياتِه العلميَّةِ فقط، بل في النشاطِ العلميِّ والعهد التأليفي في الهند كلِّها، فكان له موهبةٌ فائقةٌ في الكتابة وفي التأليف، حتى قيل إنَّه كان يكتُبُ عَشَرات الصفحاتِ في يوم واحد، ويكمِلُ كتابًا ضخمًا في أيام قليلة، ومنها كتب نادرةٌ على منهج جديد، وعندما ساعدته الظروفُ المَنصبيَّةُ والاقتصادية على بذل المالِ الكثيرِ في طَبعِها وتوزيعِها، تكَلَّلت مساعيه العلمية بنجاحٍ منقطعِ النظير. من مؤلَّفاتِه: فتح البيان في مقاصد القرآن، ونيل المرام من تفسير آيات الأحكام، والدين الخالص (جمع فيه آيات التوحيد الواردة في القرآن، ولم يغادر آيةً منها إلا أتى عليها بالبيان الوافي)، وعون الباري بحَلِّ أدلة البخاري (شرح كتاب التجريد)، والسراج الوهاج في كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجَّاج، والحِرز المكنون من لفظ المعصوم المأمون (في الحديث)، والرحمة المهداة إلى من يريد زيادةَ العلمِ على أحاديثِ المِشكاة، والجنة في الأسوة الحسنة بالسنَّة،(في اتباع السنة)، الحِطَّة في ذكر الصحاح الستة، والروضة الندية شرح الدرر البهية للقاضي محمد اليمني الشوكاني، وفتح العلام شرح بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني، وحصول المأمول من علم الأصول (تلخيص إرشاد الفحول للشوكاني) (في أصول الفقه)، وقطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، وغيرها كثير، قال عبد الحي الطالبي: "له مصنَّفاتٌ كثيرةٌ ومؤلَّفاتٌ شهيرة في التفسير والحديث، والفقه والأصول، والتاريخ والأدب، قلَّما يتَّفِقُ مثلُها لأحدٍ من العلماء، وكان سريعَ الكتابةِ حُلوَ الخَطِّ، يكتب كراستين في مجلسٍ واحدٍ بخَطٍّ خفيٍّ في ورقٍ عالٍ، ولكنه لا تخلو تأليفاتُه عن أشياءَ، إما تلخيص أو تجريد، أو نقل من لسانٍ إلى لسان آخر، وكان كثيرَ النقل عن القاضي الشوكاني، وابن القيم، وشيخه ابن تيمية الحراني، وأمثالهم، شديدَ التمَسُّك بمختاراتهم، وقد اعتراه مرَضُ الاستسقاء، واشتدَّ به المرضُ وأعياه العلاجُ واعتراه الذهولُ والإغماء، وكانت أناملُه تتحَرَّك كأنَّه مشغول بالكتابة، فلما كان نصفُ الليل فاضت على لسانِه كلمةُ أحِبُّ لقاءَ اللهِ، قالها مرة أو مرتين، وطلب الماءَ واحتُضِرَ، وفاضت نفسه، وكان ذلك في ليلة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1307هـ، وله من العُمرِ تِسعٌ وخمسون سنة وثلاثة أشهر وستة أيام، وشُيِّعَت جنازته في جمعٍ حاشدٍ، وصلِّيَ عليه ثلاث مرات، و كان قد أوصى بأن يُدفَنَ على طريقةِ السُّنَّة، فنُفِّذَت وصيَّتُه.
كان انتِصارُ المسلمين في القادِسيَّة دافعًا لهم للاستمرار في زَحْفِهم نحو المدائنِ عاصِمَةِ الفُرْسِ، وسار سعدٌ بجُنودِه حتَّى وصَل إلى بَهُرَسِيرَ "المدائن الغَربيَّة" وكانت إحدى حواضِر فارِسَ، فنزَل سعدٌ قريبًا منها، وأرسَل مجموعةً مِن جُنودِه لاستِطلاعِ المَوقِف، وعاد الجُنودُ وهُم يَسوقون أَمامَهم آلافَ الفَلَّاحين، مِن أهلِ تلك المدينةِ. وحينما عَلِمَ شيرزارُ دَهْقانُ -أمير- ساباط بالأَمْرِ أرسَل إلى سعدِ يَطلُب منه إطلاقَ سَراحِ هؤلاء الفَلَّاحين، ويُخبِره أنَّهم ليسوا مُقاتِلين، وإنَّما هُم مُجرَّد مُزارِعين أُجَراء، وأنَّهم لم يُقاتلوا جُنودَه؛ فكتب سعدٌ إلى عُمَر يَعرِض عليه المَوقِف ويَسألُه المَشورةَ: إِنَّا وَرَدْنا بَهُرَسِيرَ بعدَ الذي لَقِينا فيما بين القادِسيَّة وبَهُرَسِيرَ، فلم يأتِ أحدٌ لِقِتالٍ، فبَثَثْتُ الخُيولَ، فجمعتُ الفَلَّاحين مِن القُرى والآجامِ. فأجابه عُمَر: إنَّ مَن أتاكُم مِن الفَلَّاحين إذا كانوا مُقيمين لم يُعينوا عليكم فهو أَمانُهم، ومَن هرَب فأَدركْتُموهُ فشَأنُكم به. فلمَّا جاءهُ خِطابُ عُمَر خَلَّى سعدٌ سَبيلَهُم. وأرسَل سعدٌ إلى الدَّهاقين - رُؤساء المُدُن والأقاليم- يَدعوهُم إلى الإسلامِ، على أن يكونَ لهم ما هُم عليه مِن الإمارةِ والحُكْمِ، أو الجِزْيَة ولهم الذِّمَّةُ والمَنَعَةُ، فدخَل كثيرٌ منهم الإسلامَ لِما وَجدوه مِن سَماحةِ المسلمين وعَدْلِهم مع ما هُم عليه مِن بأسٍ وقُوَّةٍ، ولكنَّ بَهُرَسِيرَ امتنَعَت عنه، وظَنَّ أهلُها أنَّ حُصونَها تَحولُ دون فَتحِ المسلمين لها، فحاصَرها سعدٌ بِجُنودِه طُوالَ شَهرينِ يَرمونَها بالمجانيق، ويَدُكُّونها بالدَّباباتِ التي صنعوها مِن الجُلودِ والأخشابِ، ولكنَّ المدينةَ كانت مُحَصَّنةً فنصَب سعدٌ حولَها عِشرين مَنْجَنيقًا في أماكنَ مُتفرِّقةٍ لِيَشْغَلَهُم ويُصرِفَهم عن مُلاحظَةِ تَقَدُّمِ فِرْسانِه نحو المدينةِ لاقتِحامِها، وأَحَسَّ الفُرْسُ بمُحاولَةِ المسلمين اقْتِحامَ المدينة؛ فخرَج إليهم عددٌ كبيرٌ مِن الجُنودِ الفُرْس لِيُقاتِلوهم ويمنعوهم مِن دُخولِ المدينةِ، وضرَب المسلمون أَرْوَعَ الأمثلةِ في البُطولةِ والفِداءِ، وقُوَّةِ التَّحَمُّلِ والحِرصِ على الشَّهادةِ، وكان القائدُ زُهْرَةُ بن الجويّة واحدًا مِن أولئك الأبطالِ الشُّجْعانِ، استطاع أن يَصِلَ إلى قائدِ الفُرْسِ شهْربَرَاز، فضرَبه بِسَيفِه فقتَله، وما إن رأى جُنودُ الفُرْسِ قائِدَهم يَسقُط على الأرضِ مُضْرَجًا في دِمائِه حتَّى تَمَلَّكَهُم الهَلَعُ والذُّعْرُ، وتَفرَّق جمعُهم، وتتَشتَّت فِرْسانُهم، وظَلَّ المسلمون يُحاصِرون بَهُرَسِيرَ بعدَ أن فَرَّ الجُنودُ والْتَحَقوا بالفَيافِي والجِبالِ، واشْتَدَّ حِصارُ المسلمين على المدينةِ؛ حتَّى اضْطَرَّ أهلُها إلى أكلِ الكِلابِ والقِطَطِ، فأرسَل مَلِكُهم إلى المسلمين يَعرِض الصُّلْحَ على أن يكونَ للمسلمين ما فَتحوهُ إلى دِجْلَة، ولكنَّ المسلمين رَفَضوا وظَلُّوا يُحاصِرون المدينةَ، ويَضرِبونَها بالمجانيق، واسْتَمرَّ الحالُ على ذلك فَترةً مِن الوقتِ، وبَدَتْ المدينةُ هادِئةً يُخَيِّمُ عليها الصَّمتُ والسُّكونُ، وكأنَّهُ لا أثَرَ للحياةِ فيها، فحمَل المسلمون عليها ليلًا، وتَسَلَّقوا أَسوارَها وفَتحوها، ولكنَّ أحدًا لم يَعتَرِضْهُم مِن الجُنودِ، ودخَل المسلمون بَهُرَسِيرَ "المدائن الغَربيَّة" فاتحين بعد أن حاصروها زمنًا طويلًا.
لمَّا جمَع الله لمُعاويةَ بن أبي سُفيانَ الشَّامَ كلَّها فصار أميرَ الشَّامِ كان يَغزو الرُّومَ كلَّ عامٍ في الصَّيْفِ -وتُسَمَّى الصَّائِفَةَ- فيَفتَح الله على يَديهِ البِلادَ ويَغنَم الكثيرَ حتَّى وصَل عَمُّورِيَة -وهي اليوم في أنقرة- وكان معه مِن الصَّحابةِ عُبادةُ بن الصَّامِتِ، وأبو أيُّوبَ الأنصاريُّ، وأبو ذَرٍّ الغِفاريُّ، وشَدَّادُ بن أَوْسٍ، وغيرُهم وقد فتَح الله لهم مِن البِلادِ الكثيرَ, ثمَّ غَزا مُعاويةُ الرُّومَ حتَّى بلَغ المَضِيقَ مَضِيقَ القُسطنطينيَّة ومعه زوجتُه عاتِكةُ، ويُقالُ: فاطمةُ بنتُ قَرَظَةَ بن عبدِ عَمرِو بن نَوفلِ بن عبدِ مَنافٍ.
حضر جماعةٌ من المغول وافدينَ إلى بلاد الإسلام بعد إسلامِهم، نحو مائتي فارس بنسائِهم وأولادهم، وفيهم عِدَّةٌ من أقارب غازان وبعض أولاد سنقر الأشقر، الذي كتب يحُثُّ على إكرامهم، فقَدِموا إلى القاهرة في جمادى الأولى وقَدِمَ معهم أخوا سلار، وهما فخر الدين داود، وسيف الدين جبا، وقَدِمَت أيضًا أم سلار، فرُتِّبَت لهم الرواتب، وأُعطوا الإقطاعات، وفُرِّق جماعةٌ منهم على الأمراء، وأنشأ سلار لأمِّه دارًا بإسطبل الجوق الذي عَمِلَه العادل كتبغا ميدانًا، ثم عرف بحكر الخازن، ورقَّى أخويه وأعطاهما الإمريات، وقدم الأمير حسام الدين أزدمر المجيري، وعماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن معرف بن السكري، من بلاد الشرق إلى دمشقَ في الرابع عشر من شعبان، ودخلا القاهرةَ أول رمضان، ومعهما كتابُ خربندا وهديته، فتضَمَّن كتابُه جلوسَه على تخت الملك بعد أخيه محمود غازان، وخاطب السلطانَ بالأخوة، وسأل إخماد الفتن، وطلب الصلحَ، وقال في آخر كلامه: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، فأُجيبَ وجُهِّزَت له الهَديَّةُ، وأُكرِمَ رَسولُه.
كان سببُها أنَّ المشركين نقَضوا العهدَ الذي بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأَغاروا على إحدى القَبائلِ المُحالفةِ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهي قَبيلةُ خُزاعةَ، ولمَّا عَلِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالأَمرِ أَمَرَ النَّاسَ بالتَّجَهُّزِ دون أن يُخبِرَهُم بوِجْهَتِه، ثمَّ مضى حتَّى نزَل بمَرِّ الظَّهرانِ وهو وادٍ قَريبٌ مِن مكَّةَ. فعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خرَج في رَمضانَ مِنَ المدينةِ ومعه عشرةُ آلافٍ، وذلك على رأسِ ثمانِ سِنين ونِصفٍ مِن مَقْدَمِه المدينةَ، فسار هو ومَن معه مِنَ المسلمين إلى مكَّةَ، يَصومُ ويَصومون، حتَّى بلَغ الكَدِيدَ، وهو ماءٌ بين عُسْفانَ، وقُدَيْدٍ أَفطَر وأَفطَروا. وكان أبو سُفيانَ قد رَأى جيشَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ دُخولِه مكَّةَ، فهالَهُ ما رَأى، ثمَّ أَسلَم في أثناءِ ذلك، ثمَّ جاء إلى قومِه وصرَخ فيهم مُحذِّرًا لهم بأن لا قِبَلَ لهم بِجيشِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وقال لهم ما قاله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: مَن دخَل دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِن، ومَن أَغلَق عليه دارَهُ فهو آمِن، ومَن دخَل المسجِدَ فهو آمِن. فتَفرَّقَ النَّاسُ إلى دورِهِم وإلى المسجِدِ.
وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دخَل عامَ الفتحِ مِن كَداءٍ التي بأعلى مكَّةَ. وقد أَهدَر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دَمَ بعضِ المشركين يومَ الفتحِ، ووجَد عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حولَ البيتِ ثلاثمائةٍ وسِتِّين نُصُبًا، فجعل يَطعنُها بِعودٍ في يَدِه ويقولُ: (جاء الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ، جاء الحقُّ، وما يُبْدِئُ الباطلُ وما يُعيدُ). وقد تَفاوَتت الرِّواياتُ في مُدَّةِ إقامتِه صلى الله عليه وسلم عامَ الفتحِ، و الأرجحُ -والله أعلم- أنَّها كانت تِسعةَ عشرَ يومًا.
وصل رسولانِ مِن مَلِك الروم إلى المقتَدِر يطلبانِ المُهادنة والفِداء، فأُكرِما إكرامًا كثيرًا، وأُدخِلا على الوزيرِ، وهو في أكمل أُبَّهةٍ، وقد صفَّ الأجنادَ بالسِّلاحِ والزينة التامَّة، وأدَّيا الرسالةَ إليه، ثمَّ إنَّهما دخلا على المقتَدِر، وقد جلس لهما، واصطفَّ الأجنادُ بالسلاح والزينة التامَّة، وأدَّيا الرسالة، فأجابهما المقتَدِر إلى ما طَلَب مَلِكُ الروم من الفداء، وسيَّرَ مُؤنِسًا الخادِمَ؛ ليُحضِرَ الفداء، وجعله أميرًا على كلِّ بلَدٍ يدخُلُه يتصرَّفُ فيه على ما يريدُ إلى أن يخرُجَ عنه، وسيَّرَ معه جمعًا من الجنود، وأطلق لهم أرزاقًا واسعةً، وأنفذ معه مائة ألف وعشرينَ ألف دينار لفداء أسرى المسلمينَ، وسار مؤنِسٌ والرسل، وكان الفداءُ على يدِ مُؤنِسٍ.