فسَدَ أمرُ أنوشتكين الدزبري، نائبِ المستنصِرِ بالله الفاطميِّ، صاحِبِ مصر، بالشَّام، وكان الوزيرُ أبو القاسم الجرجرائي يقصِدُه ويَحسدُه، إلَّا أنَّه لا يجِدُ طريقًا إلى الوقيعةِ فيه، وأحسَّ الدزبري بما يجري، فأظهر ما في نفسِه، وأحضر نائبَ الجرجرائي عنده، وأمر بإهانتِه وضَرْبِه، ثمَّ إنه أطلق لطائفةٍ مِن العسكَرِ يَلزَمونَ خِدمَتَه أرزاقَهم، ومنع الباقينَ، فحَرَّك ما في نُفوسِهم، وقوِيَ طَمَعُهم فيه، بما كوتبوا به من مِصرَ، فأظهروا الشَّغبَ عليه، وقصَدوا قصْرَه، وهو بظاهِرِ البلد، وتَبِعَهم من العامَّة من يريد النَّهبَ، فاقتتلوا، فعَلِمَ الدزبري ضَعْفَه وعَجْزَه عنهم، ففارق مكانَه، وسار إلى بعلبك، فمنعه مستحفِظُها، وأخذ ما أمكَنَه أخذُه مِن مال الدزبري، وتَبِعَه طائفةٌ من الجند يَقفُونَ أثره، وينهبون ما يَقدِرونَ عليه، وسار الدزبري إلى مدينةِ حماة، فمُنِعَ عنها، وقُوتِلَ، وكاتب المقَلَّد الكناني الكفرطابي، واستدعاه، فأجابه وحضر عنده في نحو ألفَي رجلٍ مِن كفرطاب وغيرها، فاحتمى به، وسار إلى حلب، ودخلها، وأقام بها مُدَّةً، وتوفي في منتصَفِ جمادى الأولى من هذه السنة، فلما توفِّيَ فسدَ أمر بلاد الشام، وزال النِّظامُ، وطَمِعَت العرب، وخرجوا في نواحيه، فخرج حَسَّان بن المفرج الطائي بفلسطين، وخرج مُعِزُّ الدَّولة بن صالح الكلابي بحَلَب، وقصَدَها وحصرها، ومَلَك المدينةَ، وامتنع أصحابُ الدزبري بالقلعة، وكتبوا إلى مصرَ يَطلُبونَ النجدة، فلم يفعلوا، واشتغَلَ عَساكِرُ دمشق ومُقَدَّمُهم الحسين بن أحمد الذي ولي أمرَ دمشق، بعد الدزبري، بحَربِ حسَّان، ووقع الموت في الذين في القَلعةِ، فسَلَّموها إلى مُعِزِّ الدَّولة بالأمانِ.
لما وصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة، ونزل بباب الشماسية، ودخل بعضُ عسكره إلى بغداد، ونزلوا في دُورِ الناس، شكا الناسُ ذلك إلى السلطان، فأمر بإخراجِهم، وبَقِيَ فيها مَن له دار، وبقي السلطانُ يراسل الخليفة بالعود، ويطلب الصلحَ، وهو يمتنِعُ، وكان يجري بين العسكرين مناوشة، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطانَ أفحش سَبٍّ. ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة، ونهبوا التاج، وحُجَر الخليفة، أول المحرم، وضجَّ أهل بغداد من ذلك، فاجتمعوا ونادوا الغزاة، فأقبلوا من كلِّ ناحية، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه، والوزير بين يديه، وأمر بضربِ الكوسات والبوقات، ونادى بأعلى صوته: يا آلَ هاشم! وأمر بتقديم السفن، ونَصْب الجسر وعبرَ الناسُ دفعةً واحدة، وكان له في الدار ألفُ رجل مختفين في السراديب، فظهروا، وعسكرُ السلطانِ مُشتَغِلون بالنهب، فأسر منهم جماعة من الأمراء، ثم عبر الخليفةُ إلى الجانب الشرقي، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد، وأمر بحفر الخنادق، فحُفِرت بالليل، وحفظوا بغداد من عسكر السلطان، ووقع الغلاءُ عند العسكر، واشتدَّ الأمر عليهم، وكان القتالُ كلَّ يوم عليهم عند أبواب البلدِ وعلى شاطئ دجلة، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبِسوا عسكر السلطان، فغدر بهم الأميرُ أبو الهيجاء الكردي، صاحب إربل، وخرج كأنَّه يريد القتال، فالتحق هو وعسكرُه بالسلطان. وقَدِمَ عماد الدين زنكي بقواتٍ ضخمة نجدةً للسلطان فأجاب المسترشد بالله للصُّلحِ.
كان شهابُ الدين الغوري، ملك غزنة، قد جهَّز مملوكَه قطب الدين أيبك، وسيَّرَه إلى بلد الهند للغزو، فدخلها فقَتَل فيها وسبى وغَنِم وعاد، فلما سَمِعَ به ملك بنارس، وهو أكبَرُ ملك في الهند، ولايتُه من حد الصين إلى بلاد ملاوا طولًا، ومن البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عرضًا، وهو مَلِكٌ عظيم، فعندها جمع جيوشَه وحشرها، وسار يطلُبُ بلاد الإسلام، ودخلت سنة تسعين فسار شهاب الدين الغوري من غزنة بعساكِرِه نحوه، فالتقى العسكرانِ على ماجون، وهو نهرٌ كبير يقارب دجلة بالموصل، وكان مع الهندي سبعمائة فيل، ومن العسكر على ما قيل ألف ألف رجلٍ، ومن جملةِ عسكره عدة أمراء مسلمين، كانوا في تلك البلادِ أبًا عن جَدٍّ، من أيام السلطان محمود بن سبكتكين، يلازمون شريعة الإسلام، ويواظِبونَ على الصلوات وأفعال الخير، فلما التقى المسلمونَ والهنود اقتتلوا، فصبر الكُفَّارُ لكثرتهم، وصبر المسلمون لشجاعتهم، فانهزم الكُفَّار، ونُصِرَ المسلمون، وكَثُرَ القتل في الهنود، حتى امتلأت الأرضُ وجافت، وكانوا لا يأخذون إلَّا الصبيانَ والجواري، وأمَّا الرجال فيُقتَلون، وأخَذ منهم تسعين فيلًا، وباقي الفيلةِ قُتِلَ بَعضُها، وانهزم بعضها، وقُتِلَ ملك الهند، ولم يَعرِفْه أحد إلَّا أنه كانت أسنانُه قد ضعفت أصولها، فأمسكوها بشريطِ الذَّهَبِ، فبذلك عرفوه، فلما انهزم الهنودُ دخل شهاب الدين بلاد بنارس، وحَمَل من خزائنها على ألف وأربع مائة جمل، وعاد إلى غزنة ومعه الفِيَلة التي أخذها من جُملِتها فيلٌ أبيضُ.
دخل جيش الخبيثِ الزنجيِّ إلى البصرة قهرًا، فقتل من أهلِها خَلقًا، وهرب نائبُها بغراج ومن معه، وأحرَقَت الزنج جامعَ البصرة ودورًا كثيرة، وانتهبوها، ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحدُ أصحاب الزنجي الخارجي: من أراد الأمانَ فلْيَحضُر، فاجتمع عنده خلقٌ كثير من أهل البصرة، فرأى أنه قد أصاب فرصةً، فغدر بهم وأمَرَ بقَتلِهم، فلم يُفلِتْ منهم إلَّا الشاذ، كانت الزنجُ تحيط بجماعةٍ من أهل البصرة، ثم يقول بعضهم لبعض: كيلوا- وهي الإشارة بينهم إلى القتل- فيَحمِلون عليهم بالسيوفِ، فلا يُسمَعُ إلَّا قَولُ أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، من أولئك المقتولين, وضجيجُهم عند القتل- أي صراخ الزِّنج وضَحِكهم - وهكذا كانوا يفعلونَ في كل محالِّ البصرة في عِدَّة أيام، وهرب الناسُ منهم كلَّ مَهرَبٍ، وحرَقوا الكلأ من الجبَل إلى الجبل، فكانت النارُ تحرِقُ ما وجدت من شيءٍ؛ من إنسانٍ أو بهيمة أو غير ذلك، وأحرقوا المسجِدَ الجامع، وقد قتَل هؤلاء جماعةً كثيرةً من الأعيان والأُدَباء والفُضَلاء والمحَدِّثين والعلماء.
عظُمَ أمرُ أبي الحسَنِ جوهَرِ الصِقليِّ عند المعِزِّ بإفريقيَّة، وعلا محَلُّه، وصار في رُتبة الوزارة، فسَيَّرَه المعِزُّ في صفر في جيشٍ كثيفٍ، فيهم زيري بن مناد الصنهاجي وغيره، وأمره بالمسير إلى أقاصي المغربِ، فسار إلى تاهرت، ومدينة أفكان، دخَلَها بالسيف، ونهبها، ونهب قصور يعلى، وأخذ ولده، وكان صبيًّا، وأمر بهدم أفكان وإحراقِها بالنار، ثم سار منها إلى فاس، وبها صاحِبُها أحمد بن بكر، فأغلق أبوابَها، فنازلها جوهرٌ وقاتَلَها مُدَّةً، فلم يَقدِرْ عليها، وأتته هدايا الأُمَراء الفاطميِّينَ بأقاصي السوس، وأشار على جوهرٍ وأصحابِه بالرَّحيلِ إلى سجلماسة، وكان صاحِبُها محمَّدُ بن واسول قد تلقَّبَ بالشَّاكر لله، ويُخاطَبُ بأمير المؤمنين، وضَرَب السِّكَّة باسمه، وهو على ذلك سِتَّ عشرة سنة، فلما سَمِعَ بجوهر هرب، ثم أراد الرجوعَ إلى سجلماسة، فلَقِيَه أقوام، فأخذوه أسيرًا، وحَمَلوه إلى جوهر وسلك تلك البلادَ جَميعَها فافتتحها وعاد إلى فاس، فقاتلها مدَّةً طويلة، حتى كان فتحُها في رمضان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة.
هو السلطانُ المؤيَّد المظفَّر أبو الفتح جلال الدين محمد أكبر بن همايون بن بابر التيموري الكوركاني، أكبرُ ملوك الهند وأشهرُهم في الذِّكر، ولِدَ في قلعة أمركوث من أرض السِّند في ثاني ربيع الأول سنة 949هـ من "حميده بانو". حين انهزم والده همايون من شير شاه، ثم رجع بعد بضعة سنين فافتتح قندهار وكابل وأكثر بلاد الهند، فلما مات همايون جلس ولدُه جلال الدين على سريره تحت وصاية الوزير بيرم خان؛ لأن سنَّه حينئذ نحو ثلاث عشرة سنة، ولما بلغ أكبرُ أشُدَّه استقَلَّ بالملك، وسافر إلى الحرمين الشريفين، ثم افتتح أمره بالعدل والسخاء، وقرَّب إليه أهل العلم والصلاح، وكان يستمع الحديث، وبنى مساجد وزوايا له، وبنى مدينة بأرضه وجعلها عاصمة بلاد الهند، وبنى بها قصرًا وسماه (عبادت خانه) وقسَّمه على أربعة منازل وأمر أن يجتمع فيه علماء البراهمة والنصارى والمجوس وأهل الإسلام، فيجتمعون في ذلك القصر ويتباحثون في الخلافيات بحضرة السلطان، حتى دخل في مجلسه من أهل الشبهات والشهوات كأبي الفيض وصنوه أبي الفضل والحكيم أبي الفتح ومحمد اليزدي، فجعلهم فريقًا لأهل الصلاح فدسُّوا في قلبه أشياء ورغَّبوه عن أهل الصلاح وقالوا: لا ينبغي للسلطان أن يقلِّدَ أحدًا من الفقهاء المجتهدين، فانشرح صدر السلطان، وفتح أبواب الاجتهاد، فجوَّز متعة النساء، ونكاحَ المسلم بالوثنية، حتى اجترأ على الطعن والتشنيع على السلف الصالح، لا سيما الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وأمر بإخراج المشائخ والعلماء من الهند، واجتمع لديه شِرذمة من علماء الوثنيين والنصارى والمجوس ومن أحبار الهنود ومن الشيعة، وكان كل واحد منهم يجتهد أن يرغِّبَه إلى مذهبه، وكانت تحته طائفة من الأميرات الوثنيات بنات ملوك الهند، وصار حوله من يزيِّن له عبادة الأصنام، وتعظيم النار والشمس، فتدرج في الاجتهاد وترقى من الفروع إلى الأصول، وقال بخلق القرآن، واستحالة الوحي، والتشكيك في النبوات، وأنكر الجن، والمَلَك، والحشر والنشر، وسائر المغيبات، وأنكر المعجزات، وجوز التناسُخ، وحرَّم ذبح البقرة، وحطَّ الجزية عن أهل الذمة، وأحلَّ الخمر والميسِر والمحرَّمات الأُخر، وأمر بإيقاد النار في حَرَمِه على طريق المجوس، وأن يعظِّم الشمس وقت طلوعه على طريق مشركي الهند، وقرَّر أن الحق دائر بين الأديان كلها، فينبغي أن يُقتَبَس من كلها أشياء، وكان يسجد للشمس والنار في كل سنة يوم النيروز بالإعلان، وشرع ذلك من سنة خمس وعشرين الجلوسية، ورسم القشقة على جبينه يوم العيد الثامن من شهر سنبله، وربط سلكًا من الجواهر عن أيدي البراهمة تبركًا، وكذلك كان يفعل كلَّ ما يفعله كفار الهند، ويستحسنه ويحرِّض أصحابه على ما فعله، ويحثهم على ترك التقليد، يعني به دين الإسلام، ويهجِّنه ويقول: إن واضِعَه فقراء الأعراب، وأمر أن لا يقرأ من العلوم العربية غير النجوم والحساب والطب والفلسفة، فكان هذا الدين الذي اخترعه مصدرَ كراهيةٍ شديدة له في نفوس أهل الإسلام، حتى انتهى الأمر بهم مرَّةً إلى شق عصا الطاعة علنًا، بل قيل: إن ابنه الأمير جهانكير ثار عليه وأخذ يدبِّر له المكائدَ خُفْية، فحشد جهانكير جيشًا من ثلاثين ألف فارس، وقتل "أبا الفضل" مؤرِّخَ القصر وأحبَّ الأصدقاء إلى نفس أبيه، فحَطَّمت قوَّته النفسيَّة وتنكَّر له أبناؤه في أواخر أيامه، ومات الملك أكبر في سكندر آباد قريب آكره، بعد أن حكم أربعين سنة، مات بمرض الديسنتاريا، وقيل: مات مسمومًا بتدبير ابنه جهانكير، ولم يجد من يصلِّي عليه من أنصار أيَّةِ عقيدة أو مذهب ممَّن جمعهم حوله. وفي مطلع القرن العشرين الميلادي عملت إنجلترا على تشجيع مرزا غلام أحمد القادياني في الهند على إحياء ما دعا إليه الملك المغولي جلال الدين محمد أكبر!!
خرج خمسةٌ من بطارقة الروم في ثلاثين ألفًا من الروم إلى أذنة- وهي مدينة بالشامِ بناها الرشيدُ، وأتمها الأمينُ، بين طرسوس والمصيصة- وأهلُ أذنة أخلاطٌ من موالي الخلفاء وغيرِهم، وهي مدينةٌ جليلة عامرة ذاتُ أسواقٍ وصناعاتٍ وصادرٍ ووارد، وهي ثغرُ سيحان، فصاروا إلى المصلَّى وأسَروا أرخوز، كان واليَ الثُّغورِ، ثم عُزِلَ فرابَطَ هناك- فأُسِرَ وأسِرَ معه نحوٌ من أربعمائة رجلٍ، وقَتَلوا ممَّن نفر إليهم نحوًا من ألف وأربعمائة رجلٍ، ثم انصرفوا.
هو سليمان باشا الفرنساوي، أو الكولونيل سيف، اسمه "الكولونيل أوكتاف جوزيف انتلم سيف" ولِدَ عام 1788م في مدينة ليون بفرنسا وهو ضابطٌ فرنسي جاء إلى مصر مع الحملةِ الفرنسية، وبقي بها واعتنق الإسلامَ، وهو من بقايا حروب نابليون. عندما فكر محمد علي في بناء جيشٍ مصريٍّ حديث يحافِظُ على إنجازاته عَهِدَ إليه بتكوينِ النواة الأولى من الضباط، واختار له أسوانَ حتى يبتَعِدَ الطلاب عن القاهرة ومؤثِّراتها والمؤامَرات التي كانت تحاكُ فيها. وقد لاقى "الكولونيل سيف" متاعبَ جمةً خلال تدريب طلابِ هذه المدرسة، خاصةً وأنهم لم يعتادوا الطاعةَ المُطلقةَ لرؤسائهم, كما لم يتعودوا أن يتعَلَّموا فنون الحرب الحديثة، وكان "سليمان الفرنساوي" شديدَ الإعجاب بالجندي المصري، ويُؤثَرُ في ذلك قوله: "إن المصريين هم خيرُ من رأيتُهم من الجنود؛ فهم يجمعون بين النشاط والقناعة والجَلَد على المتاعب، مع انشراحِ النَّفسِ وتوطينها على احتمالِ صُنوف الحِرمان، وهم بقليلٍ مِن الخبز يسيرون طوالَ النهار يحدوهم الشَّدوُ والغناءُ. ولقد رأيتُهم في معركة "قونية بالشام" يبقون ساعاتٍ متوالية في خطِّ النار محتفظين بشجاعةٍ ورباطةِ جأشٍ تدعوان إلى الإعجابِ، دون أن تختلَّ صُفوفُهم، أو يسري إليهم المَلَل أو يبدو منهم تقصيرٌ في واجباتهم وحركاتهم الحربية". وظل سليمان باشا في خدمةِ الجيش المصري بعد وفاة محمد علي حتى صار القائِدَ العام للجيش المصري في عهد الخديوي عباس، واستمَرَّ في عمله أيامَ عباس الأول وسعيد باشا، وعاش بين المصريين وقام بمصاهرتِهم، فتزوَّج إحدى بناتِه "محمد شريف باشا" الذي يُطلَق عليه المصريون أبو الدستور، وأنجب منها فتاةً تزوجت من "عبد الرحيم صبري باشا" وأثمر هذا الزواجُ فتاةً أصبحت ملكةً على مصر وهي "الملكة نازلي" أم الملك الراحل" فاروق الأول". وتقديرًا من المصريين أقاموا لسليمان الفرنساوي تمثالًا في ميدان أطلق عليه اسمه، كما أطلقوا اسمه على أحد شوارع القاهرة الرئيسية حتى قامت ثورة يوليو فأطاحت بالتمثال، وغيَّرَت اسم الميدان والشارع، وأطلقت عليهما اسم "طلعت حرب" رجل الاقتصاد المصري الشهير. ومع ذلك لا يزالُ المصريون يفَضِّلون استعمال اسم (شارع سليمان) ربما وفاء منهم لذكرى رجل كانت له اليدُ الطولى في بناءِ أوَّلِ جَيشٍ مصريٍّ حديثٍ.
بعَث رسولُ اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم أبا عُبيدةَ بنَ الجَرَّاحِ على رأسِ ثلاثمائةِ رجلٍ إلى سِيفِ البَحرِ, وكان الغَرَضُ مِن هذه السَّرِيَّةِ رَصْدَ عِيرٍ لقُريشٍ، ومُحارَبةَ حَيٍّ مِن جُهينةَ, وزَوَّدَهُم جِرابًا مِن تمرٍ, فجعل أبو عُبيدةَ يَقُوتُهُم إيَّاهُ, حتَّى صار إلى أن يَعُدَّهُ لهم عددًا, حتَّى كان يُعطي كُلَّ رجلٍ منهم كُلَّ يومٍ تمرةً, فقَسَمَها يومًا فنَقصَتْ تمرةٌ عن رجلٍ, فوَجَد فَقْدَها ذلك اليومَ, فلمَّا نَفَدَ ما كان معهم مِنَ الزَّادِ أَكلوا الخَبَطَ وهو وَرَقُ السَّلِمِ, فسُمِّيَ الجيشُ لذلك "جيشَ الخَبَطِ"، وأصابَهُم جوعٌ شَديدٌ, فنَحَرَ قيسُ بنُ سعدِ بنِ عُبادةَ -وكان أحدَ جُنودِ هذه السَّرِيَّةِ- ثلاثَ جَزائِرَ، ثمَّ نَحَرَ ثلاثَ جَزائِرَ، ثمَّ نَحَرَ ثلاثَ جَزائِرَ، ثمَّ إنَّ أبا عُبيدةَ نَهاهُ، فأَلقى إليهم البَحرُ دابَّةً يُقالُ لها: العَنْبَرُ، فأكلوا منها عِشرين ليلةً، وادَّهَنوا منه, حتَّى ثابَتْ منه أَجسامُهم، وصَلحتْ، وأخَذ أبو عُبيدةَ ضِلعًا مِن أَضلاعِه فنظَر إلى أَطولِ رجلٍ في الجيشِ وأَطولِ جَملٍ فحُمِلَ عليه ومَرَّ تَحتَهُ، وتَزوَّدوا مِن لَحمِه وَشَائِقَ، فلمَّا قَدِموا المدينةَ، أَتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذَكَروا له ذلك، فقال: "هو رِزقٌ أَخرَجهُ الله لكم، فهل معكم مِن لَحمِه شيءٌ تُطْعِمونا؟). فأَرسلوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منه فأَكلَهُ".
لمَّا رفَض ابنُ الزُّبيرِ البَيْعَة لِيَزيدَ بن مُعاوِيَة وكان بمكَّة المُكرَّمَة سَيَّرَ إليه يَزيدُ بن مُعاوِيَة جيشًا بقِيادَةِ مُسلمٍ؛ ولكنَّ مُسلِمًا تُوفِّي في الطَّريقِ إلى مكَّة فاسْتَلَم بعدَه الحُصينُ بن نُميرٍ فحاصَر مكَّة المُكرَّمَة، وكان ابنُ الزُّبيرِ اتَّخَذَ المسجدَ حِصْنًا له ووضَع فيه الخِيامَ لِتَحميهِ وجُنْدَهَ مِن ضَرباتِ المَنْجنيق، واسْتَمرَّ الحِصارُ إلى أن احْتَرقَت الكَعبةُ قبلَ أن يأتِيَ نَعْيُ يَزيدَ بن مُعاوِيَة بتِسْعَةٍ وعِشرين يومًا، واخْتُلِف في مَن كان سبَبًا في احْتِراقِ الكَعبةِ. كان أصحابُ ابنُ الزُّبيرِ يُوقِدون حولَ الكَعبَةِ، فأَقْبَلَت شَرَرَةٌ هَبَّتْ بها الرِّيحُ فاحْتَرَقَت كِسْوَةُ الكَعْبَةِ، واحْتَرقَ خَشَبُ البيتِ. قال أحدُ أصحابِ ابنِ الزُّبيرِ يُقالُ له عَوْنٌ: ما كان احْتِراقُ الكَعبَةِ إلَّا مِنَّا, وذلك أنَّ رجلًا مِنَّا كان هو وأصحابه يوقدون في خِصاصٍ لهم حولَ البيتِ, فأَخَذَ نارًا في رُمْحِه فيه نِفْطٌ, وكان يومَ ريحٍ, فطارت منها شَرارةٌ, فاحْتَرَقت الكَعبةُ حتَّى صارت إلى الخشبِ, وقِيلَ: إن رجلًا مِن أهلِ الشَّام لمَّا جنَّ اللَّيلُ وضَع شَمْعَةً في طَرْف رُمْحِه, ثمَّ ضرَب فَرَسه ثمَّ طعَن الفُسْطاطَ فالْتَهب نارًا, والكَعبةُ يَومئذٍ مُؤَزَّرَة بالطَّنافِس, وعلى أَعْلاها الحَبِرَةُ, فطارت الرِّيحُ باللَّهَبِ على الكعبةِ فاحْتَرَقت. فلم يكُن حَرْقُ الكَعبةِ مَقصودًا مِن أَحَدِ الطَّرَفينِ؛ بل إنَّ احْتِراقَها جاء نَتيجةً لِحَريقِ الخِيامِ المُحيطةِ بها مع اشْتِدادِ الرِّيحِ, فهذا رجلٌ مِن أهلِ الشَّام لمَّا احْتَرَقت الكَعبةُ نادى على ضِفَّةِ زَمْزَم بقوله: هلَكَ الفَريقانِ والذي نَفْسِ محمَّدٍ بِيَدِهِ.
هو الإمامُ العلَّامةُ الحافِظُ شَيخُ الإسلامِ: أبو القاسِمِ إسماعيلُ بنُ مُحمَّدِ بنِ الفَضلِ بنِ عليِّ بنِ أحمد بن طاهر القرشي، التيمي، ثم الطلحي، الأصبهاني، المُلَقَّب: بقَوَّام السنة، وُلِدَ سنة 457 ووالدته كانت من ذريَّةِ طَلحةَ بنِ عُبَيد الله التيمي- رضي الله عنه- أحَدِ العَشرةِ المُبشَّرينَ بالجنَّةِ. طَلَب العِلمَ وهو حدَثٌ. قال إسماعيل: "سَمِعتُ مِن عائشةَ- بنتِ الحَسَن الوركانيَّة- وأنا ابنُ أربع سنين"، وقال أبو موسى: "وقد سَمِعَ من أبي القاسِمِ بنِ عليك في سنة إحدى وستين، ولا أعلم أحدًا عاب عليه قولًا ولا فِعلًا، ولا عاندَه أحَدٌ إلَّا ونصَرَه الله، وكان نَزِهَ النَّفسِ عن المطامع، لا يدخُلُ على السَّلاطينِ، ولا على من اتَّصَل بهم، قد أخلى دارًا مِن مِلْكِه لأهلِ العلمِ مع خِفَّةِ ذات يَدِه، ولو أعطاه الرجُلُ الدُّنيا بأسْرِها لم يرتَفِعْ عنده، أملى ثلاثةَ آلاف وخمسمئة مجلس، وكان يُملي على البديهة". وقال الحافِظُ يحيى بن مَندة: "كان أبو القاسم حسَنَ الاعتقادِ، جميلَ الطريقةِ، قليلَ الكلامِ، ليس في وَقتِه مِثلُه". سافر أبو القاسمِ البلادَ وسَمِعَ الكثيرَ وبَرَع في فنون. سَمِعَ بمكة، وجاور سَنَةً، وأملى وصَنَّف، وجَرَّح وعَدَّل، وكان من أئمَّةِ العَربيَّة، وإمامًا في التفسيرِ والحديثِ والفِقهِ، وهو أحَدُ الحُفَّاظ المُتقِنينَ، له تصانيفُ، منها الإيضاحُ في التَّفسيرِ، وله تفسيرٌ بالفارسيَّة، وله دلائِلُ النبُوَّة، وسِيَرُ السَّلَف، والترغيبُ والترهيبُ، وشَرحُ الصَّحيحَينِ، ومات بأصبهان في يومِ عيدِ النَّحرِ.
استمَرَّ الحالُ على الغلاء في الأسعار بشكلٍ فاحشٍ جِدًّا وهلك معظَمُ الدوابِّ لعَدَمِ العَلَفِ، حتى لم توجَدْ دابة للكِراءِ، وهلكت الكلاب والقِطَطُ من الجوع، وانكشف حالُ كثيرٍ مِن الناس، وشَحَّت الأنفسُ حتى صار أكابِرُ الأمراء يمنعونَ مَن يدخُلُ عليهم من الأعيانِ عند مَدِّ أسمِطَتِهم، وكثُرَ تعزير محتَسِب القاهرة ومِصر لبيَّاعي لحوم الكلاب والمَيتات، ثمَّ تفاقم الأمر فأكل الناسُ الميتةَ مِن الكلابِ والمواشي وبني آدم، وأكل النِّساءُ أولادَهنَّ الموتى، ثم إن الأسعارَ انحَلَّت في شهرِ رَجَب ثم في شوال تزايد السِّعرُ وساءت ظنونُ الناس، وكثُرَ الشحُّ وضاقت الأرزاق ووَقَفَت الأحوال، واشتَدَّ البكاء وعَظُمَ ضجيجُ النَّاسِ في الأسواق من شِدَّةِ الغلاء، وتزايد الوباءُ بحيث كان يخرجُ مِن كل باب من أبواب القاهرةِ في كل يوم ما يزيدُ على سبعمائة ميت، ويُغَسَّل في الميضأة من الغرباءِ الطُّرَحاء في كلِّ يَومٍ نحوُ المائة والخمسين ميتًا، ولا يكاد يوجد باب أحدٍ من المستورين بالقاهرة ومصر إلَّا ويصبِحُ على بابه عِدَّةُ أمواتٍ قد طُرِحوا حتى يكَفِّنَهم، فيَشتَغِلَ نهارَه، ثم تزايد الأمر فصارت الأمواتُ تُدفَنُ بغير غسل ولا كفَنٍ، فإنه يدفَنُ الواحد في ثوبٍ ثم ساعة ما يوضع في حُفرتِه يؤخَذُ ثَوبُه حتى يُلبَسَ لميت آخرَ، فيكَفَّنُ في الثوب الواحد عدةُ أمواتٍ!! وعجز الناس عن مواراة الأموات في القبور لكثرتِهم وقِلَّة من يحفرُ لهم، فعملت حفائِرُ كِبارٌ ألقِيَت فيها الأمواتُ من الرجال والنساء والصبيان حتى تمتلئ الحفرةُ، ثم تطَمُّ بالترابِ، وانتُدِبَ أناسٌ لحَملِ الأموات ورَمْيهم في الحفر، فكانوا يأخذونَ عن كلِّ مَيتٍ نِصفَ درهم، فيحمِلُه الواحد منهم ويلقيه إمَّا في حفرة أو في النيلِ إن كان قريبًا منه، وصارت الولاةُ بالقاهرة ومصر تحمل الأموات في شباك على الجمال، ويعلِّقونَ الميِّتَ بيديه ورجليه من الجانبين، ويُرمى في الحفر بالكيمانِ مِن غير غُسلٍ ولا كفنٍ! ورُمِيَ كثيرٌ من الأموات في الآبار حتى تُملأَ ثمَّ تُردَم، ومات كثير من الناس بأطرافِ البلاد فبَقِيَ على الطرقات حتى أكلَته الكلابُ، وأكل كثيرًا منها بنو آدم أيضًا، وحُصِرَ في شَهرٍ واحد من هذه السنة عِدَّةُ مَن مات ممَّن قُدِرَ على معرفته، فبَلَغَت العدَّةُ مائة ألفٍ وسبعةً وعشرين ألف إنسان، وعَظُم الموتانُ في أعمال مصر كلِّها حتى خلت القرى، وتأخَّر المطرُ ببلاد الشام حتى دخل فصلُ الشتاء ليلة الخميسِ سادس صفر وهو سادس عشر ديسمبر ولم يقَعِ المطر، فتزايدت الأسعارُ في سائر بلاد الشام، وجَفَّت المياه، فكانت الدابةُ تُسقى بدرهمٍ شَربةً واحدةً، ويشرَبُ الرجُلُ برُبعِ دِرهمٍ شَربةً واحدة، ولم يبق عُشبٌ ولا مرعى، واشتد الغلاءُ بالحِجازِ!!
وقَعَت الحربُ بين عساكر الخليفة وفيها أحمد بن عبدالعزيز بن أبي دلف، وبين عمرو بن الليث الصَّفَّار، ودامت الحربُ من أوَّلِ النهار إلى الظهر، فانهزم عمرٌو وعساكِرُه، وكانوا خمسةَ عشَرَ ألفًا بين فارسٍ وراجلٍ، وجُرِحَ الدرهميُّ مُقَدَّمُ جيشِ عَمرِو بن الليث، وقُتِلَ مائة رجل من حُماتِهم، وأُسِرَ ثلاثةُ آلاف، واستأمنَ منهم ألفَ رجل، وغَنِموا من معسكرِ عَمرٍو من الدوابِّ والبقَرِ والحميرِ ثلاثينَ ألفَ رأسٍ، وما سوى ذلك فخارِجٌ عن الحَدِّ والحصرِ.
ورد إلى واسط رجلٌ يعرف بالزكم محمد بن طالب بن عصية، وأصلُه من القارب، مِن قُرى واسط، وكان باطنيًّا ملحدًا، ونزل مجاورًا لدور بني الهروي، وغَشِيَه الناس، وكَثُر أتباعه، وكان ممَّن يغشاه رجلٌ يُعرَف بحسن الصابوني، فاتَّفَق أنه اجتاز بالسويقة، فكَلَّمه رجل نجَّار في مذهبهم، فرَدَّ عليه الصابوني ردًّا غليظًا، فقام إليه النجَّار وقتَلَه، وتسامع الناسُ بذلك، فوثبوا وقتلوا مَن وَجَدوا ممَّن يَنتَسِبُ إلى هذا المذهب، وقَصَدوا دار ابن عصية وقد اجتمع إليه خلقٌ من أصحابه، وأغلقوا الباب، وصَعِدوا إلى سطحها، ومنعوا النَّاسَ عنهم، فصَعِدوا إليهم من بعضِ الدور مِن على السطح، وتحصَّنَ مَن بقي في الدارِ بإغلاق الأبواب والممارق، فَكَسَروها، ونزلوا فقَتَلوا من وجدوا في الدارِ وأحرقوها، وقُتِلَ ابن عصية، وفتح الباب، وهرب منهم جماعةٌ فقُتِلوا؛ وبلغ الخبَرُ إلى بغداد، وانحدر فخرُ الدين أبو البدر بن أمسينا الواسطي لإصلاحِ الحال، وتسكينِ الفِتنةِ.
في شَهرِ جمادى الأولى اتَّفَق بناحية برما من الغربية أنَّ طائفة من مُسلِمةِ النصارى، صَنَعوا عُرسًا جمعوا فيه عِدَّةً من أرباب الملاهي، فلما صَعِدَ المؤذن ليسَبِّحَ الله تعالى في الليل على العادة، سَبُّوه وأهانوه، ثم صَعِدوا إليه وأنزلوه، بعدما ضربوه، فثار خطيب الجامِعِ بهم؛ ليُخَلِّصَه منهم، فأوسعوه سبًّا ولعنًا وهَمُّوا بقتله وقَتْلِ من معه، فقَدِمَ إلى القاهرة في طائفة، وشكَوا أمرهم إلى الأمير سودن النائب، فبعث بهم إلى الأمير جركس الخليلي؛ من أجل أن ناحية برما من جملة إقطاعه، فلم يَقبَلْ أقوالهم، وسَجَن عِدَّةً منهم، فمضى من بَقِيَ منهم إلى أعيان الناس، كالبلقيني وأمثاله، وتوجَّهَ الحافظ المعتمد ناصر الدين محمد فيق إلى الخليلي، وأغلَظَ عليه حتى أفرج عمَّن سَجَنَه، فغضب كثيرٌ من أهل برما واستغاثوا بالسلطانِ، فأنكر على الخليلي ما وقع منه، وبعث الأميرَ أبدكار الحاجِبَ للكشف عما جرى في برما، فتبين له قُبحُ سيرة المسألة فحمَلَهم معه إلى السلطان، فأمر بهم وبغُرَمائِهم أن يتحاكموا إلى قاضي القضاة المالكية، فادعى عليهم بقوادِحَ، وأُقيمَت البَيِّنات بها فسجَنَهم، واتفق أن الخليلي وقعت في شونة قصب له نارٌ أحرقتها كلها، وفيها جملة من المال، وحدث به وَرَمٌ في رجله، اشتد ألمه فلم يزل به حتى مات؛ وذلك عقوبة له لمساعدةِ أهل الزندقة!