هو أبو منصورٍ موهوبُ بنُ أحمدَ بنِ محمَّدِ بنِ الحَسَن بن الخضر الجواليقي البغداديُّ النحويُّ اللُّغويُّ. إمامُ الخليفةِ المقتفي, وكان إمامًا في فُنونِ الأدب. وُلِدَ في ذي الحجة سنة 465, ونشأ بباب المراتِبِ، قرأ على أبي زكريَّا سبع عشرة سنة, فانتهى إليه عِلمُ اللغة فأقرأها، ودرَّسَ العربيَّةَ في النظاميَّةِ بعد أبي زكريَّا مُدَّةً، فلما وَلِيَ المُقتفي اختَصَّ بإمامتِه في الصَّلاةِ, وكان المقتفي يقرأُ عليه شيئًا من الكُتُبِ. كان الجواليقي دَيِّنًا، ثقةً، وَرِعًا، غزيرَ الفَضلِ، وافِرَ العَقلِ، مَليحَ الخَطِّ، كثيرَ الضَّبطِ. صَنَّف التصانيفَ وانتشرت عنه، وشاع ذِكْرُه. قال ابن الجوزي: "كان غزيرَ الفَضلِ مُتواضِعًا في مَلبَسِه ورياستِه، طويلَ الصَّمتِ لا يقولُ الشَّيءَ إلَّا بعدَ التَّحقيقِ والفِكرِ الطَّويلِ، وكثيرًا ما كان يقولُ: لا أدري، وكان مِن أهلِ السُّنَّةِ. سَمِعتُ منه كثيرًا مِن الحديثِ وغَريبِ الحديثِ، وقرأتُ عليه كتابَه المُعرب وغيرَه من تصانيفِه، وقطعةً مِن اللُّغةِ". توفِّي سَحرةَ يوم الأحد مُنتصَفَ مُحَرَّم، وحضر للصَّلاةِ عليه الأكابِرُ، كقاضي القضاة الزينبي، وهو الذي صلَّى عليه، وصاحِبُ المخزنِ، وجماعةُ أربابِ الدولةِ، والعُلَماءُ والفُقَهاءُ، ودُفِنَ بباب حرب عند والدِه, وقد توفِّيَ وله من العمر 74 عامًا, ومن أشهَرِ كتبه "المعرَّب من كلامِ العَجَم" و"شَرحُ أدبِ الكاتِبِ" و "كِتابُ العَروض" و "التَّكملة فيما تلحَنُ فيه العامَّةُ".
قاضي القُضاةِ العالِمُ شَيخُ الإسلام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخِ الإمام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الحموي الأصل، وُلِدَ ليلة السبت رابع ربيع الآخر سنة 639 بحماة، وسَمِعَ الحديثَ واشتغل بالعلم، وحصَّل علومًا متعَدِّدة، وتقَدَّم وساد أقرانَه، وباشر تدريسَ القيمرية، ثم وليَ الحُكمَ والخَطابة بالقُدسِ الشريف، ثم نُقِلَ منه إلى قضاء مصر في الأيام الأشرفية، ثم وليَ قضاء الشامِ وجُمِعَ له معه الخطابةُ ومشيخةُ الشيوخِ وتدريسُ العادليَّة وغيرها مدة طويلة، كل هذا مع الرياسةِ والديانةِ والصِّيانةِ والوَرَع، وكَفِّ الأذى، وله التصانيفُ الفائقة النافعة، أشهَرُها تذكِرةُ السامع والمتكَلِّم في أدب العالم والمتعلم، وله غرر البيان في مبهمات القرآن، والمنهل الرَّوِيِّ في الحديث النبويِّ، وغيرها، وجمع له خطباً كان يخطُبَ بها، ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلم يَزَل حاكِمًا بها إلى أن كُفَّ بَصَرُه وكَبِرَ وضَعُفَت أحواله، فاستقال فأقيل، ورُتِّبَت له الرَّواتِبُ الكثيرة الدارَّة إلى أن توفي ليلة الاثنين بعد عشاء الآخرة حادي عشرين جمادى الأولى، وقد أكمل أربعًا وتسعين سنة وشهرًا وأيامًا، وصُلِّيَ عليه من الغَدِ الظهر بالجامع الناصري بمصر، ودُفِنَ بالقرافة، وكانت جنازتُه حافلةً هائلةً رحمه الله.
أصاب الشَّامَ في ذلك العام طاعونٌ عامٌّ شديدٌ حَصَد الكثيرَ مِن النَّاسِ، وسُمِّيَ ذلك العامُ بعام عَمْواس مِن شِدَّةِ ما حصَل مِن الموتِ, وقد مات فيه خمسةٌ وعشرون ألفًا, وكان ممَّن تُوفِّيَ فيه أبو عُبيدةَ بن الجَرَّاح، ومعاذ بن جبل، ويَزيدُ بن أبي سُفيانَ، وشُرَحْبِيلُ بن حَسَنَةَ، وغيرُهم كثيرٌ، وعَمْواس هو اسمُ المكان الذي انْتَشَر فيه الطَّاعونُ، وهو مكانٌ قَريبٌ مِن الرَّمْلَةِ في فِلَسطين.
هو خفاجة بن سفيان أمير صقلية، وكان من الشُّجَعان الغُزاة المدَبِّرين، تولَّى إمرة صقلية عام 248هـ وكانت عاصمته بلرم، اغتاله رجلٌ من عَسكَرِه وهو عائِدٌ مِن غَزوِ سرقوسه قاصدًا بلرم، فطعنه طعنةً فقتله، ثم هرب القاتِلُ إلى سرقوسة، وحُمِل خفاجة إلى بلرم، فدُفِنَ بها وولَّى الناسُ عليهم بعدَه ابنه محمدًا، وكتبوا بذلك إلى الأميرِ محمد بن أحمد، أمير إفريقية، فأقَرَّه على الولاية، وسيَّرَ له العهدَ والخلع.
هاجت فتنةُ تاكرنا بالأندلس، وخلع بربَرُها الطاعة، وأظهروا الفسادَ، وأغاروا على البلادِ، وقطعوا الطريقَ، فسَيَّرَ هشام بن عبدالرحمن إليهم جُندًا كثيفًا عليهم عبدُ القادر بن أبان بن عبد الله، مولى معاويةَ بن أبي سفيان، فقَصَدوها وتابَعوا قتالَ من فيها إلى أن أبادوهم قتلًا وسَبيًا، وفَرَّ من بقِيَ منهم، فدخل في سائرِ القبائل، وبَقِيَت كورة تاكرنا وجبالُها خاليةً مِن الناس سبعَ سنين.
عَزَل مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان مُعاوِيَةَ بن خَديجٍ عن أفريقيا، واسْتَعمل عليها عُقبةَ بن نافعٍ الفِهْريَّ، وكان مُقِيمًا بِبَرْقَةَ وزَوِيلَةَ مُذْ فتَحها أيَّام عَمرِو بن العاصِ، وله في تلك البِلادِ جِهادٌ وفُتوحٌ. فلمَّا اسْتَعمله مُعاوِيَةُ سَيَّرَ إليه عشرةَ آلاف فارسٍ، فدخَل أفريقيا وانْضافَ إليه مَن أَسلَم مِن البَرْبَر، فكَثُرَ جَمْعُهُ، ووضَع السَّيفَ في أهلِ البِلادِ لأنَّهم كانوا إذا دخَل إليهم أميرٌ أطاعوا وأَظهَر بعضُهم الإسلامَ، فإذا عاد الأميرُ عنهم نَكَثوا وارْتَدَّ مَن أَسلَم، ثمَّ رأى أن يَتَّخِذَ مدينةً يكون بها عَسكرُ المسلمين وأَهلُهُم وأَموالُهم لِيأمَنوا مِن ثَورةٍ تكونُ مِن أهلِ البِلادِ، فقصَد مَوضِعَ القَيْروان، وبَنَى المسجدَ الجامعَ، وبَنَى النَّاسُ مَساجِدَهم ومَساكِنَهم, فأَمِنُوا واطْمَأنُّوا على المَقامِ فثَبَتَ الإسلامُ في تلك البلادِ المفتوحةِ. ثمَّ إنَّ مُعاوِيَة بن أبي سُفيان اسْتَعمل على مِصْر وأفريقيا مَسلَمةَ بن مَخْلَد الأنصاريَّ، فاسْتَعمل مَسلَمةُ على أفريقيا مَوْلًى له يُقالُ له: أبو المُهاجِر، فقَدِم أفريقيا وعزَل عُقبةَ واسْتَخَفَّ به، وسار عُقبةُ إلى الشَّامِ وعاتَبَ مُعاوِيَةَ على ما فَعلَهُ به أبو المُهاجِر، فاعْتَذَر إليه ووَعَدَهُ بإعادتِه إلى عَمَلِه، فتُوفِّي مُعاوِيَةُ ووَلِيَ بعدَه ابنُه يَزيدُ، فاسْتَعمل عُقبةَ بن نافعٍ على البِلادِ سنة اثنتين وسِتِّين، فسار إليها.
قام الصِّدِّيقُ أبو بكرٍ رضِي الله عنه بعَقْدِ أربعةِ أَلوِيةٍ لفَتْح بِلادِ الشَّام بعدَ أن فَرَغَ مِن حُروبِ الرِّدَّةِ، وجعَل قِيادَتَها لأبي عُبيدةَ بن الجَرَّاحِ، ووِجْهَتُه حِمْصُ، وعَمرِو بن العاصِ ووِجْهَتُه فِلسطينُ، وشُرَحْبِيلِ بن حَسَنَةَ ووِجْهَتُه الأُرْدُنُّ، ويَزيدَ بن أبي سُفيانَ ووِجْهَتُه دِمشقُ. وقد أَدَّتْ هذه الجُيوشُ دورَها الفعَّالَ في مُقاتلةِ الرُّومِ وانتصروا في مَواقعَ كثيرةٍ، وكان الرُّومُ في جَميعِها أكثرَ عددًا وعُدَّةً.
خالف العطافُ بنُ سفيانَ الأزديُّ الرشيدَ وتغلَّب على الموصِل، وكان من فرسانِ أهلِ الموصل، واجتمع عليه أربعةُ آلافِ رَجُلٍ، وجبى الخراجَ، وكان عامِلُ الرشيدِ على الموصل محمَّدَ بن العباس الهاشمي، وقيل: عبد الملك بن صالح، والعطاف غالِبٌ على الأمر كلِّه، وهو يَجبي الخراج، وأقام على هذا سنتين، حتى خرجَ الرشيدُ إلى الموصل فهدَمَ سُورَها بسَبَبِه, فأقسَمَ ليقتُلَنَّ من لَقِيَ مِن أهلِها، وكان العطاف قد سار عنها نحوَ أرمينيَّة، فلم يظفَرْ به الرشيدُ.
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة الحافِظُ شَمسُ الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي خاتمةُ الحُفَّاظ، كان من أسرة تُركمانيَّة الأصل، تنتهي بالولاءِ إلى بني تميم، سكنت مدينة ميافارقين من أشهَرِ مدن ديار بكر، ولِدَ في كفر بطنا قرب مدينة دمشق في شهرِ ربيع الآخر سنة 673, وهو حافِظٌ لا يُجارَى ولافِظٌ لا يُبارى، أتقَنَ عِلمَ الحديث ورجالَه، ونظَرَ عِلَلَه وأحوالَه، وعرف تراجم الناس وأزال الإبهام في تواريخهم, واشتهَرَ بالعِلمِ والورع؛ قال السيوطي: "حُكِيَ عن شيخ الإسلام أبي الفضلِ ابنِ حَجَر أنَّه قال: شَرِبتُ ماء زمزم لأصِلَ إلى مرتبة الذهبيِّ في الحفظِ, ثم قال السيوطي: والذي أقولُه: إن المحَدِّثين عيالٌ الآن في الرجالِ وغَيرِها من فنونِ الحديث على أربعةٍ: المِزِّي، والذَّهَبي، والعِراقي، وابن حجر" ومُصَنَّفاته كثيرةٌ جِدًّا تُنبِئ عن عِلمِه الزاخر في الحديث والرجال والتاريخ، فله كتب مشهورة، منها: كتاب تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام، وكتاب سير أعلام النبلاء، وله في الرجال كتب كثيرة أشهرها: ميزان الاعتدال في أحوال الرجال، وتذكرة الحُفَّاظ، وطبقات القُراء، وله تعليقات على المستدرك، وله كتاب الكبائر، والطب النبوي، وغيرها كثير يصعُب حَصرُه هنا، وقف الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني على تاريخه الكبير المسمى بتاريخ الإسلام جزءًا بعد جزء إلى أن أنهاه مطالعةً وقال: "هذا كتابُ عَلَمٍ اجتمَعْتُ به وأخذتُ عنه وقرأتُ عليه كثيرًا من تصانيفه، ولم أجِدْ عنده جمودَ المحدِّثين، ولا كَودَنة النَّقلة، بل هو فقيهُ النَّظَر، له دُربة بأقوالِ النَّاسِ ومذاهِبِ الأئمة من السلف وأرباب المقالاتِ، وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفِه مِن أنه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبيِّنَ ما فيه من ضَعفِ مَتنٍ أو ظَلامِ إسنادٍ أو طَعنٍ في رواتِه، وهذا لم أرَ غَيرَه يراعي هذه الفائدةَ فيما يورده. توفي في ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة، وصُلِّيَ عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع دمشق ودُفِنَ بباب الصغير.
هو الحافِظُ أبو بكرٍ أَحمدُ بن عليِّ بن ثابتِ بن أَحمدَ بن مَهدِيٍّ، الخَطيبُ البغداديُّ، أَحدُ الحُفَّاظِ الأَعلامِ المَشهورِينَ، صاحبُ ((تاريخ بغداد)) وغَيرِه من المُصنَّفاتِ العَديدةِ المُفيدةِ، وُلِدَ سَنةَ 392هـ، وكان أبوه أبو الحَسنِ الخَطيبُ قد قَرأَ على أبي حَفصٍ الكِتَّانيِّ، وصار خَطيبَ قَريةِ درزيجان، إحدى قُرى العِراقِ، فحَضَّ وَلدَه أبا بكرٍ على السَّماعِ في صِغَرِه، فسَمِعَ وله إحدى عشرة سَنةً، نَشأَ ببغداد، وتَفَقَّهَ على أبي طالبٍ الطَّبريِّ وغَيرِه من أَصحابِ الشيخِ أبي حامدٍ الأسفراييني، وسَمِعَ الحَديثَ الكَثيرَ، ورَحلَ إلى البَصرةِ, ونيسابور, وأصبهان، وهمذان, والشامِ, والحِجازِ. وسُمِّيَ الخَطيبَ لأنه كان يَخطُب بدرزيجان، ولمَّا وقعت فِتنةُ البساسيري ببغداد سَنةَ 450هـ خَرجَ الخَطيبُ إلى الشامِ فأَقامَ بدِمشقَ بالمأذَنةِ الشرقيَّةِ مِن جامِعِها، وكان يَقرأُ على الناسِ الحَديثَ، وكان جَهورِيَّ الصوتِ، يُسمَع صَوتُه من أَرجاءِ الجامعِ كُلِّها، فاتَّفَق أنه قَرأَ على الناسِ يومًا فَضائلَ العبَّاسِ فثَارَ عليه الرَّوافِضُ من أَتباعِ الفاطِميِّين، فأَرادوا قَتْلَه فتَشَفَّعَ بالشَّريفِ الزَّينبيِّ فأَجارَهُ، وكان مَسكَنُه بدارِ العقيقي، ثم خَرجَ من دِمشقَ فأَقامَ بمَدينةِ صور، فكَتبَ شَيئًا كَثيرًا من مُصنَّفاتِ أبي عبدِ الله الصوري بِخَطِّهِ كان يَستَعيرُها من زَوجَتِه، فلم يَزَل مُقيمًا بالشامِ إلى سَنةِ 462هـ، ثم عاد إلى بغداد فحَدَّثَ بأَشياءَ من مَسمُوعاتِه، وله مُصنَّفاتٌ كَثيرةٌ مُفيدةٌ، نحو من سِتِّينَ مُصَنَّفًا، ويُقالُ: بل مائة مُصَنَّف، منها كتاب ((تاريخ بغداد))، وكتاب ((الكفاية))، و((الجامع))، و((شرف أصحاب الحديث))، و((المتفق والمفترق))، و((السابق واللاحق))، و((تلخيص المتشابه في الرسم))، و((اقتضاء العلم للعمل))، و((الفقيه والمتفقه))، وغير ذلك، ويُقال: إن هذه المُصَنَّفات أَكثرُها لأبي عبدِ الله الصوري، أو ابتَدأَها فتَمَّمَها الخَطيبُ، وجَعَلَها لِنَفسِه، قال الذهبيُّ: "ما الخَطيبُ بِمُفْتَقِرٍ إلى الصوري، هو أَحْفَظُ وأَوْسَعُ رِحلةً وحَديثًا ومَعرِفةً" كان الخَطيبُ أولا أَوَّلَ أَمرِهِ يَتكلَّم بمَذهبِ الإمامِ أَحمدَ بن حَنبلٍ، فانتَقلَ عنه إلى مَذهبِ الشافعيِّ. كان مَهيبًا وَقورًا، ثِقَةً مُتَحَرِّيًا، حُجَّةً، حَسَنَ الخَطِّ، كَثيرَ الضَّبْطِ، فَصيحًا، خُتِمَ به الحُفَّاظِ، قال ابنُ ماكولا: "كان أبو بكرٍ آخِرَ الأَعيانِ، ممَّن شاهَدناه مَعرِفةً، وحِفظًا، وإتقانًا، وضَبطًا لِحَديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَفَنُّنًا في عِلَلِهِ وأَسانيدِه، وعِلمًا بصَحيحِه وغَريبِه، وفَرْدِه ومُنكَرِه ومَطروحِه، ولم يكُن للبَغداديِّينَ بعدَ أبي الحَسنِ الدَّارقطنيِّ مِثلُه". كان الخَطيبُ يقول: "مَن صَنَّفَ فقد جَعلَ عَقلَهُ على طَبَقٍ يُعرِضُه على الناسِ", "كان للخَطيبِ ثَروةٌ من الثِّيابِ والذَّهبِ، وما كان له عَقِبٌ، فكَتبَ إلى القائمِ بأَمرِ الله قال له: إنَّ مالي يَصيرُ إلى بَيتِ مالٍ، فَأْذَنْ لي حتى أُفَرِّقَهُ فيمَن شِئتُ. فأَذِنَ له، ففَرَّقَها على المُحَدِّثين". تُوفِّيَ يومَ الاثنين ضُحًى، وله ثِنتانِ وسَبعون سَنةً، في حُجرَةٍ كان يَسكُنها بِدَربِ السلسلةِ، جِوارَ المَدرسةِ النِّظاميَّةِ، واحتَفلَ الناسُ بجِنازَتِه، وكان فيمَن حَملَ نَعشَه الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، ودُفِنَ إلى جانبِ قَبرِ بِشْرٍ الحافيِّ.
لم يكتَفِ المأمونُ باعتناقِ مسألةِ القَولِ بخلقِ القرآن، بل كتب إلى عمَّالِه في الأمصارِ بامتحانِ العُلَماءِ في هذه المسألة من أجاب وإلَّا كان العقابُ، وربَّما بطانتُه من العلماء كانوا وراء هذا الامتحان، فكتب المأمونُ إلى نائبه ببغداد إسحاقَ بن إبراهيم بن مُصعَب يأمُرُه أن يمتَحِنَ القُضاةَ والمحَدِّثين بالقَولِ بخَلقِ القرآن، وأن يرسل إليه جماعةً منهم، وكتب إليه يستحِثُّه في كتابٍ مُطَوَّل، وكتب غيره مَضمونُها الاحتجاجُ على أنَّ القرآنَ مُحدَثٌ، وكُل مُحدَث مخلوقٌ، وهذا احتجاجٌ لا يوافِقُه عليه كثيرٌ مِن المتكلِّمينَ فَضلًا عن المحدِّثينَ؛ فإنَّ القائلينَ بأنَّ الله تعالى تقوم به الأفعالُ الاختياريَّة لا يقولونَ بأنَّ فِعلَه تعالى القائِمَ بذاتِه المقَدَّسة، مخلوقٌ، بل لم يكن مخلوقًا، بل يقولون: هو محدَثٌ وليس بمخلوق، بل هو كلامُ اللهِ القائِمُ بذاته المقدَّسة، وما كان قائمًا بذاته لا يكون مخلوقًا، وقد قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}، وقال تعالى، {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فالأمر بالسجودِ صدر منه بعد خلقِ آدم، فالكلامُ القائمُ بالذاتِ ليس مخلوقًا، والمقصودُ أن كتاب المأمونِ لَمَّا ورد بغدادَ قُرئ على الناس، وقد عيَّنَ المأمون جماعةً مِن المحدِّثينَ لِيُحضِرَهم إليه، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلِم المُستملي، ويزيدُ بن هارون، ويحيى بن مَعين، وأبو خيثمة زُهير بن حرب، وإسماعيلُ بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، فبُعِثَ بهم إلى المأمونِ في الرقَّة، فامتحنهم بخلْقِ القرآنِ، فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقتَه وهم كارهون، فردَّهم إلى بغداد وأمرَ بإشهارِ أمرِهم بين الفُقَهاء، ففعل إسحاقُ ذلك وأحضر خَلقًا من مشايخِ الحديثِ والفُقَهاءِ وأئمَّة المساجد وغيرِهم، فدعاهم إلى ذلك عن أمرِ المأمون، وذكَرَ لهم موافقة أولئك المحدِّثين له على ذلك، فأجابوا بمِثلِ جواب أولئك موافقةً لهم، ووقَعَت بين الناس فتنةٌ عظيمةٌ. ثم كتب المأمونُ إلى إسحاق أيضًا بكتابٍ ثانٍ يستدِلُّ به على القولِ بخَلقِ القُرآنِ بِشُبَهٍ من الدلائِلِ لا تحقيقَ تحتها ولا حاصلَ لها، بل هي من المُتشابِه، وأورد من القرآنِ آياتٍ هي حُجَّةٌ عليه، وأمَرَ نائبه أن يقرأ ذلك على النَّاسِ وأن يَدعُوَهم إليه وإلى القَولِ بخلقِ القرآن، فأحضَرَ أبو إسحاق جماعةً من الأئمَّة؛ منهم قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، ومقاتل، وأحمد بن حنبل، وقُتَيبة، وعليُّ بن الجعْد، وغيرهم، وقال لبشرٍ: ما تقولُ في القرآن؟ قال: القرآنُ كلامُ الله، قال: لم أسألْك عن هذا، أمخلوقٌ هو؟ قال: الله خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، قال: والقرآنُ شَيءٌ؟ قال: نعم، قال: أمخلوقٌ هو؟ قال: ليس بخالقٍ، قال: ليس عن هذا أسألُك، أمخلوقٌ هو؟ قال: ما أُحسِنُ غيرَ ما قلْتُ لك. قال إسحاقُ للكاتب: اكتُبْ ما قال، ثم سأل غيرَه وغيره ويجيبونَ بنَحوِ جوابِ بِشرٍ. من أنه يقالُ: لا يُشبِهُه شيءٌ مِن خَلقِه في معنًى من المعاني، ولا وجهٍ مِن الوجوهِ، فيقول: نعم، كما قال بِشرٌ. ثم سأل قتيبةَ، وعُبيد الله بن محمَّد، وعبد المنعم بن إدريس بن نبت، ووهب بن منبه وجماعةً، فأجابوا أنَّ القرآنَ مجعولٌ؛ لِقَولِه تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} والقرآنُ مُحدَثٌ لِقَولِه تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}. قال إسحاق: فالمجعولُ مَخلوقٌ، قالوا: لا نقولُ مخلوقٌ، لكن مجعولٌ. فكتب مقالَتَهم ومقالةَ غَيرِهم إلى المأمونِ.
كثُرَ شَغبُ أهل طرابلس الغرب على وُلاتِهم، وكان إبراهيمُ بن الأغلب أميرُ إفريقيَّةَ قد استعمَلَ عليهم عِدَّةَ وُلاةٍ، فكانوا يَشكُون من وُلاتِهم، فيَعزِلُهم، ويولِّي غَيرَهم، فاستعمل عليهم هذه السَّنةَ سُفيانَ بنَ المضاء، وهي ولايتُه الرابعة، فاتَّفق أهلُ البلد على إخراجه عنهم، وإعادتِه إلى القيروان، فزَحَفوا إليه، فأخذ سلاحَه، وقاتَلَهم هو وجماعةٌ ممَّن معه، فأخرجوه من داره، فدخل المسجِدَ الجامع، فقاتَلَهم فيه، فقتلوا أصحابَه، ثم أمَّنوه، فخرج عنهم، فكانت ولايتُه سبعًا وعشرين يومًا.
عزل محمَّدُ بن الأغلبِ- أميرُ إفريقيَّةَ- عامِلَه على الزاب، واسمُه سالم بن غلبون، فأقبلَ يريدُ القيروانَ، فلما صار بقلعةِ يلبسير أضمَرَ الخلافَ وسار إلى الأربس، فمَنَعه أهلُها من الدخول إليها، فسار إلى باجة، فدخلها واحتمى بها فسيَّرَ إليه ابنُ الأغلب جيشًا عليهم خفاجةُ بن سفيان، فنزل عليه وقاتَلَه، فهرب سالمٌ ليلًا، فاتبعه خفاجة، فلَحِقَه وقتَلَه، وحمَلَ رأسَه إلى ابنِ الأغلب، وكان أزهرُ بن سالم عند ابنِ الأغلب محبوسًا فقَتَله.
بعد وفاة أمير صقليَّة العباسِ بن الفضل، ولَّى الناسُ عليهم ابنَه عبد الله بن العباس، وكتبوا إلى أميرٍ بإفريقيَّة بذلك، وأخرج عبد الله السرايا ففتحَ قِلاعًا متعَدِّدة منها: جبل أبي مالك، وقلعة الأرمنين، وقلعة المشارعة، فبقي كذلك خمسة أشهر، ووصل من إفريقية خفاجة بن سفيان أميرًا على صقليَّة، فأوَّلُ سريَّةٍ أخرجها سريَّةٌ فيها ولدُه محمود، فقصَدَ سرقوسة فغَنِم، فخرج إليه أهلُها فقاتلهم حتى ظَفِرَ بهم. وعاد فاستأمن إليه أهل رغوس.
أمر الخليفة الناصر لدين الله الشريف معدًّا، متولي بلاد واسط، أن يسير إلى قتال بني معروف، فتجهز وجمع معه من الرجَّالة من تكريت، وهيت، والحديثة، والأنبار، والحلة، والكوفة، وواسط، والبصرة، وغيرها، خلقًا كثيرًا، وسار إليهم، ومُقَدَّمهم حينئذ معلى بن معروف، وهم قوم من ربيعة, وكانت بيوتهم غربي الفرات، تحت سوراء، وما يتَّصل بذلك من البطائح، وكثُرَ فسادهم وأذاهم لما يقاربهم من القرى، وقطعوا الطريقَ، وأفسدوا في النواحي المقارِبة لبطيحة العراق، فشكا أهلُ تلك البلاد إلى الديوان منهم، فأمر معدًّا أن يسير إليهم في الجموع، فسار إليهم، فاستعد بنو معروف لقتاله، فاقتتلوا بموضعٍ يعرف بالمقبر، وهو تل كبير بالبطيحة بقرب العراق، وكثر القتل بينهم، ثم انهزم بنو معروف، وكثُرَ القتل فيهم، والأسر والغرق، وأُخِذَت أموالهم، وحُمِلَت رؤوس كثيرة من القتلى إلى بغداد في ذي الحجة من السنة.