هو السلطان الأعظم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بن عبد الله، البندقداري الصالحي؛ يُعد المؤسِّسَ الفعلي لدولة المماليك وأعظَمَ سلاطينها، اجتمعت فيه صفاتُ العدل والفروسية والإقدام. ولِدَ بيبرس- بيبرس كلمة تركية تعني أمير فهد- بأرض القبجاق سنة 625، تعرضت ديارهم في القبجاق لغارات فأُسِرَ جماعة منهم، وكان بيبرس فيمن أُسِرَ وحُمِلَ إلى القاهرة، فاشتراه الأميرُ علاء الدين البندقدار الصالحي فطلع بطلًا شجاعًا نجيبًا لا ينبغي أن يكونَ إلَّا عند ملك. فأخذه الملِكُ الصالح إليه وصار من جملةِ البحرية. وشَهِدَ وقعة المنصورة بدمياط وصار أميرًا في دولة المعز عز الدين أيبك. وتقلبت به الأمور وجرت له أحوال, واشتهر بالشجاعةِ والإقدام وبَعُدَ صِيتُه. ولما سارت الجيوشُ المنصورة من مصر لحرب التتار في عين جالوت كان هو طليعةَ الإسلام. وجلس على سريرِ المُلكِ بعد قتل الملكِ المظفَّر وذلك في سابع عشر ذي القعدة من سنة ثمان وخمسين بقلعة الجبل, فصار أستاذُه البندقدار بعض أمرائه وكان الظاهر غازيا، مجاهدا، مرابطا، خليقا للملك، لولا ما كان فيه من الظلم والله يرحمه ويغفر له ويسامحه، فإن له أياما بيضاء في الإسلام ومواقف مشهودة وفتوحات معدودة. وله سيرتان كبيرتان لابن عبد الظاهر ولابن شداد. كانت وفاته يوم الخميس السابِعَ عشَرَ من محرم بعد الزوال، وقد تجاوز الخمسين سنة، ومُدَّة ملكه سبعَ عشرة سنة وشهران واثنا عشر يومًا، أما عن سبب موته فقيل إنه شرب القمز، وهو نوعٌ من النبيذ فمَرِضَ بعده أيامًا ثم إنَّه أخذ دواءً فزاد مرضُه وأصيبَ بإسهالٍ حادٍّ وحاول الأطباءُ علاجه بدواء آخر فأفرط الإسهال حتى إنه رمى دمًا قيل إنه كَبِدُه، ثم لم يلبث أيامًا حتى توفي، وقيل بل إن وفاته كانت بالسُّمِّ حيث إنه وُضِعَ السم في القمز للملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن الملك المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، الذي أبلى بلاءً عظيمًا ضد المغول وكان بيبرس قد قيل له إنه يموت في دمشق مَلِكٌ بالسمِّ في هذا العام فأراد أن يكون هذا الملك هو القاهر بهاء، وخاصة أنه خاف منه لما ظهر منه أمام المغول فوضع له السمُّ فشربه القاهر ومات من فَورِه ولكِنَّ الله أنسى بيبرس أمر الكأسِ وسقاه خادِمُه من نفس الكأس ثانيةً، فكانت بقايا السم هي سبب حتفه، فالله أعلم كيف كانت وفاته، ودفن في دمشق قريبًا من المكتبة الظاهرية، فجزاه الله خيرًا على ما قام به من فتح كثير من البلاد التي كانت استعصت على من قَبلَه، وعلى العمران الذي شيَّدَه وعلى الهيبةِ التي ردها للمُسلمينَ بعد أن كانت تحطَّمَت أمام أفعال المغول، وبالجملة أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عونًا ونصرًا للإسلام وأهله، وشجًا في حلوق المارقين من الفرنج والتتار، والمشركين، وكان الملك الظاهر بيبرس قد عَهِدَ بالملك لابنه الملك السعيد بركة الذي أصبح ملكًا بعد أن أخفي موت الظاهر بيبرس أيامًا حتى استحلف الأمراء مرة أخرى على بيعته، ثم أعلنت وفاة الظاهر وبويع الملكُ السعيدُ بالمُلكِ بعده.
عن جابرٍ رضي الله عنه قال: سِرْنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في غَزوةِ بَطْنِ بُواطٍ، وهو يَطلُبُ المَجْدِيَّ بنَ عَمرٍو الجُهَنيَّ، وكان النَّاضِحُ يَعْتَقِبُهُ مِنَّا الخمسةُ والسِّتَّةُ والسَّبعةُ، فَدارتْ عُقْبَةُ رجلٍ مِنَ الأنصارِ على ناضِحٍ له، فأناخَهُ فركِبَهُ، ثمَّ بَعثَهُ فتَلَدَّنَ عليه بَعضَ التَّلَدُّنِ، فقال له: شَأْ، لَعنَك الله. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن هذا اللَّاعِنُ بَعيرَهُ؟». قال: أنا، يا رسولَ الله. قال: «انْزِلْ عنه، فلا تَصْحَبْنا بِمَلعونٍ، لا تَدعوا على أَنفُسِكُم، ولا تَدعوا على أَولادِكُم، ولا تَدعوا على أَموالِكُم، لا تُوافِقوا مِنَ الله ساعةً يُسأَلُ فيها عَطاءٌ، فَيسْتَجيبُ لكم». وبُواطٌ: جبلٌ مِن جبالِ جُهَينةَ، بِقُربِ يَنْبُعَ.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةَ أبي حَدْرَدٍ الأسلميِّ إلى الغابةِ، وسببُ ذلك أنَّ رجلًا مِن جُشَمِ بنِ مُعاويةَ أَقبلَ في عددٍ كبيرٍ إلى الغابةِ، يُريدُ أن يَجمعَ قَيسًا على مُحارَبةِ المسلمين، فبعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا حَدْرَدٍ مع رَجلينِ ليأتوا منه بِخَبرٍ وعِلْمٍ، فوصلوا إلى القومِ مع غُروبِ الشَّمسِ، فكَمَنَ أبو حَدْرَدٍ في ناحيةٍ، وصاحِباهُ في ناحيةٍ أُخرى، وأَبطأَ على القومِ رِاعيهِم حتَّى ذهَبتْ فَحْمَةُ العِشاءِ، فقام رَئيسُ القومِ وَحدَهُ، فلمَّا مَرَّ بأبي حَدْرَدٍ رَماهُ بِسَهمٍ في فُؤادِه فسقَط ولم يَتكلَّمْ، فاحْتَزَّ أبو حَدْرَدٍ رَأسَهُ، وشَدَّ في ناحيةِ العَسكرِ وكَبَّرَ، وكَبَّرَ صاحِباهُ وشَدَّا، فما كان مِنَ القومِ إلَّا الفِرارُ، واسْتاقَ المسلمون الثلاثةُ الكَثيرَ مِنَ الإبلِ والغَنَمِ.
كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبلَ عَقْدِ صُلحِ الحُديبيةِ بعَث خِراشَ بنَ أُميَّةَ الخُزاعيَّ إلى مكَّةَ، وحمَلهُ على جَملٍ له يُقالُ له: الثَّعلبُ. فلمَّا دخَل مكَّةَ عَقَرَتْ به قُريشٌ وأرادوا قَتْلَ خِراشٍ فمنَعهُم الأَحابيشُ (هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق من خزاعة) حتَّى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فدَعا عُمَرَ لِيَبعثَهُ إلى مكَّةَ، فقال: يا رسولَ الله إنِّي أَخافُ قُريشًا على نَفْسي، وليس بها مِن بني عَدِيٍّ أحدٌ يَمنعُني، وقد عَرفتْ قُريشٌ عَداوتي إيَّاها وغِلْظَتي عليها؛ ولكنْ أَدلُّك على رجلٍ هو أَعزُّ مِنِّي عُثمانَ بنِ عفَّانَ. فدَعاهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فبعَثهُ إلى قُريشٍ يُخبِرُهم أنَّه لم يأتِ لحربٍ، وأنَّه جاء زائرًا لهذا البيتِ مُعَظِّمًا لِحُرمَتِه، فخرج عُثمانُ حتَّى أتى مكَّةَ ولَقِيَهُ أَبانُ بنُ سَعيدِ بنِ العاصِ، فنزَل عن دَابَّتِه وحمَله بين يَديه ورَدِف خلفَه وأَجارهُ حتَّى بلَّغَ رِسالةَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فانطلق عُثمانُ حتَّى أتى أبا سُفيانَ وعُظماءَ قُريشٍ فبَلَّغهُم عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما أَرسلهُ به، فقالوا لِعُثمانَ: إن شِئتَ أن تَطوفَ بالبيتِ فَطُفْ به. فقال: ما كنتُ لأفعلَ حتَّى يَطوفَ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فاحْتبسَتهُ قُريشٌ عندها، فبلَغ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمين أنَّ عُثمانَ قد قُتِلَ).قال ابنُ عُمَرَ رضِي الله عنهما:كانت بَيعةُ الرِّضوانِ بعدَ ما ذهَب عُثمانُ إلى مكَّةَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِه اليُمنى: «هذه يدُ عُثمانَ». فضرَب بها على يدِه، فقال: «هذه لِعُثمانَ».
وقال جابرُ بنُ عبدِ الله: كُنَّا يومَ الحُديبيةِ ألفًا وأربعَ مائةٍ، فبايَعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعُمَرُ آخِذٌ بيدِه تحت الشَّجرةِ، وهي سَمُرَةٌ. وقال لنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليومَ خيرُ أهلِ الأرضِ». ثم قال جابرٌ: لو كنتُ أُبصِرُ لأَرَيْتُكُم مَوضِعَ الشَّجرةِ.
وعن مَعقِلِ بنِ يَسارٍ قال: لقد رَأيتُني يومَ الشَّجرةِ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُبايِعُ النَّاسَ، وأنا رافعٌ غُصنًا مِن أَغصانِها عن رَأسِه، ونحن أربعَ عشرةَ مائةً. وقدِ اخْتلفتِ الرِّواياتُ في عَددِهم، فقال ابنُ حَجَرٍ: (والجمعُ بين هذا الاختلافِ أنَّهم كانوا أكثرَ مِن ألفٍ وأربعمائةٍ، فمَن قال: ألفًا وخمسمائةٍ جبَر الكَسرَ، ومَن قال: ألفًا وأربعمائةٍ أَلغاهُ).
سار سعودُ بن عبد العزيز وقَصْدُه بريدة، ومعه آل عليان الذين خرجوا منها سنة 1188 عندما أخذها عريعر بن دجين عنوةً, وفرض عليها حصارًا وبنى تجاهها حِصنًا جعل فيه عدَّةَ رجال عبد الله بن حسن أميرًا عليهم يواصِلُ منه الحصارَ على بريدة، فلما اشتد الأمر بأهل بريدة أرسل أمير البلد راشد الدريبي إلى عبد الله بن حسن الأمانَ لنفسه وأن يخرجَ لوحده فأعطاه الأمان وخرج إليه راشد، ثم دخل عبد الله ومن معه البلد وملكوها، وقُتل في ذلك الحصار 50 رجلًا من قوم الدريبي، واستولى عبد الله على ما فيها من الأموالِ، وبعد هذه الواقعة انقاد أهلُ القصيم وبايعوا على السَّمعِ والطاعة، ووفد عبد الله ومعه رجالٌ من رؤساء القصيم على الشيخِ والإمام عبد العزيز فبايعوهما على السمع والطاعة، واسُتعمل عبد الله بن حسن أميرًا على جميع بلدانِ القصيم.
كان ابتِداءُ أَمرِ المُلَثَّمِينَ، وهُم عِدَّةُ قَبائلَ يُنسَبون إلى حِمْيَر، أَشهرُها: لَمْتُونَة، ومنها أَميرُ المُسلمين يُوسف بن تاشفين، وجدالة ولمطة، وكان أوَّلُ مَسيرِهم مِن اليَمنِ، أيَّامَ أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، فسَيَّرَهُم إلى الشَّامِ وانتَقَلوا إلى مصر، ودَخَلوا المغربَ مع موسى بن نُصير، وتَوجَّهوا مع طارقِ إلى طَنجة، فأَحَبُّوا الانفِرادَ، فدَخلوا الصَّحراءَ واستَوطَنوها، فلمَّا كان هذه السَّنَة تَوجَّه رجلٌ منهم، اسمُه الجوهر -من قَبيلةِ جدالة- إلى إفريقية طالِبًا للحَجِّ، وكان مُحِبًّا للدِّينِ وأَهلِه، فلمَّا انصَرَف مِن الحَجِّ قال للفَقيهِ: ابعَثْ معي مَن يُعَلِّمُهم شَرائعَ الإسلام. يعني قَومَه في الصَّحراء، فأَرسَل معه رَجُلًا اسمُه: عبدُ الله بن ياسين الكزولي، وكان فَقِيهًا صالحًا، فلم يَقبَلوهُ فرَحَلَا عنهم، فانتهى الجوهرُ وابنُ ياسين إلى جدالة -قَبيلةِ الجوهر- فدَعاهُم عبدُ الله بن ياسين والقَبائلَ الذين يُجاوِرُونَهم إلى حُكمِ الشَّريعةِ، فمِنهم مَن أَطاعَ، ومِنهم مَن أَعرضَ وعَصى، ثم إنَّ المُخالِفين لهم تَحيَّزوا وتَجمَّعوا، فقال ابنُ ياسين للذين أطاعوا: قد وجَبَ عليكم أن تُقاتِلوا هؤلاء الذين خالَفوا الحَقَّ، وأَنكَروا شَرائعَ الإسلامِ، واسْتَعَدُّوا لِقِتالِكُم، فأَقِيموا لكم رايَةً، وقَدِّموا عليكم أَميرًا. فأَتَيَا أبا بكرِ بن عُمرَ، فعَقَدوا له البَيْعَةَ، وسَمَّاهُ ابنُ ياسين أَميرَ المُسلِمين، وعادوا إلى جدالة، وجَمَعوا إليهم مَن حَسُنَ إِسلامُه، وحَرَّضَهم عبدُ الله بن ياسين على الجِهادِ في سَبيلِ الله، وسَمَّاهُم مُرابِطين، وتَجَمَّع عليهم مَن خالَفَهُم، فلم يُقاتِلهُم المُرابِطون؛ بل استعان ابنُ ياسين وأبو بكرِ بن عُمرَ على أولئك الأَشرارِ بالمُصلِحينَ مِن قَبائلِهم، فاستَمالُوهم وقَرَّبوهُم حتى حَصَّلُوا منهم نحوَ ألفي رَجُلٍ مِن أَهلِ البَغْيِ والفَسادِ، فتَركُوهم في مَكانٍ، وخَنْدَقوا عليهم، وحَفَظوهُم، ثم أَخرجوهُم قَومًا بعدَ قَومٍ، فقَتَلوهُم، فحينئذٍ دانت لهم أَكثرُ قَبائلِ الصَّحراءِ، وهابوهُم، فقَوِيَت شَوكةُ المُرابِطين.
تَبوكُ مَوضِعٌ بين وادي القُرى والشَّامِ، قال أبو موسى الأَشعريُّ رضي الله عنه: (أَرسلَني أَصحابي إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَسأَلُه الحُمْلانَ لهم إذ هُم معه في جَيشِ العُسْرَةِ، وهي غَزوةُ تَبوكَ..). وحديث أبي موسى رضي الله عنه فيه دِلالةٌ على ما كان عليه الصَّحابةُ مِنَ العُسْرِ الشَّديدِ في المالِ والزَّادِ والرَّكائِبِ، كما رَوى مُسلمٌ أيضًا عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه ما وقع للمسلمين في طَريقِ هذه الغَزوةِ مِن نَقْصٍ في الزَّادِ حتَّى مَصُّوا النَّوَى وشَرِبوا عليه الماءَ، وفي رِوايةٍ أُخرى لمُسلمٍ: أنَّهم اسْتأذَنوا الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم في نَحْرِ مَطاياهُم لِيأكُلوا. وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]. قال ابنُ كَثيرٍ: فعزَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قِتالِ الرُّومِ؛ لأنَّهم أَقربُ النَّاسِ إليه؛ وأَوْلى النَّاسِ بالدَّعوَةِ إلى الحقِّ لقُربِهِم إلى الإسلامِ وأَهلِه، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]. وقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم وِجْهَةَ هذه الغَزوةِ، فعن مُعاذٍ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (سَتأْتون غدًا إن شاء الله عَيْنَ تَبوكَ، وإنَّكم لن تَأْتوها حتَّى يَضْحى النَّهارُ، فمَن جاءَها مِنكم فلا يَمَسَّ مِن مائِها شيئًا حتَّى آتي). والمشهورُ والرَّاجحُ أنَّ جَيشَ تَبوكَ كان ثلاثين ألفًا، ولكنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَلْقَ حَربًا مِنَ الأعداءِ، فرجَع إلى المدينةِ مُنتصِرًا بعدَ أن أقامَ بتَبوكَ عِشرين ليلةً.
لمَّا تَمَكَّنَ عبدُ الملك مِن الشَّام أراد أن يَضُمَّ لها العِراقَ، وقد قِيلَ: إن أَهلَها كاتَبوا عبدَ الملك لِيَسيرَ إليهم، وكانت العِراقُ مع ابنِ الزُّبير وواليها مُصعَبُ أَخوهُ، فسار إليه بِنَفسِه فلمَّا عَلِمَ مُصعبٌ بذلك سار إليه ومعه إبراهيمُ بن الأَشْتَرِ، وكان على المَوصِل والجزيرةِ، فلمَّا حضَر عنده جَعلَه على مُقدِّمَتِه وسار حتَّى نزل باجُمَيرَى، وهي قريبٌ مِن أَوانا، وهي مِن مَسْكِن، فعَسْكَرَ هناك، وسار عبدُ الملك وعلى مُقدِّمتِه أخوه محمَّدُ بن مَرْوان، وخالدُ بن عبدِ الله بن خالدِ بن أُسَيْدٍ، فلمَّا تَدانَى العَسْكرانِ أَرسَل عبدُ الملك إلى مُصعَبٍ رجلًا مِن كَلْبٍ وقال له: أَقْرِئْ ابنَ أُختِك السَّلامَ -وكانت أُمُّ مُصعَبٍ كَلبيَّةً- وقُلْ له يَدَعُ دُعاءَهُ إلى أَخيهِ، وأَدَعُ دُعائي إلى نَفْسي، ويَجْعَل الأمرَ شُورى. فقال له مُصعَبٌ: قُلْ له السَّيفَ بيننا. فقَدَّمَ عبدُ الملك أخاهُ محمَّدًا، وقَدَّمَ مُصعَبٌ إبراهيمَ بن الأشْتَرِ، فالْتَقيا فتَناوَش الفَريقانِ فقُتِلَ صاحِبُ لِواءِ محمَّدٍ، وجعَل مُصعَبٌ يَمُدُّ إبراهيمَ، فأزال محمَّدًا عن مَوقِفِه، فوَجَّهَ عبدُ الملك عبدَ الله بن يَزيدَ إلى أخيهِ محمَّدٍ، فاشْتَدَّ القِتالُ، فقُتِلَ مُسلِم بن عَمرٍو الباهليُّ والدُ قُتيبَة، وهو مِن أصحابِ مُصعَبٍ، وتَقَدَّمَ أهلُ الشَّام فقاتَلهم مُصعَبٌ ثمَّ عرَض عبدُ الملك الأمانَ على مُصعَبٍ فأَبَى وبَقِيَ يُقاتِلُهم، ثمَّ إنَّ كثيرًا خَذلوا مُصعبًا، وقِيلَ: لم يَبْقَ معه سِوى أربعةٍ، وكَثُرَت الجِراحاتُ بمُصْعَب فضَرَبهُ رجلٌ -يُقالُ له: عبيدُ الله بن زيادِ بن ظِبْيان التَّميميُّ- فقَتلَهُ وحمَل رَأسَهُ إلى عبدِ الملك.
أَغار عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ -في بني عبدِ الله بنِ غَطَفانَ- على لِقاحِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي بالغابةِ، فاسْتاقَها وقتَل راعيَها، وهو رجلٌ مِن غِفارٍ، وأخذوا امْرأتَهُ، فكان أوَّلَ مَن نذَر بهم سَلمةُ بنُ عَمرِو بنِ الأَكْوَعِ الأَسلميُّ رضي الله عنه، يقول سَلمةُ: خَرجتُ قبلَ أن يُؤذَّنَ بالأولى، وكانت لِقاحُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تَرعى بِذي قَرَدٍ، قال: فلَقِيَني غُلامٌ لِعبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ فقال: أُخِذَتْ لِقاحُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فقُلتُ: مَن أخَذها؟ قال: غَطَفانُ. قال: فصَرختُ ثلاثَ صَرخاتٍ، يا صَباحاهُ. قال: فأَسمَعتُ ما بين لابَتَيِ المدينةِ، ثمَّ اندَفعتُ على وجهي حتَّى أدركتُهم بِذي قَرَدٍ، وقد أخَذوا يَسقون مِنَ الماءِ، فجَعلتُ أَرميهِم بِنَبْلي، وكنتُ راميًا، وأقولُ: أنا ابنُ الأكوعِ... واليومُ يومُ الرُّضَّعِ، فأَرتَجِز حتَّى اسْتنقَذتُ اللِّقاحَ منهم، واسْتلَبتُ منهم ثلاثين بُردةً، قال: وجاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم والنَّاسُ، فقلتُ: يا نَبيَّ الله، إنِّي قد حَمَيْتُ القومَ الماءَ وهُم عِطاشٌ، فابعثْ إليهم السَّاعةَ. فقال: «يا ابنَ الأَكوعِ مَلَكْتَ فأَسْجِحْ». ثمَّ قال: «إنَّهم الآنَ ليُقْرَوْنَ في غَطَفانَ». وذهَب الصَّريخُ بالمدينةِ إلى بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، فَجاءتِ الأَمدادُ ولم تَزلْ الخيلُ تأتي، والرِّجالُ على أَقدامِهم وعلى الإبلِ حتَّى انْتَهَوْا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِذي قَرَدٍ. وبلغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ماءً يُقالُ له: ذو قَرَدٍ. فنحَر لِقْحَةً ممَّا اسْتَرجَع، وأقام هناك يومًا وليلةً، ثمَّ رجَع إلى المدينةِ. وقُتِلَ في هذه الغَزوةِ الأَخْرَمُ، وهو مُحْرِزُ بنُ نَضْلَةَ رضي الله عنه، قتَلهُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عُيينةَ، وتَحوَّل على فَرسِه، فحمَل عليه أبو قَتادةَ فقَتلهُ، واسْتَرجَع الفَرسَ، وكانت لِمحمودِ بنِ مَسلمةَ، وأَقبلتِ المرأةُ المَأسورةُ على ناقةٍ لِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد نَذرتْ: إنِ الله أَنجاها عليها لَتَنْحَرَنَّها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: بِئسَ ما جَزَتْها، لا نذرَ لابنِ آدمَ فيما لا يَملِك، ولا في مَعصيةٍ. وأخَذ ناقتَهُ. وقد رَوى مُسلمٌ في صَحيحِه عن سَلمةَ بنِ الأَكوعِ في هذه القِصَّةِ قال: فرجَعنا إلى المدينةِ، فلم نَلبثْ إلَّا ثلاثَ ليالٍ، حتَّى خرَجنا إلى خَيبرَ.
الإمام العلامة البحر شيخ الحنابلة: أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي، الظفري، الحنبلي، المتكلم، صاحب التصانيف، شيخ الحنابلة في زمانه. ولد سنة 431 هـ, وكان يسكن الظفرية -محلة كبيرة بشرقي بغداد- ومسجده بها مشهور. كان إمامًا مُبرزًا في كثير من العلوم، خارق الذكاء قوي الحجة واللسان، اشتغل أول أمره بمذهب المعتزلة واتُّهِم بالانحراف عن مذهب السنة حتى أراد الحنابلة قَتْلَه، ثم أظهر توبته وأعلنها وأشهد عليها وكُتب في ذلك مجلسٌ شهده كبار الفقهاء. قال الذهبي: "أخذ ابن عقيل علم العقليات عن شيخَي الاعتزال أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان؛ صاحبي أبي الحسين البصري، فانحرف عن السنة، وكان يتوقد ذكاءً، وكان بحر معارف، وكنز فضائل، لم يكن له في زمانه نظير على بدعته". قال أبو طاهر السِّلَفي: "ما رأت عيني مثل أبي الوفاء ابن عقيل الفقيه؛ ما كان أحدٌ يقدر أن يتكلم معه؛ لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته، تكلم يومًا مع شيخنا الكيا أبي الحسن، فقال له الكيا: هذا ليس مذهبك. فقال: أكون مثل أبي علي الجبَّائي، وفلان وفلان لا أعلم شيئًا؟! أنا لي اجتهاد متى ما طالبني خصم بالحجة، كان عندي ما أدفع به عن نفسي وأقوم له بحجتي. فقال الكيا: كذاك الظنُّ بك". قال ابن الجوزي: "جرت فتنة لأجل أبي الوفاء ابن عقيل، وكان أصحابنا قد نقموا عليه تردُّدَه إلى أبي علي بن الوليد؛ لأجل أشياء كان يقولها، وكان في ابن عقيل فطنة وذكاء، فأحب الاطلاع على كل مذهب يقصد ابن الوليد، وقرأ عليه شيئًا من الكلام في السر، وكان ربما تأوَّل بعض أخبار الصفات، فإذا أُنكِر عليه ذلك حاول عنه، واتَّفق أنه مَرِض فأعطى رجلًا ممن كان يلوذ به -يقال له: معالي الحائك- بعض كتبه، وقال له: إن متُّ فأحرِقْها بعدي، فاطلع عليها ذلك الرجل، فرأى فيها ما يدل على تعظيم المعتزلة والترحُّم على الحلاج، وكان قد صنَّف في مدح الحلاج جزءًا في زمان شبابه، وذلك الجزء عندي بخطه، تأوَّل فيه أقواله وأفعاله وفسَّر أسراره، واعتذر له، فمضى ذلك الحائك فأطلع على ذلك الشريف أبا جعفر وغيره، فاشتد ذلك على أصحابنا، وراموا الإيقاعَ به، فاختفى ثم التجأ إلى باب المراتب، ولم يزل في الأمر يختبط إلى أن آل إلى الصلاح في سنة خمس وستين وأربعمائة". وفي يوم الحادي عشر من محرم حضر أبو الوفاء ابن عقيل الديوان ومعه جماعة من الحنابلة واصطلحوا، وكانت نسخة ما كتبه ابن عقيل بخطه ونسب إلى توبته: "بسم الله الرحمن الرحيم، يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب المبتدعة والاعتزال وغيره، ومن صُحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم، والتكثر بأخلافهم، وما كنت علَّقتُه ووُجد خطي به من مذاهبهم وضلالاتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، وأنه لا تحل كتابته ولا قراءته ولا اعتقاده". قال ابن عقيل: "عصمني الله في شبابي بأنواع من العصمة، وقصَرَ محبتي على العلم، وما خالطت لعَّابًا قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم، وأنا في عشر الثمانين أجِدُ من الحرص على العلم أشدَّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين، وبلغت لاثنتي عشرة سنة، وأنا اليوم لا أرى نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحِدَّة النظر بالعين لرؤية الأهِلَّة الخفية إلا أن القوة ضعيفة". برع في الفقه والأصول، وله مصنفات أشهرها: كتاب الفنون، ولكن قيل: إنه لم يتمَّه. ولو تمَّ لأغنى عن كل المؤلفات! وله الرد على الأشاعرة في مسألة الحرف والصوت، وله الواضح في أصول الفقه، والفصول في الفقه الحنبلي، وغيرها. توفي بُكرةَ الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى في بغداد عن 82 عامًا. وكان الجمع في الصلاة عليه يفوت الإحصاء؛ "قال ابن ناصر شيخنا: حزرتهم بثلاثمائة ألف. قال المبارك بن كامل: صُلِّي على شيخنا بجامع القصر، فأمَّهم ابن شافع، وكان الجمع ما لا يحصى، وحُمل إلى جامع المنصور، فصُلِّي عليه، وجرت فتنة وتجارحوا، ونال الشيخ تقطيعُ كفنه، ودُفن قريبًا من الإمام أحمد, وقال ابن الجوزي أيضًا فيه: هو فريد فنه، وإمام عصره، كان حسَنَ الصورة، ظاهِرَ المحاسن".
قال ابنُ عبَّاسٍ رضِي الله عنهما: قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه مكَّةَ، وقد وَهَنَتْهُم حُمَّى يَثْرِبَ، قال المشركون: إنَّه يَقدُمُ عليكم غَدًا قومٌ قد وَهَنَتْهُم الحُمَّى، ولَقوا منها شِدَّةً، فجلسوا ممَّا يَلِي الحِجْرَ، وأَمرَهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يَرمُلوا ثلاثةَ أَشواطٍ، ويَمشوا ما بين الرُّكنَينِ، لِيَرى المشركون جَلَدَهُم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زَعمْتُم أنَّ الحُمَّى قد وَهَنَتْهُم، هؤلاء أَجلدُ مِن كذا وكذا. قال ابنُ عبَّاسٍ: ولم يَمنعْهُ أن يَأمُرَهُم أن يَرمُلوا الأشواطَ كُلَّها إلَّا الإبْقاءُ عليهم. وفي هذه العُمرَةِ تَزوَّجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمَيمونَةَ بنتِ الحارثِ رضي الله عنها.
بلَغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ يَسيرَ بنَ رِزامٍ اليَهوديَّ يَجمعُ غَطَفانَ لِيَغزو بهم المدينةَ، فبعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بنَ رَواحةَ في ثلاثين راكبًا إلى يَسيرِ بنِ رِزامٍ حتَّى أَتَوْهُ بِخَيبرَ، فقالوا: أَرسلَنا إليك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِيَستعمِلَك على خَيبرَ, فلم يزالوا به حتَّى تَبِعَهُم في ثلاثين رجلًا مع كُلِّ رجلٍ منهم رَديفٌ مِنَ المسلمين، فلمَّا بلغوا قَرْقَرَةَ نِيارٍ نَدِمَ يَسيرُ بنُ رِزامٍ فأَهوى بيدِه إلى سَيفِ عبدِ الله بنِ رَواحةَ، ففَطِنَ له عبدُ الله بنُ رَواحةَ فزَجَر بَعيرَهُ ثمَّ اقْتَحَم يَسوقُ بالقَومِ، حتَّى اسْتمكَن مِن يَسيرٍ فضرَب رِجلَهُ فقطَعها، واقْتحَم يَسيرٌ وفي يدِه مِخْراشٌ مِن شَوْحَطٍ فضرَب به وَجْهَ عبدِ الله بنِ رَواحةَ فشَجَّهُ شَجَّةً مَأمومةً, وانْكفَأ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ المسلمين على رَديفِه فقَتلهُ، غَيرَ رَجُلٍ واحدٍ مِنَ اليَهودِ أعَجزَهُم شَدًّا ولم يُصِبْ مِنَ المسلمين أحدًا، فبَصَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في شَجَّةِ عبدِ الله بنِ رَواحةَ فلم تُقَيَّحْ ولم تُؤْذِهِ حتَّى مات.
هو أَصْحَمَةُ بنُ أَبْجَرَ مَلِكُ الحَبشةِ، والنَّجاشيُّ لَقبٌ له ولمُلوكِ الحَبشةِ، ومَعْنى: أَصْحَمَةَ: عَطِيَّةُ، وقِيلَ: عَطِيَّةُ الله، وقِيلَ: عَطاءٌ.
تَوَلَّى الحُكمَ بعدَ مَوتِ عَمِّهِ، وبعدَ سَنواتٍ مِن حُكمِهِ وانْتِشارِ عَدْلِه أَسلمَ في عَهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأَحسنَ إلى المسلمين الذين هاجَروا إلى أَرضِه، قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأَصحابِه عن النَّجاشيِّ: لو خَرجتُم إلى أرضِ الحَبشةِ فإنَّ بها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عنده أحدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ، حتَّى يَجعلَ الله لكم فَرَجًا. ولمَّا ماتَ صلَّى عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ صَلاةَ الغائِبِ، فعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نَعى لهم النَّجاشيَّ صاحِبَ الحَبشةِ، في اليَومِ الذي مات فيه، وقال: «اسْتَغْفِروا لأَخيكُم». وعن جابرٍ رضي الله عنه: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حين مات النَّجاشيُّ: «مات اليَومَ رَجلٌ صالِحٌ، فقوموا فصَلُّوا على أَخيكُم أَصْحَمَةَ».
كتَب أبو موسى الأَشعريُّ إلى عُمَر: إنَّه يأتينا منك كُتُبٌ ليس لها تاريخٌ، فجمَع عُمَرُ النَّاسَ للمَشُورَةِ، فقال بعضُهم: أَرِّخْ لِمَبْعَثِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال بعضُهم: لمُهاجرَةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. فقال عُمَرُ: بل نُؤَرِّخُ لمُهاجرَةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فإنَّ مُهاجَرتَه فَرْقٌ بين الحَقِّ والباطلِ. قاله الشَّعْبِيُّ، وقال مَيمونُ بن مِهْرانَ: وقِيلَ: رُفِعَ إلى عُمَرَ صَكٌّ مَحِلُّهُ شَعبان، فقال: أَيُّ شَعبان؟ أَشَعبان الذي هو آتٍ، أم شَعبان الذي نحن فيه؟ ثمَّ قال لأصحابِ رسولِ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم: ضَعوا للنَّاسِ شيئًا يَعرِفونه. فقال بعضُهم: اكْتُبوا على تاريخ الرُّومِ، فإنَّهم يُؤَرِّخون مِن عَهدِ ذي القَرْنينِ. فقال: هذا يَطُول. فقال: اكْتُبوا على تاريخ الفُرْسِ. فقِيلَ: إنَّ الفُرْسَ كُلمَّا قام مَلِكٌ طَرَحَ تاريخَ مَن كان قَبلَهُ. فاجتمع رَأيُهم على أن يَنظروا كم أقام رسولُ الله بالمدينةِ، فوَجدوه عشرَ سِنين، فكتبوا التَّاريخَ مِن هِجرَةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. قال محمَّدُ بن سِيرينَ: قام رجلٌ إلى عُمَر فقال: أَرِّخُوا. فقال عُمَرُ: ما أَرِّخُوا؟ فقال: شيءٌ تَفعلُه الأعاجمُ في شهرِ كذا مِن سَنَةِ كذا. فقال عُمَرُ: حَسَنٌ، فأَرِّخُوا. فاتَّفَقوا على الهِجرَةِ، ثمَّ قالوا: مِن أيِّ الشُّهورِ؟ فقالوا: مِن رَمضان. ثمَّ قالوا: فالمُحَرَّمُ هو مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِن حَجِّهِم، وهو شهرٌ حرامٌ. فأَجْمَعوا عليه.
لمَّا تمَّ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من العُمُرِ اثنَتا عَشْرةَ سنةً، سافر عمُّه أبو طالِبٍ إلى الشَّامِ في رَكبٍ للتِّجارةِ، فأخَذهُ معه. ولمَّا نزلَ الرَّكبُ (بُصرَى) مرّوا على راهِبٍ هناك يُقال له (بَحيرَا)، وكان عليمًا بالإنجيلِ، خبيرًا بالنَّصرانيَّةِ، وهناك أبصرَ بَحيرَا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجَعَلَ يتأمَّلُه ويُكلِّمُه، ثم الْتَفَتَ إلى أبي طالبٍ فقال له: ما هذا الغُلامُ مِنكَ؟ فقال: ابني (وكان أبو طالِبٍ يَدعوه بابنِه؛ لشدَّةِ محبَّتِه له وشَفَقَتِه عليه). فقال له بَحيرَا: ما هو بِابنِك، وما ينبغي أن يكونَ أبو هذا الغُلامِ حيًّا. فقال: هو ابنُ أخي. قال: فما فَعَل أبوه؟ قال: مات وأُمُّه حُبلَى به. قال بَحيرَا: صدقتَ. فارجِعْ به إلى بلدِه واحذَرْ عليه يهودَ؛ فوالله لئنْ رأوْهُ هنا لَيَبْغُنَّهُ شرًّا؛ فإنَّه كائنٌ لابنِ أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ. فأسرَع به أبو طالبٍ عائدًا إلى مكَّةَ.
وروَى التِّرمذيُّ: أنَّ أبا طالبٍ خرج إلى الشَّامِ، وخَرَج معه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أشياخٍ من قُرَيشٍ؛ فلمَّا أشرَفوا -اقتَرَبوا- على الرَّاهِب -يَعني: بَحيرَا- هَبَطوا فحَلُّوا رِحالَهم؛ فخَرَج إليهمُ الراهبُ، وكانوا قبل ذلك يَمرُّون به فلا يخرُجُ إليهم ولا يَلتفِتُ إليهم، قال: وهم يَحُلُّون رِحالَهم؛ فجَعَل يَتخلَّلُهمُ الرَّاهبُ حتى جاء فأخَذ بيَدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: هذا سيِّدُ العالَمين، هذا رسولُ ربِّ العالَمين، يبعَثُه اللهُ رحمةً للعالَمين، فقال له أشياخٌ من قُريشٍ: ما عِلمُك؟ قال: إنَّكم حين أشرفتُم من العقبةِ لم يبقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجدًا، ولا يَسجُدانِ إلا لنبيٍّ، وإنِّي أعرِفُه بخاتَمِ النبوَّةِ أسفلَ من غُضروفِ كَتِفِه مثلِ التُّفَّاحةِ، ثم رَجَع فصَنَع لهم طعامًا، فلمَّا أتاهم به، وكان هو -أي: الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في رِعيةِ الإبلِ، قال: أرسِلوا إليه. فأقبَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعليه غَمامةٌ تُظِلُّه، فلما دنا من القَومِ، وَجَدَهم قد سَبَقوه إلى فيءِ -ظلِّ- الشَّجرةِ، فلمَّا جلس رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مالَ فَيءُ الشجرةِ عليه، فقال بَحيرَا: انظُروا إلى فَيءِ الشجرةِ مالَ عليه! قال: فبينما هو قائمٌ عليهم، وهو يُناشِدُهم ألَّا يَذهَبوا به إلى الرُّومِ؛ فإنَّ الرُّومَ إن رأوه عَرَفوه بالصِّفةِ فيقتُلونَه، فالْتفَتَ فإذا بسَبعةٍ قد أقبلوا من الرُّومِ فاستَقبَلَهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جِئنا أنَّ هذا النبيَّ خارِجٌ في هذا الشَّهرِ، فلم يبقَ طريقٌ إلَّا بُعِثَ إليه بأُناسٍ، وإنَّا قد أُخبِرنا خَبَرَه، فبُعِثنا إلى طريقِك هذا، فقال: هل خَلَفَكم أحدٌ هو خيرٌ منكم؟ قالوا: إنَّما أُخبِرنا خَبَرَه إلى طريقِكَ هذا. قال: أفَرَأيتم أمرًا أراد اللهُ أن يقضيَه، هل يستطيع أحدٌ من الناس ردَّه؟ قالوا: لا، قال: فبايَعوه، وأقاموا معه عنده. قال: فقال الرَّاهبُ بَحيرَا: أنشُدكم اللهَ أيُّكم وَليُّه؟ قال أبو طالب: فلم يزَل يُناشِدُه حتى ردَّه أبو طالِبٍ".