لَمَّا دخلت الدَّولةُ العُثمانيةُ في عِدَّةِ حُروبٍ في آنٍ واحدٍ مع الروسِ واليونانيِّين والبلغار والرومان والأرمن واليوغسلاف، أصبحت عاجزةً عن حمايةِ ولاياتِها وفَرْضِ النظامِ والتحَكُّمِ في الولاةِ الذين صاروا يَنصِبون ويَعزِلون حسَبَ نزواتِ الجُندِ في جوٍّ مشحون بالمؤامراتِ والعُنفِ. وفي كثيرٍ مِن الأحيان لم يبقَ الوالي في منصِبِه أكثَرَ مِن عام واحد، حتى إنه في الفترة ما بين سنة (1672 م-1711 م) تولى الحُكمَ أربعة وعشرون واليًا في ليبيا! ولقد مرَّت ليبيا بأوقاتٍ عصيبة عانى الليبيُّون فيها الويلاتِ نتيجةً لاضطراب الأمنِ وعدم الاستقرار، وفي هذه السَّنةِ قاد أحمد القره مانلي ثورةً شعبيةً أطاحت بالوالي العثماني، وكان أحمدُ هذا ضابطًا في الجيش العثماني، فقَرَّر تخليصَ ليبيا من الحكَّامِ الفاسدين ووضْعَ حدٍّ للفوضى، ولَمَّا كان شعب ليبيا قد ضاق ذَرعًا بالحُكمِ الصارمِ المستَبِدِّ، فقد رحَّب بأحمد القره مانلي الذي تعهَّد بحُكمٍ أفضَلَ، وقد وافق السلطانُ على تعيينه باشا على ليبيا، ومنحه قدرًا كبيرًا مِن الحُكمِ الذاتي، ولكِنَّ القره مانليين كانوا يعتبرون حتى الشؤون الخارجيَّة من اختصاصاتِهم.
نشبت الحربُ بين الدولة العليَّة وروسيا؛ وذلك أنه لما توفِّيَ أوغست الثالث ملك بولونيا سعت كاترين الثانية إمبراطورة روسيا في تعيين أحد أتباعها مَلِكًا على بولونيا خلافًا لِما تعهَّدت به روسيا للدولة العلية؛ ولذلك تنبهت الدولة العلية إلى نتيجةِ هذه السياسة وعَلِمَت أنها إن لم تضَعْ حدًّا لتقدم نفوذ روسيا في بولونيا، فلا تلبث بولونيا أن تُمحى من العالم السياسي بانضمامها لروسيا أو بتجزئتِها بينها وبين مجاوريها، لكن كان تنبُّه الدولة هذا بعد فوات الوقت المناسب، فإنه كان يجِبُ عليها مساعدة السويد وبذْل النفس والنفيس في حفظ ولايتها الواقعةِ على البلطيق من الوقوع في أيدي روسيا، ومع كل هذا فقد أرادت الدولة العليَّةُ استدراك ما فات وأوعزت إلى كريم كراي خان القرم أن يعلِنَ الحرب على روسيا، فأغار بخيله ورَجِلِه على إقليم سربيا الجديدة الذي عمرته روسيا، مع أن المعاهدات التي بينها وبين الدولتين تنصُّ على منع وصول المساعدة من خان القرم إلى بولونيا, وكانت نتيجةُ إغارة كريم كراي على هذه الولاية خرابًا كثيرًا من المستعمرات الروسية، وعودته بكثير من الأسرى، وتوفِّي قبل أن تنتهي الحرب التي استمرت حتى عام 1187هـ.
كان السلطانُ محمد بن ملكشاه ببغداد عازمًا على المقام بفارس، فاضطرَّ إلى المسير إلى أصبهان ليكونَ قريبًا من فارس؛ لئلَّا تختلف عليه، ولما قصده جاولي سقاوو ورضي عنه أقطعَه بلاد فارس، بعد أن أخذ منه الموصل, فسار جاولي إليها ومعه ولد السلطان جغري، وهو طفل له من العمر سنتان، وأمره بإصلاحها، وقَمْعِ المفسدين بها، فسار إليها، فأوَّل ما اعتمده فيها أنه لم يتوسط بلاد الأمير بلدجي، وهو من كبار مماليك السلطان ملكشاه، ومن جملة بلاده كليل وسرماه، وكان متمكنًا بتلك البلاد. وراسله جاولي ليحضر خدمة جغري ولد السلطان، وعلَّم جغري أن يقول بالفارسية: خذوه، فلما دخل بلدجي قال: جغري على عادته: خذوه، فأُخِذ وقُتِل، ونُهِبت أموالُه. وكان لبلدجي من جملة حصونه قلعة إصطخر، وهي من أمنع القلاع وأحصنها، وكان بها أهلُه وذخائره، وقد استناب في حفظها وزيرًا له يعرف بالجهرمي، فعصى عليه، وأخرج إليه أهله وبعض المال، ولم تزل في يد الجهرمي حتى وصل جاولي إلى فارس فأخذها منه، وجعل فيها أمواله. وكان بفارس جماعة من أمراء الشوانكارة، وهم خلق كثير لا يُحصَون، ومُقَدَّمُهم الحسن بن المبارز، المعروف بخسرو، وله فسا وغيرها، فراسله جاولي ليحضُرَ خدمة جغري، فأجاب: إنني عبد السلطان وفي طاعته، فأما الحضور فلا سبيل إليه؛ لأنني قد عرفت عادتك مع بلدجي وغيره، ولكنني أحمل إلى السلطان ما يؤثِرُه. فلما سمع جاولي جوابه علم أنه لا مقامَ له بفارس معه، فأظهر العودَ إلى السلطان، وحمل أثقالَه على الدواب، وسار كأنه يطلب السلطان، ورجع الرسولُ إلى خسرو فأخبره، فاغتَرَّ وقعد للشرب وأمن. وأما جاولي فإنه عاد من الطريق إلى خسرو جريدة في نفر يسير، فوصل إليه وهو مخمور نائم، فكبسَه، فأنبهه أخوه فضلوه، فلم يستيقظ فصب عليه الماء البارد فأفاق، وركب من وقته وانهزم، وتفَرَّق أصحابه، ونهب جاولي ثقله وأمواله، وأكثر القتلَ في أصحابه، ونجا خسرو إلى حصنه، وهو بين جبلين، يقال لأحدهما أنج. وسار جاولي إلى مدينة فسا فتسلمها، ونهب كثيرًا من بلاد فارس منها جهرم، وسار إلى خسرو وحصره مدة، وضيق عليه، فرأى من امتناع حصنه وقوتِه وكثرة ذخائره ما علم معه أن المدة تطول عليه، فصالحه ليشتغِلَ بباقي بلاد فارس، ورحل عنه إلى شيراز، فأقام بها، ثم توجه إلى كارزون فملكها، وحصر أبا سعد محمدًا في قلعته، وأقام عليها سنتين صيفًا وشتاء، فراسله جاولي في الصلح، ثم نفذ ما عند أبي سعد، فطلب الأمان فأمَّنه، وتسلم الحصن. ثم إن جاولي أساء معاملته، فهرب، فقبض على أولاده، وبثَّ الرجال في أثره، فرأى بعضهم زنجيًّا يحمل شيئًا، فقال: ما معك؟ فقال: زادي، ففتَّشه، فرأى دجاجًا وحلواء السكر، فقال: ما هذا من طعامِك! فضربه، فأقَرَّ على أبي سعد، وأنه يحمِلُ ذلك إليه، فقصدوه، وهو في شِعبِ جبل، فأخذه الجندي وحمله إلى جاولي فقتله. وسار إلى داربجرد، وصاحبها اسمه إبراهيم، فهرب صاحبها منه إلى كرمان خوفًا منه، وكان بينه وبين صاحب كرمان صهر، وهو أرسلانشاه بن كرمانشاه بن أرسلان بك بن قاورت، فقال له: لو تعاضدنا لم يقدِرْ علينا جاولي، وطلب منه النجدة، وسار جاولي بعد هربه منه إلى حصار رتيل رننه، يعني مضيق رننه، وهو موضع لم يؤخذ قهرًا قط؛ لأنه واد نحو فرسخين، وفي صدره قلعة منيعة على جبل عال، وأهل داربجرد يتحصَّنون به إذا خافوا، فأقاموا به، وحفظوا أعلاه. فلما رأى جاولي حصانتَه سار يطلب البرية نحو كرمان، كاتمًا أمره، ثم رجع من طريق كرمان إلى داربجرد، مظهرًا أنه من عسكر الملك أرسلانشاه، صاحب كرمان، فلم يشكَّ أهل الحصن أنهم مدَدٌ لهم مع صاحبهم، فأظهروا السرور، وأذنوا له في دخول المضيق، فلما دخله وضع السيفَ فيمن هناك، فلم ينجُ غير القليل، ونهب أموالَ أهل داربجرد وعاد إلى مكانه، وراسل خسرو يعلمه أنه عازم على التوجه إلى كرمان، ويدعوه إليه، فلم يَجِدْ بدًّا من موافقته، فنزل إليه طائعًا، وسار معه إلى كرمان، وأرسل إلى صاحبها القاضي أبا طاهر عبد الله بن طاهر قاضي شيراز، يأمره بإعادة الشوانكارة؛ لأنهم رعية السلطان، يقول: إنه متى أعادهم عاد عن قصد بلاده، وإلا قصَدَه، فأعاد صاحب كرمان جواب الرسالة متضمنة الشفاعة فيهم؛ حيث استجاروا به. ولما وصل الرسول إلى جاولي أحسن إليه، وأجزل له العطاء، وأفسده على صاحبه، وجعله عينًا له عليه، وقرر معه إعادة عسكر كرمان ليدخل البلاد وهم غارُّون، فلما عاد الرسول وبلغ السيرجان، وبها عساكر صاحب كرمان، ووزيره مقدَّم الجيش، أعلم الوزير ما عليه جاولي من المقاربة، وأنه يفارق ما كرهوه، وأكثر من هذا النوع، وقال: لكنه مستوحِش من اجتماع العساكر بالسيرجان، وإن أعداء جاولي طمعوا فيه بهذا العسكر، والرأي أن تعاد العساكر إلى بلادها. فعاد الوزير والعساكر وخلت السيرجان، وسار جاولي في أثر الرسول، فنزل بفرج، وهي الحد بين فارس وكرمان، فحاصرها، فلما بلغ ذلك ملك كرمان أحضر الرسول وأنكر عليه إعادة العسكر، فاعتذر إليه. وكان مع الرسول فراش لجاولي ليعود إليه بالأخبار، فارتاب به الوزير، فعاقبه، فأقر على الرسول فصُلِب ونُهِبت أموالُه وصُلِب الفراش، وندب العساكر إلى المسير إلى جاولي، فساروا في ستة آلاف فارس. وكانت الولاية التي هي الحد بين فارس وكرمان بيد إنسان يسمَّى موسى، وكان ذا رأي ومكر، فاجتمع بالعسكر، وأشار عليهم بترك الجادة المسلوكة، وقال: إن جاولي محتاطٌ منها، وسلك بهم طريقًا غير مسلوكة بين جبال ومضايق. وكان جاولي يحاصِرُ فرج، وقد ضيَّق على من بها، وهو يدمن الشرب، فسير أميرًا في طائفة من عسكره ليلقى العسكر المنفذ من كرمان، فسار الأمير فلم ير أحدًا، فظن أنهم قد عادوا، فرجع إلى جاولي وقال: إن العسكر كان قليلًا، فعاد خوفًا منا، فاطمأن حينئذ جاولي، وأدمن شرب الخمر. ووصل عسكر كرمان إليه ليلًا، وهو سكران نائم، فأيقظه بعض أصحابه وأخبره، فقطع لسانه، فأتاه غيره وأيقظه وعرَّفه الحال، فاستيقظ وركب وانهزم، وقد تفرَّق عسكره منهزمين، فقُتِل منهم وأُسِرَ كثير، وأدركه خسرو وابن أبي سعد الذي قتل جاولي أباه، فسارا معه في أصحابهما، فلم ير معه أحدًا من أصحابه الأتراك، فخاف على نفسه منهم، فقالا له: إنا لا نغدِرُ بك، ولن ترى منا إلا الخير والسلامة، وسارا معه، حتى وصل إلى مدينة فسا، واتصل به المنهزمون من أصحابه، وأطلق صاحب كرمان الأسرى وجهزهم، وكانت هذه الوقعة في شوال سنة ثمان وخمسمائة. وبينما جاولي يدبر الأمر ليعاود كرمان ويأخذ بثأره توفِّيَ الملك جغري ابن السلطان محمد، وعمره خمس سنين، وكانت وفاته في ذي الحجة سنة تسع وخمسمائة، ففت ذلك في عضده، فأرسل ملك كرمان رسولًا إلى السلطان، وهو ببغداد، يطلب منه منع جاولي عنه، فأجابه السلطان أنه لا بد من إرضاء جاولي وتسليم فرج إليه، فعاد الرسول في ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة، فتوفي جاولي، فأمنوا ما كانوا يخافونه، فلما سمع السلطان سار عن بغداد إلى أصبهان؛ خوفًا على فارس من صاحب كرمان.
كان سبب غزو جنكيز خان لِما وراءَ النَّهرِ هو أن خوارزم شاه محمد قد بدأ يأخذ أموال التجار الذين من طرف جنكيز خان ثم زاد الأمرُ أن قتل سفير جنكيز نفسه الذي جاء من أجل إعادة تلك الأموال، فأثار ذلك غضب جنكيز الذي جهز العساكِرَ من فوره، وانطلق إلى خوارزم شاه فوقع بينهما ما وقع.
لمَّا اسْتَقَرَّ الشَّامُ لمَرْوان بن الحكمِ سار إلى مِصْرَ, فقَدِمَها وعليها عبدُ الرَّحمن بن جَحْدَم القُرشيُّ يَدعو إلى ابنِ الزُّبير، فخرَج إلى مَرْوان فيمَن معه، وبعَث مَرْوانُ عَمرَو بن سعيدٍ مِن وَرائِه حتَّى دخَل مِصْرَ، فقِيلَ لابنِ جَحْدَم ذلك، فرجَع وبايَع النَّاسُ مَرْوانَ ورجَع إلى دِمشقَ.
لَمَّا مات الحكَمُ بنُ هشام بن عبدالرحمن، قام بالمُلْك بعده ابنُه عبد الرحمن ويكنَّى أبا المطرف، واسمُ أمِّه حلاوة، ولد بطليطِلة، أيَّامَ كان أبوه الحكَمُ يتولَّاها لأبيه هشام، فلمَّا وَلِيَ عبدالرحمن خرج عليه عمُّ أبيه عبد الله البلنسي؛ طمعًا في الحُكمِ بعد موتِ الحَكَمِ.
طلب مُعِزُّ الدولة من الخليفةِ أن يأذَنَ له في دخولِ دارِ الخلافة ليتفرَّجَ فيها فأذِنَ له فدخَلَها، فبعث الخليفةُ خادِمَه وصاحِبَه معه فطافوا بها وهو مُسرِعٌ خائِفٌ، ثم خرج منها وقد خاف مِن غائلة ذلك وخشي أن يُقتَلَ في دهاليزِها، فتصَدَّقَ بعَشرةِ آلاف لَمَّا خرج؛ شكرًا لله على سلامتِه، وازداد حبًّا في الخليفةِ المطيعِ مِن يومئذٍ.
لمَّا قتل عَلِيُّ بن أبي طالِب رضي الله عنه بايَع أهلُ الكوفَة الحسنَ بن عَلِيٍّ، وأطاعوه وأحبُّوه, فاشْتَرط عليهم: إنَّكم سامِعون مُطيعون، مُسالِمون مَن سالَمْتُ، مُحارِبون مَن حارَبْتُ. فارتاب به أهلُ العِراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب. فما كان عن قَريب حتَّى طعنوه، فازداد لهم بُغْضًا، وازداد منهم ذُعْرًا، فعند ذلك عرَف تَفرُّقَهُم واخْتِلافَهُم عليه, وكان أهلُ العِراق أشاروا على الحسن أن يَسير إلى الشَّام لمُلاقاة مُعاوِيَة فخرج بهم، ولمَّا بلغ مُعاوِيَةَ ذلك خرَج هو أيضًا بجَيشِه وتَقارَب الجَيشان في مَسْكِن بناحِيَة الأنبارِ، لمَّا رأى الحسنُ الجيشان في مَسْكِن بناحِيَة الأنبار هالَهُ أن تكونَ مَقتلةٌ كبيرةٌ تَسيلُ فيها دِماءُ المسلمين فرَغِب في الصُّلْح، استقبل الحسنُ بن عَلِيٍّ مُعاوِيَةَ بن أبى سُفيان بكَتائِبَ أمثالِ الجِبال، قال عَمرُو بن العاص لمَّا رأى ضَخامةَ الجَيشين: إنِّي لأرى كَتائِبَ لا تُوَلِّي حتَّى تَقْتُلَ أقرانَها. فقال مُعاوِيَةُ: أي عَمرُو، إن قتَل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، مَن لي بأُمور النَّاس؟ مَن لي بضَيْعَتِهم؟ مَن لي بِنِسائِهم؟ عرَض الحسنُ بن عَلِيٍّ على عبدِ الله بن جَعفَر أَمْرَ الصُّلْح، قال له: إنِّي قد رأيتُ رَأْيًا، وإنِّي أُحِبُّ أن تُتابِعَني عليه. قال: قلتُ: ما هو؟ قال: قد رأيتُ أن أَعْمِدَ إلى المدينة فأنزِلُها، وأُخَلِّيَ بين مُعاوِيَة وبين هذا الحديثِ، فقد طالت الفِتنَةُ، وسُفِكَتْ فيها الدِّماءُ، وقُطِّعَتْ فيها الأرحامُ، وقُطِّعَت السُّبُلُ، وعُطِّلَت الثُّغورُ. فقال ابنُ جَعفَر: جزاك الله عن أُمَّةِ محمَّد خيرًا، فأنا معك، وعلى هذا الحديثِ. فقال الحسنُ: ادْعُ لي الحُسينَ. فبعَث إلى حُسين فأتاهُ، فقال: أي أخي، إنِّي قد رأيتُ رَأْيًا، وإنِّي أُحِبُّ أن تُتابِعَني عليه. قال: ما هو؟ فقَصَّ عليه الذي قال لابنِ جَعفَر، قال الحُسينُ: أُعيذُك بالله أن تُكَذِّبَ عَلِيًّا في قَبرِه، وتُصَدِّقَ مُعاوِيَةَ!. فقال الحسنُ: والله ما أردتُ أَمْرًا قَطُّ إلَّا خالَفتَني إلى غَيرِه، والله لقد هَمَمْتُ أن أَقْذِفَكَ في بيتٍ فأُطَيِّنَهُ عليك حتَّى أقضِيَ أمري. فلمَّا رأى الحُسينُ غَضبَه قال: أَمْرُنا لأَمْرِك تَبَعٌ، فافْعَل ما بَدا لك. فقام الحسنُ فقال: يا أيُّها النَّاسُ، إنِّي كنتُ أَكْرَهَ النَّاسَ لأوَّلِ هذا الحديثِ، وأنا أَصْلحتُ آخرَه، لِذي حَقٍّ أَدَّيْتُ إليه حَقَّهُ أَحَقَّ به مِنِّي، أو حَقٌّ جُدْتُ به لصَلاحِ أُمَّةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنَّ الله قد وَلَّاك يا مُعاوِيَة هذا الحديثَ لِخيرٍ يَعلمُه عندك، أو لِشَرٍّ يَعلمُه فيك، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء: 111]. وبهذا التَّنازُل تَحَقَّقَ في الحسنِ ما أَخبَر به النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقولِه: (إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، ولَعلَّ الله أن يُصْلِحَ به بين فِئتَين عَظيمَتين مِن المسلمين). ولمَّا تَمَّ الصُّلْحُ بشُروطِه برَز الحسنُ بين الصَّفَّيْنِ وقال: ما أَحببتُ أنَّ لي أَمْرَ أُمَّةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم على أن يُهْراقَ في ذلك مِحْجَمَةُ دَمٍ. وكان يقول: إنِّي قد اخْتَرتُ ما عند الله، وتَركتُ هذا الأمرَ لمُعاوِيَة. وأمَّا طلبُ الحسنِ لأن تكونَ الخِلافَة له مِن بعدِه فليست صحيحة، قال جُبيرُ بن نُفيرٍ: قلتُ للحسنِ بن عَلِيٍّ: إنَّ النَّاس يَزعُمون أنَّك تُريدُ الخِلافَة. فقال: كانت جَماجِم العرب بِيَدِي يُسالِمون مَن سالمتُ، ويُحارِبون مَن حاربتُ، فتَركتُها ابتغاءَ وجهِ الله، ثمَّ أَبْتَزُّها بِأَتْياسِ أهلِ الحِجازِ!. وجاء في نَصِّ الصُّلْح في إحدى الرِّوايات: بل يكونُ الأمرُ مِن بعدِه شُورى بين المسلمين.
عندما تناهى المنصورُ بن أبي عامر في هذا الوقتِ على الاقتدار، والنَّصر على ملوك النصارى، سما إلى مدينة شنت ياقوب قاصية غلبسية، وأعظَمِ مَشاهِدِ النَّصارى الكائنةِ ببلاد الأندلُس وما يتَّصِلُ بها من الأرضِ الكبيرة. وكانت كَنيستُها عندهم بمنزلةِ الكَعبةِ عند المُسلِمينَ، فبِها يحلِفونَ وإليها يَحُجُّونَ مِن أقصى بلاد رومة وما وراءها، ويَزعُمونَ أنَّ القبر المزوَّرَ فيها قبر ياقوب أحد الحواريِّين الاثني عشر, ولم يطمَعْ أحدٌ من ملوك الإسلام في قَصْدِها قبل المنصور، ولا الوصول إليها؛ لصُعوبةِ مَدخَلِها وخشونةِ مكانِها، وبُعدِ شُقَّتِها, فخرج المنصورُ إليها من قرطبة غازيًا بالصائفة يومَ السبت لسِتٍّ بَقِينَ مِن جمادى الآخرة سنة 387، وهي غزوته الثامنة والأربعون- تجاوزت غزوات المنصورِ بنِ أبي عامر لنصارى الأندلُس أكثَرَ من خمسين غزوة مُدَّةَ حُكمِه نيِّفًا وعشرين سنة، انتصر فيها كلِّها- وكان المنصور قد أنشأ أُسطولًا كبيرًا في ساحل غرب الأندلس، وجهَّزه برِجالِه البَحريِّين وصنوف المترجِّلين، وحُمِلَت الأقواتُ والأطعِمةُ والعُدَد والأسلحة؛ استظهارًا على نفوذ العزيمة، إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويره، فدخل في النهر إلى المكان الذي عَمِلَ المنصور على العبور منه، فعقد هناك من هذا الأسطول جسرًا بقرب الحصن الذي هناك، ووزع المنصور ما كان فيه من الميرة على الجُندِ، فتوسَّعوا في التزوُّدِ منه إلى أرض العدو, ثمَّ نهض يريد شنت ياقوب، فقطع أرضَينَ متباعدة الأقطار، وقطَعَ بالعبور عِدَّة أنهار كبار وخلجان يمدُّها البحر الأخضر, ثم أفضى إلى جبلٍ شامخ شديدِ الوعورة، لا مسلَكَ فيه ولا طريقَ، لم تهتَدِ الأدِلَّاء إلى سواه، فقَدَّمَ المنصورُ الفَعَلة بالحديد لِتَوسعةِ شِعابِه وتسهيلِ مَسالِكِه، فقطعه العسكَرُ وعبروا واديَ منية، وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائِطَ عريضة وأرضين أريضة، وانتهت مغيرتُهم إلى دير قسطان على البحر المحيط، وفتحوا حِصنَ شنت بلايه الذي استعصى على طارق بن زياد وموسى بن نُصير في حينِه؛ لحصانتِه، وغَنِموه، وعَبَروا سياخه إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ إليها خلقٌ عظيم من أهل تلك النواحي، فسَبَوا مَن فيها ممَّن لجأ إليها، وانتهى العسكَرُ إلى جبل مراسية المتَّصِل من أكثَرِ جِهاتِه بالبحر المحيط، فتخَلَّلوا أقطارَه، واستخرجوا من كان فيه، وحازوا غنائِمَه, ثمَّ انتَهَوا إلى مدينة شنت ياقوب البائسة، وذلك يومَ الأربعاء للَيلتينِ خلتا من شعبان، فوجدها المسلمون خاليةً مِن أهلها، فحازوا غنائِمَها، وهَدَموا مصانِعَها وأسوارَها وكنيسَتَها، وعَفوا آثارَها, ووكل المنصورُ بقَبرِ ياقوب من يحفَظُه ويدفَعُ الأذى عنه، وكانت مصانِعُها بديعةً مُحكَمةً، فغودرت هشيمًا، كأنْ لم تغْنَ بالأمسِ، وانتشرت بعوثُه بعد ذلك سائر البسائط، وانتهت إلى جزيرةِ شنت مانكش مُنقطَعَ هذا الصِّقعِ على البحر المحيط، وهي غايةٌ لم يبلُغْها قبلهم مُسلِمٌ، ولا وَطِئَتها لغير أهلها قَدَمٌ، فلم يكُنْ بعدها للخَيلِ مجالٌ، ولا وراءها انتقال. وانكفأ المنصورُ عن باب شنت ياقوب، ولم يجِد المنصور بشنت ياقوب إلَّا شيخًا من الرَّهبان جالسًا على القبر، فسأله عن مقامِه، فقال: (أوانس يعقوب) فأمر المنصورُ بالكَفِّ عنه. قال الفتح من خاقان: "تمرس المنصور ببلاد الشِّركِ أعظَمَ تَمَرُّس، ومحا من طواغيتِها كُلَّ تَعَجرُف وتغَطرُس؛ وغادرهم صرعى البِقاع، وترَكَهم أذَلَّ مِن وَتدٍ بِقاع، ووالى على بلادهم الوقائع، وسَدَّد إلى أكبادهم سِهامَ الفجائع، وأغصَّ بالحِمام أرواحَهم، ونغَّصَ بتلك الآلامِ بُكورَهم ورَواحَهم ".
هو المَلِكُ المنصورُ، أبو الجودِ الأتابك عِمادُ الدين زنكي بنُ الحاجِبِ قسيم الدولة آقسنقر بن عبد الله التركي، صاحِبُ المَوصِل. وُلِدَ سنة 477. قتل والِدُه, قسيمُ الدَّولةِ مملوكُ السُّلطانِ ألب أرسلان, وله يومئذٍ عَشرُ سنينَ، ولم يُخَلِّفْ والِدُه ولدًا غَيرَه، فالتَفَّ عليه غِلمانُ أبيه، ورَبَّاه كربوقا، وأحسَنَ إليه, فكان زنكي بطلًا شُجاعًا مِقدامًا كأبيه، عظيمَ الهَيبةِ مَليحَ الصُّورةِ، أسمرَ جميلًا، قد وَخَطَه الشَّيبُ، وكان عاليَ الهِمَّةِ، لا يَقِرُّ ولا ينامُ، فيه غَيرةٌ حتى على نِساءِ جُندِه، عَمَرَ البِلادَ, وكان يُضرَبُ بشجاعتِه المَثَلُ، وهو من أشجَعِ خَلقِ الله. قبل أن يَملِكَ شارك مع الأميرِ مودود صاحبِ المَوصِلِ حِصارَ مدينةِ طَبريَّة، وهي للفِرنجِ، فوصلت طعنتُه إلى بابِ البَلَدِ، وأثَّرَ فيه. وحمل أيضًا على قلعةِ عقر الحميدية، وهي على جَبَلٍ عالٍ، فوصَلَت طعنتُه إلى سورِها, وأمَّا بعدَ مُلكِه، فكان الأعداءُ مُحدِقينَ ببِلادِه، وكلُّهم يَقصِدُها، ويريدُ أخْذَها، وهو لا يَقنَعُ بحِفظِها، حتى إنَّه لا ينقضي عليه عامٌ إلَّا وهو يفتَحُ مِن بلادِهم, ومِن شجاعَتِه التي لم يُسمَعْ بمِثلِها أنَّه كان في نَفَرٍ أثناءَ حصارِ طَبَريَّة وقد خرج الفِرنجُ مِن البَلَدِ، فحمل عليهم هو ومَن معه وهو يَظُنُّ أنَّهم يَتبَعونَه فتخَلَّفوا عنه وتقَدَّمَ وَحْدَه وقد انهزَمَ مَن بظاهِرِ البلدِ مِن الفرنجِ فدخلوا البلَدَ ووَصَلَ رُمحُه إلى البابِ فأثَّرَ فيه، وقاتلهم عليه وبَقِي ينتظر وصولَ من كان معه فحيث لم يَرَ أحدًا حمى نفسَه وعاد سالِمًا، فعَجِبَ النَّاسُ مِن إقدامِه أوَّلًا، ومِن سلامتِه آخِرًا, وكان زنكي من الأمراءِ المُقَدَّمينَ، فوَّضَ إليه السُّلطان محمودُ بن ملكشاه شحنكية بغداد، سنة 511 في العامِ الذي وُلِدَ له فيه ابنُه المَلِك العادِلُ نورُ الدين محمود، ثمَّ عَيَّنه السُّلطانُ محمود على المَوصِل، بتوصيةٍ مِن القاضي بهاءِ الدينِ أبو الحَسَن علي بن الشهرزوي وصلاح الدين محمد الياغبساني بعد أن أشارا به على وزير السُّلطان بقَولِهما: "قد عَلِمْتَ أنت والسُّلطانُ أنَّ بلادَ الجزيرة والشَّام قد استولى الإفرنجُ على أكثَرِها وتمَكَّنوا منها وقَوِيَت شَوكتُهم، وكان البرسقي يَكُفُّ بعضَ عادِيَتِهم، فمُنذ قُتِلَ ازداد طَمَعُهم، وهذا وَلَدُه طِفلٌ صَغيرٌ ولا بُدَّ للبلادِ مِن شَهمٍ شُجاعٍ يَذُبُّ عنها ويحمي حَوزَتَها، وقد أنهينا الحالَ إليكم لئلَّا يجريَ خَلَلٌ أو وهَنٌ على الإسلامِ والمُسلِمينَ فنَحصُلَ نحن بالإثمِ مِن الله تعالى، واللوم من السُّلطانِ، فأنهى الوزيرُ ذلك إلى السُّلطان فأعجَبَه، وقال: مَن تَرَيانِ يَصلُحُ لهذه البلادِ، فذكرا جماعةً فيهم عمادُ الدين زنكي، وعَظَّمَا محَلَّه أكثَرَ مِن غَيرِه" فأجاب السُّلطانُ إلى توليَتِه؛ لِمَا عَلِمَ مِن شَهامَتِه وكفايتِه، فوَلَّاه البلادَ جَميعَها، وكتب بذلك منشورًا, ولَمَّا قَدِمَ زنكي المَوصِل سَلَّمَ إليه السُّلطانُ محمود وَلَديه ألب أرسلان وفروخشاه المعروف بالخفاجي ليُرَبِّيهما؛ فلهذا قيل لزنكي "أتابك"؛ لأنَّ الأتابك هو الذي يُرَبِّي أولاد الملوك. سار زنكي مِن بغدادَ إلى البوازيج ليَملِكَها ويتقَوَّى بها. كان زنكي يُحسِنُ اختيارَ رِجالِه وقادتِه، فيَختارُ أصلَحَهم وأشجَعَهم, وأكرَمَهم لِمَهامِّ ولايتِه وقيادةِ جُيوشِه، وكان في المُقابِلِ يُكرِمُهم ويَحتفي بهم. عَمِلَ زنكي على تَرتيبِ أوضاعِ المَوصِلِ فقَرَّرَ قواعِدَها فولَّى نصير الدين جقر دزدارية قلعةَ المَوصِل, وجَعَلَ الصَّلاحَ مُحمَّدَ الياغبساني أميرَ حاجِبِ الدولة وجعَلَ بهاء الدين قاضيَ قُضاةِ بلادِه جَميعِها وما يفتَحُه مِن البلادِ، ووفَى لهم بما وعَدَهم وكان بهاءُ الدين أعظَمَ النَّاسِ عنده مَنزِلةً وأكرَمَهم عليه وأكثَرَهم انبساطًا معه وقُربًا منه، ورَتَّبَ الأمورَ على أحسَنِ نِظامٍ وأحكَمِ قاعدةٍ, ثمَّ تفَرَّغَ عِمادُ الدين زنكي لتحريرِ بلاد المُسلِمينَ مِن الفرنج، فبدأ بتَوحيدِ الجَبهةِ الإسلاميَّةِ وهي أراضي المُسلِمينَ المحيطةُ بالفِرنجِ الصَّليبيِّينَ في الشَّامِ, ففَتَحَ مدائِنَ عِدَّةً، وكان خُصومُه من المُسلِمينَ محيطينَ به مِن كُلِّ الجِهاتِ، وهو ينتَصِفُ منهم، ويستولي على بلادِهم, وقد أحاطت ولاياتُهم بولايتِه مِن كُلِّ جِهاتِها، فهو يقصِدُ هذا مَرَّةً وهذا مَرَّةً، ويأخُذُ مِن هذا ويَصنَعُ هذا، إلى أن مَلَك مِن كُلِّ مَن يليه طَرفًا مِن بلادِه، وحاصَرَ دِمشقَ وصالَحَهم على أن خَطَبوا له بها، ثمَّ بعد ذلك اتَّجَه للفِرنجِ واستَنقَذَ منهم كفرطاب والمعرَّة ودوَّخَهم، وشَغَلَهم بأنفُسِهم، ودانت له البلادُ، وخَتَم جِهادَه معهم باستنقاذِ إمارةِ الرَّها منهم. قال أبو شامة: "كان الفِرنجُ قد اتَّسَعَت بلادُهم وكَثُرَت أجنادُهم، وعَظُمَت هيبتُهم، وزادت صَولَتُهم، وامتَدَّت إلى بلادِ المُسلِمينَ أيديهم، وضَعُفَ أهلُها عن كَفِّ عاديهم، وتتابعت غزواتُهم، وساموا المُسلِمينَ سوءَ العذابِ، واستطار في البلاد شَرَرُ شَرِّهم، وامتَدَّت مَملَكتُهم من ناحيةِ ماردين وشبختان إلى عريشِ مِصرَ، لم يتخَلَّلْه مِن ولاية المُسلِمينَ غير حَلَب وحَماة وحمص ودمشق، فلما نظَرَ اللهُ سُبحانَه إلى بلادِ المُسلِمينَ ولَّاها عِمادَ الدِّينِ زنكي فغزا الفرنجَ في عُقرِ دِيارِهم، وأخذَ للمُوحِّدينَ منهم بثَأرِهم، واستنقذ منهم حصونًا ومعاقِلَ" توجَّه أتابك زنكي إلى قلعةِ جعبر ومالِكُها يومذاك سيفُ الدولةِ أبو الحَسَنِ عليُّ بنُ مالك، فحاصَرَها وأشرَفَ على أخْذِها، فأصبح زنكي يومَ الأربعاء خامِسَ شَهرِ ربيع الآخر سنة 541 مَقتولًا، قَتَلَه خادِمُه وهو راقِدٌ على فراشِه ليلًا، ودُفِنَ بصفين. ذَكَرَ بَعضُ خواصِّه قال: "دخَلْتُ إليه في الحالِ وهو حيٌّ، فحين رآني ظَنَّ أني أريدُ قَتْلَه، فأشار إليَّ بإصبُعِه السبَّابة يَستَعطِفُني، فوقَفْتُ مِن هَيبَتِه، وقلتُ له: يا مولانا، مَن فَعَل بك هذا فلم يَقدِرْ على الكلامِ، وفاضَت نفسُه لوقتِه"، فكان- رحمه الله- شديدَ الهَيبةِ على عَسكَرِه ورَعِيَّتِه، عظيمَ السِّياسةِ، لا يَقدِرُ القَويُّ على ظُلمِ الضعيفِ، وكانت البلادُ قبل أن يَملِكَها خرابًا من الظُّلمِ ومُجاوَرةِ الفِرنجِ، فعَمَرَها وامتلأت أهلًا وسُكَّانًا. قال عز الدين بنُ الأثير في تاريخه: "حكى لي والدي قال: رأيتُ المَوصِلَ وأكثَرُها خرابٌ، وكان الإنسانُ لا يَقدِرُ على المشيِ إلى الجامِعِ العتيقِ إلَّا ومعه مَن يحميه؛ لِبُعدِه عن العمارةِ، وهو الآن في وسَطِ العِمارةِ، وكان شديدَ الغيرةِ لا سِيَّما على نساءِ الأجنادِ، وكان يقول: لو لم تُحفَظْ نِساءُ الأجنادِ بالهَيبةِ وإلَّا فَسَدْنَ لِكَثرةِ غَيبةِ أزواجِهنَّ في الأسفارِ". فلمَّا قُتِلَ تَمَلَّك ابنُه نورُ الدين محمود بالشَّامِ، وابنُه غازي بالمَوصِل.
هو الإمامُ العلَّامةُ، الحافِظُ الكبيرُ المجَوِّد، مُحَدِّثُ الشام، ثِقةُ الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر، الدمشقي الشافعي صاحب (تاريخ دمشق). من أعيانِ الفُقَهاء الشافعيَّة، ومُحَدِّث الشام في وقته. غَلَب عليه الحديثُ فاشتَهَر به وبالَغَ في طلبه إلى أن جمعَ منه ما لم يتَّفِق لغَيرِه، حتى صار أحدَ أكابر حُفَّاظ الحديث ومن عُنِيَ به سَماعًا وجمعًا وتصنيفًا، واطِّلاعًا وحفظًا لأسانيده ومتونِه، وإتقانًا لأساليبه وفنونه، صاحِبُ الكتاب المشهور (تاريخ دمشق) الذي حاز فيه قَصَب السَّبْق، ومن نظَرَ فيه وتأمَّله، رأى ما وصَفَه فيه وأصَّلَه، وحَكَم بأنَّه فريدُ دَهرِه في التواريخ، هذا مع ما له في علوم الحديث من الكُتُب المفيدة، وما هو مشتَمِلٌ عليه من العبادة والطرائق الحميدة, وله مصنفاتٌ كثيرة منها الكبار والصغار، والأجزاءُ والأسفار، وقد أكثَرَ في طلب الحديث من التَّرحال والأسفار، وجاز المدن والأقاليم والأمصار، وجمع من الكتبِ ما لم يجمَعْه أحدٌ مِن الحُفَّاظ نسخًا واستنساخًا، ومقابلة وتصحيحَ الألفاظ. قال الذهبي: "نقلتُ ترجمته من خَطِّ ولده المحدِّث أبي محمد القاسم بن علي، فقال: وُلِدَ أبي في المحرم سنة 499، وعَدَدُ شيوخِه الذي في معجمه ألف وثلاثمائة شيخ بالسماع، وستة وأربعون شيخًا أنشدوه، وعن مائتين وتسعين شيخًا بالإجازة، الكل في معجمه، وبضع وثمانون امرأة لهن مُعجَم صغير سَمِعْناه. وحدَّث ببغداد، والحجاز، وأصبهان، ونيسابور, وصنف الكثير, وكان فَهِمًا، حافِظًا، متقِنًا ذكيًّا، بصيرًا بهذا الشأن، لا يُلحَقُ شَأنُه، ولا يُشَقُّ غُباره، ولا كان له نظيرٌ في زمانه. وكان له إجازاتٌ عالية، ورُوي عنه أشياءُ من تصانيفه بالإجازة في حياته، واشتهر اسمُه في الأرض، وتفقَّه في حداثته على جمال الإسلام أبي الحسن السلمي وغيره، وانتفع بصحبة جده لأمه القاضي أبي المفضل عيسى بن علي القرشي في النحو، ولازم الدرسَ والتفقُّه بالنظامية ببغداد، وصنف وجمع فأحسن, فمن ذلك تاريخ دمشق في ثمانمائة جزء. قلت (الذهبي): "الجزء عشرون ورقة، فيكون ستة عشر ألف ورقة", وجمع (الموافقات) في اثنين وسبعين جزءًا، و(عوالي مالك)، والذيل عليه خمسين جزءًا، و(غرائب مالك) عشرة أجزاء، و(المعجم) في اثني عشر جزءًا, و(مناقب الشبان) خمسة عشر جزءًا، و(فضائل أصحاب الحديث) أحد عشر جزءًا، (فضل الجمعة) مجلد، و(تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري) مجلد، و (المسلسلات) مجلد، و (السباعيات) سبعة أجزاء، (من وافقت كنيته كنيةَ زوجته) أربعة أجزاء، و (في إنشاء دار السنة) ثلاثة أجزاء، (في يوم المزيد) ثلاثة أجزاء، (الزهادة في الشهادة) مجلد، (طرق قبض العلم)، (حديث الأطيط)، (حديث الهبوط وصحته)، (عوالي الأوزاعي وحاله) جزءان, (الخماسيات) جزء، (السداسيات) جزء، (أسماء الأماكن التي سمع فيها)، (الخضاب)، (إعزاز الهجرة عند إعواز النصرة)، (المقالة الفاضحة)، (فضل كتابة القرآن)، (من لا يكون مؤتمنًا لا يكون مؤذِّنًا)، (فضل الكرم على أهل الحرم)، (في حفر الخندق)، (قول عثمان: ما تغنيت)، (أسماء صحابة المسند)، (أحاديث رأس مال شعبة)، (أخبار سعيد بن عبد العزيز)، (مسلسل العيد)، (الأبنة)، (فضائل العشرة) جزءان، (من نزل المزة)، (في الربوة والنيرب)، (في كفر سوسية)، (رواية أهل صنعاء)، (أهل الحمريين)، (فذايا)، (بيت قوفا)، (البلاط)، (قبر سعد)، (جسرين)، (كفر بطنا)، (حرستا)، (دوما مع مسرابا)، (بيت سوا)، (جركان)، (جديا وطرميس)، (زملكا)، (جوبر)، (بيت لهيا)، (برزة)، (منين)، (يعقوبا)، (أحاديث بعلبك)، (فضل عسقلان)، (القدس)، (المدينة)، (مكة)، كتاب (الجهاد)، (مسند أبي حنيفة ومكحول)، (العزل)، (الأربعون الطوال)، (الأربعون البلدية) جزء، (الأربعون في الجهاد)، (الأربعون الأبدال)، (فضل عاشوراء) ثلاثة أجزاء، (طرق قبض العلم) جزء، كتاب (الزلازل)، (المصاب بالولد) جزءان، (شيوخ النبل)، (عوالي شعبة) اثنا عشر جزءًا، (عوالي سفيان) أربعة أجزاء، (معجم القرى والأمصار) جزء، وغير ذلك, وسرد له عدة تواليف. قال: وأملى أبي أربعمائة مجلس وثمانية. قال: وكان مواظبًا على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحاسب نفسه على لحظة تذهب في غير طاعة، كان يجري ذكره عند ابن شيخه، وهو الخطيب أبو الفضل بن أبي نصر الطوسي، فيقول: ما نعلم من يستحِقُّ هذا اللقب اليوم يعني: (الحافظ) ويكون حقيقًا به سواه. وقال القاسم: لما دخلت همذان أثنى عليه الحافظ أبو العلاء، وقال لي: أنا أعلم أنه لا يساجِلَ الحافظ ابن عساكر في شأنه أحد، فلو خالط الناسَ ومازجهم كما أصنع، إذًا لاجتمع عليه الموافِقُ والمخالف, وقال لي أبو العلاء يومًا: أي شيء فتح له، وكيف ترى الناس له؟ قلت (الذهبي): "هو بعيد من هذا كله، لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتصنيف والتسميع، حتى في نُزَهِه وخلواته" ثم قال أبو العلاء: ما كان يسمَّى ابن عساكر ببغداد إلَّا شعلةَ نار؛ من توقُّدِه وذكائه وحُسنِ إدراكه. قال أبو المواهب: لم أرَ مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الجماعة في الخمس في الصف الأول إلَّا من عذر، والاعتكاف في رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة، وأباها بعد أن عُرِضَت عليه، وقِلَّة التفاته إلى الأمراء، وأخْذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخُذُه في الله لومة لائم. قال لي: لَمَّا عزمت على التحديث، واللهُ المطَّلِعُ أنَّه ما حملني على ذلك حُبُّ الرئاسة والتقدم، بل قلت: متى أروي كُلَّ ما قد سمعته، وأيُّ فائدة في كوني أخَلِّفُه بعدي صحائف؟ فاستخرتُ الله، واستأذنت أعيانَ شيوخي ورؤساء البلد، وطُفت عليهم، فكُلٌّ قال: ومن أحقُّ بهذا منك؟ فشرعت في ذلك سنة ثلاث وثلاثين" كانت وفاة ابن عساكر في الحادي عشر من رجب، وله من العمر ثنتان وسبعون سنة، وحضر السلطان صلاح الدين الأيوبي جنازتَه ودُفِنَ بمقابر باب الصغير، وكان الذي صلى عليه الشيخُ قطب الدين النيسابوري.
قَدِمَ دمرداش بن جوبان بن تلك بن تداون المغولي مصرَ في سابع ربيع الأول، وسَبَبُ ذلك أن القان أبا سعيد بن خربندا المغولي لَمَّا مَلَك أقبلَ على اللهو، فتحَكَّم الأميرُ جوبان بن تلك على الأردو، وقام بأمر المملكة، واستناب ولدَه خواجا رمشتق بالأردو، وبعث ابنَه دمرداش إلى مملكة الروم، فانحصر أبو سعيد بن خربندا إلى أن تحَرَّك بعض أولاد كبك بجهة خراسان، وخرج عن الطاعةِ، فسار جوبان لحَربِه في عسكرٍ كبير، فما هو إلَّا أن بَعُد عن الأردو قليلًا حتى رجع العدوُّ عن خراسان، وقصد جوبان العودَ، وكان قد قبض أبو سعيدٍ على خواجا رمشتق، وقتَلَه بظاهر مدينة السلطانيَّة في شوال من السنة الماضية، وأتبَعَ به إخوتَه ونَهَب أتباعهم، وسَفَك أكثَرَ دمائهم، وكتب إلى من خرج من العسكَرِ مع جوبان بما وقع، وأمَرَهم بقبضه، وكتب إلى دمرداش أن يحضُرَ إلى الأردو، وعَرَّفه شَوقَه إليه، ودَسَّ مع الرسول إليه عِدَّة ملطفات إلى أمراء الروم بالقَبضِ عليه أو قَتْلِه، وعَرَّفَهم ما وقع، وكان دمرداش قد مَلَك بلاد الروم جميعَها وجبالَ ابن قرمان، وأقام على كلِّ دربند جماعةً تحفَظُه، فلا يمُرُّ أحد إلا ويعلم به خوفًا على نفسِه من السلطان الملك الناصر أن يبعَثَ إليه فداويًّا لقتلِه، بسبب ما حصل بينهما من المواحَشةِ التي اقتضت انحصارَ السلطان منه، وأنَّه منع التجارَ وغَيرَهم مِن حَملِ المماليكِ إلى مصر، وإذا سمِعَ بأحد من جهة صاحِبِ مصر أخرق به، فشَرَعَ السلطان يخادِعُه على عادته، ويهاديه ويتَرَضَّاه، وهو لا يلتَفِتُ إليه، فكتب إلى أبيه جوبان في أمْرِه حتى بعث ينكِرُ عليه، فأمسك عمَّا كان فيه قليلًا، ولَبِسَ تشريف السلطان، وقَبِلَ هَدِيَّته وبعث عِوَضَها، وهو مع هذا شديدُ التحَرُّز، فلما قَدِمَت رسل أبي سعيد بطَلَبِه فتَّشَهم الموكَّلون بالدربندات، فوجدوا الملطفات، فحملوهم وما معهم إلى دمرداش، فلما وقف دمرداش عليهما لم يزَلْ يعاقِبُ الرسُلَ إلى أن اعترفوا بأنَّ أبا سعيد قَتَل خواجا رمشتق وإخواته ومن يلوذُ بهم، ونهب أموالَهم، وبعث بقتل جوبان، فقَتَل دمرداش الرسُلَ، وبعث إلى الأمراء أصحابِ الملطفات فقَتَلَهم أيضًا، وكتب إلى السلطانِ الملك الناصر يَرغَبُ في طاعته، ويستأذِنُه في القدوم عليه بعساكر الروم، ليكون نائبًا عنه بها، فسُرَّ السلطان بذلك، وكان قد ورد على السلطانِ كتابُ المجد السلامي من الشرق بقَتلِ خواجا رمشتق وإخوته، وكتاب أبي سعيد بقَتلِ جوبان، وطلب ابنه دمرداش، وأنه ما عاق أبا سعيد عن الحركة إلا كثرةُ الثلج وقُوَّة الشتاء، فكتب السلطانُ الناصر جواب دمرداش يَعِدُه بمواعيد كثيرة، ويُرَغِّبُه في الحضور، فتحَيَّرَ دمرداش بين أن يقيم فيأتيه أبو سعيد، أو يتوجَّه إلى مصر فلا يدري ما يتَّفِقُ له، ثم قَوِيَ عنده المسير إلى مصر، وأعلَمَ أمراءَه أنَّ عسكَرَ مِصرَ سار ليأخُذَ بلاد الروم، وأنه قد كتب إليه المَلِكُ الناصر يأمره أن يكون نائِبَه، فمشى عليهم ذلك وسَرَّهم، فلمَّا قدم دمرداش إلى القاهرة في سابع ربيع الأول أتاه الأميرُ طايربغا وأحضره إلى السلطانِ بالجيزة، فقَبَّل الأرض ثلاثَ مرات، فترحَّبَ السلطان به وأجلَسَه بالقرب منه، وأكرمه وبالغ في ذلك واجتَمَعَ دمرداش بالسلطانِ وفاوضه في أمرِ بلاد الروم، وأن يجهِّزَ إليها عسكرًا، فأشار السلطانُ بالمهلة حتى يَرِدَ البريد بخبر أبيه جوبان مع أبي سعيد، فاستأذن دمرداش في عَودِ مَن قَدِمَ معه إلى بلادِهم، فأذِنَ له في ذلك، فسار كثيرٌ منهم، ثم جاء كتابٌ فيه بيان أحوال دمرداش هذا وأنَّه سفك دماءً كثيرة، وقَتَل من المسلمين عالَمًا عظيمًا، وأنَّه جَسورٌ وما قصد بدخولِه مِصرَ إلا طمعًا في مُلكِها، وبعث ابن قرمان الكتابَ صحبة نجم الدين إسحاق الرومي صاحب أنطالية، وهي القلعة التي أخذها منه دمرداش وقَتَل والِدَه، وأنَّه قَدِمَ ليطالِبَه بدَمِ أبيه، فلما وقف السلطانُ على الكتاب تغيَّرَ، وطلب دمرداش وأعلَمَه بما فيه، وجمع السلطانُ بينه وبين إسحاق، فتحاقَقا بحضرة الأمراء، فظهر أنَّ كُلًّا منهما قتَلَ لصاحِبِه قتيلًا، فكتب جواب ابن قرمان معه وأُعيد، وقد تبَيَّن للسلطان خُبثُ نية دمرداش، فقبضه ومن معه واعتقل دمرداش ببرج السباعِ مِن القلعة، وفَرَّق البقية في الأبراج، وفُرِّقَت مماليكُه على الأمراء، ورُتِّبَ له ما يكفيه، وكان للقبضِ على دمرداش أسباب: منها أنه كان قد أخذ يوقِعُ في الأمراء والخاصكية، ويقول: هذا كان كذا، وهذا كان كذا، وهذا ألماس الحاجب كان حمَّالًا، فما حمل السلطان هذا منه، فلما كان في ليلة الخميس رابع شوال من هذه السنة أُخرِجَ دمرداش من مُعتَقَلِه بالبرج، وفُتِحَ باب السِّرِّ من جهة القرافة وأُخرِجَ منه وهو مُقَيَّدٌ مَغلول، وشاهَدَه رسُلُ الملك أبي سعيد وهو على هذه الحالِ، ثم خُنِقَ دمرداش، وشاهده الرسُلُ بعد موته، وقُطِعَ رأسُه وسُلِخَ وصُبِرَ وحُشِيَ، وأرسل السلطانُ الرأسَ إلى أبي سعيد، ودُفِنَ الجسَدُ بمكانِ قَتْلِه.
هو أمير المؤمنين في الحديث قاضي القضاة، شيخُ الإسلام، حافظ العصر، رحلة الطالبين، مفتي الفِرَق، شهاب الدين أبو الفضل أحمد ابن الشيخ نور الدين علي بن محمد بن علي بن أحمد بن حجر، المصريُّ المولدِ والمنشأِ والدار والوفاة، العسقلانيُّ الأصلِ، الشافعيُّ، قاضي قضاة الديار المصرية وعالِمُها وحافظها وشاعرها، ولد في 23 شعبان بالقاهرة سنة 773. مات والده وهو حَدَث السن، فكفَلَه بعض أوصياء والده إلى أن كبرَ وحفظ القرآن الكريم، واشتغل بالمتجر، وتولَّع بالنظم، وقال الشعر الكثير المليح إلى الغاية, ثم حَبَّب الله إليه طلبَ الحديث فأقبل عليه وسَمِعَ الكثير بمصر وغيرها، ورحل وانتقى، وحصَّل وسَمِع بالقاهرة من شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، والحافظين ابن الملقِّن والعراقي، وأخذ عنهم الفقه، ورحل إلى اليمن بعد أن جاور بمكة، وأقبل على الاشتغال والتصنيف، وبرع في الفقه والعربية، وصار حافظَ الإسلام، علَّامة في معرفة الرجال واستحضارهم، والعالي والنازل مع معرفةٍ تامة بعلل الأحاديث وغيرِها. وصار هو المعوَّلَ عليه في هذا الشأن في سائر أقطار الأرض، وقدوةَ الأمة، علَّامة العلماء، حجَّة الأعلام، مُحيي السنة، انتفع به الطلبة وحضر دروسَه جماعة من علماء عصره وقضاة قضاتِه، وقرأ عليه غالبُ فقهاء مصر، وأملى بخانقاه بيبرس نحوًا من عشرين سنة, ولَمَّا عُزِل عن منصب القضاة بالشيخ شمس الدين محمد القاياتي انتقل إلى دار الحديث الكاملية ببين القصرين، واستمَرَّ على ذلك، وناب في الحكم في ابتداء أمرِه عن قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني مدة طويلة، ثم عن الشيخ ولي الدين العراقي، ثم تنزَّه عن ذلك وتولى مشيخة خانقاه بيبرس الجاشنكير في دولة الملك المؤيد شيخ، وصار إذ ذاك من أعيان العلماء، وتصدر للإقراء والتدريس إلى أن ولَّاه الملك الأشرف برسباي قضاءَ القضاة الشافعية بالديار المصرية عوضًا عن قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني بعد عزلِه، وذلك في السابع والعشرين محرم سنة 827، فاستمَرَّ في المنصب ثم عُزِلَ عن القضاء وأعيد إليه، ثم عُزِلَ وأعيد أكثر من مرة. إلى أن طلب وأعيد عوضًا عن الشيخ ولي الدين محمد السفطي، وذلك في يوم الاثنين ثامن ربيع الآخرة سنة 852, وكان لولايته في هذه المرة يوم مشهود، فدام في المنصب إلى أن عزل نفسه في الخامس والعشرين جمادى الآخرة من هذه السنة، وولي من الغد عوضَه قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني، وهذه آخِرُ ولايته للقضاء, وانقطع شيخ الإسلام ابن حجر في بيته ملازمًا للاشغال والتصنيف إلى أن توفي بعد أن مرض أكثر من شهر. قال ابن تغري بردي: "كان رحمه الله حافِظَ المشرق والمغرب، أميرَ المؤمنين في الحديث، انتهت إليه رئاسةُ علم الحديث من أيام شبيبتِه بلا مُدافَعةٍ، بل قيل: إنه لم يَرَ مِثلَ نفسه، قلتُ: وهذا هو الأصح. وكان ذا شيبةٍ نيرة ووقار وأبَّهة، ومهابة، هذا مع ما احتوى عليه من العقل والحكمة والسكون والسياسة، والدربة بالأحكام ومداراة الناس قبل أن يخاطب الشخصَ بما يكره، بل كان يحسِنُ لمن يسيء إليه ويتجاوز عمن قَدَر عليه, وكانت صفته ذا لحيةٍ بيضاء ووجه صبيحٍ، للقِصَرِ أقرب، وفي الهامةِ نحيف، جيدِّ الذكاء، عظيم الحذق لمن ناظره أو حاضره، راويةً للشعر وأيامِ من تقدمه وعاصره، فصيح اللسان، شجيَّ الصوت، هذا مع كثرة الصوم ولزوم العبادة، واقتفائِه طرق من تقَدَّمه من الصلحاء السادة، وأوقاته للطلبة مقسمة تقسيمًا لمن ورد عليه آفاقيًّا كان أو مقيمًا، مع كثرة المطالعة والتأليف والتصدي للإفتاء والتصنيف. وأما مصنفاته فإن أسماءها تستوعب مجلدًا كاملًا صغير الحجم" مات رحمه الله ولم يخلِّفْ بعده مثله شرقًا ولا غربًا، ويكفيه شهرة أنه مؤلِّفُ كتاب: "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" الذي لا يكاد يستغني عنه أحد، وله "تغليق التعليق" وكتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" وكتاب "تقريب التهذيب" و "تهذيب التهذيب" و "لسان الميزان" و "بلوغ المرام في أدلة الأحكام"، وفي التاريخ: "رفع الإصر عن قضاة مصر" وكتاب "الإعلام فيمن ولي مصر في الإسلام" وغيرها من الكتب, وكلها تدل على سعة علمه في الحديث والرجال والعلل والفقه والخِلاف؛ مما أكسبه اسم الحافظ بحقٍّ. توفي في ليلة السبت الثامن والعشرين ذي الحجة، وصلِّيَ عليه بمصلاة المؤمني، وحضر السلطان الظاهر جقمق الصلاةَ عليه، ودفِنَ بالقرافة، ومشى أعيان الدولة في جنازته من داره بالقاهرة من باب القنطرة إلى الرملة، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية، حتى قال بعض الأذكياء: إنه حزر من مشى في جنازته نحو الخمسين ألف إنسان، وكان لموته يومٌ عظيم على المسلمين، وحتى على أهل الذمَّةِ.
لما رجع أبو جعفر المنصور من الحج مر بالمدينة، ثم توجه إلى بيت المقدس، فصلى في مسجدها، ثم سلك إلى الشام منصرفا حتى انتهى إلى الرقة فنزلها، وكتب إلى صالح بن علي يأمره ببناء المصيصة، ثم خرج منها إلى ناحية الكوفة، فنزل المدينة الهاشمية بالكوفة، وقد فرغ بناءُ المصيصة على يدَي جبريلَ بنِ يحيى الخراساني.
جامِعُ الأزهرِ هو من أهَمِّ المساجِدِ في مصرَ وأشهرِها في العالمِ الإسلاميِّ. وهو أوَّلُ جامعٍ أُسِّسَ بالقاهرة، أنشأه القائِدُ جوهر الكاتب الصِّقليُّ مولى المعِزِّ لدينِ الله، لَمَّا اختَطَّ القاهرة، وابتدأ بناءَه في يوم السبت لستٍّ بقين من جمادى الأولى سنة 359، وكَمُل بناؤه لسبعٍ خَلَونَ مِن رمضان سنة 361.