كانت وقعةُ دلقة من غير رضاء أمير العُيينة ابن معمر ولم يشاوَرْ فيها؛ لذلك لم يحضُرْها. يقول ابن غنام: "لما رأى ابنُ معمر عودةَ الجماعة من الحرب خَشِيَ أن ينكشف نفاقُه وأن تظهر خيانته, فأرسل إلى الشيخ وإلى محمد بن سعود يستشفع إليهما, ويطلب منهما الصفحَ عن تخلُّفِه، فقبلا عذره رجاءً منهما ألا يعودَ إلى مكره, ثم قَدِمَ عليهما ومعه وجوهُ أهل حريملاء والعُيينة، وعاهدهما على الجهاد والقيام بنصرة الدين، ولو في أي مكان, فتوهَّما فيه الصدق والوفاء، فرأَّسوه ورفعوه على المسلمين وأمَّروه, وكان من أعظم ما أظهر نفاق عثمان بن معمر أنَّه أرسل إلى إبراهيم بن سليمان أمير ثرمداء وأمَرَه أن يركب إلى دهام بن دواس مع جماعتِه ويزين له الاتِّفاقَ مع عثمان والقدوم عليه إلى العُيينة على أن يُظهِرَ في أحاديثه بمجالِسِه أنه اهتدى وانضم إلى الجماعة, فقدم مع دهام مع إبراهيم بن عثمان، وكان ذلك من غير مشورة الشيخ وابن سعود، فحين رأى أهل العيينة دهامًا وعَلِموا بما حدث شَقَّ عليهم ذلك واجتمعوا جميعًا وساروا إلى عثمان, فلما رأى حالَهم مَوَّه عليهم وقال لهم: ليس لي مرادٌ إلا الإرسال للشيخ ليحضُرَ عقد الصلح ويدخُلَ دهام في دائرة الإسلامِ، فاطمأنت نفوسُ القوم, ثم أرسل إلى الشيخ وألحَّ عليه في القدوم، ولكن الله ألقى في رُوعِ الشيخ ما استبان به خيانةَ عثمان وغدره، فامتنع عن الذهاب فلمَّا رجع الرسول وأخبرهم بذلك عرف أهل البلد مكرَ عثمان، فحصروا ابن دواس في القصرِ وهَمُّوا أن يفتكوا به، لكن دهام هرب منهم تحت جنح الظلام، وعاد إبراهيم بن سليمان إلى ثرمداء وفارق منهج الحق, وكان هذا كلُّه قبل أن يفِدَ عثمان على الشيخ وابن سعود ويأخذ منهما العهد المجدد, ولكنه مع ذلك لم يخلِصِ النية ولم يعقِدْ على الوفاء، وسيتبين غدرُه "
تعرَّض وفدٌ من آل خليفة (عتوب الزبارة) في البحرين إلى اعتداءٍ أدى إلى وقوعِ قتال بين أتباعِ آل خليفة والبحارنة, فقُتِل أحد أتباع الخليفة، فغَضِب أهلُ الزبارة نتيجةً لذلك فأرسلوا سفينةً صغيرة للبحرين؛ للأخذ بثأر القتيل، فتمكنوا من قتلِ غريمِهم وقتلوا معه خمسةَ أشخاص, فجهَّز ناصِرُ آل مذكور- التابع لحكم الزنديين في بوشهر- سفُنًا حربية تحتوي على خمسة آلاف مقاتلٍ، وتولى ابنُ أخيه محمد بن سعدون آل مذكور القيادةَ، فحاصروا الزبارةَ لمدة شهر، انتهت بمعركةٍ حاميةِ الوطيسِ، فانهزمت قواتُ الشيخ ناصر، واضطروا إلى الانسحابِ، وقُتل في تلك الوقعةِ الشيخُ محمد آل مذكور قائد الحملة، وكان ذلك في 18 جمادى الآخرة 1197هـ ما إن انهزمت قوات آل مذكور عن الزبارة حتى انضمَّت قبائل قطر إلى العتوب، وهي الجلاهمة، وآل مسلم، وآل بنعلي، وآل سودان، وآل مرة، وآل بوعينين، والقبيسات، وآل سليط، والمنانعة، والسادة؛ حيث شرع أحمد آل خليفة بتنظيمِ صفوف قواتِه لاحتلال البحرين وأخذِها من آل مذكور. ثم بادر عتوب الكويت بالتوجُّه إلى البحرين في قوةٍ مكونة من ستة جلابيت وعددٍ من القوارب المسلحة أرسلها الشيخ عبد الله الصباح لدَعمِ أقاربه العتوب, تدفَّقت تلك الجموع إلى البحرين وأجبروا حاميَتَها على الاستسلام يوم 28 شعبان 1197 هـ/ 28 يوليو 1783م. حاول الشيخ ناصر آل مذكور استرجاع جزيرة البحرين بعد استيلاء العتوب على جزيرة البحرين بدعمٍ مِن العثمانيين، حاول إقناع الحكومة الفارسية في بوشهر أهمية استرجاع جزيرة البحرين من يدِ العتوب التابعين لحاكم الكويت الشيخ عبد الله بن صباح بن جابر آل صباح، ولكِنَّ انشغال الحكومة الفارسية بالحروبِ والفِتَن التي أعقبت مقتل كريم خان زند حالت دون ذلك.
انضَمَّت لالا فاطمة إلى المقاومة، وشاركت بجانب الشريفِ بوبغلة في المقاومة والدفاع عن منطقةِ جرجرة، فقاومت لالا فاطمة نسومر الاستعمارَ الفرنسي مقاومةً عنيفةً أبدت خلالَها شجاعةً وبطولة متفرِّدتين حتى توفِّيَت في سبتمبر 1863م؛ فقد شاركت في صَدِّ هجمات الفرنسيين عن ولاية "أربعاء ناث إيراثن" التابعة لولاية تيزي وزو شرقي الجزائر، فقطعت عليهم طريقَ المواصلات؛ ولهذا انضَمَّ إليها عددٌ من قادة الأعراش وشيوخِ القرى، فراحت تناوِشُ جيوش الاحتلال وتهاجِمُها، ويقال إنها هي التي فتكت بالخائِنِ سي الجودي، وأظهرت في إحدى المعارك شجاعةً قوية، وأنقَذَت الشريف بوبغلة الموجود في قرية سومر إثرَ المواجهة الأولى التي وقعت في قرية تزروتس بين قوات الجنرال ميسات والسكان، إلا أن هؤلاء تراجعوا بعد مقاومةٍ عنيفة؛ لغياب تكافؤ القوى عُدَّةً وعَدَدًا، وكان على الجنرال أن يجتازَ نقطتين صعبتين؛ هما: ثشكيرت، وثيري بويران، وفي هذا المكان كانت لالا فاطمة نسومر تقودُ مجموعة من النساء واقفاتٍ على قمة قريبة من مكان المعركة، وهن يحمِّسن الرجال بالزغاريد والنداءات المختلفة؛ مما جعل الثوارَ يستميتون في القتال. شارك الشريف بوبغلة في هذه المعركة وجُرِحَ، فوجد الرعايةَ لدى لالا فاطمة. كما حقَّقت لالا فاطمة انتصاراتٍ أخرى ضد الفرنسيين بنواحي (إيللتي وتحليجت ناث وبورجة وتوريتت موسى، تيزي بوايبر) ممَّا أدى بالسلطات الفرنسية إلى تجنيدِ جَيشٍ معتبر مكوَّن من 45 ألف مقاتل بقيادة الماريشال راندون، وبمؤازرة الماريشال ماك ماهون الذي أتاه بالعتادِ مِن قسطنطينة ليقابِلَ جيش لالا فاطمة الذي لا يتعدى 7000 مقاتل، وعندما احتدمت الحربُ بين الطرفين اتَّبع الفرنسيون أسلوب الإبادة بقتل كل أفراد العائلات دون تمييزٍ ولا شفقةٍ، وفي 19 ذي القعدة 1273هـ / 11 جولاي 1857م ألقِيَ القبض على لالا فاطمة، فحُكِمَ عليها بالإقامة الجبرية بـ(تورثاثين) بمنطقة العيساوية.
اتحد الزُّعماءُ المسلمون الذين يؤيدون الاشتراكيين الثوريين والديمقراطيين الدستوريين، وشكَّلوا لجنة إسلامية نشأت عنها الجبهةُ الوطنية التتارية، ونظمت لجان العمال التي انضمَّ بعضُها إلى بعض تحت اسمِ اللجان الاشتراكية الإسلامية، فلم تلبث أن أصبحت تسيرُ في خطِّ البلاشفة، وأصدرت صحيفة "قيزل بيرق" (العلم الأحمر)، ورغم بُعدِها عن الشيوعية وكرههم للاشتراكيين ومبادئهم الإلحادية، إلا أنهم اتفقوا معهم على إنهاء الحرب وتقسيم الأرض وتحويل السلطة إلى السوفيت (مجلس العمال).
عقد الأعضاء المسلمون في المجلس النيابي (الدوما) الرابع مؤتمرًا في بيتروغراد، ودعوا أناسًا من غير النواب، وقرروا إنشاء مكتب مؤقت للمسلمين في الإمبراطورية الروسية، وتولى أحمد تساليكوف القفقاسي المنشفيكي إدارته، وقرَّروا عدم التعاون مع الأحزاب الروسية، وفي طليعتها الحزب الديمقراطي الدستوري؛ لخيانته المسلمين، وبجهودِ هذا المؤتمر عُقِدَ مؤتمرُ موسكو في الثامن من رجب من هذا العام، وعمل على التوفيق بين الإسلام والاشتراكية، ولم يقاطع المؤتمرَ من المسلمين سوى بعض البلاشفة، وطالب المؤتمرُ الحكومةَ المؤقتة بالمساواة في الحقوق المدنية مع الروس، والاستقلالَ بالأمور الدينية، وأن يكون المفتي منتخَبًا من قِبَل المسلمين وليس مُعَيَّنًا من قِبَل الحكومة، وإنهاء الاستعمار الريفي، وحصْر الأراضي بالسكَّان الأصليين، وكان أيضًا من جملة المطالبات إلغاءُ الملكية الشخصية، ومساواة الرجل بالمرأة، ومنع تعدد الزوجات، وإنشاء مديرية للشؤون الإسلامية في أوفا عاصمة الكيان الفدرالي الروسي، والمحافظة على الوحدة الإسلامية. يقول محمود شاكر: "كان المسلمون في آخرِ أيام روسيا القيصرية على درجةٍ من السذاجة والغباء لا تُوصَفُ؛ فقد استُغِلُّوا بأبسط الشعارات، وخُدِعوا بأقَلِّ الكلمات، ومع تمسُّكِهم بدينهم وكُرهِهم للروس، فقد انجرفوا معهم وساروا مع هذه المجموعة من الأحرار، ومع تلك من الاشتراكيين، ومع أخرى من البيض، ومع رابعة من الثوريين، ومع البرجوازيين!!".
قامت الثورة البلشفية في روسيا عام 1335هـ / 1917م، حيث تظاهر العمَّالُ نتيجة المفاسد وانهيار الأوضاع الاقتصادية وكثرة البطالة، فتشكَّلت حكومةٌ مؤقتة اشترك فيها الاشتراكيون والحزب الديمقراطي الدستوري، كان من نتيجتها تنازُلُ القيصر نقولا الثاني عن العرش لأخيه الأكبر ميخائيل، الذي سرعان ما تنازل هو أيضًا، وخوَّل الحكومةَ المؤقَّتة تسييرَ شؤون البلاد، ولم يجِدِ المسلمون لهم ناصرًا بين الروس، وقد حضروا المؤتمرات وأسَّسوا الجمعيات، لكن دون جدوى، ثم عاد لينين إلى روسيا في جمادى الأولى من العام نفسه / آذار 1917م بعد أن كان في سويسرا، وأخذ ينادي بمبدأ تقرير المصير للأقليَّات؛ ممَّا حدا ببعض المسلمين الانضمام لهذه الثورة البلشفية، بدافِعِ كرههم للروس وما فعلوه بهم، واتحد الزعماءُ المسلِمون المؤيِّدون وقرروا في مؤتمر موسكو التوفيقَ بين الإسلام والاشتراكية!، ثم أعطى لينين عام 1336هـ / 1917م أوامِرَه بصراحة لجماعته البلاشفة، فتسلَّموا السلطة دون مقاومة، ودعمها الطلاب الضبَّاط في الكلية الحربية ثم تشكَّلت الحكومة الجديدة برئاسة لينين، وهرب رئيس الحكومة المؤقتة، ثم تمَّ تأميمُ الأراضي وطلب الصلح فورًا مع الألمان، وتمَّ إلغاء المِلْكية الشخصية، ووقف المسلمون بجانب البلاشفة، أما تركستان فقد أعلنت استقلالَها بعد الانقلاب البلشفي حيث أعلن مجلِسُ الشعب الإسلامي في مدينة خوقند استقلالَ تركستان الذاتي، فسار إليها سوفييت طاشقند فاقتحموا المدينةَ ونهبوها وحرَّقوها وقَتَلوا أكثَرَ من مئة ألف من سكانها، وأما شمال القفقاس أو القوقاز فأعلن اتحادُ الجبلين أن بلادَ القفقاس جزءٌ من روسيا البيضاء، أما الداغستان والشيشان فأعلنوا قيامَ حكومة مستقلة، وأما أذربيجان فتأخَّر صدامُهم مع البلاشفة لِبُعدِ الشُّقَّة، ولكن بعد أن وقع جرت المذابِحُ التي ذهب ضحيَّتها ثلاثة آلاف مسلم، وهكذا لم يبق للمسلمين نفوذٌ ولا سلطةٌ إلا في أربعة مراكز، هي: داغستان، وشيشان، وحكومة غاندكا في أذربيجان، وإمارة بخارى، وإمارة خوارزم.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى توقَّعت إنجلترا بدءَ مستعمراتها في طلب الاستقلال، فأخذت تظهِرُ اللينَ، وأبدت استعدادَها للموافقة، وأوحت إلى سعد زغلول ورفاقه بالتحرك، فبدأ في عقد اجتماعات ولقاءات أسفرت عن طلب الاستقلالِ، وتم تشكيلُ وفد للسفر إلى الخارج لعرض القضية على العالم، وتشكَّل هذا الوفد من سعد زغلول، وعلي شعراوي، وعبد العزيز فهمي، وطلبوا مقابلةَ المندوب السامي البريطاني «وينجت» وطلبوا منه السماح لهم بالسفر إلى إنجلترا؛ لعرض طلباتهم باستقلال مصر، فرفض المندوبُ ذلك الطلب، فاستعدَّ سعد زغلول ورفاقُه إلى السفر إلى جهة أخرى، وهي باريس؛ وذلك لعرض قضية مصر على مؤتمر الصلح، فاعتبرت إنجلترا هذا تمردًا منهم، فألقت القبضَ عليهم، ومعهم آخرون، منهم: محمد محمود، وحمد الباسل، وإسماعيل صدقي، ثم ما لبثت أن أفرجت عنهم، فلما لم يحقِّقْ هذا القبضُ الهدفَ منه -ألا وهو أن يُتوَّجَ هؤلاء زعماءَ جُددًا لمصر- وكان مصطفى كامل وخليفته محمد فريد ما زالا يمثِّلان الزعامة الوطنية للمصريين، قامت إنجلترا بالقبضِ عليهم مرة أخرى ونفيِهم إلى مالطة. وعندما وصلت أخبار النفي للشعب المصري ثار ثورةً عارمة يملؤها الإحساسُ بالعدوان والطغيان الصليبي الذي أرهق المصريين لسنوات طويلة، وبدأت الثورةُ يوم 7 جمادى الآخرة 9 مارس بتظاهُرِ طلبة كلية الحقوق والهندسة والزراعة والطب والتجارة، وتصدى الجنودُ الإنجليز للمظاهرات، وأوقعوا عددًا كبيرًا من القتلى والجرحى. امتدت الثورةُ بعد ذلك لتشمل جميعَ شرائح وقطاعات الشعب المصري من محامين وعمال وموظفين وصحفيين ونساء، وتحوَّلت من ثورة سِلمية إلى ثورة عنيفة وقعت خلالها أعمالُ تخريب وسلب ونهب، ونجحت الثورةُ في تحقيق أهدافها الخفيَّة، وأصبح سعد زغلول هو زعيمَ الأمة المتحَدِّث باسمها؛ ليبدأ فصلًا جديدًا في مصرَ تختفي فيه الشعاراتُ والهُوية الإسلامية، وتحلَّ محلَّها الوطنيةُ والقوميَّةُ!!
كانت إيران قد احتلَّت الأحواز (عربستان) في عهد رضا بهلوي عام 1925 بعد أن منحته بريطانيا هذا الإقليمَ العربيَّ مكافأة له على مساندتِه لها في الحرب العالمية الأولى، وقد بلغ غضبُ الأحوازيين بعد الأوضاع الشاذة التي تعرَّض لها على أيدي السلطات الإيرانية المحتلَّة ذِروتَه هذا العامَ، فأخذ أحرارُ الأحواز يحَرِّضون العشائِرَ على الثورة ورَفْع الذلِّ الذي نكَّس رؤوسَهم طوال هذه السنوات, وغسل عار استعبادهم. وبات البركانُ يغلي، والشعبُ الأحوازي يريد الفرصةَ المواتية له حتى يُظهِرَ استياءَه من الوضع، ويعلِنَ غَضَبَه على التنكيل والتعسُّف اللذين يتعَرَّضُ لهما، والاحتقار والازدراء اللذين يلاقيهما من السلطات العسكرية الفارسية؛ فهو صاحب الأرض، ولكن لا مكان لسكناه، وهو صاحِبُ الخيرات إلا أن الجوعَ نصيبُه, وفي 10 فبراير من هذه السنة تفجَّر بركانُ غضب الأحوازيين، وكانت منطقةُ الميناو محلَّه، وعشائر كعب العربية (حكام الإقليم قبل الاحتلال) هم من فجَّر الثورة بإعلان ثورتِهم على الاستعباد، وغضبِهم على سالبي حريتِهم وكرامتِهم وحقوقِهم، وكان قادةُ هذه الثورة زعماء كعب، ومنهم: حيدر بن طُلَيل، وهو القائد الحقيقي للثورة؛ لذا سمِّيَت باسمه "ثورة الشيخ حيدر"، وطُلَيل تصغيرٌ لطلالٍ. ومن القادة مهدي بن علي بن عمير: رئيس عشيرة كعب منان. ومسلم السلمان: أحد شيوخ كعب آل حاجي. وكاطع الشذر: شيخ طوائف مزرعة العشائر العربية الموجودة في الميناو. وداود الحمود: من شيوخ بني كعب. وأبريج: شيخ خزرج. وكان هدفهم القضاءَ على حاميات الفُرس الموجودة في المنطقة، وقد تمكَّنوا من إزالة تلك الحاميات. وسيطروا على ثكناتِها سيطرةً كاملةً، وقد دامت السيطرةُ العربية مدةً طويلة على المنطقة جاوزت الأربعة أشهر، لكن استطاعت سلطاتُ الفرس الإيرانية بعد ذلك أن تلقيَ القبض على الشيخ حيدر وجماعته، وفورَ اعتقالِهم نُقِلوا إلى منطقة تدعى (قلعة سهر)؛ حيث نُصِبَت لهم محكمةٌ عسكرية قضت بإعدام: حيدر طليل، ومهدي بن علي، وأبريج شيخ خزرج.
هو علي أكبر هاشمي رفسنجاني بهرماني، ولِدَ في 25 أغسطس 1934 بقَريةِ بهرمانَ في ضاحيةِ مدينةِ رفسنجان بمحافظةِ كرمانَ جنوبِ إيرانَ في عائلةٍ ثَريَّةٍ. وبعد أنْ تتلمَذَ في مدرسةٍ دينيةٍ مَحلِّيَّةٍ انتقل إلى الحَوْزةِ الدينيةِ بمدينةِ قُمَّ، وهو في سِنِّ المراهقةِ، فأكمَلَ دُروسَه الدينيةَ. وكان رفسنجاني من أبرَزِ المعارضينَ للشاهِ الموالين للخميني، كما لعِبَ دورًا ملموسًا ومُميَّزًا في ترسيخِ نظامِ الجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ بعد سقوطِ نِظامِ الشاهِ، فأصبحَ أحدَ أهمِّ عناصرِ مجلسِ قيادةِ الثورةِ التي تسلَّمَت الحكمَ في إيرانَ. تولَّى رفسنجاني منصِبَ رئيسِ البرلمانِ بين عامَي 1980 و1989. وخلال الحربِ العراقيةِ الإيرانيَّةِ عيَّنه مرشدُ النظامِ آيةُ اللهِ خميني في عامِ 1988 نائبًا عنه في قيادةِ القواتِ المسلَّحةِ؛ إذ يُعَدُّ رفسنجاني من أقرَبِ رجالِ الدينِ إلى الخميني، وبعد وفاةِ الخميني في 1989 لعِبَ دورًا مشهودًا في إقناعِ مجلِسِ خُبَراءِ القيادةِ لاختيارِ المرشِدِ الحاليِّ خليفةً للخميني، وتزامُنًا مع اختيارِ خامنئي مرشدًا للنظامِ تولَّى رفسنجاني منصِبَ رئاسةِ الجمهوريَّةِ في دورتَينِ من 1989م إلى 1997م، وبعدها بدَأَ رفسنجاني يبتعِدُ عن المرشِدِ؛ إذ صار يميلُ إلى حركةِ الإصلاحِ، وفي عامِ 2009م انتَقَدَ بشدةٍ قَمْعَ الاحتجاجاتِ على نتائجِ الانتخاباتِ الرئاسيَّةِ التي فاز فيها أحمدي نجاد، واتهمَّتِ المعارضةُ المتشدِّدين المُقرَّبين من المرشِدِ بتزويرِ الانتخاباتِ، وتعرَّضت أسرتُه إلى مُضايَقاتٍ عِدَّةٍ من المقرَّبينَ من المرشِدِ، لكنَّه ظلَّ رئيسًا لمجلِسِ تشخيصِ مصلحةِ النظامِ. ولعِبَ رفسنجاني دورًا حاسمًا إلى جانبِ الرئيسِ الأسبقِ الإصلاحيِّ محمد خاتمي، في دَعمِ الرئيسِ حسن روحاني، وفازَ رفسنجاني في انتخاباتِ مَجلِسِ خُبَراءِ القيادةِ في عامِ 2016؛ إذ حاز أعْلى الأصواتِ، لكنَّه ظلَّ مَرفوضًا مِن المتشدِّدين المقرَّبين من خامنئي. تُوفِّيَ إثرَ ذَبْحةٍ صَدريَّةٍ عن عمرٍ ناهزَ 82 عامًا، بعد نَقلِه إلى المستشفى في العاصمةِ طَهرانَ.
كان السلطانُ محمد بن ملكشاه ببغداد عازمًا على المقام بفارس، فاضطرَّ إلى المسير إلى أصبهان ليكونَ قريبًا من فارس؛ لئلَّا تختلف عليه، ولما قصده جاولي سقاوو ورضي عنه أقطعَه بلاد فارس، بعد أن أخذ منه الموصل, فسار جاولي إليها ومعه ولد السلطان جغري، وهو طفل له من العمر سنتان، وأمره بإصلاحها، وقَمْعِ المفسدين بها، فسار إليها، فأوَّل ما اعتمده فيها أنه لم يتوسط بلاد الأمير بلدجي، وهو من كبار مماليك السلطان ملكشاه، ومن جملة بلاده كليل وسرماه، وكان متمكنًا بتلك البلاد. وراسله جاولي ليحضر خدمة جغري ولد السلطان، وعلَّم جغري أن يقول بالفارسية: خذوه، فلما دخل بلدجي قال: جغري على عادته: خذوه، فأُخِذ وقُتِل، ونُهِبت أموالُه. وكان لبلدجي من جملة حصونه قلعة إصطخر، وهي من أمنع القلاع وأحصنها، وكان بها أهلُه وذخائره، وقد استناب في حفظها وزيرًا له يعرف بالجهرمي، فعصى عليه، وأخرج إليه أهله وبعض المال، ولم تزل في يد الجهرمي حتى وصل جاولي إلى فارس فأخذها منه، وجعل فيها أمواله. وكان بفارس جماعة من أمراء الشوانكارة، وهم خلق كثير لا يُحصَون، ومُقَدَّمُهم الحسن بن المبارز، المعروف بخسرو، وله فسا وغيرها، فراسله جاولي ليحضُرَ خدمة جغري، فأجاب: إنني عبد السلطان وفي طاعته، فأما الحضور فلا سبيل إليه؛ لأنني قد عرفت عادتك مع بلدجي وغيره، ولكنني أحمل إلى السلطان ما يؤثِرُه. فلما سمع جاولي جوابه علم أنه لا مقامَ له بفارس معه، فأظهر العودَ إلى السلطان، وحمل أثقالَه على الدواب، وسار كأنه يطلب السلطان، ورجع الرسولُ إلى خسرو فأخبره، فاغتَرَّ وقعد للشرب وأمن. وأما جاولي فإنه عاد من الطريق إلى خسرو جريدة في نفر يسير، فوصل إليه وهو مخمور نائم، فكبسَه، فأنبهه أخوه فضلوه، فلم يستيقظ فصب عليه الماء البارد فأفاق، وركب من وقته وانهزم، وتفَرَّق أصحابه، ونهب جاولي ثقله وأمواله، وأكثر القتلَ في أصحابه، ونجا خسرو إلى حصنه، وهو بين جبلين، يقال لأحدهما أنج. وسار جاولي إلى مدينة فسا فتسلمها، ونهب كثيرًا من بلاد فارس منها جهرم، وسار إلى خسرو وحصره مدة، وضيق عليه، فرأى من امتناع حصنه وقوتِه وكثرة ذخائره ما علم معه أن المدة تطول عليه، فصالحه ليشتغِلَ بباقي بلاد فارس، ورحل عنه إلى شيراز، فأقام بها، ثم توجه إلى كارزون فملكها، وحصر أبا سعد محمدًا في قلعته، وأقام عليها سنتين صيفًا وشتاء، فراسله جاولي في الصلح، ثم نفذ ما عند أبي سعد، فطلب الأمان فأمَّنه، وتسلم الحصن. ثم إن جاولي أساء معاملته، فهرب، فقبض على أولاده، وبثَّ الرجال في أثره، فرأى بعضهم زنجيًّا يحمل شيئًا، فقال: ما معك؟ فقال: زادي، ففتَّشه، فرأى دجاجًا وحلواء السكر، فقال: ما هذا من طعامِك! فضربه، فأقَرَّ على أبي سعد، وأنه يحمِلُ ذلك إليه، فقصدوه، وهو في شِعبِ جبل، فأخذه الجندي وحمله إلى جاولي فقتله. وسار إلى داربجرد، وصاحبها اسمه إبراهيم، فهرب صاحبها منه إلى كرمان خوفًا منه، وكان بينه وبين صاحب كرمان صهر، وهو أرسلانشاه بن كرمانشاه بن أرسلان بك بن قاورت، فقال له: لو تعاضدنا لم يقدِرْ علينا جاولي، وطلب منه النجدة، وسار جاولي بعد هربه منه إلى حصار رتيل رننه، يعني مضيق رننه، وهو موضع لم يؤخذ قهرًا قط؛ لأنه واد نحو فرسخين، وفي صدره قلعة منيعة على جبل عال، وأهل داربجرد يتحصَّنون به إذا خافوا، فأقاموا به، وحفظوا أعلاه. فلما رأى جاولي حصانتَه سار يطلب البرية نحو كرمان، كاتمًا أمره، ثم رجع من طريق كرمان إلى داربجرد، مظهرًا أنه من عسكر الملك أرسلانشاه، صاحب كرمان، فلم يشكَّ أهل الحصن أنهم مدَدٌ لهم مع صاحبهم، فأظهروا السرور، وأذنوا له في دخول المضيق، فلما دخله وضع السيفَ فيمن هناك، فلم ينجُ غير القليل، ونهب أموالَ أهل داربجرد وعاد إلى مكانه، وراسل خسرو يعلمه أنه عازم على التوجه إلى كرمان، ويدعوه إليه، فلم يَجِدْ بدًّا من موافقته، فنزل إليه طائعًا، وسار معه إلى كرمان، وأرسل إلى صاحبها القاضي أبا طاهر عبد الله بن طاهر قاضي شيراز، يأمره بإعادة الشوانكارة؛ لأنهم رعية السلطان، يقول: إنه متى أعادهم عاد عن قصد بلاده، وإلا قصَدَه، فأعاد صاحب كرمان جواب الرسالة متضمنة الشفاعة فيهم؛ حيث استجاروا به. ولما وصل الرسول إلى جاولي أحسن إليه، وأجزل له العطاء، وأفسده على صاحبه، وجعله عينًا له عليه، وقرر معه إعادة عسكر كرمان ليدخل البلاد وهم غارُّون، فلما عاد الرسول وبلغ السيرجان، وبها عساكر صاحب كرمان، ووزيره مقدَّم الجيش، أعلم الوزير ما عليه جاولي من المقاربة، وأنه يفارق ما كرهوه، وأكثر من هذا النوع، وقال: لكنه مستوحِش من اجتماع العساكر بالسيرجان، وإن أعداء جاولي طمعوا فيه بهذا العسكر، والرأي أن تعاد العساكر إلى بلادها. فعاد الوزير والعساكر وخلت السيرجان، وسار جاولي في أثر الرسول، فنزل بفرج، وهي الحد بين فارس وكرمان، فحاصرها، فلما بلغ ذلك ملك كرمان أحضر الرسول وأنكر عليه إعادة العسكر، فاعتذر إليه. وكان مع الرسول فراش لجاولي ليعود إليه بالأخبار، فارتاب به الوزير، فعاقبه، فأقر على الرسول فصُلِب ونُهِبت أموالُه وصُلِب الفراش، وندب العساكر إلى المسير إلى جاولي، فساروا في ستة آلاف فارس. وكانت الولاية التي هي الحد بين فارس وكرمان بيد إنسان يسمَّى موسى، وكان ذا رأي ومكر، فاجتمع بالعسكر، وأشار عليهم بترك الجادة المسلوكة، وقال: إن جاولي محتاطٌ منها، وسلك بهم طريقًا غير مسلوكة بين جبال ومضايق. وكان جاولي يحاصِرُ فرج، وقد ضيَّق على من بها، وهو يدمن الشرب، فسير أميرًا في طائفة من عسكره ليلقى العسكر المنفذ من كرمان، فسار الأمير فلم ير أحدًا، فظن أنهم قد عادوا، فرجع إلى جاولي وقال: إن العسكر كان قليلًا، فعاد خوفًا منا، فاطمأن حينئذ جاولي، وأدمن شرب الخمر. ووصل عسكر كرمان إليه ليلًا، وهو سكران نائم، فأيقظه بعض أصحابه وأخبره، فقطع لسانه، فأتاه غيره وأيقظه وعرَّفه الحال، فاستيقظ وركب وانهزم، وقد تفرَّق عسكره منهزمين، فقُتِل منهم وأُسِرَ كثير، وأدركه خسرو وابن أبي سعد الذي قتل جاولي أباه، فسارا معه في أصحابهما، فلم ير معه أحدًا من أصحابه الأتراك، فخاف على نفسه منهم، فقالا له: إنا لا نغدِرُ بك، ولن ترى منا إلا الخير والسلامة، وسارا معه، حتى وصل إلى مدينة فسا، واتصل به المنهزمون من أصحابه، وأطلق صاحب كرمان الأسرى وجهزهم، وكانت هذه الوقعة في شوال سنة ثمان وخمسمائة. وبينما جاولي يدبر الأمر ليعاود كرمان ويأخذ بثأره توفِّيَ الملك جغري ابن السلطان محمد، وعمره خمس سنين، وكانت وفاته في ذي الحجة سنة تسع وخمسمائة، ففت ذلك في عضده، فأرسل ملك كرمان رسولًا إلى السلطان، وهو ببغداد، يطلب منه منع جاولي عنه، فأجابه السلطان أنه لا بد من إرضاء جاولي وتسليم فرج إليه، فعاد الرسول في ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة، فتوفي جاولي، فأمنوا ما كانوا يخافونه، فلما سمع السلطان سار عن بغداد إلى أصبهان؛ خوفًا على فارس من صاحب كرمان.
كان الوزيرُ ابن العلقمي يجتَهِدُ في صرف الجيوش وإسقاطِ اسمِهم من الديوان، فكانت العساكِرُ في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء ومن هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلِهم إلى أن لم يبقَ سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتارَ وأطمعهم في أخذِ البلاد، وسَهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقةَ الحال، وكشَفَ لهم ضعف الرجال، وذلك كلُّه طمعًا منه أن يزيل السُّنَّة بالكُلِّيَّة، وأن يُظهِرَ البِدعةَ الرَّافضية، وأن يقيمَ خليفةً مِن الفاطميِّينَ، وأن يُبيدَ العلماء والمُفتين- والله غالبٌ على أمرِه- كانت الفِتَنُ قد استعرت بين السُّنة والرافضة في بغداد حتى تجالَدوا بالسيوف، وشكا أهلُ باب البصرة إلى الأمير ركن الدين الدويدار والأمير أبي بكر بن الخليفة فتَقَدَّما إلى الجند بنَهبِ الكرخ، فهَجَموه ونهبوا وقتلوا، وارتكبوا من الشنعة العظائم، فحنق ابنُ العلقمي ونوى الشرَّ، وأمر أهل الكرخ بالصَّبرِ والكف. فمالأ- قبَّحَه اللهُ- على الإسلامِ وأهلِه المغولَ الكَفَرةَ وزَعيمَهم هولاكو، حتى فعل ما فعل بالإسلامِ وأهلِه، خاصة في بغداد- عليه من الله ما يستحقُّ- كان قدوم هولاكو بجنوده كلها- وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشرَ المحرم من هذه السنة، وجاءت إليهم أمدادُ صاحب الموصل يساعِدونَهم على أهل بغداد, وميرته وهداياه وتُحَفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه مِن التتار، ومصانعةً لهم، وقد سُتِرَت بغداد ونُصِبَت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة، فأحاطوا ببغدادَ مِن ناحيتها الغربيَّة والشرقية، وجيوش بغداد في غايةِ القِلَّة ونهاية الذِّلَّة، لا يبلغونَ عَشرةَ آلاف فارس، وهم وبقيَّة الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتِهم وذلك كلُّه عن آراء الوزيرِ ابن العلقميِّ الرافضي، الذي دبَّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيعِ، الذي لم يؤرخ أبشَعُ منه منذ بُنِيَت بغداد، وكان أوَّلَ مَن برز إلى التتار هو، فخرج بأهلِه وأصحابِه وخَدَمِه وحَشَمِه، فاجتمع بالسلطانِ هولاكو خان- لعنه الله- ثم عاد فأشار على الخليفةِ بالخروجِ إليه والمثول بين يديه لتقَعَ المصالحة على أن يكون نِصفُ خراج العراق لهم ونِصفُه للخليفة، فخرج الخليفةُ في سبعمائة راكبٍ مِن القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتَرَبوا من منزل السلطان هولاكو خان حُجِبوا عن الخليفةِ إلا سبعة عشر نفسًا، فخَلَص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزِلَ الباقون عن مراكبهم فنُهِبَت وقُتِلوا عن آخرهم، وأُحضِرَ الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال: إنَّه اضطرب كلامُ الخليفة من هَولِ ما رأى من الإهانةِ والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صُحبَتِه خوجه نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفةُ تحت الحوطة والمصادرة، فأحضَرَ مِن دار الخلافة شيئًا كثيرًا مِن الذهب والحُلِيِّ والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرَّافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو ألَّا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلحُ على المناصفة لا يستمِرُّ هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحَسَّنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفةُ إلى السلطان هولاكو أمر بقَتلِه، ويقال: إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصيرُ عند هولاكو قد استصحبه في خدمَتِه لما فتح قلاع ألموت التي للإسماعيلية، وانتزعها من أيديهم، وانتخب هولاكو الطوسيَّ ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قَدِمَ هولاكو وتهيبَ مِن قَتلِ الخليفة هَوَّن عليه الوزير ذلك فقتلوه، فباؤُوا بإثمِه وإثم من كان معه من ساداتِ العُلَماءِ والقُضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحَلِّ والعقد ببلاده، ومالوا على البلد فقَتَلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبَّان، ودخل كثيرٌ من الناس في الآبار وأماكِنِ الحشوش، وقنى الوسَخِ، وكَمَنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعةُ مِن الناس يجتمعون إلى الخانات ويُغلِقونَ عليهم الأبواب فتفتحها التتارُ إمَّا بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلونَ عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنةِ فيقتلونهم بالأسطُحِ، حتى تجري الميازيب من الدماءِ في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!! وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبُط، ولم ينجُ منهم أحد سوى أهل الذمَّة من اليهود والنصارى ومَن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفةٌ مِن التجَّار أخذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالًا جزيلةً حتى سَلِموا وسَلِمَت أموالهم، وعادت بغدادُ بعد ما كانت آنَسَ المدن كلِّها كأنها خرابٌ ليس فيها إلا القليلُ مِن الناس، وهم في خوفٍ وجوعٍ وذِلَّة وقلة! وكان دخولهم إلى بغداد في أواخِرِ المحرم، وما زال السيف يقتُلُ أهلَها أربعينَ يومًا، وكان الرجلُ من بني العباس يُستدعى به مِن دار الخلافة فيخرج بأولادِه ونسائه فيُذهَبُ به إلى مَقبرةِ الخَلَّال تجاه المنظرة فيُذبَحُ كما تُذبَحُ الشاة، ويؤسَرُ من يختارون من بناتِه وجواريه، وتعطَّلَت المساجد والجمع والجمعات مدة شهورٍ ببغداد، ولما انقضى الأمرُ المقَدَّر وانقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاويةً على عروشها ليس بها أحَدٌ إلا الشاذُّ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطَرُ فتغيرت صُوَرُهم وأنتنت من جِيَفِهم البلد، وتغيَّرَ الهواء فحصل بسببه الوباءُ الشديد حتى تعدى وسرى في الهواءِ إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير من تغيُّرِ الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاءُ والوَباءُ والفَناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولما نودي ببغداد بالأمانِ خرج من تحت الأرضِ مَن كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نُبِشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضُهم بعضًا، فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباءُ الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقَهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمرِ الذي يعلَمُ السر َّوأخفى، اللهُ لا إلهَ إلا هو له الأسماءُ الحسنى. حكى جمال الدين سليمان بن عبد الله بن رطلين قال: "لما قُتِلَ الخليفة, وأَطلَقَ المغول السبعة عشر الذين كانوا معه وكان أبي معهم، قُتِلَ منهم رجلان وطلب الباقونَ بيوتهم فوجدوها بلاقِعَ. فأتوا المدرسةَ المغيثية، وقد كُنتُ ظَهرتُ مِن مخبئي, فبقيت أسألُ عن أبي، فدُلِلْتُ عليه، فأتيتُه وهو ورفاقه، فسَلَّمت عليهم، فلم يعرفني أحدٌ منهم، وقالوا: ما تريد؟ قلت: أريدُ فخر الدين ابن رطلين. وقد عرفتُه، فالتفَتَ إليَّ وقال: ما تريد منه؟ قلت: أنا ولَدُه. فنظر إليَّ وتحقَّقني، فلما عرفني بكى!!". كان رحيل هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر مُلكِه، وفوَّضَ أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوَّضَ إليه الشحنكية بها وإلى الوزير ابن العلقمي الذي مات بعد أشهرٍ من هذه الحادثةِ غَمًّا وكَمَدًا, فولي بعده الوزارة ولدُه عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه اللهُ بأبيه في بقيَّة هذا العام.
وجَّه أبو أحمد الموفَّق ولَدَه أبا العباسِ في نحوٍ مِن عشرة آلافِ فارس وراجلٍ، في أحسَنِ هيئةٍ وأكملِ تجَمُّل لقتال الزنج، فساروا نحوَهم فكان بينه وبينهم من القتالِ والنِّزال في أوقاتٍ متعدِّدة ووقعاتٍ مشهورةٍ، استحوذ أبو العباس بن الموفِّق فيها على ما كان استولى عليه الزنجُ ببلاد واسط وأراضي دجلة، هذا وهو شابٌّ حَدَثٌ لا خبرةَ له بالحرب، ولكِنْ سَلَّمَه الله وأعلى كلمَتَه وسَدَّد رَميَتَه وأجاب دعوتَه، وفتح على يديه وأسبَغَ نِعَمَه عليه، وهذا الشابُّ هو الذي وليَ الخلافةَ بعد عمه المعتمد، ثم ركب أبو أحمد الموفَّق ناصر دين الله في بغداد في صفر منها في جيوشٍ كثيفة، فدخل واسط في ربيع الأوَّل منها، ثم سار بجميعِ الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسمَّاها المنيعة، فقاتل الزنجُ دونها قتالًا شديدًا فقهرهم ودخلها عَنوةً وهربوا منها، فبعث في آثارِهم جيشًا، فلَحِقوهم إلى البطائح يقتُلون ويأسرون، وغَنِمَ أبو أحمد من المنيعة شيئًا كثيرًا، واستنقذ من النساء المُسلمات خمسةَ آلافِ امرأة، وأمر بإرسالهنَّ إلى أهاليهن بواسط، وأمر بهدمِ سُورِ البلد وبطَمِّ خندقها وجعلها بلقعًا بعد ما كان للشَّرِّ مَجمعًا، ثم سار الموفَّق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها المنصورة، وبها سليمان بن جامع، فحاصروها وقاتلوه دونها فقُتِلَ خَلقٌ كثيرٌ من الفريقين، ورَمى أبو العباس بن الموفَّق بسهمٍ أحمدَ بن هندي أحدَ أمراء صاحب الزنج فأصابه في دماغِه فقَتَله، فشَقَّ ذلك على الزنجِ جِدًّا، وأصبح الناسُ محاصِرينَ مدينة الزنج يومَ السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر والجيوشُ المُوَفَّقية مُرتَّبة أحسنَ ترتيب، فتقدم الموفَّق واجتهد في حصارِها، فهزم الله مقاتِلَتَها وانتهى إلى خَندقِها، فإذا هو قد حُصِّنَ غايةَ التحصين، وإذا هم قد جعلوا حول البلدِ خمسةَ خنادقَ وخمسة أسوار، فجعل كلمَّا جاوز سورًا قاتلوه دون الآخَرِ، فيَقهَرُهم ويجوز إلى الذي يليه، حتى انتهى إلى البلد فقتل منهم خلقًا كثيرًا وهرب بقيَّتُهم، وأسَرَ مِن نساءِ الزِّنج من حلائل سليمان بن جامع وذويه نساءً كثيرةً وصِبيانًا، واستنقذ من أيديهم النساءَ المُسلِمات والصبيانَ مِن أهل البصرة والكوفة نحوًا من عشرة آلاف نسمةٍ فسَيَّرَهم إلى أهليهم، ثمَّ أمر بهدم أسوارِها ورَدْم خنادِقِها وأنهارِها، وأقام بها سبعةَ عشر يومًا، بعث في آثارِ مَن انهزم منهم، فكان لا يأتونَ بأحدٍ منهم إلَّا استماله إلى الحقِّ برِفقٍ ولِينٍ وصَفحٍ، فمن أجابه أضافه إلى بعض الأمراءِ - وكان مقصودُه رجوعَهم إلى الدينِ والحَقِّ- ومن لم يُجِبْه قتله أو حبَسَه، ثم ركب إلى الأهواز فأجلاهم عنها وطرَدَهم منها وقتلَ خلقًا كثيرًا من أشرافهم؛ منهم أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري، وكان رئيسًا فيهم مُطاعًا، وغَنِم شيئًا كثيرًا من أموالهم، وكتب الموفَّق إلى صاحب الزنج- قبَّحَه الله- كتابًا يدعوه فيه إلى التوبةِ والرجوع عمَّا ارتكبه من المآثِمِ والمظالمِ والمحارمِ، ودعوى النبوَّةِ والرِّسالة، وخرابِ البُلدانِ واستحلالِ الفُروج الحرام، ونبَذَ له الأمانَ إن هو رجَعَ إلى الحق، فلم يَرُدَّ عليه صاحِبُ الزنج جوابًا، فسار أبو أحمد الموفَّق إلى مدينةِ صاحب الزنج وحصار المختارة، فلمَّا انتهى إليها وجدَها في غاية الإحكام، وقد حَوَّط عليها من آلات الحصار شيئًا كثيرًا، وقد التفَّ على صاحب الزنج نحوٌ من ثلثمائة ألفِ مقاتلٍ بسيفٍ ورُمحٍ ومِقلاعٍ، ومن يكثر سوادهم، فقَدَّم الموفَّق ولدَه أبا العباس بين يديه فتقَدَّم حتى وقف تحت قصرِ الملك فحاصَره محاصرةً شديدةً، وتعجَّبَ الزنج من إقدامِه وجرأتِه، ثم تراكمتِ الزِّنجُ عليه من كلِّ مكان فهزمهم وأثبتَ بهبوذ بن عبدالوهاب أكبَر أمراءِ صاحبِ الزنجِ بالسِّهام والحجارةِ، ثم خامر جماعةٌ من أصحاب أمراءِ صاحِب الزنج إلى الموفَّق فأكَرَمهم وأعطاهم خِلَعًا سَنِيَّة، ثم رَغِبَ إلى ذلك جماعةٌ كثيرون فصاروا إلى الموفَّق، ثم ركب أبو أحمد الموفَّق في يوم النصف من شعبان ونادى في الناسِ كلِّهم بالأمان إلى صاحبِ الزنج، فتحول خلقٌ كثيرٌ من جيش صاحب الزنج إلى الموفَّق، وابتنى الموفَّق مدينةً تجاه مدينة صاحب الزنج سمَّاها الموفَّقيَّة، ليستعينَ بها على قتال صاحب الزنج، ثم جرت بينهم حروبٌ عظيمة، وما زالت الحربُ ناشبةً حتى انسلخت هذه السنةُ وهم محاصِرونَ للخبيثِ صاحِبِ الزنج، وقد تحوَّل منهم خلقٌ كثيرٌ، فصاروا على صاحِبِ الزنج بعد ما كانوا معه، وبلغ عددُ من تحول قريبًا مِن خمسين ألفًا من الأمراءِ الخواصِّ والأجناد، والموفَّق وأصحابُه في زيادةٍ وقوَّة ونصرٍ وظفَرٍ.
سار مَلِكُ الألمانِ مِن بلادِه في خَلقٍ كَثيرٍ وجَمْعٍ عَظيمٍ مِن الفرنج، عازمًا على قَصدِ بلادِ الإسلامِ، وهو لا يَشُكُّ في مِلكِها بأيسَرِ قِتالٍ؛ لكَثرةِ جُموعِه، وتوفُّرِ أموالِه وعُدَدِه، فلمَّا وَصَل إلى الشَّامِ قَصَده مَن به من الفرنجِ وخَدَموه، وامتَثَلوا أمْرَه ونَهْيَه، فأمَرَهم بالمسيرِ معهم إلى دمشقَ لِيَحصُرَها، فساروا معه ونازلوها وحَصَروها، وكان صاحِبُها مجير الدين أبق بن نوري بن طغتكين، وليس له من الأمر شيءٌ، وإنَّما الحُكمُ في البلد لِمُعين الدين أنر مملوكِ جَدِّه طغتكين، فجَمَعَ العساكِرَ وحَفِظَ البَلَدَ، وأقام الفرنجُ يُحاصِرونَهم، ثمَّ إنَّهم زَحَفوا سادِسَ ربيع الأوَّل بفارِسِهم وراجِلِهم، فخرج إليهم أهلُ البَلَدِ والعَسكَرُ فقاتَلوهم، وصَبَروا لهم، وقاتَلوا الفِرنجَ حتى قُتِلَ مُعين الدين عند النيرب نحوَ نِصفِ فرسَخٍ عن دِمشقَ وقَوِيَ الفرنجُ وضَعُفَ المُسلِمونَ، فتقَدَّمَ مَلِكُ الألمان حتى نزل بالميدانِ الأخضَرِ، فأيقَنَ النَّاسُ بأنَّه يَملِكُ البَلَدَ، وكان مُعينُ الدينِ قد أرسل إلى سيفِ الدين غازي بن أتابك صاحِبِ حَلَب يدعوه إلى نُصرةِ المُسلِمينَ وكَفِّ العدُوِّ عنهم، فجمع عساكِرَه وسار إلى الشَّامِ، واستصحَبَ معه أخاه نورَ الدين محمود من حَلَب، فنزلوا بمدينةِ حِمص، وأرسل إلى مُعين الدين يقول له: "قد حَضَرتُ ومعي كلُّ مَن يَحمِلُ السلاحَ من بلادي، فأريد أن يكونَ نُوَّابي بمدينة دمشق لأحضُرَ وألقى الفِرنجَ، فإن انهَزمتُ دخَلْتُ أنا وعسكري البَلَدَ، واحتمَينا به، وإن ظَفِرتُ فالبَلَدُ لكم لا أنازِعُكم فيه"، ثم أرسل إلى الفِرنجِ يتهَدَّدُهم إن لم يَرحَلوا عن البلَدِ، فكفَّ الفرنجُ عن القتال خوفًا من كثرةِ الجِراحِ، وربما اضطُروا إلى قتالِ سيف الدين، فأبقَوا على نُفوسِهم، فقَوِيَ أهلُ البلَدِ على حِفظِه، واستراحوا من لزومِ الحَربِ، وأرسل مُعينُ الدين إلى الفرنج الغُرَباء: "إنَّ مَلِكَ المَشرِق قد حضر، فإنْ رَحَلتُم، وإلَّا سَلَّمتُ البلدَ إليه، وحينئذٍ تَندَمونَ، وأرسل إلى فرنجِ الشام يقول لهم: بأيِّ عَقلٍ تُساعِدونَ هؤلاء علينا، وأنتم تعلمونَ أنهم إن مَلَكوا دمشقَ أخَذوا ما بأيديكم من البلادِ الساحليَّة، وأمَّا أنا فإن رأيتُ الضَّعفَ عن حِفظِ البلد سَلَّمتُه إلى سيف الدين، وأنتم تعلمونَ أنَّه إن ملك دِمشقَ لا يبقى لكم معه مُقامٌ في الشام"، فأجابوه إلى التَّخلي عن مَلِك الألمانِ، وبذل لهم تَسليمَ حِصنِ بانياس إليهم، واجتمَعَ السَّاحليَّة بمَلِك الألمان، وخَوَّفوه مِن سَيفِ الدين وكَثرةِ عَساكِرِه وتتابُعِ الأمداد إليه، وأنَّه ربما أخذ دمشقَ وتَضعُفُ عن مُقاومِته، ولم يزالوا به حتى رحَلَ عن البَلَدِ، وتسَلَّموا قلعة بانياس، وعاد الفرنجُ الألمانيَّةُ إلى بلادهم وهي من وراء القُسطنطينيَّة، وكفى اللهُ المؤمنينَ شَرَّهم. ذكر ابنُ كثيرٍ هذا الحِصارَ لدمشق فقال: "حاصَرَ الفِرنجُ دِمشقَ وهم سبعون ألفًا، ومعهم مَلِكُ الألمانُ في خَلقٍ لا يَعلَمُهم إلَّا اللهُ عَزَّ وجل، وعليها مُجير الدين أرتق وأتابكه مُعين الدين أنر، وهو مُدَبِّرُ المملكة، وذلك يومَ السبت سادس ربيع الأول، فخرج إليهم أهلُها في مئة ألف وثلاثين ألفًا، فاقتتلوا معهم قتالًا شَديدًا، قُتِلَ مِن المُسلِمينَ في أوَّلِ يَومٍ نحوٌ مِن مِئتَي رجُلٍ، ومن الفرنجِ خَلقٌ كَثيرٌ لا يُحصَونَ، واستمَرَّت الحَربُ مُدَّةً، واجتمَعَ النَّاسُ وسطَ صحْنِ الجامِعِ يدعونَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ، والنِّساء والأطفال مُكشفي الرؤوس يدعون ويتباكَون، فاستغاث أرتق بنور الدينِ محمود صاحِبِ حلب وبأخيه سيفِ الدين غازي صاحِبِ المَوصِل، فقصداه سريعًا في نحوٍ مِن سبعينَ ألفًا بمن انضاف إليهم من الملوكِ وغَيرِهم، فلمَّا سَمِعَت الفرنج بقدوم الجيشِ تحولوا عن البلد، فلَحِقَهم الجيشُ فقَتَلوا منهم خلقًا كثيرًا، وجَمًّا غفيرًا، وقتلوا قِسِّيسًا معهم اسمُه إلياس، وهو الذي أغراهم بدِمشقَ، وذلك أنَّه افترى منامًا عن المسيح أنَّه وعده فَتحَ دِمشقَ، فقُتِلَ- لعنه الله- وقد كادوا يأخُذونَ البَلَدَ، ولكِنَّ الله سَلَّمَ، وحماها بحَولِه وقُوَّتِه. قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] ومدينةُ دِمشقَ لا سبيلَ للأعداء من الكَفَرةِ عليها؛ لأنَّها المحَلَّةُ التي أخبَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنها أنَّها مَعقِلُ الإسلامِ عند الملاحِمِ والفِتَنِ، وبها يَنزِلُ عيسى بنُ مريم، وقد قَتَل الفرنجُ خَلقًا كَثيرًا مِن أهلِ دِمشقَ".
خرجت الفرنج فارسُها وراجِلُها من وراء خنادقهم في عكا، وتقَدَّموا إلى المسلمين، وهم كثيرٌ لا يُحصى عددهم، وقصدوا نحوَ عسكر مصر، ومُقَدَّمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريونَ قد ركبوا واصطَفُّوا للقاء الفرنج، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنجُ خيامَهم، ونَهَبوا أموالهم، فعطف المصريُّون عليهم، فقاتلوهم مِن وَسطِ خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجَّهت طائفة من المصريين نحو خنادِقِ الفرنج، فقطعوا المَدَد عن أصحابِهم الذين خرجوا، وكانوا متَّصِلينَ كالنمل، فلما انقطعت أمدادُهم ألقَوا بأيديهم، وأخَذَتْهم السيوفُ مِن كل ناحية، فلم ينج منهم إلا الشَّريدُ، وقُتِلَ منهم مقتلة عظيمة، يزيد عددُ القتلى على عشرة آلاف قتيل، وكانت عساكِرُ الموصل قريبةً من عسكر مصر، وكان مُقَدَّمُهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضًا على الفرنج، وبالغوا في قتالِهم، ونالوا منهم نيلًا كثيرًا، ولَمَّا جرى على الفرنج هذه الحادثة خَمَدت جمرتُهم، ولانت عريكتُهم، فلما كان بعد يومين أتت الفرنجَ أمدادٌ في البحر فعادت نفوسُهم فقَوِيَت واطمأنَّت، وأخبرهم أن الأمدادَ واصلة إليهم يتلو بعضُها بعضًا، فتماسكوا وحَفِظوا مكانهم، ثمَّ إن الكند هري نصَبَ منجنيقًا ودباباتٍ وعرادات، فخرج مَن بعكا من المسلمين فأخذوها، وقَتَلوا عندها كثيرًا من الفرنج؛ ثم إنَّ الكند هري بعد أخْذِ مجانيقه أراد أن ينصِبَ منجنيقًا، فلم يتمَكَّنْ من ذلك؛ لأن المسلمينَ بعكا كانوا يمنعونَ مِن عَمَلِ ستائِرَ يستَتِرُ بها مَن يرمي من المنجنيق، فعمل تلًّا من تراب بالبعد من البلد، ونَصَبوا وراءه منجنيقين، وصار التلُّ سترة لهما، وكانت الميرةُ قد قلَّت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمُرُهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخَّرَ إنفاذها، فسَيَّرَ إلى نائبه بمدينةِ بيروت في ذلك، فسَيَّرَ سفينةً عظيمة مملوءةً مِن كل ما يريدونه، وأمَرَ مَن بها فلَبِسوا ملبسَ الفِرنجِ وتَشَبَّهوا بهم ورفعوا عليها الصُّلبانَ، فلَمَّا وصلوا إلى عكا لم يشُكَّ الفِرنجُ أنَّها لهم، فلم يتعَرَّضوا لها، فلما حاذت ميناء عكَّا أدخلها مَن بها، ففرح بها المسلمون، وانتَعَشوا وقَوِيَت نفوسُهم، وتبلَّغوا بما فيها إلى أن أتَتْهم الميرةُ من الإسكندرية، ثم في حادي عشر شوال، خرج النصارى في عددٍ كالرمل كثرةً وكالنارِ جَمرةً، فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقالَ المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثةِ فراسِخَ عن عكَّا، وكان قد عاد إليه فَرقٌ مِن عساكِرِه لَمَّا هلك ملك الألمان، ولَقِيَ الفرنج على تعبئة حسنة، فسار الفرنجُ شَرقيَّ نهرٍ هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكِرَ الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية- جالش كلمة فارسية تعني تحدي- وأمطروا عليهم من السِّهام ما كاد يستُرُ الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربيَّ النهر، ولَزِمَهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنجُ قد تجمعوا، ولزم بعضُهم بعضًا، فلما كان الغدُ عادوا نحو عكا ليعتَصِموا بخندَقِهم، والجالشيةُ في أكتافهم يقاتلونهم تارةً بالسيوف وتارةً بالرماح وتارةً بالسهام، فلما بلغ الفرنجُ خَندَقَهم، ولم يكُنْ لهم بعدها ظهورٌ منه، عاد المسلمون إلى خيامِهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقًا كثيرًا، وفي الثالث والعشرين من شوال كَمَن جماعة من المسلمين، فخرج لهم الفرنجُ في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا الكمينَ، فخرجوا عليهم فلم يُفلِتْ من الفرنج أحد, واشتَدَّ الغلاء عليهم, ثم زاد الأمرُ شِدَّةً عليهم عند هيجانِ البَحرِ وانقطاعِ المراكِبِ في فصل الشتاء, فأرسى الفرنجُ مراكِبَهم بصور؛ خوفًا عليها على عادتِهم في صور في فَصلِ الشتاء, فانفتح الطريقُ إلى عكا في البَحرِ، فأرسل أهلُها إلى صلاح الدين يَشكُونَ ما نزل بهم، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين، فشكى مِن ضَجَرِه بطول المقام والحرب، فأمر صلاح الدين بإنفاذِ نائبٍ وعسكَرٍ إليها بدلًا منهم وأمَرَ أخاه العادِلَ بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبَلِ حيفا وجمَعَ المراكبَ والشواني- سفن حربية كبيرة- وبَعَث العساكر إليها شيئًا فشيئًا، كلما دخلت طائفةٌ خرج بدلها، فدخل عشرون أميرًا بدلا من ستين, وعادت مراكِبُ الفرنج بعد انحسارِ الشتاء فانقطعت الأخبارُ عن عكا وعنها، وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسلان مقَدَّم الأسدية، وابن عز الدين جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أوَّلَ سنة سبع وثمانين.
اشتَدَّ القتال بين الفرنج والمسلمين برًّا وبحرًا، وقد اجتمع من الفرنج والمسلمين ما لا يعلم عددهم إلا الله، هذا والرسُل تتردد من عند الفرنج في طلب الصلحِ بشروط: منها أخذ القدس وعسقلان وطبرية، وجبلة واللاذقية، وسائر ما فتحه السلطان صلاحُ الدين من بلاد الساحل، فأجابهم الملوك إلى ذلك، ما خلا الكرك والشوبك، فأبى الفرنجُ، وقالوا: لا نسَلِّم دمياط حتى تسلِّموا ذلك كله فرضي الكامل، فامتنع الفرنج، وقالوا: لا بد أن تعطونا خمسمائة ألف دينار، لنعمر بها ما خربتم من أسوار القدس، مع أخْذِ ما ذكر من البلاد، وأخذ الكرك والشوبك أيضًا، فاضطر المسلمون إلى قتالهم ومصابرتِهم، وعبَرَ جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها معسكر الفرنج، وفتحوا مكانًا عظيمًا في النيل، وكان وقتَ قوة زيادة النيل، والفرنج لا معرفةَ لهم بحال أرض مصر، ولا بأمر النيل، فلم يشعر الفرنج إلا والماء قد غرق أكثر الأرض التي هم عليها، وصار حائلًا بينهم وبين دمياط، وأصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها، سوى جهةٍ واحدة ضيقة، فأمر السلطانُ في الحال بنصب الجسور وعبَرَت العساكر الإسلامية عليها، وملكت الطريق التي تسلكها الفرنجُ إلى دمياط، فانحصروا من سائر الجهات، وقَدَّر الله سبحانه بوصول فرقةٍ عظيمة في البحر للفرنج، وحولها عدةُ حراقات تحميها، وسائرها مشحونة بالميرة والسلاح، وسائر ما يحتاج إليه، فأوقع بها شواني الإسلام، وكانت بينهما حربٌ، أنزل الله فيها نصره على المسلمين، فظَفِروا بها وبما معها من الحراقات، ففتَّ ذلك في عضد الفرنج، وألقِيَ في قلوبهم الرعب والذلة، بعدما كانوا في غاية الاستظهار والعنت على المسلمين، وعلموا أنهم مأخوذون لا محالة، فأجمعوا أمرهم على مناهضة المسلمين؛ ظنًّا منهم أنهم يصلون إلى دمياط، فخَرَّبوا خيامهم ومجانيقَهم، وعزموا على أن يحطموا حطمةً واحدة، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلًا، لكثرةِ الوحل والمياه التي قد ركبت الأرضَ مِن حولهم، فعجزوا عن الإقامة لقلَّةِ الأزواد عندهم، ولاذوا إلى طلَبِ الصلحِ، وبعثوا يسألون الملك الكامل وأخويه الأشرف والمعظم الأمانَ لأنفُسِهم، وأنهم يسلِّمونَ دمياط بغير عوض، فاقتضى رأيُ الملك الكامل إجابتهم، هذا وقد ضجرت عساكر المسلمين، وملت من طول الحرب، فإنها مقيمة في محاربة الفرنج ثلاث سنين وأشهرًا، وما زال الكامل قائمًا في تأمين الفرنج إلى أن وافقه بقيَّة الملوك على أن يبعث الفرنجُ برهائن من ملوكِهم لا من أمرائهم إلى أن يسَلِّموا دمياط فطلب الفرنجُ أن يكون ابن الملك الكامل عندهم رهينةً، إلى أن تعود إليهم رهائنُهم، فتقَرَّر الأمر على ذلك، وحلف كل من ملوك المسلمين والفرنج، في سابع شهر رجب، وبعث الفرنج بعشرين ملكًا من ملوكهم رهنًا، منهم يوحنا صاحب عكا، ونائب البابا، وبعث الملك الكامل إليهم بابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وله من العمر يومئذ خمس عشرة سنة، ومعه جماعة من خواصه، وعندما قدم ملوك الفرنج جلس لهم الملك الكامل مجلسًا عظيمًا، ووقف الملوكُ من إخوته وأهل بيته بين يديه، في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فهال الفرنج ما شاهدوا من تلك العظمة وبهاء ذلك الناموس، وقدمت قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، ليسَلِّموها إلى المسلمين، فتسَلَّمها المسلمون في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فلما تسلمها المسلمون قدم في ذلك اليوم من الفرنج نجدة عظيمة، يقال أنها ألف مركب، فعُدَّ تأخُّرُهم إلى ما بعد تسليمِها من الفرنج صنعًا جميلًا من الله سبحانه، وشاهد المسلمون عندما تسلموا دمياط من تحصين الفرنج لها ما لا يمكِن أخذُها بقوة البتة، وبعث السلطان بمن كان عنده في الرهن من الفرنج، وقَدِمَ الملك الصالح ومن كان معه، وتقررت الهدنة بين الفرنج وبين المسلمين مدة ثماني سنين، على أن كلًّا من الفريقين يطلق ما عنده من الأسرى، وحلف السلطان وإخوته وحلف ملوك الفرنج على ذلك، وتفرَّق من كان قد حضر للقتال، فكانت مدة استيلاء الفرنج على دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا، ثم دخل الملك الكامل إلى دمياط بعساكره وأهله، وكان لدخوله مسرة عظيمة وابتهاج زائد، ثم سار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر شهر رمضان، ودخل الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر في البحر، وأطلق من كان بمصر من الأسرى، وكان فيهم من أُسِرَ من الأيام الصلاحية، وأطلق الفرنج من كان في بلادهم من أسرى المسلمين.
بدأ ملك الأمير أبي الحسن علي بن سعد ملك غرناطة في التقهقر والانتكاس والانتقاض. من وقت السيل العظيم سنة 883 الذي أصاب غرناطة؛ وذلك أن الأمير اشتغل باللذات والانهماك في الشهوات واللهو بالنساء المطربات، وركن إلى الراحة والغفلات، وضيع الجند وأسقط كثيرًا من نجدة الفرسان وثقَّل المغارم وكثَّر الضرائب في البلدان ومكَّس الأسواق ونهب الأموال وشحَّ بالعطاء، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يثبت معها المُلك, وكان للأمير أبي الحسن وزير يوافقُه على ذلك ويُظهِرُ للناس الصلاحَ والعفاف وهو بعكس ذلك، وانصرف عن تقوية عساكره، فأهمل كل من فيه نجدة وشجاعة من الفرسان ويقطع عنهم المعروف والإحسان حتى باع الجند ثيابهم وخيلهم وآلات حربهم وأكلوا أثمانها، وقَتَل كثيرًا من أهل الرأي والتدبير والرؤساء والشجعان من أهل مدن الأندلس وحصونها، ولم يزل الأمير مستمرًّا على حاله والجيش في نقص والملك في ضعف إلى أن انقضى الصلح الذي كان بينه وبين النصارى في محرم سنة 887 فلم يشعر بهم أحد حتى دخلوا مدينة الحامة؛ وذلك أنهم طرقوها ليلًا على حين غفلة من أهلها فدخلوا قصبَتَها وكانت خالية، فلم يكن بها إلا عيال قائدها فملكوا القصبة والناس نيام مطمئنون، فلم يشعر أحد إلا والنصارى قد هبطوا من القصبة على البلد بالسيف والقتل والسبي الشديد حتى قتل من نفد أجَلُه وفَرَّ من قَدَر على الفرار واستولى النصارى على البلد وجميع ما كان فيه من الرجال والنساء والصبيان والأموال، وكان ذلك في التاسع عشر محرم، فلما بلغ أهل غرناطة ما فعل النصارى بإخوانهم المسلمين هاجت الرعية وقالوا: لا صبر لنا على هذه المصيبة العظمى ولا خير لنا في عيش بعد هذه النكبة الكبرى، إما أن نفك إخواننا أو نموت دونهم، فاجتمعوا مع الأمير أبي الحسن ووزيره فجعل الأمير والوزير يعجِّزانهم عن المسير ويتربصان بهم ويقولان لهم اصبروا حتى نأخذ أُهبَتَنا ونعمل على حال الحرب، فلم تزل بهم العامة حتى أخرجوهما فتقدم صدر الجيش فوجدوا النصارى قد أخرجوا من البلد ما سَبَوا من الرجال والنساء والصبيان والأموال، وقد أوقروا الدواب بذلك وهم عازمون على المسير إلى بلادهم، فلما رأوا خيل المسلمين قد أقبلت عليهم حطوا الأحمال ودخلوا البلد وتحصَّنوا بالأسوار ثم أقبل المسلمون بحملتهم واقتربوا منهم فقاتلوهم قتالًا شديدًا بجِدٍّ وعزم وقلوب محترقة وحزم، حتى دخلوا بعض أبواب المدينة وكسروه وحرقوه وتعلقوا بأسوار البلد وطمعوا في الدخول إليه، فبينما هم كذلك إذ وصل لهم أمر من الأمير أبي الحسن والوزير يأمرانهم فيه بالرجوع عن القتال، فأبى الناس عن الرجوع فقالا لهم: إذا كان غدًا ندخل عليهم أول النهار؛ لأن الليل قد أقبل ودخل علينا فترك الناس القتال ورجعوا إلى محلاتهم، أما النصارى فباتوا يصلحون شأنهم ويمنعون أسوارهم ويغلقون نقابهم، فلما أصبح الصباح ونظر المسلمون إلى البلد فإذا هو على صفة أخرى من المنعة والتحصين والاستعداد، فصَعُب عند ذلك على المسلمين الدخول إليه بل والدنو منه، ومع ذلك عزم المسلمون على حصار البلد والإقامة عليه فأقبلت وفود المسلمين من كل أرض من بلاد الأندلس، واجتمع في ذلك المحل محلة عظيمة وفتحوا الأسواق للبيع والشراء وجلبوا لأسواقهم كل ما يحتاجون إليه من الأطعمة والعلف والزاد وغير ذلك، وحاصروا العدو حصارًا شديدًا ومنعوا عليه الماء والحطب والداخل والخارج، والعامة في ذلك بحزم وعزم وجِدٍّ واجتهاد ونية صادقة وقلوب محترقة، والوزير يعد الناس بالدخول والقتال وعدًا بعد وعد، ويقول عن قريب نأخذهم عطشًا وها نحن نُعمل الحيلة في الدخول عليهم، وكان التقصير والتفريط والغش يبدو منه شيئًا بعد شيء حتى تبين لعامة الناس وخاصتهم ولاح لهم كالشمس، وظنوا بالملك والوزير ظنونَ السوء وكثر الكلام القبيحُ بينهم، فعند ذلك هاج شيطان الفتنة بينهم وتحدث الناس بعضهم مع بعض في مسائل غشِّهما للمسلمين، فبينما الناس كذلك في إساءة ظنهم بأميرهم وبوزيرهم إذا بهما قد استعملا حيلةً وكتبا كتبًا مزورة كأنها أتتهما من بعض من نصحهم من ناحية المسلمين المجاهدين المجاورين لبلاد الكفرة يعلمونَهم بها أن الطاغية ملك النصارى جمع جمعًا عظيمًا وحشد حشودًا كثيرة وعزم على نصرة النصارى المحصورين في بلد الحامة وهو قادم عن قريب، ولا طاقة لكم بملاقاته فحين أعلمهم الوزير بما ذُكر وخوفهم بذلك سُقِط في أيدي الناس فأمرهم حينئذ بالرحيل والإقلاع عن دار الحرب فرحل الناس كرهًا باكين متأسفين بحسرة وفجعة يا لها من حسرة!! وانصرف الناس كل واحد إلى وطنه.