هو محمد علال ابنُ العلَّامة الخطيب عبد الواحد بنِ عبد السلام بنِ علال بنِ عبد الله بنِ المجذوب الفاسي الفِهريُّ نسبًا، ثم الفاسيُّ مولدًا ودارًا ومنشأ. أحد روَّاد الفكر الإسلامي الحديث، ومن كبار الخطباء في المغرب، ينحدِرُ من عائلة عربية عريقة نزحت من موطنها بديار الأندلس إلى المغرب الأقصى فرارًا بدينها وعقيدتها من محاكمِ التفتيشِ الإسبانية، واستوطنت بمدينة فاس تحت اسمِ بني الجدِّ واشتهرت بآل الفاسيِّ الفِهريِّ، وساهمت في جميع المجالات العلمية والمعرفية؛ وهو مؤسِّس حزب الاستقلالِ المغربيِّ، وأحد منظِّري فكرة المغرب العربي الكبير، وُلِدَ بمدينة فاس المغربية، في أواخر شوال عام1326هـ/ 1908م، أدخله والده إلى الكتَّاب لتلقي مبادئ الكتابة والقراءة، وحَفِظ القرآن الكريم في سنٍّ مبكرة، وبعد ذلك نقله والده إلى المدرسة العربيَّة الحرة بفاس القديمة؛ ليتعلَّم مبادئ الدين وقواعدَ اللغة العربيةِ، كان مبرزًا على أقرانه، مفخرة أسرته، بل مفخرة القَرويِّين والمغرب، عِلمًا ونبوغًا، وذكاء، وفي عام 1338هـ التحق بجامع القَرويِّين العامرِ، فدرس فيه المختصرَ بشرح الدرديرِ، والتُّحفةَ بشرح الشيخ التَّاودي بنِ سودة، وجمع الجوامع بشرح المحلِّي، والكامل في الأدب للمبَرِّد، ومقامات الحريري، وعيون الأخبار لابن قتيبةَ، وغيرها من الكتب، وسرد الكتب الستة على أبيه وعمِّه القاضي عبد الله الفاسيِّ، وعلى الشريف السلفيِّ علي الدرقاوي زاد المعاد في هدي خير العباد، وأدب الدنيا والدين، والشمائل المحمدية، وتابع دراستَه حتى حصل على الشهادة العالِميَّة، وفي عام 1380هـ عُيِّن وزيرًا للدولة مكلَّفًا بالشؤون الإسلامية، ثم انسحب منَ الحكومةِ في عام 1382هـ وعُيِّن أستاذًا بكلية الشريعة التابعة لجامعة القرويِّين بظهر المهراز، وكُلِّيتيِ الحقوق والآداب لجامعة محمد الخامس بالرباطِ، وبدار الحديثِ الحسنيَّة بنفس المدينة، وكان عضوًا مقررًا عامًّا في لجنة مدونة الفقه الإسلامي التي شُكِّلت في فجر الاستقلال، ساهم في مقاومة المحتلِّ الفرنسيِّ وجاهد ضده، ودفعته هِمَّته إلى تأليف جمعيةٍ أُطلق عليها (جمعية القَرويِّين لمقاومة المحتلِّين)، تولى رئاسة حزب الاستقلال الذي أُنشئ من قبلُ، واختُير عضوًا رئيسًا في مجلس الدستورِ لوضع دستور البلاد، ثم انتُخِب رئيسًا له، وقدَّم مشروع القانون الأساسيِّ، وشارك في وضع الأُسس الأولى للدستور سنة 1382هـ ودخل الانتخاباتِ التي أُجريت سنة 1383هـ ودخل الوزارة، ومن مصنَّفاته كتاب: ((الحركات الاستقلالية في المغرب العربي))، و((المغرب العربي منذ الحربِ العالميَّة الأولى))، و ((مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها))، و ((دفاع عن الشريعة))، و ((المدخل للفقه الإسلامي))، و ((تاريخ التشريع الإسلامي))، و ((النقد الذاتي))، و ((معركة اليوم والغد))، و ((دائمًا مع الشعب))، وكتاب ((عقيدة وجهاد)). وكان شاعرًا نبغ في قَرْضه في سِنٍّ مبكرة، فنظم كثيرًا من القصائد: الدينية والسياسية، والاجتماعية والتاريخية.
تُوفي وهو في بوخارست عاصمة رومانيا إِثْرَ نوبةٍ قلبيةٍ وهو يعرض على رئيسها انطباعاته عن زيارته التي قام بها وفدُ حزب الاستقلالِ المغربي برئاسته، ويشرح قضيَّة المغرب وصحراء المغرب، ونِضال الشَّعب الفلسطيني في سبيل نَيْل حُريته وأرضه، ونُقِل جثمانه إلى المغرب، فدُفِن بمقبرة الشهداء بحي العلو في مدينة الرباط.
عَزَل مُعاوِيَةُ بن أبي سُفيان مُعاوِيَةَ بن خَديجٍ عن أفريقيا، واسْتَعمل عليها عُقبةَ بن نافعٍ الفِهْريَّ، وكان مُقِيمًا بِبَرْقَةَ وزَوِيلَةَ مُذْ فتَحها أيَّام عَمرِو بن العاصِ، وله في تلك البِلادِ جِهادٌ وفُتوحٌ. فلمَّا اسْتَعمله مُعاوِيَةُ سَيَّرَ إليه عشرةَ آلاف فارسٍ، فدخَل أفريقيا وانْضافَ إليه مَن أَسلَم مِن البَرْبَر، فكَثُرَ جَمْعُهُ، ووضَع السَّيفَ في أهلِ البِلادِ لأنَّهم كانوا إذا دخَل إليهم أميرٌ أطاعوا وأَظهَر بعضُهم الإسلامَ، فإذا عاد الأميرُ عنهم نَكَثوا وارْتَدَّ مَن أَسلَم، ثمَّ رأى أن يَتَّخِذَ مدينةً يكون بها عَسكرُ المسلمين وأَهلُهُم وأَموالُهم لِيأمَنوا مِن ثَورةٍ تكونُ مِن أهلِ البِلادِ، فقصَد مَوضِعَ القَيْروان، وبَنَى المسجدَ الجامعَ، وبَنَى النَّاسُ مَساجِدَهم ومَساكِنَهم, فأَمِنُوا واطْمَأنُّوا على المَقامِ فثَبَتَ الإسلامُ في تلك البلادِ المفتوحةِ. ثمَّ إنَّ مُعاوِيَة بن أبي سُفيان اسْتَعمل على مِصْر وأفريقيا مَسلَمةَ بن مَخْلَد الأنصاريَّ، فاسْتَعمل مَسلَمةُ على أفريقيا مَوْلًى له يُقالُ له: أبو المُهاجِر، فقَدِم أفريقيا وعزَل عُقبةَ واسْتَخَفَّ به، وسار عُقبةُ إلى الشَّامِ وعاتَبَ مُعاوِيَةَ على ما فَعلَهُ به أبو المُهاجِر، فاعْتَذَر إليه ووَعَدَهُ بإعادتِه إلى عَمَلِه، فتُوفِّي مُعاوِيَةُ ووَلِيَ بعدَه ابنُه يَزيدُ، فاسْتَعمل عُقبةَ بن نافعٍ على البِلادِ سنة اثنتين وسِتِّين، فسار إليها.
خَرَج الجُنَيْدُ المُرِّيُّ غازِيًا يُريدُ طَخارِسْتان، فوَجَّه عُمارَةَ بن حُرَيْم إلى طَخارِسْتان في ثمانِيَة عَشر ألفًا، ووَجَّهَ إبراهيمَ بن بَسَّام اللَّيْثِيَّ في عَشرةِ آلافٍ إلى وَجْهٍ آخَر، وجاشَت التُّرْكُ فأتوا سَمَرْقَنْد وعليها سَوْرَةُ بن الحُرِّ، فكَتَب سورةُ إلى الجُنَيْدِ: إنَّ خاقان جاشَ التُّرْكَ فخَرَجتُ إليهم فلم أَطِقْ أن أَمنَع حائِطَ سَمَرْقَنْد، فالغَوْثَ الغَوْثَ. وعَبَرَ الجُنيدُ فنَزَل كِشَّ وتَأَهَّبَ للمَسيرِ، وبَلَغ التُّرْك فغَوَّرُوا الآبارَ التي في طَريقِ كِشٍّ فأَخَذ الجُنيدُ طَريقَ العَقَبَة فارْتَقى في الجَبَلِ ودَخَل الشِّعْبَ، فصَبَّحَهُ خاقان في جَمعٍ عَظيمٍ، وزَحَف إليه أَهْلُ الصُّغْدِ وفَرْغانَة والشَّاش وطائِفَة مِن التُّرْك، فحَمَل خاقان على المُقَدِّمَة وأَخَذ الرَّايَة ابنُ مَجاعَة فقُتِلَ، وتَداوَلَها ثمانية عشر رَجُلًا فقُتِلوا، وصَبَر النَّاسُ يُقاتِلون حتَّى أَعْيوا، فكانت السُّيوف لا تَقطَع شَيْئًا، فقَطَع عَبيدُهُم الخَشَب يُقاتِلون به حتَّى مَلَّ الفَريقان، فكانت المُعانَقَة ثمَّ تَحاجَزوا فبَيْنا النَّاسُ كذلك إذ أَقْبَل رَهَجٌ وطَلَعَت فُرْسانٌ، فنادَى الجُنيدُ: الأرضَ الأرضَ! فتَرَجَّلَ وتَرَجَّل النَّاسُ، ثمَّ نادَى: لِيُخَنْدِق كُلُّ قائِدٍ على حِيالِه. فخَنْدَقوا وتَحاجَزوا ثمَّ طَلَب الجُنيدُ النَّجْدَة فعَرَفت التُّرْك بذلك فكَمُنَت له وقَتَلَته، فخَرَج مِن الشِّعْب واشْتَدَّ الأَمْرُ حتَّى قال الجُنيدُ: كُلُّ عَبدٍ قاتَل فهو حُرٌّ. فقاتَلوا قِتالًا عَجِبَ منه النَّاسُ حتَّى انْكَشَف العَدُوُّ ورَجَع الجُنيدُ إلى سَمَرْقَنْد.
جهَّز المهديُّ العُبيدي صاحِبُ إفريقية جيشًا كثيفًا مع ابنِه أبي القاسم (الملقَّب بالقائم بأمر الله)، وسيَّرَهم إلى مصر، وهي المرَّة الثانية، فوصل إلى الإسكندريَّة في ربيع الآخر سنة 306، فخرج عامِلُ المقتَدِر عنها، ودخَلَها القائم، ورحل إلى مصر، فدخل الجيزةَ، وملك الأشمونينَ وكثيرًا من الصعيدِ، وكتب إلى أهلِ مكَّةَ يدعوهم إلى الدُّخولِ في طاعتِه فلم يقبلوا منه، ووردت بذلك الأخبارُ إلى بغداد، فبعث المقتَدِرُ بالله مُؤنِسًا الخادِمَ في شعبان، وجدَّ في السير فوصل إلى مصر، وكان بينه وبين القائمِ عِدَّةُ وقَعاتٍ، ووصل من إفريقيَّة ثمانون مركبًا نجدةً للقائمِ، فأرست بالإسكندريَّة، وعليها سليمان الخادم، ويعقوبُ الكتاميُّ، وكانا شجاعين، فأمر المقتدر بالله أن يسيَّرَ مراكب طرسُوس إليهم، فسار خمسة وعشرون مركبًا، وفيها النِّفط والعُدد، ومُقدَّمُها أبو اليمن، فالتقت المراكبُ بالمراكب، واقتتلوا على رشيدٍ، وكان الظَّفَرُ لمؤنس، فلُقِّب حينئذ بالمظفَّرِ، وأحرق كثيرًا من مراكب إفريقية، وهلك أكثَرُ أهلها, ووقع الوباءُ في عسكر القائم، والغَلاءُ، فمات منهم كثيرٌ من الناس والخيل، فعاد مَن سَلِمَ إلى إفريقية، فسار عسكرُ مصر في أثرهم، حتَّى أبعَدوا، فوصل القائمُ إلى المهديَّة في رجب من هذه السنة. وأُسِرَ منهم كثير، وكان في الأسرى سليمان الخادم، ويعقوب، فقُتل من الأسرى كثير، وأُطلقَ كثير، ومات سليمانُ في الحبس بمصر، وحُمِلَ يعقوب إلى بغداد، ثمَّ هرب منها وعاد إلى إفريقيَّة.
هو الخليفة أبو القاسمِ عبد الله المستكفي بالله بن المكتفي علي بن المعتضد العباسي. كان رَبْعَ القامةِ مليحًا، معتدِلَ البَدَن، أبيضَ بحُمرةٍ، خفيفَ العارضين. وأمُّه أمُّ ولد. بويع وقتَ خَلعِ المتقي لله عام 333. وله يومئذٍ إحدى وأربعون سنة، ولقب بالمستكفي بالله. قام ببيعته أميرُ الأمراء توزون، ولَمَّا أقبل أبو الحسن أحمدُ بنُ بويه على العراق استولى على الأهوازِ والبصرة وواسط، ثم بغداد, وفَرَّ منها أميرُ الأمراء في حينها ابن شيرزاد, وتولَّى ابن بويه منصِبَ أميرِ الأمراء, ولقَّبَه المستكفي بمعز الدولة، وأصبحَ المُعِزُّ الآمِرَ الناهيَ في بغداد، وبلغ الحالُ بضعف الخليفة أن قرَّرَ له مُعِزُّ الدولة في الشهر مائة وخمسون ألف درهم فقط, وفي عام 334 دخل على الخليفةِ المستكفي اثنان من الديلم، فطلبا منه الرزقَ، فمَدَّ يدَه للتقبيلِ، فجَبَذاه من سريرِ الخِلافةِ، وجَرَّاه بعمامته، ونُهِبَت داره، وساقاه ماشيًا إلى منزل معزِّ الدولة، الذي خَلع المستكفيَ وسملَ عينيه بمِكحلٍ محميٍّ. ثم بايع للفَضلِ بن المقتدر، ولَقَّبَه بالمطيع لله، واستقَلَّ بملك العراق معزُّ الدولة. وضعُفَ أمرُ الخلافةِ جِدًّا، وظهر الرَّفضُ والاعتزال ببني بُوَيه. فكانت خلافةُ المستكفي ستة عشر شهرًا، ثم عاش بعد العزلِ والكَحلِ ذليلًا مقهورًا مسجونًا أربعةَ أعوام إلى أن مات وله سِتٌّ وأربعون سنةً.
دخل مَلِكُ الرُّومِ الشَّامَ، ولم يمنَعْه أحدٌ ولا قاتَلَه، فسار في البلادِ إلى طرابلس وأحرق بلدها، وحصَرَ قلعةَ عرقة، فمَلَكها ونَهَبها وسَبى من فيها، وكان صاحِبُ طرابلس قد أخرجه أهلُها لشِدَّةِ ظُلمِه، فقصد عرقة، فأخذه الرومُ وجميعَ مالِه، وكان كثيرًا، وقصَدَ مَلِكُ الروم حمصَ، وكان أهلُها قد انتقلوا عنها وأخلَوْها، فأحرقها ورجعَ إلى بلدانِ السَّاحِلِ فأتى عليها نهبًا وتخريبًا، ومَلَك ثمانية عشر منبرًا، فأمَّا القرى فكثيرٌ لا يُحصى، وأقام في الشام شهرين يقصِدُ أيَّ موضعٍ شاء، ويخَرِّبُ ما شاء، ولا يمنَعُه أحدٌ، إلَّا أنَّ بعضَ العَرَبِ كانوا يُغيرونَ على أطرافِهم، فأتاه جماعةٌ منهم وتنصَّروا وكادوا المُسلِمينَ مِن العَرَبِ وغَيرِهم، وصار للرُّومِ الهَيبةُ العظيمةُ في قلوبِ المُسلِمينَ، فأراد أن يقصِدَ أنطاكية وحلب، فبلَغَه أنَّ أهلها قد أعدُّوا الذخائِرَ والسِّلاحَ وما يحتاجون إليه، فامتنع من ذلك وعاد ومعه من السبيِ نحوُ مائة ألف رأسٍ، ولم يأخُذْ إلَّا الصِّبيان، والصبايا، والشبان، فأمَّا الكُهولُ، والشُّيوخُ والعجائز، فمنهم من قتَلَه، ومنهم من أطلَقَه، وكان بحلَبَ قرعويه، غلامُ سيف الدولة بن حمدان، فصانَعَ الرُّومَ عليها، فعادُوا إلى بلادهم، فقيل كان سببُ عَودِهم كثرةَ الأمراضِ والموت، وقيل ضَجِروا مِن طُولِ السَّفَر والغَيبةِ عن بلادهم، فعادوا على عزمِ العود، وسيَّرَ مَلِكُ الروم سريَّةً كثيرةً إلى الجزيرة، فبلغوا كفر توثا، ونهبوا وسَبَوا وأحرقوا وعادوا، ولم يكُنْ من أبي تغلب بن حمدان في ذلك نكيرٌ ولا أثَرٌ.
لَمَّا توفِّي المَلِكُ جلال الدَّولة، راسل الجندُ، الملكَ أبا كاليجار مرزبان بنَ سلطان الدَّولة البويهي وخَطَبوا له. فلمَّا استَقَرَّت القواعِدُ بينه وبينهم أرسل أموالًا فُرِّقَت على الجُندِ ببغداد، وعلى أولادهم، وأرسل عشرةَ آلاف دينار للخليفةِ ومعها هدايا كثيرة، فخطبَ به ببغداد في صفر، وخَطَب له أيضًا أبو الشوك في بلادِه، ودبيس بن مزيد ببلادِه، ونصر الدَّولة بن مروان بديار بكرٍ، ولَقَّبَه الخليفةُ محيي الدِّينِ، وسار إلى بغدادَ في مِئَة فارسٍ مِن أصحابه لئلَّا تخافَه الأتراكُ، فلمَّا وصل إلى النُّعمانية لَقِيَه دبيس بن مزيد، ودخل إلى بغدادَ في شهرِ رمضان. ومعه وزيرُه ذو السَّعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس، ووعده الخليفةُ القائِمُ بأمر الله أن يستقبِلَه، فاستعفى من ذلك، وأخرج عميدَ الدَّولة أبا سعدِ بن عبد الرحيم وأخاه كمالَ الملك وزيرَي جلال الدَّولة من بغداد، فمضى أبو سعدٍ إلى تكريت، وزُيِّنَت بغداد لقدومه، وأمَرَ فخُلِعَ على أصحاب الجيوش، وهم: البساسيري، والنشاوري، والهمام أبو اللقاء، وجرى من ولاةِ العَرضِ تقديمٌ لبعض الجند وتأخير، فشَغَّب بعضهم، وقتلوا واحدًا من ولاة العرضِ بمرأًى من الملك أبي كاليجار، فنزل في سميرية- نوع من السفن- بكنكور، وانحدر خوفًا من انخراقِ الهَيبةِ.
كان الصليبيون هاجموا دمشق من جهة الشمال عام 497 ولكنهم هُزموا، وأُسِر أمير الرها الصليبي، غير أنهم استطاعوا في العام نفسه أن يدخلوا حصن أفاميا. بدعم من العُبيديين في أول الأمر لَمَّا وجدوا في الصليبيين حلفاء طبيعيين ضد السلاجقة خصومِهم، واتفقوا معهم على أن يحكموا شماليَّ بلاد الشام ويتركوا لهم حكم جنوبها، ولما دخل الصليبيون بيت المقدس أحسوا بشيء من النصر فتابعوا تقدُّمَهم واصطدموا بالعُبيديين، وبدأت الخلافات بينهما؛ فالعُبيديون قاتلوا الصليبيين دفاعًا عن مناطقهم في جنوب الشام وخوفًا على أنفسهم، ولم يقاتلوهم دفاعًا عن الإسلام وحمايةً لأبنائه، ولو استمر الصليبيون في اتفاقهم مع العُبيديين لكان من الممكن أن يتقاسموا وإياهم ديار الإسلام. لقد استقبل سكان البلاد من النصارى والأرمن الصليبيين استقبالًا حارًّا ورحبوا بهم ترحيبًا كبيرًا، وقد ظهر هذا في أثناء دخولهم أنطاكية وبيت المقدس،كما قد دعموهم في أثناء وجودهم في البلاد وقدموا لهم كل المساعدات، وقاتلوا المسلمين، وكانوا عيونًا عليهم للصليبيين, وتشكلت إمارات صليبية في بلاد الشام، وهي: إمارة في الرها، إمارة بيت المقدس، إمارة أنطاكية، ولم يجد الصليبيون الأمن والاستقرار في بلاد الشام في المناطق التي سيطروا عليها وشكلوا فيها إمارات رغم انتصارهم؛ إذ كان السكان المسلمون ينالون منهم كلما سنحت لهم الفرصة، كما يُغير عليهم الحكام المسلمون في سبيل إخراجهم من البلاد، ودفاعًا عن عقائدهم ومقدساتهم التي كان الصليبيون ينتهكونها.
اصطلح عامةُ بغداد السُّنَّة والشيعة، وكان الشرُّ منهم على طول الزمان، وقد اجتهد الخلفاء والسلاطين والشُحن -المسؤولون عن ضبط الأمن- في إصلاح الحال، فتعذر عليهم ذلك إلى أن أذن الله تعالى فيه، وكان بغير واسطة، وكان السبب في ذلك أن السلطان محمدًا لما قَتَل ملك العرب صدقة خاف الشيعة ببغداد أهل الكرخ وغيرهم؛ لأن صدقة كان يتشيَّع هو وأهل بيته، فشنَّع أهل السُّنَّة عليهم بأنهم نالهم غمٌّ وهَمٌّ لقتله، فخاف الشيعة وأغضوا على سماع هذا، ولم يزالوا خائفين إلى شعبان، فلما دخل شعبان تجهَّز السُّنَّة لزيارة قبر مصعب بن الزبير، وكانوا قد تركوا ذلك سنين كثيرة، ومنعوا منه لِتُقطَعَ الفِتَنُ الحادثة بسببه، فلما تجهزوا للمسير اتفقوا على أن يجعلوا طريقهم في الكرخ، فأظهروا ذلك، فاتفق رأيُ أهل الكرخ على ترك معارضتهم، وأنهم لا يمنعونهم، فصارت السُّنة تسير أهل كل محلة منفردين، ومعهم من الزينة والسلاح شيءٌ كثير، وجاء أهل باب المراتب ومعهم فيل قد عُمِل من خشب، وعليه الرجال بالسلاح، وقصدوا جميعهم الكرخ ليعبروا فيه، فاستقبلهم أهله بالبخور والطيب، والماء المبرد، والسلاح الكثير، وأظهروا بهم السرور، وشيَّعوهم حتى خرجوا من المحلة، وخرج الشيعة ليلة النصف منه إلى مشهد موسى بن جعفر وغيره، فلم يعترضهم أحد من السُّنة، فعجب الناس لذلك، ولما عادوا من زيارة مصعب لقيهم أهل الكرخ بالفرح والسرور.
في هذه السنة، وقيل سنة 514، كانت فتنة بين عسكر أمير المسلمين علي بن يوسف، وبين أهل قرطبة. وسببها: أن أمير المسلمين استعمل عليها أبا بكر يحيى بن رواد، فلما كان يوم الأضحى خرج الناس متفرجين، فمدَّ عبد من عبيد أبي بكر يدَه إلى امرأة فأمسكها، فاستغاثت بالمسلمين، فأغاثوها، فوقع بين العبيد وأهل البلد فتنة عظيمة، ودامت جميع النهار، والحرب بينهم قائمة على ساق، فأدركهم الليل، فتفرَّقوا، فوصل الخبر إلى الأمير أبي بكر، فاجتمع إليه الفقهاء والأعيان، فقالوا: المصلحة أن تقتل واحدًا من العبيد الذين أثاروا الفتنة، فأنكر ذلك وغضب منه، وأصبح من الغد، وأظهر السلاح والعُدَد يريد قتال أهل البلد، فركب الفقهاء والأعيان والشبان من أهل البلد، وقاتلوه فهزموه، وتحصَّن بالقصر، فحصروه، وتسلقوا إليه، فهرب منهم بعد مشقة وتعب، فنهبوا القصرَ، وأحرقوا جميع دُور المرابطين، ونهبوا أموالهم، وأخرجوهم من البلد على أقبحِ صورة. واتصل الخبر بأمير المسلمين فكَرِه ذلك واستعظمه، وجمع العساكر من صنهاجة، وزناتة، والبربر، وغيرهم؛ فاجتمع له منهم جمع عظيم، فعبر إليهم، وحصر مدينة قرطبة، فقاتله أهلها قتال من يريد أن يحمي دمه وحريمه وماله، فلما رأى أمير المسلمين شدة قتالهم دخل السفراءُ بينهم، وسَعَوا في الصلح فأجابهم إلى ذلك على أن يغرم أهل قرطبة المرابطين ما نهَبوه من أموالهم، واستقرت القاعدة على ذلك، وعاد عن قتالهم.
هو قطبُ الدين إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحِبُ ماردين، ومَلَك بعده ابنُه حسام الدين بولق أرسلان، وهو طفل، وقام بتربيته وتدبيرِ مملكته نظامُ الدين البقش مملوك أبيه، وكان شاه أرمن صاحِبُ خلاط خالَ قطب الدين فحَكَم في دولته، وهو رتَّبَ البقشَ مع ولده، وكان البقشُ ديِّنًا خيرًا عادلًا حَسَن السيرة حليمًا، فأحسن تربيتَه وتزوَّجَ أمَّه. فلما كَبِرَ الولد لم يمكِنْه النظام من مملكتِه لخبطٍ وهَوجٍ فيه، وكان لنظام الدين هذا مملوكٌ اسمه لؤلؤ قد تحكَّمَ في دولته وحَكَم فيها، فكان يحمِلُ النظام على ما يفعَلُه مع الولَدِ, ولم يزَل الأمر كذلك إلى أن مات الولَدُ وله أخ أصغر منه لقَّبَه قطب الدين، فرَتَّبَه النظام في المُلكِ وليس له منه إلا الاسمُ، والحكمُ إلى النظام ولؤلؤ، فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمَرِضَ النظام البقش فأتاه قطبُ الدين يعوده، فلما خرج مِن عنده خرج معه لؤلؤ وضرَبَه قطبُ الدين بسكينٍ معه فقتله، ثم دخل إلى النظامِ وبِيَدِه السكينُ فقتله أيضًا، وخرج وحده ومعه غلامٌ له وألقى الرأسينِ إلى الأجناد، وكانوا كلُّهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا له بالطاعةِ، فلما تمكَّنَ أخرج من أراد وتَرَك من أراد، واستولى على قلعةِ ماردين وأعمالها وقلعة البارعية وصور، وهو إلى الآن حاكِمٌ فيها حازِمٌ في أفعالِه.
هو السلطان عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي التركماني، ملك الروم. فيه عَدلٌ في الجملة، وسداد وسياسة، وهو والدُ زوجة الخليفة الناصر لدين الله الست سلجوقي خاتون المعروفة بالخلاطية. كان له من البلاد قونية وأعمالها، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغير ذلك من البلاد، وقد امتَدَّت أيام ملكه نحو تسع وعشرين سنة، وقيل: بضعًا وثلاثين سنة, وغزواته كثيرة في بلاد الروم، ولما كَبِرَ فَرَّق بلاده على أولاده، فاستَضعَفوه، ولم يلتَفِتوا إليه، وحَجَر عليه ولَدُه قطب الدين، وكان قلج أرسلان قد استناب في تدبير ملكه رجلًا يعرف باختيار الدين حسن، فلما غَلَب قُطبُ الدين على الأمرِ قَتَلَ حَسنًا، ثم أخذ والِدَه وسار به إلى قيسارية ليأخُذَها من أخيه الذي سَلَّمَها إليه أبوه، فحصرها مدَّة، فوجد والِدُه قلج أرسلان فرصةً، فهرب ودخل قيسارية وحدَه، فلما عَلِمَ قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصرا فمَلَكَهما، ولم يزل قلج أرسلان يتحوَّلْ من ولد إلى ولد، وكل منهم يتبَرَّم منه، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو، صاحب مدينة برغلوا، فلما رآه فَرِحَ به، وخَدَمَه، وجمع العساكِرَ، وسار هو معه إلى قونية، فمَلَكَها، وسار إلى أقصرا ومعه والِدُه قلج أرسلان، فحصرها، فمَرِضَ أبوه، فعاد به إلى قونية, وتوفِّيَ ودفن بها في منتصف شعبان، وبَقِيَ ولده غياث الدين في قونية مالكًا لها، حتى أخَذَها منه أخوه ركن الدين سليمان.
ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب مدينةَ خلاط، وسبب ذلك أنَّه كان بمدينة ميافارقين مع أبيه، فلما كان من مُلك سيف الدين بلبان خلاط قصَدَ نجم الدين مدينة موش، وحصرها وأخذها، وأخذ معها ما يجاورها، وطَمِعَ في خلاط، فسار إليها فهزمه بلبان، فعاد إلى بلده وجمع وحشد، وسيَّرَ إليه أبوه جيشًا، فقصد خلاط، فسار إليه بلبان، فتصافَّا واقتتلا، فانهزم بلبان، وتمكن نجم الدين من البلاد وازداد منها، ودخل بلبان خلاط واعتصم بها، وأرسل رسولًا إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان، وهو صاحب أرزن الروم، يستنجده على نجم الدين، فحضر بنفسه ومعه عسكره، فاجتمعا وهَزَما نجم الدين، وحصرا موش، فأشرف الحصن على أن يُملَك، فغدر ابن قلج أرسلان بلبان وقتَلَه طمعًا في البلاد، فلما قتله سار إلى خلاط، فمنعه أهلُها عنها، فسار إلى ملازكرد، فردَّه أهلها أيضًا، وامتنعوا عليه، فلما لم يجِدْ في شيء من البلاد مطمعًا عاد إلى بلده، فأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين يستدعونَه إليهم ليُمَلِّكوه، فحضر عندهم، وملك خلاط وأعمالَها سوى اليسير منها، وكره الملوك المجاورون له ملكَه لها؛ خوفًا من أبيه، وكذلك أيضًا خافه الكرج وكرهوه، فتابعوا الغارات على أعمال خلاط وبلادها، ونجم الدين مقيمٌ بخلاط لا يقدِرُ على مفارقتِها.
بلنسية مدينة شهيرة بالأندلس، تقع شرقيَّ مدينتي تدمير، وقرطبة، وتتَّصِلُ بزمام إقليم مدينة تدمير. وفي بلنسية تأسَّست مملكة إسلامية عام 401 (1010م) على يدِ اثنين من موالي المنصور بن عامر ووقعت بلنسية في القرون التالية تحت سيطرة حكام ملوك الطوائف. ثمَّ المرابطين، ثم الموحدين، إلى أن سقطت في أيدي الفرنجة سنة 636 (1238م) بعد سقوط قرطبة. وفي يوم الجمعة 27 صفر سنة 636 (9 أكتوبر 1238م) دخل خايمي ملك أراجون بلنسية ومعه زوجته وأكابر الأحبار والأشراف والفرسان، بعد أن قام بحصارِ مدينة بلنسية التي تعتبر كبرى قواعد شرقي الأندلس، فاستولى عليها الإفرنج الأسبان بعد هذا الحصارِ، وكان أميرُها أبو جميل زيان بن سعد بن مردنيش يرسِلُ إلى أبي زكريا يحيى الحفصي صاحبِ تونسَ وفدًا برئاسة كاتبه عبد الله بن الأبار القضاعي يستنجِدُه ويطلُبُ عَونَه، فلم تغن هذه الاستغاثة شيئًا، ويذكر أن البابا غريغوار التاسع قد أسبغ على هذا الاستيلاء صفةَ الحرب الصليبية، ورفع علم أراجون على المدينة المنكوبة، وحُوِّلت المساجد إلى كنائس، وطُمِسَت قبور المسلمين، وقضى المَلِك عدةَ أيام يقسم دور المدينة وأموالها بين رجاله وقادته ورجال الكنيسة, وهكذا سقطت بلنسية في أيدي نصارى الأسبان بعد أن حكَمَها المسلمون أكثر من 5 قرون.
خرج فرنج عكا وخيَّموا بظاهرها، وركبوا وأعجبَتْهم أنفسُهم بمن قدم إليهم من فرنج الغرب، وتوجَّهت طائفة منهم إلى عسكر جينين وعسكر صفد، فخرج السلطانُ من دمشق على أنه يتصَيَّد في مرج برغوث وبعث من أحضر إليه العُدَد ومن أخرج العساكرَ كُلَّها من الشام، فتكاملوا عنده بكرةَ يوم الثلاثاء الحادي عشر ربيع الأول بمرج برغوث، وساق بهم إلى جسرِ يعقوب فوصل آخرَ النهار، وسار بهم في الليل فأصبحَ في أول المرج، وكان السلطانُ قد سيَّرَ إلى عساكر عين جالوت وعساكر صفد بالإغارة في الثاني عشر، فإذا خرج إليهم الفرنج انهزموا منهم، فاعتمدوا ذلك، ودخل السلطان الكمين، فعندما خرج جماعة من الفرنج لقتال عسكر صفد تقدم إليهم الأمير إيغان، ثم بعده الأمير جمال الدين الحاجبي، ومعهما أمراءُ الشام، ثم ساق الأمير أيتمش السعدي، والأميرُ كندغدي أمير مجلس، ومعهما مقدَّمو الحلقة، فقاتل الأمراءُ الشاميون أحسَنَ قتال، وتَبِعَ السلطان مقَدَّمي الحلقة، فما أدركهم إلا والعدوُّ قد انكسر، وصارت الخيَّالة بخيلها مطَّرحةً في المرج، وأسر السلطان كثيرا من أكابرهم، ولم يعدم من المسلمين سوى الأمير فخر الدين ألطونبا الفائزي، فسارت البشائرُ إلى البلاد، وعاد السلطانُ إلى صفد والرؤوس بين يديه، وتوجَّه منها إلى دمشق فدخَلَها في السادس عشر، والأسرى ورؤوس القتلى بين يديه.