في أيامِ السُّلطانِ ملكشاه، فإنه اجتَمعَ منهم ثمانية عشر رجلًا، فصَلُّوا صلاةَ العِيدِ في ساوة، ففَطَنَ بهم الشِّحْنَةُ –المسؤول عن ضبط أمن ساوة-، فأَخَذَهم وحَبَسَهم، ثم سُئِلَ فيهم فأَطلَقَهم، فهذا أَوَّلُ اجتِماعٍ كان لهم، ثم إنهم دَعوا مُؤذِّنًا من أَهلِ ساوة كان مُقيمًا بأصبهان، فلم يُجِبهُم إلى دَعوَتِهم، فخافوه أن يَنِمَّ عليهم، فقَتَلوه، فهو أَوَّلُ قَتيلٍ لهم، وأَوَّلُ دَمٍ أَراقوهُ، فبَلغَ خَبرُه إلى نِظامِ المُلْكِ، فأَمَرَ بأَخْذِ مَن يُتَّهَم بِقَتلِه، فوَقعَت التُّهمَةُ على نَجَّارٍ اسمُه طاهِر، فقُتِلَ، ومُثِّلَ به، وجَرُّوا بِرِجْلِه في الأَسواقِ، فهو أَوَّلُ قَتيلٍ منهم، وأَوَّلُ مَوضِعٍ غَلَبوا عليه وتَحصَّنوا به بَلدٌ عند قاين، كان مُتَقَدِّمُه على مَذهَبِهم، فاجتَمَعوا عنده، وُقُووا به، فتَجَرَّدَ للانتِقامِ منهم أبو القاسم مَسعودُ بنُ محمدٍ الخجنديُّ، الفَقيهُ الشافعيُّ، وجَمَعَ الجَمَّ الغَفيرَ بالأَسلِحَةِ، وأَمَرَ بحَفْرِ أخاديد، وأَوْقَدَ فيها النِّيرانَ، وجَعلَ العامَّةَ يَأتون بالباطِنيَّة أَفواجًا ومُنفَرِدين، فيُلقَونَ في النارِ، وجَعَلوا إنسانًا على أخاديد النِّيران وسَمَّوهُ مالِكًا، فقَتَلوا منهم خَلْقًا كَثيرًا.
عبد السلام مُحمَّد هارون بن عبد الرزاق، وُلِد في مدينة الإسكندرية في 25 من ذي الحجَّة 1326هـ ونشأ في بيتٍ كريمٍ من بُيوت العِلم، فجدُّه عضوُ جماعة كبار العُلَماء، وأبوه كان يتولَّى عند وفاته مَنصِب رئيس التفتيش الشَّرعي في وزارة الحقَّانيَّة (العدل)، أما جدُّه لأُمِّهِ فهو الشيخ محمود بن رضوان الجزيري عضوُ المحكمة العُليا. حَفِظ عبد السلام القُرآنَ الكريمَ، وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، والتحق بالأزهر سنة 1340هـ حيث درَسَ العُلوم الدينيَّة والعربيَّة، ثم التحق بتجهيزية دار العلوم بعد اجتيازه مُسابقةً للالتحاقِ بها، وكانت هذه التجهيزيَّة تُعِدُّ الطلبة للالتحاق بمدرسة دار العلوم، وحصل منها على شهادة البكالوريا سنة 1347هـ ثم أتمَّ دراسته بدار العلوم العليا، وتخرَّج فيها سنة 1351هـ، وبعد تخرُّجه عمل مدرسًا بالتعليم الابتدائي، ثم عُيِّن في سنة 1365هـ مُدرسًا بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وهذه هي المرَّة الوحيدة في تاريخ الجامعات التي ينتقلُ فيها مُدرِّس من التعليم الابتدائي إلى السلك الجامعي، بعد أن ذاعت شُهرته في تحقيق التُّراث، ثم عُيِّن في سنة 1370هـ أستاذًا مُساعدًا بكلية دار العلوم، ثم أصبح أُستاذًا ورئيسًا لقسم النحو بها سنة 1379هـ ثم دُعي مع نُخبة من الأساتذة المصريين في سنة 1386هـ لإنشاء جامعة الكُويت، وتولَّى هو رئاسة قِسم اللغة العربية، وقِسم الدراسات العُليا حتى سنة 1394هـ، وفي أثناء ذلك اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1389هـ. وبدأ عبد السلام هارون نشاطه العِلميَّ منذ وقتٍ مُبكِّر، فحقَّقَ وهو في السادسةَ عشرةَ من عُمره كتابَ "مَتْن أبي شُجاع" بضبطه وتصحيحه ومراجعته في سنة 1344هـ، ثم حقَّقَ الجزء الأول من كتاب "خِزانة الأدب" للبغدادي سنة 1346هـ، ثم أكمل أربعةَ أجزاءٍ من الخزانة، وهو طالبٌ بدار العلوم. ولنُبوغه في هذا الفَنِّ اختاره الدكتور طه حُسَين 1363هـ ليكون عضوًا بلجنةِ إحياء تُراث أبي العلاء المعري، وتدور آثاره العلمية في التحقيق حول العِناية بنشر كُتُب الجاحظ، وإخراج المعاجم اللُّغوية، والكُتُب النَّحْوية، وكُتُب الأدب، والمُختارات الشِّعرية. فأخرج كتاب الحيوان في ثماني مُجلَّدات، وكتاب البيان والتبيين في أربعة أجزاءٍ، وكتاب البُرصان والعُرجان والعُميان والحولان، ورسائل الجاحظ في أربعة أجزاء، وكتاب العُثمانية، وأخرج من المعاجم اللُّغوية: مُعجم مقاييس اللغة لابن فارس في ستة أجزاء، واشترك مع أحمد عبد الغفور العطَّار في تحقيق "صحاح العربية" للجوهري في ستة مُجلَّدات، و"تهذيب الصحاح" للزنجاني في ثلاثة مُجلَّدات، وحقَّقَ جزأين من مُعجَم "تهذيب اللغة" للأزهري، وأسند إليه مجمعُ اللغة العربية الإشرافَ على طبع "المعجم الوسيط"، وحقَّقَ من كُتُب النحو واللغة كتاب سيبويه في خمسة أجزاء، وخزانة الأدب للبغدادي في ثلاثة عشر مجلدًا، ومجالس ثعلب في جزأين، وأمالي الزَّجَّاجي، ومجالس العلماء للزَّجَّاجي أيضًا، والاشتقاق لابن دريد. وحقَّقَ من كتب الأدب والمُختارات الشِّعرية: الأجمعيات، والمُفضليَّات بالاشتراك مع العلَّامة أحمد شاكر، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي مع الأستاذ أحمد أمين، وشرح القصائد السَّبْع الطوال لابن الأنباري، والمجلد الخامس عشر من كتاب الأغاني لأبي الفَرَج الأصبهاني. وحقَّقَ من كُتُب التاريخ: جمهرة أنساب العرب لابن حزم، ووقعة صِفين لنصر بن مُزاحم، وكان من نتيجة مُعاناته وتجاربه في التعامُل مع النُّصوص المخطوطة ونشرِها، أن نشر كتابًا في فنِّ التحقيق بعُنوان: "تحقيقُ النصوص ونشرها" سنة 1374هـ، فكان أوَّلَ كتابٍ عربيٍّ في هذا الفنِّ، يُوضِّح مناهجه ويُعالج مشكلاته، أما عن مُؤلَّفاته فله: الأساليبُ الإنشائيَّةُ في النحو العربي، والميسِرُ والأزلام، والتراث العربي، وحول ديوان البحتري، وتحقيقاتٌ وتنبيهاتٌ في معجم لسان العرب، وقواعدُ الإملاء، وكنَّاشة النوادر، ومُعجَم شواهد العربية، ومُعجَم مقيدات ابن خلكان. وعمد إلى بعض الكُتُب الأصول فهذَّبها ويسَّرها، من ذلك: تهذيبُ سيرة ابن هشام، وتهذيبُ إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، والألْفُ المُختارة من صحيح البخاري، كما صنع فهارسَ لمُعجَم تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري في مُجلَّد ضخمٍ. وخُلاصة القول: إن ما أخرجه للناس من آثارٍ سواءٌ أكانت من تحقيقه، أو من تأليفه تجاوزت 115 كتابًا، وقد حصل عبد السلام هارون على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي سنة 1402هـ، وانتخبه مجلس مجمع اللغة العربية أمينًا عامًّا له في 3 من ربيع الآخر 1404هـ، واختاره مجمع اللغة العربية الأردنيُّ عضوَ شرفٍ به. وإلى جانب نشاطه في عالم التحقيق كان الأستاذ عبد السلام هارون أستاذًا جامعيًّا مُتمكنًا، تعرفه الجامعات العربية أستاذًا مُحاضرًا ومُشرفًا ومناقشًا لكثير من الرسائل العلمية التي تزيد عن 80 رسالة للماجستير والدُّكتوراه. تُوُفِّيَ عبد السلام هارون في 28 من شعبان 1408هـ وبعد وفاته أصدرت جامعة الكويت كتابًا عنه بعُنوان: الأستاذ عبد السلام هارون مُعلمًا ومُؤلفًا ومُحققًا.
هو أبو شُعَيب- وقيل: أبو جعفر- محمد بن نُصَير بن بكر النميري البصري، أحد نوَّاب الإمام المنتظَر عند الرافضة في فترة الغَيبة الصغرى. إليه تُنسَبُ الفرقةُ النصيرية، وهي من الفِرَق الباطنيةِ من غُلاة الشيعة، زعم ابنُ نصير هذا أنَّه الباب إلى الإمامِ الحسن العسكري، أي: أنَّه الإمام والمَرجِعُ من بعده، ثم ادَّعى ألوهيَّةَ علي بن أبي طالب، وأنه هو الذي أرسلَه للنَّاسِ رسولًا، قال بالتناسُخِ وأنَّ المؤمِنَ يتحَوَّلُ إلى سَبعِ مراحِلَ قبل أن يأخُذَ مكانه بين النجوم، وأما الشِّريرُ فيُنسَخ إلى نصراني أو يهودي أو مُسلم حتى يتخَلَّصَ من الكفرِ أو يتحَوَّلَ إلى كِلابٍ وبغال وحمير، وقيل: بل هؤلاء الذين لا يعبدون عليًّا، وإباحة المحارم، والخَمر، والنُّصيرية اليوم قبائِلُ موزعة غالِبُها في جبال العلويين في أطرافِ الساحل الغربي لسوريا، ولواء إسكندرون بتركيا وكردستان وإيران.
أعلَنَ الرَّئيسُ اليَمَنيُّ عبد ربه منصور هاديقرارًا بتشكيلِ مجلِسِ قيادةٍ رئاسيٍّ، ونَقلِ جميعِ صلاحيَّاتِه إليه لاستكمالِ تنفيذِ مهامِّ المرحلةِ الانتقاليَّةِ، وأعفى نائبَه علي محسن الأحمر من منصِبِه.
وعُيِّن رشاد محمَّد العليمي رئيسًا للمجلِسِ مع سبعةِ أعضاءٍ، ووَفْقَ القرارِ سيُديرُ مجلِسُ القيادةِ الرِّئاسيُّ الدَّولةَ سياسيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا طَوالَ المرحلةِ الانتقاليَّةِ.
ويشمَلُ القرارُ تكليفَ المجلِسِ بالتفاوُضِ مع الحوثيِّينَ بشأنِ وَقفِ إطلاقِ نارٍ دائمٍ في كافَّةِ أنحاءِ اليَمَنِ، والتفاوُضِ للتوصُّلِ إلى حَلٍّ سياسيٍّ نهائيٍّ وشاملٍ،وسيكون لرئيسِ المجلِسِ تولِّي القيادِة العُليا للقوَّاتِ المُسلَّحةِ، وتمثيلُ اليمَنِ في الدَّاخِلِ والخارِجِ.
وتنتهي ولايةُ المجلِسِ بعدَ إقرارِ السَّلامِ الكاملِ في كافَّةِ أنحاءِ اليَمَنِ، وبعد إجراءِ الانتخاباتِ العامَّةِ وتنصيبِ رئيسِ الجمهوريَّةِ الجديدِ.
هو الفُضيلُ بنُ عِياضِ بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي الخراساني، المجاوِرُ بحرم الله، وُلِدَ بسمرقند، ونشأ بأبيورد، وارتحلَ في طلَبِ العلم؛ قال الفضل بن موسى: كان الفضيلُ بنُ عياض شاطِرًا يقطَعُ الطَّريقَ بين أبيورد وسرخس، وكان سبَبُ توبته أنَّه عَشِقَ جارية، فبينا هو يرتقي الجُدران إليها، إذ سَمِعَ تاليًا يتلو {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...} [الحديد: 16] فلمَّا سَمِعَها، قال: بلى يا رَبِّ، قد آن، فرجع، فآواه الليلُ إلى خربةٍ، فإذا فيها سابلةٌ، فقال بعضُهم: نرحَلُ، وقال بعضهم: حتى نُصبحَ؛ فإنَّ فُضَيلًا على الطريق يقطَعُ علينا، قال: ففَكَّرتُ، وقلتُ: أنا أسعى باللَّيلِ في المعاصي، وقومٌ مِن المسلمينَ هاهنا، يخافونني، وما أرى اللهُ ساقني إليهم إلَّا لأرتَدِعَ، اللهمَّ إني قد تبتُ إليك، وجعلتُ توبتي مجاورةَ البيتِ الحرامِ. وقال ابن المبارك: ما بقِيَ على ظهرِ الأرضِ عندي أفضَلُ من الفُضَيل بن عِياضٍ، وقيل: مات- رحمه الله- في ست وثمانين ومئة. قال الذهبيُّ: وله نيِّفٌ وثمانون سنة، وهو حُجَّةٌ كبيرُ القَدرِ.
جمع صاحِبُ أنطاكية عساكِرَه من الفرنج، وحشد الفارِسَ والراجِلَ، وسار نحو حصن الأثارب، وهو بالقرب من مدينة حلب بينهما ثلاثة فراسخ، وحصره ومنع عنه الميرة، فضاق الأمر على من به من المسلمين، فنقبوا من القلعة نقبًا قصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكية فيقتُلوه، فلما فعلوا ذلك وقربوا من خيمتِه استأمن إليه صبيٌّ أرمنيٌّ، فعرَّفه الحال فاحتاط واحترز منهم، وجَدَّ في قتالهم حتى ملك الحصن قهرًا وعنوة، وقَتَل من أهله ألفي رجل، وسبى وأسر الباقين، ثم سار إلى حصن زردنا، فحصره ففتحه وفعل بأهله مثل الأثارب، فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفًا من الفرنج، وكذلك أهل بالس، وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس، فعادوا عنهما، وسار عسكر من الفرنج إلى مدينة صيدا، فطلب أهلها منهم الأمان فأمَّنوهم وتسلَّموا البلد.
في العَشرِ الأُوَل من شوال مَلَك صلاحُ الدين قلعةَ بعرين من الشَّامِ، وكان صاحِبُها فخر الدين مسعود بن الزعفراني، وهو مِن أكابر الأمراءِ النوريَّة، فلما رأى قوَّةَ صلاح الدين نزل منها، واتَّصل بصلاح الدين، ظنَّ أنَّه يُكرِمُه ويُشارِكُه في ملكه، ولا ينفَرِدُ عنه بأمرٍ مِثل ما كان مع نور الدين، فلم يَرَ مِن ذلك شيئًا، ففارَقَه، ولم يكن بَقِيَ من أقطاعه الذي كان له في الأيامِ النورية غيرُ بعرين ونائبُه بها، فلما صالحَ صلاحُ الدين المَلِكَ الصالِحَ بحلب، عاد إلى حماة وسار منها إلى بعرين، وهي قريبةٌ منها، فحصرها ونصَبَ عليها المجانيق، وأدام قتالها، فسَلَّمَها واليها بالأمان، فلما مَلَكَها عاد إلى حماة، فأقطَعَها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، وأقطع حمص ناصِرَ الدين محمد بن عمِّه شيركوه، وسار منها إلى دمشقَ فدخلها أواخِرَ شَوَّال.
كان أَمرُ الدَّعوة العَبَّاسِيَّة قد اسْتَفحَل خِلالَ السَّنوات الماضِيَة وقَوِيَ أَمرُها جِدًّا في خُراسان وما حولها، حتَّى بَدأَت البُعوثُ تَسيرُ إلى العِراق فخَرَج مَرْوان بن محمَّد بِجَيشٍ إليهم مِن حَرَّان حتَّى بلَغ الزَّاب وحَفَر خَندقًا وكان في عِشرين ومائة ألف، وسار أبو عَوْن وهو القادِمُ إلى العِراق للدَّعوة العَبَّاسِيَّة إلى الزَّاب، فوَجَّه أبو سَلمَة إلى أبي عَوْن عُيينَة بن موسى، والمِنْهالِ بن فَتَّان، وإسحاق بن طَلحَة، كُلُّ واحدٍ في ثلاثةِ آلاف، فعَبَر عُيينَة بن موسى في خَمسةِ آلاف، فانْتَهى إلى عَسكرِ مَرْوان، فقاتَلَهم حتَّى أَمْسَوا، ورَجَع إلى عبدِ الله بن عَلِيٍّ وأَصبحَ مَرْوان فعَقَد الجِسرَ وعَبَر عليه، فنَهاهُ وُزراؤهُ عن ذلك، فلم يَقبَل وسَيَّرَ ابنَه عبدَ الله، فنَزَل أَسفلَ مِن عَسكرِ عبدِ الله بن عَلِيٍّ، فبَعَث عبدُ الله بن عَلِيٍّ المُخارِقَ في أَربعةِ آلاف نحو عبدِ الله بن مَرْوان، فسَرَّح إليه ابنُ مَرْوان الوَليدَ بن مُعاوِيَة بن مَرْوان بن الحَكَم، فالْتَقَيا، فانْهزَم أصحابُ المُخارِق وثَبت هو فأُسِرَ هو وجَماعَة وسَيَّرَهم إلى مَرْوان مع رُؤوسِ القَتلى، وأَرسَل مَرْوان إلى عبدِ الله يَسأَله المُوادَعَة فلم يَقبَل ثمَّ حَصَل قِتالٌ بينهم كانت فيه هَزيمةُ مَرْوان ومَن معه وَفَرَّ مَرْوان إلى حَرَّان.
لما توفِّيَ الأمير أبو الحسن علي بن موسى بن راشد مختطُّ مدينة شفشاون في شمال المغرب، وبقِيَت بيد أولاده يتولَّون رياستها ولم يزالوا فيها بين سِلمٍ وحرب إلى أن حاصرهم بها الوزير أبو عبد الله محمد بن عبد القادر ابن السلطان محمد الشيخ السعدي بجيوشِ عَمِّه السلطان أبي محمد عبد الله الغالب بالله، وصاحب شفشاون يومئذ الأمير الفاضل أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي الحسن علي بن موسى بن راشد، فلمَّا اشتَدَّ عليه الحصارُ خرج فيمن إليه من أهله وولده وقرابته، وصعدوا الجبلَ المطِلَّ على شفشاون، وذلك ليلة الجمعة الثاني من صفر من هذه السنة، وساروا إلى ترغة، فركبوا منها البحر يوم الجمعة تاسِعَ من هذا الشهر واستقَرَّ الأمير أبو عبد الله بالمدينة النبوية إلى أن مات بها.
كان سببُ ذلك أنَّ الوزيرَ عليَّ بنَ مقلةَ كان قد هرب حين قُبِضَ على مؤنسٍ ومَن معه لإرادتِهم قتلَ القاهرِ بالله، وكان قد قَبَضَ عليهم وقتَلَهم إلَّا ابن مقلة فإنه هرب، فاختفى في داره، وكان يراسِلُ الجُندَ ويكاتبهم ويغريهم بالقاهرِ، ويخوِّفُهم سطوتَه وإقدامَه، وسرعةَ بطشِه، ويخبِرُهم بأنَّ القاهِرَ بالله قد أعدَّ لأكابرِ الأمراءِ أماكِنَ في دار الخلافة يسجنُهم فيها، ومهالك يُلقيهم فيها، كما فعل بفلان وفلان، فهيَّجَهم ذلك على القبضِ على القاهر بالله، فاجتمعوا وأجمَعوا رأيهم على مناجَزتِه في هذه الساعة، فرَكِبوا مع الأميرِ المعروف بسيما، وقصَدوا دارَ الخلافة فأحاطوا بها، ثم هَجَموا عليه من سائرِ أبوابِها وهو مخمورٌ، فاختفى في سطحِ حَمَّام، فظهروا عليه فقبضوا عليه وحبَسوه في مكان طريفِ اليشكري، وذلك يومَ السبت لثلاثٍ خَلَونَ مِن جمادى الأولى، ثم أمروا بإحضارِه، فلما حضر سَمَلوا عينيه حتى سالتا على خديه، وارتُكِبَ معه أمرٌ عظيم لم يُسمَعْ مِثلُه في الإسلامِ، ثم أرسلوه، وكان تارةً يُحبَسُ وتارة يُخلَّى سبيلُه، وقد تأخَّرَ مَوتُه إلى سنة 333, وتمَّت خلافة الراضي بالله أبي العبَّاسِ محمد بن المُقتَدر بالله. لَمَّا خَلَعَت الجندُ القاهِرَ أحضروا أبا العبَّاسِ محمَّدَ بنَ المقتدر بالله فبايعوه بالخلافة ولَقَّبوه الراضي بالله، وقد أشار أبو بكر الصولي بأن يُلَقَّبَ بالمَرضيِّ بالله فلم يقبلوا، وذلك يوم الأربعاء لستٍّ خَلَون من جمادى الأولى منها، وجاؤوا بالقاهرِ وهو أعمى قد سُمِلَت عيناه، فأوقِفَ بين يديه فسَلَّمَ عليه بالخلافةِ وسَلَّمَها إليه، فقام الراضي بأعبائِها، وأمر بإحضارِ أبي علي بن مقلة فولَّاه الوزارة، وجعل عليَّ بنَ عيسى ناظرًا معه، وأطلق كلَّ من كان في حبسِ القاهر بالله.
هو الإمامُ الحافِظُ الجَوَّال، مُحَدِّثُ الإسلامِ، أبو عبد اللهِ مُحمَّد بنُ إسحاق بن محمَّد بن يحيى بن مَنْدَه الأصبهاني (الأصفهاني)، صاحِبُ التصانيف. وجَدُّه منده أسلَمَ حين افتتَحَ أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصبهانَ، وولاؤه لعبدِ القَيسِ، وكان مجوسيًّا فأسلم، وناب عن بعضِ أعمال أصبهان (أصفهان), وُلِدَ ابنُ مَنْدَه سنة 310، وقيل إحدى عشرة. كان ثَبتَ الحَديثِ والحِفظِ، ورحَلَ إلى البلادِ الشَّاسعة، وسَمِعَ الكثيرَ، وصَنَّف التاريخَ، والنَّاسِخَ والمَنسوخَ. قال أبو العباس جعفرُ بنُ مُحمَّد المُستغفريُّ الحافظ: "ما رأيتُ أحفَظَ مِن ابنِ مَنْدَه". قال الذهبي: "ولم أعلَمْ أحدًا كان أوسَعَ رِحلةً منه، ولا أكثَرَ حَديثًا منه مع الحِفظِ والثِّقةِ، فبلَغَنا أنَّ عِدَّةَ شُيوخِه ألفٌ وسبعُمئة شَيخٍ" وقال الذهبيُّ أيضًا: "إنَّ أبا نُعَيمٍ الحافِظَ ذُكِرَ له ابنُ مَنْدَه، فقال: كان جبلًا مِن الجبال. فهذا يقولُه أبو نُعَيم مع الوَحشةِ الشَّديدةِ التي بينه وبين ابنِ مَندَه".وقد توفِّيَ في أصفهان.
في هذه السَّنة قَتَل السلطان بركيارق خلقًا من الباطنية ممن تحقَّق مذهبَه، ومن اتُّهِم به، فبلغت عدتُهم ثمانمائة ونيِّفًا، ووقع التتبُّعُ لأموال من قُتِل منهم، فوُجِد لأحدهم سبعون بيتًا من الزوالي المحفور، وكُتب بذلك كتابٌ إلى الخليفة، فتقدَّم بالقبض على قومٍ يُظَنُّ فيهم ذلك المذهَبُ، ولم يتجاسر أحدٌ أن يشفع في أحدٍ لئلَّا يُظَنَّ مَيلُه إلى ذلك المذهب، وزاد تتبُّعُ العوام لكل من أرادوا، وصار كلُّ من في نفسه شيءٌ من إنسانٍ يرميه بهذا المذهب، فيُقصَد ويُنهَب حتى حُسِم هذا الأمر فانحسم في أيام السلطان ملكشاه، فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلًا، فصلَّوا صلاة العيد في ساوة، ففَطِنَ بهم الشحنة فأخذهم وحبَسَهم، ثم سُئِلَ فيهم فأطلقهم، فهذا أول اجتماع كان لهم، ثمَّ إنهم دَعَوا مؤذِّنًا من أهل ساوة كان مقيمًا بأصبهان، فلم يُجِبْهم إلى دعوتهم، فخافوه أن ينمَّ عليهم، فقتلوه، فهو أوَّلُ قتيل لهم، وأوَّلُ دم أراقوه، فبلغ خبَرُه إلى نظام الملك، فأمر بأخذِ من يُتَّهَمَ بقتله، فوقعت التهمةُ على نجارٍ اسمه طاهر، فقُتِل ومُثِّل به، وجَرُّوا برِجْلِه في الأسواق، فهو أولُ قتيل منهم، وأولُ موضع غُلِبوا عليه وتحصَّنوا به بلدٌ عند قاين، كان متقدَّمُه على مذهبهم، فاجتمعوا عنده، وقَوُوا به، فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي، الفقيه الشافعي، وجمع الجمَّ الغفير بالأسلحة، وأمر بحفرِ أخاديد، وأوقد فيها النيرانَ، وجعل العامةُ يأتون بالباطنية أفواجًا ومنفَرِدين، فيُلقَون في النار، وجعلوا إنسانًا على أخاديد النيران وسمَّوه مالكًا، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وكان السببُ في قتل بركيارق الباطنيةَ أنَّه لما اشتد أمرُ الباطنية، وقَوِيت شوكتهم، وكثُرَ عددهم، صار بينهم وبين أعدائهم إحَنٌ، فلما قتلوا جماعةً من الأمراء الأكابر، وكان أكثَرُ من قتلوا من هو في طاعة محمد، مخالِفٌ للسلطان بركيارق، مثل شحنة أصبهان سرمز، وأرغش، وكمش النظاميين، وصهره، وغيرهم، نَسَب أعداءُ بركيارق ذلك إليه، واتهموه بالميلِ إليهم. فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمدًا، وقتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعةٌ منهم في العسكر، واستغووا كثيرًا منهم، وأدخلوهم في مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوَّة، وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فصار يخافهم من يخالِفُهم، حتى إنهم لم يتجاسَرْ أحد منهم، لا أمير ولا متقدِّم، على الخروج من منزله حاسِرًا، بل يلبس تحت ثيابه درعًا، وأشاروا على السلطان أن يفتك بهم قبل أن يعجِزَ عن تلافي أمرهم، وأعلموه ما يتَّهِمُه الناس به من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنِّعون بذلك، وكانوا في القتال يكبرون عليهم، ويقولون: يا باطنية. فاجتمعت هذه البواعِثُ كلها فأذن السلطانُ في قتلهم، والفتكِ بهم، وركب هو والعسكرُ معه، وطلبوهم وأخذوا جماعةً من خيامهم ولم يُفلِتْ منهم إلا من لم يُعرَف، وكان ممن اتُّهِم بأنه مقدَّمُهم الأمير محمد بن دشمنزيار بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه، صاحب يزد، فهرب وسار يومه وليلته، فلما كان اليوم الثاني وجَدَّ في العسكر قد ضَلَّ الطريق ولا يَشعُر، فقُتِل، ونُهِبَت خيامه، فوُجِد عنده السلاح المعَدِّ، وأخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقُتِلوا، وقُتِل منهم جماعة برآء لم يكونوا منهم سعى بهم أعداؤهم، وكتب إلى بغداد بالقبض على أبي إبراهيم الأسداباذي الذي كان قد وصل إليها رسولًا من بركيارق ليأخذ مال مؤيد الملك، وكان من أعيانهم ورؤوسهم، فأُخذ وحُبِس، فلما أرادوا قتله قال: هَبُوا أنكم قتلتموني، أتقدرون على قَتْلِ من بالقلاع والمدُن؟ فقُتِل، ولم يُصَلِّ عليه أحد، وألقِيَ خارج السور، واتُّهِم أيضًا الكيا الهرَّاسي، المدَرِّس بالنظامية بأنَّه باطنيٌّ، ونُقِل ذلك عنه إلى السلطان محمد، فأمر بالقبض عليه، فأرسل المستظهر بالله من استخلصه، وشَهِدَ له بصحة الاعتقاد، وعلوِّ الدرجةِ في العلم، فأُطلِقَ.
هو الإمام العلامة شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي القاهري أصله من سخا من قرى مصر، ولد بالقاهرة في ربيع الأول سنة 831 بحارة مجاورة لمدرسة شيخ الإسلام البلقيني محل أبيه وجده، ثم تحول منه حين دخل في الرابعة مع أبويه لمِلْك اشتراه أبوه مجاور لسكن شيخه ابن حجر، وأدخله أبوه المكتب بالقرب من الميدان عند المؤدب الشرف عيسى بن أحمد المقسي الناسخ، فأقام عنده يسيرًا جدًّا، ثم نقله لزوج أخته الفقيه الصالح البدر حسين بن أحمد الأزهري فقرأ عنده القرآن وصلى بالناس التراويح في رمضان، ثم توجه به أبوه لفقيهه المجاور لسكنه الشيخ المفيد النفاع القدوة المؤدب الشمس محمد بن أحمد النحريري الضرير, ثم لازم شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر العسقلاني حيث كان يسمع منه مع والده ليلًا الكثير من الحديث، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته فلازم مجلسه وعادت عليه بركته في هذا الشأن فأقبل عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف؛ بحيث تقلل مما عداه, وداوم الملازمة لشيخه ابن حجر حتى حمل عنه علمًا جمًّا اختص به كثيرًا بحيث كان من أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قُرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر، إما لكونه حمله أو لأن غيره أهم منه وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. ولما علم شيخه ابن حجر شدة حرصه على ذلك كان يرسل خلفه أحيانًا بعض خدمه لمنزله يأمره بالمجيء للقراءة, وكان شيخه يأذن له في الإقراء والإفادة والتصنيف، وصلى به إمامًا التراويح في بعض ليالي رمضان, وتدرب به في طريق القوم ومعرفة العالي والنازل والكشف عن التراجم والمتون وسائر الاصطلاح, وأخذ عنه علم الحديث وبرع فيه، ولم ينفك عن ملازمته ولا عدل عنه بملازمة غيره من علماء الفنون؛ خوفًا على فقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية، بل ولا حجَّ إلا بعد وفاة شيخه ابن حجر, ومع ذلك حمل السخاوي عن شيوخ مصر والواردين إليها كثيرًا من دواوين الحديث وأجزائه بقراءته وقراءة غيره في الأوقات التي لا تعارض أوقات شيخه، سيما حين اشتغال شيخه بالقضاء وتوابعه، حتى صار السخاوي أكثر أهل العصر مسموعًا وأكثرهم رواية، ولما عاد السخاوي سنة تسع وتسعين للقاهرة من الحج للمرة السادسة والمجاورة في المدينة انجمع عن الناس وامتنع من الإملاء لمزاحمة من لا يحسن فيها وعدم التمييز من جُل الناس أو كلهم, وراسل إلى من لامه على ترك الإملاء بما نصه: "إنه ترك ذلك عند العلم بإغفال الناس لهذا الشأن؛ بحيث استوى عندهم ما يشتمل على مقدمات التصحيح وغيره من جمع الطرق التي يتبين بها انتفاء الشذوذ والعلة أو وجودهما، مع ما يورد بالسند مجردًا عن ذلك، وكذا ما يكون متصلًا بالسماع مع غيره, وكذا العالي والنازل والتقيد بكتاب ونحوه مع ما لا تقيد فيه إلى غيرها، مما ينافي القصد بالإملاء وينادي الذاكر له العامل به على الخالي منه بالجهل". كما أنه التزم ترك الإفتاء مع الإلحاح عليه فيه حين تزاحم الصغار على ذلك واستوى الماء والخشبةَ، سيما وإنما يعمل بالأغراض، بل صار يكتُب على الاستدعاءات وفي عرض الأبناء من هو في عدادِ من يلتمس له ذلك حين التقيد بالمراتب والأعمال بالنيات، وقد سبقه للاعتذار بنحو ذلك شيخ شيوخه الزين العراقي وكفى به قدوة، بل وأفحش من إغفالهم النظر في هذا وأشد في الجهالة إيراد بعض الأحاديث الباطلة على وجه الاستدلال وإبرازها حتى في التصانيف والأجوبة، كل ذلك مع ملازمة الناس له في منزله للقراءة دراية ورواية في تصانيفه وغيرها، بحيث خُتم عليه ما يفوق الوصف من ذلك، وأخذ عنه من الخلائق من لا يُحصى" وقد حدث خلاف بين السخاوي ومعاصره جلال الدين السيوطي، وهو من خلاف الأقران الذي لا يُقبَل فيه نقد أحدهما في الآخر مع جلالة قدر كل منهما في علمه وعمله في خدمة العلم وأهله. وللسخاوي مصنفات كثيرة جدًّا منها ترجمة لشيخه ابن حجر في كتاب سماه الجوهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، والمقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي، ووجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام، والضوء اللامع في أخبار أهل القرن التاسع، واستجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف، وغيرها من الكتب والسؤالات المدونة له. توفي بالمدينة عصر يوم الأحد 28 من شعبان سنة 902 (1497م) وهو في الحادية والسبعين من عمره، ودُفِن بالبقيع بجوار الإمام مالك.
كان سُليمان بن عبدِ الملك كُلَّما فَتَح قُتيبةُ بن مُسلِم فَتْحًا في عَهدِ الوَليد يقول لِيَزيد بن المُهَلَّب: ألا تَرَى إلى ما يَفتَح الله على قُتيبَة؟ فيقول يَزيدُ: ما فَعَلَت جُرجان التي قَطَعَت الطَّريقَ، وأَفْسَدت قُومِس ونَيْسابور. ويقول أَيضًا: هذه الفُتوح لَيسَت بِشَيءٍ، الشَّأنُ هي جُرجان. فلمَّا وَلَّاهُ سُليمانُ خُراسانَ لم يكن لِيَزيد هِمَّة غَير جُرجان، فسار إليها في مائةِ ألف مِن أَهلِ الشَّام والعِراق وخُراسان سِوَى المَوالِي والمُتَطَوِّعَة، ولم تكُن جُرجان يَومئذٍ مَدينَة إنَّما هي جِبالُ ومَخارِم وأَبواب يقوم الرَّجُلُ على بابٍ منها فلا يُقْدِم عليه أَحَدٌ. فابْتَدَأَ بقُهِسْتان فحاصَرَها، وكان ذلك، فإذا هُزِمُوا دَخَلوا الحِصْنَ. فخَرَجوا ذات يَومٍ وخَرَج إليهم النَّاسُ فاقْتَتَلوا قِتالًا شديدًا، فحَمَل محمَّدُ بن سَبْرَة على تُرْكِيٍّ قد صَدَّ النَّاسَ عنه فاخْتَلَفا ضَرْبَتينِ، فثَبُتَ سَيفُ الترُّكي في بَيْضَة ابنِ أبي سَبْرَة، وضَرَبَه ابنُ أبي سَبْرَة فقَتَلَه، ورَجَع وسَيفُه يَقطُر دَمًا وسَيفُ الترُّكي في بَيْضَتِه، فنَظَر النَّاسُ إلى أَحسَن مَنظَرٍ رَأَوْهُ. وخَرَج يَزيدُ بعدَ ذلك يَومًا يَنظُر مَكانًا يَدخُل منه عليهم، وكان في أربعمائة مِن وُجوهِ النَّاسِ وفُرسانِهم، فلم يَشعروا حتَّى هَجَم عليهم التُّركُ في نحو أربعةِ آلاف فقاتَلوهُم ساعَة، وقاتَلَ يَزيدُ قِتالًا شديدًا، فسَلِمُوا وانْصَرَفوا، وكانوا قد عَطِشُوا، فانْتَهوا إلى الماءِ فشَرِبوا، ورَجَع عنهم العَدُوُّ. ثمَّ إنَّ يَزيدَ أَلَحَّ عليهم في القِتال وقَطَع عنهم المَوادَّ حتَّى ضَعُفوا وعَجَزوا. فأَرسَل صُول دِهْقان قُهِسْتان إلى يَزيدَ يَطلُب منه أن يُصالِحَه ويُؤَمِّنَه على نَفسِه وأَهلِه ومالِه لِيَدفَع إليه المَدينَة بما فيها، فصالَحَه ووَفَّى له، ودَخَل المَدينَة فأَخَذ ما كان فيها مِن الأَموالِ والكُنوزِ والسَّبْيِ ما لا يُحصَى، وقَتَل أَربعةَ عَشر ألف تُرْكِي صَبْرًا، وكَتَب إلى سُليمان بن عبدِ الملك بذلك، ثمَّ خَرَج حتَّى أَتَى جُرجان، وكان أَهلُ جُرجان قد صالَحَهم سَعيدُ بن العاص، وكانوا يَجْبُون أَحيانًا مائة ألف، وأَحيانًا مائتي ألف، وأَحيانًا ثلاثمائة ألف، ورُبَّما أَعطوا ذلك ورُبَّما مَنَعوه، ثمَّ امْتَنَعوا وكَفَروا فلم يُعْطوا خَراجًا، ولم يَأْتِ جُرجانَ بعدَ سَعيدٍ أَحَدٌ ومَنَعوا ذلك الطَّريق، فلم يكُن يَسلُك طَريقَ خُراسان أَحَدٌ إلَّا على فارِس وكَرْمان. وبَقِيَ أَمرُ جُرجان كذلك حتَّى وَلِيَ يَزيدُ خُراسان وأَتاهُم فاسْتَقبَلوه بالصُّلْح وزادوه وهابوه، فأَجابَهم إلى ذلك وصالَحَهم. وقد أَصابَ يَزيدُ بجُرجان تاجًا فيه جَوْهَر، فقال: أَتَرَوْنَ أَحدًا يَزهَد في هذا؟ قالوا: لا. فدَعا محمَّد بن واسِع الأزدي فقال: خُذْ هذا التَّاجَ. قال: لا حاجَة لي فيه. قال: عَزَمْتُ عليك. فأَخَذه، فأَمَر يَزيدُ رَجُلًا يَنظُر ما يَصنَع به، فلَقِيَ سائِلًا فدَفَعَه إليه، فأَخَذ الرَّجُلَ السَّائِلَ وأَتَى به يَزيدَ وأَخبَره، فأَخَذ يَزيدُ التَّاجَ وعَوَّضَ السَّائِلَ مالًا كَثيرًا.
خرج ألفونسو الفرنجي، صاحب طليطلة بالأندلس، إلى بلاد الإسلام، يطلب مُلكَها والاستيلاءَ عليها، وجمع وحشد فأكثر، وكان قد قَوِيَ طمعه فيها بسبب موت أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فسمع أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين الخبرَ، فسار إليه في عساكره وجموعه، فلقيه، فاقتتلوا واشتد القتال، وكان الظفر للمسلمين، وانهزم الفرنج وقُتِلوا قتلًا ذريعًا، وأُسِرَ منهم بشر كثير، وسبى منهم وغَنِمَ من أموالهم ما لا يُحصى، فخرج الفرنجُ بعد ذلك، وامتنعوا من قصد بلاده، وذلَّ ألفونسو حينئذ وعلم أن في البلاد حاميًا لها وذابًّا عنها.