وجَّه المأمونُ ابنَه العبَّاسَ إلى أرضِ الرومِ وأمَرَه بنزول الطوانةِ وبنائِها، وكان قد وجَّه الفَعَلةَ والفُروضَ، فابتدأ البناءَ وبناها ميلًا في ميلٍ، وجعل سورَها على ثلاثةِ فراسِخَ، وجعل لها أربعةَ أبواب، وبنى على كلِّ بابٍ حِصنًا.
هو العزيزُ صاحِبُ مِصرَ أبو منصور نزار بن المعِزِّ معد بن إسماعيل العبيدي المهدي المغربي. ولِدَ سنة 344. قام بعد أبيه في ربيع الأول، سنة 365. وكان كريمًا شُجاعًا صفوحًا، أسمَرَ أصهَبَ الشَّعرِ أعيَنَ أشهَلَ، بعيدَ ما بين المَنكِبَينِ، حسنَ الأخلاقِ قَريبًا من الرَّعيَّة، مُغرَمًا بالصيدِ، ويُكثِرُ مِن صيد السِّباعِ، ولا يُؤثِرُ سَفكَ الدماء. فُتحِتَ له حلب وحماة وحِمص. وخطب أبو الذواد محمَّد بن المسيب بالموصِلِ له، ورقَمَ اسمَه على الأعلامِ والسِّكَّة سنة 383، وخُطِبَ له أيضًا باليمن والشام ومدائن المغرب. قال الذهبي: "كانت دولةُ هذا الرافضيِّ أعظَمَ بكثيرٍ مِن دولةِ أمير المؤمنين الطائعِ ابنِ المطيعِ العباسي". وقد اشتُهِرَ في مصر أنَّ نسَبَ العُبَيديين إلى آلِ البيتِ غيرُ صَحيحٍ, قال ابنُ خَلِّكانَ: "وأكثر أهل العلم بالنَّسَبِ لا يصحِّحونَه، وصار هذا الأمرُ كالمستفيضِ بين الناسِ". وفي مبادي ولاية العزيزِ صَعِدَ المنبرَ يوم الجمعة فوجد ورقةً مكتوبٌ فيها:
إنَّا سَمِعْنا نسبًا مُنكَرًا... يُتلى على المِنبَرِ في الجامِعِ
إنْ كنتَ فيما تدَّعي صادقًا... فاذكُرْ أبًا بعد الأبِ الرَّابعِ
وإن تُرِدْ تحقيقَ ما قُلتَه... فانسُبْ لنا نفسَك كالطَّائِعِ
أو لا دَعِ الأنسابَ مَستورةً... وادخُلْ بنا في النَّسَبِ الواسِعِ
فإنَّ أنسابَ بني هاشمٍ... يقصُرُ عنها طَمَعُ الطَّامِعِ
وصَعِدَ العزيز يومًا آخَرَ المنبرَ، فرأى ورقةً فيها مكتوبٌ:
بالظُّلمِ والجَورِ قد رَضِينا... وليس بالكُفرِ والحَماقهْ
إن كنتَ أُعطِيتَ عِلمَ غَيبٍ... فقُلْ لنا كاتِبَ البِطاقَهْ
وإنما كُتِبَ هذا لأنَّ العُبَيديِّينَ كانوا يدَّعونَ عِلمَ المُغَيَّبات، وأخبارُهم في ذلك مشهورة. توفِّيَ العزيزُ للَيلتَينِ بَقِيَتا من رَمضانَ، بمدينة بلبيس، وكان برَزَ إليها لغَزوِ الرُّومِ، فلَحِقَه عِدَّةُ أمراضٍ منها النقرس والحصا والقولنج، فاتصَلَت به الأمراضُ إلى أن مات، وكان حُكمُه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفًا، ولَمَّا مات العزيز ولِيَ بعدَه ابنُه أبو عليٍّ المنصورُ، ولُقِّبَ الحاكِمَ بأمرِ الله، بعَهدٍ مِن أبيه، فوَلِيَ وعُمُره إحدى عشرة سنة وستة أشهر، وأوصى العزيزُ إلى أرجوان الخادم، وكان يتولَّى أمرَ دارِه، فجعله مُدَبِّرَ دولةِ ابنه الحاكمِ، فقام بأمْرِه، وبايعَ له، وأخذ له البيعةَ على النَّاسِ.
هو الإمامُ الحافِظُ، الناقِدُ العَلَّامة، شيخُ المُحَدِّثين، أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بنُ عبدِ الله بن محمَّد بن حمدويه بنِ نعيم بن الحكم، بن البيع الحاكم الضَّبِّي الطهماني النيسابوري، ويُعرَفُ بابن البيع، مِن أهل نيسابور. ولِدَ في يوم الاثنين, ثالثَ شهر ربيع الأول، سنة 321ه بنيسابور. قال الذهبي: "طلب الحديثَ في صِغَرِه بعنايةِ والِدِه وخالِه، وأوَّلُ سَماِعِه كان في سنةِ ثلاثين، في التاسعة مِن عُمُرِه، وقد استملى على أبي حاتمِ بنِ حِبَّان في سنة 334ه وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة. ولحِقَ الأسانيدَ العاليةَ بخُراسان والعراق وما وراء النَّهر، وسَمِعَ مِن نحو ألفَي شَيخٍ، ينقُصونَ أو يزيدون، فإنَّه سَمِعَ بنيسابورَ وَحدَها مِن ألفِ نَفسٍ، وارتحَلَ إلى العراقِ وهو ابنُ عشرينَ سنة"، فكان من أهلِ العِلمِ والحِفظِ والحَديثِ، سَمِعَ الكثيرَ وطاف الآفاقَ، وصَنَّفَ الكُتُبَ الكِبارَ والصِّغارَ، أشهَرُها المُستَدرَكُ على الصَّحيحَينِ، وعلومُ الحديثِ، والإكليلُ، وتاريخُ نَيسابور، وقد روى عن خَلقٍ، ومن مشايخِه الدَّارَقُطنيُّ وابنُ أبي الفوارس وغيرهما، وقد كان مِن أهلِ الدِّينِ والأمانةِ والصِّيانةِ، والضَّبطِ والتَّجَرُّدِ والوَرَع، حدَّثَ عنه الدَّارَقُطنيُّ وأبو الفتحِ بنُ أبي الفوارسِ وهما من شيوخِه، قال الذهبيُّ عن الحاكم: "صَنَّف وخَرَّج، وجرَحَ وعَدَّل، وصَحَّحَ وعَلَّل، وكان مِن بحورِ العِلمِ على تَشَيُّعٍ قليلٍ فيه". وأكَّدَ الذهبيُّ أنَّ الحاكِمَ شِيعيٌّ وليس رافضيًّا، فقال: "أمَّا انحرافُه عن خصومِ عليٍّ فظاهِرٌ، وأمَّا أمرُ الشَّيخَينِ فمُعظِّمٌ لهما بكلِّ حالٍ, فهو شِيعيٌّ لا رافِضيٌّ" وقال: "هو شيعيٌّ مشهورٌ بذلك, من غيرِ تعرُّضٍ للشَّيخَينِ" قال ابنُ خَلِّكان: "تقَلَّدَ الحاكِمُ القضاءَ بنَيسابور في سنة 359ه في أيام الدَّولةِ السَّامانيَّة ووزراءِ أبي النَّصرِ مُحمَّدِ بن عبد الجبار العتيبي، وقُلِّدَ بعد ذلك قضاءَ جُرجان فامتنع، وكانوا يُنفِذونَه في الرَّسائِلِ إلى مُلوكِ بني بُوَيه, ثم قال: إنَّما عُرِفَ بالحاكِمِ لتقَلُّدِه القضاء ". دخل الحاكِمُ الحَمَّام، فاغتَسَل، وخرج. وقال: آه. وقُبِضَت روحُه وهو مُتَّزِرٌ لم يلبَسْ قَميصَه بعدُ، ودُفِنَ بعد عصرِ يوم الأربعاء، وصلَّى عليه القاضي أبو بكرٍ الحيري. توفِّي عن أربعٍ وثمانين سنةً.
ملكَ صلاحُ الدِّينِ يوسف بن أيوب مدينةَ دمشق، وسبَبُ ذلك أنَّ نور الدين لَمَّا مات ومَلَك ابنُه المَلِكُ الصالح إسماعيلُ بعده كان بدمشق، ولَمَّا استولى سيفُ الدين غازي بن قطب الدين مودود صاحِب الموصل وعَمِّ الملك الصالح إسماعيل على البلاد الجزرية، خاف شمس الدين علي بن الداية-وهو أكبر الأمراء النورية- أن يُغيرَ إلى حلب فيَملِكَها، فأرسل الخادمَ سعد الدين كمشتكين إلى دمشق لِيُحضِرَ الملك الصالح ومعه العساكِر إلى حلب، فلما وصلوا إليها قبَضَ سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته، وعلى ابن الخشاب رئيس حلب ومُقَدَّم الأحداث فيها، واستبَدَّ سعد الدين بتدبير الملك الصالح، فخافه ابن المُقَدَّم وغيره من الأمراء الذين بدمشق، وكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل ليَعبُرَ الفرات إليهم؛ لِيُسَلِّموا إليه دمشق، فامتنع عن قصد دمشق، وراسل الخادم سعد الدين الملك الصالح وصالَحَهما على ما أخَذَه من البلاد، فلما امتنع سيفُ الدين غازي عن العبور إلى دمشق عَظُمَ خَوفُ ابن المقدم ومن معه من الأمراء، وقالوا: حيث صالحَ الخادم سعد الدين سيف الدين والملك الصالح لم يبقَ لهم مانعٌ عن المسير إلينا، فكاتبوا حينئذ صلاحَ الدين يوسف بن أيوب، صاحِبَ مصر، واستدعوه ليُملكوه عليهم، فلما وصلت الرسُلُ إلى صلاح الدين بذلك لم يلبَثْ، وسار جريدة -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- في سبعمائة فارس، والفرنج في طريقه، فلم يبالِ بهم، ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج كلُّ من بها من العسكر إليه، فلَقُوه وخدموه، ودخل البلد، ونزل في دار والده المعروفةِ بدار العقيقي، وكانت القلعةُ بيد خادم اسمه ريحان، فأحضر صلاح الدين كمالَ الدين بن الشهرزوري وهو قاضي البلد والحاكِمُ في جميع أموره من الديوانِ والوقف وغير ذلك، وأرسَلَه إلى ريحان ليسَلِّمَ القلعة إليه، وقال: "أنا مملوكُ الملك الصالح، وما جئتُ إلَّا لأنصُرَه وأخدمه، وأعيدَ البلاد التي أُخِذَت منه إليه"، وكان يَخطُبُ له في بلاده كلها، فصَعِدَ كمال الدين إلى ريحان، ولم يزَلْ معه حتى سَلَّمَ القلعة، فصَعِدَ صلاح الدين إليها، وأخَذَ ما فيها من الأموال، وأخرجها واتَّسَع بها وثَبَّت قَدَمَه، وقَوِيَت نفسه، وهو مع هذا يُظهرُ الطاعة للملك الصالح، والخُطبة والسكة باسمه، والصالحُ يخاطِبُه بالمملوكِ.
هو السلطانُ الملك الناصر، ناصر الدين أبو الفتح محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، وُلِدَ الملك الناصر سنة 684، وكان قد أقيمَ النَّاصِرُ في السلطنة بعد أخيه الملك الأشرف خليل سنة 693، وعُمُرُه تسع سنين ثمَّ خُلِعَ في سادس عشر المحرم سنة أربع وتسعين، وأُرسِلَ إلى الكرك, ثمَّ أعيد إلى المُلكِ ثانيًا وعمره خمس عشرة سنة، فأقام في المُلك إلى سنة 708، وخرج يريدُ الحَجَّ، فتوجه إلى الكرك متبرمًا من سلار وبيبرس الجاشنكير أستاذ الدار وحَجْرِهما عليه ومَنْعِهما له من التصَرُّف، فأعرض الناصِرُ عن مصر، فوثب الجاشنكير على السلطنة وتسلطَنَ، ثم اضطربت أموره، وقَدِمَ الناصر من الشام إلى مصر، فمَلَكَ مَرَّةً ثالثة في شوال سنة 709 واستبَدَّ الناصر من حينئذ بالأمرِ مِن غير معارضٍ مدة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة وعشرين يومًا، كانت له فيها سِيَرٌ وأنباء، وكان الناصِرُ أطولَ ملوك زمانه عُمُرًا وأعظَمَهم مهابةً, ودانت له البلادُ ومَلَك الأطرافَ بالطاعة، لما زاد مرض السلطان بالإسهال وخارت قواه، أشار عليه بعضُ الأمراء أن يَعهَدَ بالمُلكِ إلى أحد أولادِه، فأجاب إلى ذلك فجعل ابنَه أبا بكر سلطانًا بعده، وأوصاه بالأمراءِ، وأوصى الأمراءَ به، وعَهِدَ إليهم ألا يُخرِجوا ابنَه أحمد من الكَركِ وحَذَّرَهم من إقامته سُلطانًا، وجعل قوصون وبشتاك وصِيَّيه، وإليهما تدبيرُ ابنِه أبي بكر وحلَّفَهما، ثمَّ حَلَّفَ السلطانُ الأمراءَ والخاصكية، وأكَّدَ على ولده في الوصيَّة بالأمراء، وأفرج عن الأمراءِ المسجونين بالشام، وهم طيبغا حاجي وألجيبغا العادلى وصاروجا، ثم قام الأمراء، فبات السلطانُ ليلة الثلاثاء، وأصبح وقد تخَلَّت عنه قوته، وأخذ في النزعِ يوم الأربعاء، فاشتَدَّ عليه كَربُ الموتِ حتى مات أول ليلة الخميس الحادي عشر من ذي الحجة، وله من العُمُرِ سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرًا وخمسة أيام, ودُفِنَ بالمدرسة المنصورية بين القصرين، أما السلطان الجديد فلقَّبَه الأمراء الأكابِرُ بالملك المنصور، وجَلَسوا حوله، واتَّفَقوا على إقامة الأمير سَيفِ الدين طقزدمر الحموي- زوج أمه- نائِبَ السُّلطةِ بديار مصر، وأن يكون الأميرُ قوصون مدبِّرَ الدولة ورأس المشورة، ويشارِكه في الرأي الأميرُ بشتاك.
مَلَكَ التكينُ صاحبُ سَمرقَند مَدينةَ تِرمِذ، وسَببُ ذلك أنَّه لمَّا بَلغَهُ وَفاةُ ألب أرسلان، وعَوْدُ ابنِه ملكشاه عن خُراسان، طَمِعَ في البِلادِ المُجاوِرَةِ له، فقَصدَ تِرمِذَ أوَّلَ رَبيعٍ الآخر، وفَتحَها، ونَقلَ ما فيها من ذَخائِر وغَيرِها إلى سَمرقَند.
عن عبدِ الله بنِ مَسعودٍ رضي الله عنه، قال: انشقَّ القَمرُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم شِقَّتينِ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اشْهَدوا». وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، «أنَّ أهلَ مكَّة سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُرِيَهُم آيةً، فأراهُم القَمرَ شِقَّتينِ، حتَّى رَأَوْا حِراءً بينهُما» وفي صحيحِ مُسلمٍ عن عبدِ الله بنِ مَسعودٍ قال: انشقَّ القَمرُ على عهدِ رسولِ الله صلَّى الله عَليهِ وسلَّم فِلقَتَينِ، فسَترَ الجبلُ فِلْقَةً، وكانتْ فِلْقَةٌ فوقَ الجبلِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اشْهدْ». والمشهورُ أنَّ انشِقاقَ القَمرِ حصلَ مَرَّةً واحدةً، أمَّا ما وردَ في إِحدى رِواياتِ مُسلمٍ: (.. فأَراهُم انشِقاقَ القَمرِ مَرَّتَينِ). فقد أجاب عنها العُلماءُ. ورَجَّحَ ابنُ القَيِّمِ وابنُ حَجَرْ وغيرُهما أنَّه وقع مَرَّةً واحدةً.
هو محمَّدُ بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو عبدِ الله المهدي، أميرُ المؤمنين، لُقِّبَ بالمهدي رجاءَ أن يكون الموعودَ به في الأحاديثِ، فلم يكُنْ به. وُلِدَ بالحميمة من أرض البلقاء سنة 126هـ، وقيل 127هـ، ووليَ الخلافةَ بعد أبيه سنة 158هـ في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائة، وعمُره إذ ذاك 33 سنة، وكان أسمرَ طويلًا جَعْدَ الشَّعرِ. وكان من مآثِره تتبُّعُه للزنادقة في عهدِه، حتى قُتِلَ عددٌ منهم صبرًا بين يديه, وقيل: إنَّ سبب وفاته أنَّه خرج إلى ماسبذان، بعد أن عزم على خلعِ ابنِه موسى الهادي والبيعة للرَّشيد بولايةِ العهد وتقديمه على الهادي، فبعث إليه فلم يأتِ فخرج المهديُّ إليه فمات في الطريق, بسبب إصابةٍ في ظَهرِه وهو يَلحَقُ الصيدَ، وقيل: بل مات مسمومًا، وكانت خلافتُه عشر سنين وشهرًا؛ ودُفِنَ تحت جوزة كان يجلِسُ تحتها، وصلى عليه ابنُه الرشيد.
سببُ ذلك أنَّ الموفَّقَ لَمَّا توفِّيَ كان له خادمٌ من خواصِّه يقال له: راغب، فاختار الجِهادَ، فسار إلى طرسوس على عَزمِ المُقام بها، فلما وصل إلى الشام سيَّرَ ما معه من دوابَّ وآلاتٍ وخيامٍ وغير ذلك إلى طرسوس، وسار هو إلى خمارَوَيه ليزورَه، ويُعَرِّفَه عزمَه، فلما لَقِيَه بدمشق أكرَمَه خمارَوَيه وأحَبَّه وأَنِسَ به، واستحيا راغِبٌ أن يطلُبَ منه المسيرَ إلى طرسوس، فطال مُقامُه عنده، فظنَّ أصحابُه أنَّ خمارَوَيه قبَضَ عليه، فأذاعوا ذلك، فاستعظَمَه الناسُ، وقالوا: يَعمِدُ إلى رجلٍ قصَدَ الجهادَ في سبيل الله فيَقبِضُ عليه! ثم شَغَّبوا على أميرهم محمد ابن عم خمارَوَيه، وقبضوا عليه، وقالوا: لا تزالُ في الحبسِ إلى أن يُطلِقَ ابنُ عَمِّك راغبًا، ونَهَبوا دارَه وهَتَكوا حَرَمَه، وبلغ الخبَرُ إلى خمارَوَيه، فأطْلَعَ راغبًا عليه، وأذِنَ له في المسيرِ إلى طرسوس، فلمَّا بلغ إليها أطلَقَ أهلُها أميرَهم، فلما أطلقوه قال لهم: قبَّحَ اللهُ جِوارَكم، وسار عنها إلى بيت المقدس فأقام به، ولَمَّا سار عن طرسوس عاد العجيفي إلى ولايتِها.
كان غزوُ العاصِ بنِ الإمام عبدِ الله الغَزاةَ المعروفةَ بغَزوةِ رية وفريرة. قاد الخيلَ أحمدُ بنُ محمد بن أبي عبدة. وفصَلَ يوم الخميس لتسعٍ بَقِينَ مِن شعبان؛ فتقدَّمَ إلى بلدة فحاربَها. ثم احتلَّ على نهر طلجيرة، فدارت بينه وبين أصحاب ابن حفصون حربٌ، عُقِرَت فيها خيلُ السُّلطان، وقُتِلَ عددٌ مِن أصحابِ ابنِ حفصون. ثمَّ تقدَّمَ إلى حصون إلبيرة؛ فنزل على حصنِ شبيلش، فكانت هنالك حربٌ شديدةٌ، ونالت بعضَ حُماةِ العَسكرِ جِراحٌ. وتجوَّلَ في كورة إلبيرة، وحلَّ بمحلة بجانة، ثمَّ قفل على كورة جيان، فنازل حِصنَ المنتلون يوم الأربعاء للَيلتين بَقِيتا من ذي القَعدة، فأقام عليه محاصِرًا أيامًا ثمَّ ضحَّى فيه يومَ الأحد، وقفل يومَ الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلَت من ذي الحِجة، ودخل قُرطبةَ يومَ الأربعاء، لأربعَ عَشرةَ ليلةً خَلَت من ذي الحِجَّة.
سار يوسُفُ بنُ أبي الساج من أذربيجان إلى الرَّيِّ، فحاربه أحمدُ بن عليٍّ أخو صعلوك، فانهزم أصحابُ أحمد وقُتِلَ هو في المعركة، وأنفذ رأسَه إلى بغداد؛ وكان أحمدُ بن عليّ قد فارق أخاه صعلوكًا، وسار إلى المقتَدِر فأُقطِعَ الريِّ، ثمّ عصى، وهادن ماكان بنَ كالي وأولاد الحسن بن علي الأطروش، وهم بطبرستان، وجُرجان، وفارق طاعةَ المقتَدِر وعصى عليه، ووصل رأسُه إلى بغداد، وكان ابنُ الفرات يقعُ في نصر الحاجب، ويقول للمقتَدِر إنَّه هو الذي أمر أحمدَ بنَ عليٍّ بالعصيان لمودَّةٍ بينهما، وكان قتلُ أحمدَ بنِ عليٍّ آخر ذي القعدة، واستولى ابنُ أبي الساج على الرَّيِّ، ودخلها في ذي الحجَّة، ثمَّ سار عنها في أوَّل سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة إلى همذان، واستخلف بالريِّ غُلامَه مُفلحًا، فأخرجه أهل الريِّ عنهم، فلَحِقَ بيوسُف، وعاد يوسفُ إلى الريِّ في جُمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة واستولى عليها.
سَيَّرَ تَميمٌ، صاحبُ إفريقية، عَسكرًا كَثيفًا إلى مَدينةِ قابس، وبها أحمدُ بن خُراسان قد أَظهرَ عليه الخِلافُ، وسَببُ ذلك أنَّ المُعِزَّ بن باديس، أبا تَميمٍ، لمَّا فارَقَ القَيروانَ والمَنصوريَّةَ ورَحلَ إلى المَهديَّة، استَخلفَ على القَيروان وعلى قابس قائدَ بنَ مَيمونٍ الصنهاجيَّ، وأَقامَ بها ثلاثَ سنين، ثم غَلبَتهُ هوارةُ عليها، فسَلَّمَها إليهم وخَرجَ إلى المَهدِيَّة، فلمَّا وَلِيَ المُلْكَ تَميمُ بن المُعِزِّ بعدَ أَبيهِ رَدَّهُ إلى قائدِ بنِ ميمونٍ، وأَقامَ عليها، ثم أَظهرَ الخِلافُ على تَميمٍ والْتَجأَ إلى طَاعةِ الناصرِ بن علناس بن حمَّادٍ، فسَيَّرَ إليه تَميمٌ عَسكرًا كَثيرًا، فلمَّا سَمِعَ بهم قائدُ بن مَيمونٍ عَلِمَ أنَّه لا طَاقةَ له بهم، فتَركَ القَيروانَ وسار إلى الناصرِ، فدَخلَ عَسكرُ تَميمٍ القَيروانَ، وخَرَّبوا دُورَ قائدٍ، وسار العَسكرُ إلى قابس، وبها ابنُ خُراسان، فحَصَروهُ بها سَنةً وشَهرينِ، ثم أَطاعَ ابنُ خُراسان تَميمًا وصالَحهُ.
لَمَّا قُتِل الآمر بحكم الله الفاطمي ولم يكن له ولد ذكَرٌ بعده، وقد كان عَهِد بالولاية لحملٍ كان ما يزال في بطنِ أمِّه منه، فوَلِيَ بعده ابن عمه الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله، ولم يبايَع بالحكم، وإنما بُويعَ له لينظُرَ في أمر الحمل أيكون ذكرًا أم أنثى، ويكون هو نائبًا عنه، ولما وليَ استوزر أبا علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي، واستبدَّ الوزير بالأمر، وتغلَّب على الحافظ وحجر عليه، وأودعه في خزانة، ولا يدخل إليه إلا من يريده أبو علي، وبقي الحافِظُ له اسم لا معنى تحته، ونقل أبو علي كلَّ ما في القصر إلى داره من الأموال وغيرها، ولم يزَل الأمر كذلك إلى أن قُتِل أبو علي سنة ست وعشرين وخمسمائة، فاستقامت أمور الحافظ، وحكم في دولته، وتمكَّن من ولايته وبلاده.