توفِّيَ أماجور والي دمشق، فتولى ابنُه مكانَه، فتجهَّزَ ابنُ طولون ليسيرَ إلى الشام فيَملِكَه، فكتب إلى ابن أماجور له أنَّ الخليفة قد أقطعه الشَّامَ والثغور، فأجابه بالسَّمعِ والطاعة، وسار أحمد، واستخلف بمصرَ ابنَه العباس، فلقيه ابن أماجور بالرملة، فأقره عليها وسار إلى دمشق فمَلَكَها وأقرَّ أماجور على أقطاعِهم، وسار إلى حمص فملَكَها وكذلك حماة، وحلب. وراسلَ سيما الطويل بأنطاكية يدعوه إلى طاعتِه ليُقِرَّه على ولايته، فامتنع، فعاوده فلم يُطِعْه، فسار إليه أحمد بن طولون، فحَصَره بأنطاكيَّة، وكان سيئَ السيرة مع أهل البلد، فكاتبوا أحمد بن طولون، ودلُّوه على عورة البلد، فنصَبَ عليه المجانيقَ وقاتَلَه، فمَلَك البلدَ عَنوةً، والحِصنَ الذي له، وركب سيما وقاتلَ قتالًا شديدًا حتى قُتِل ولم يعلَمْ به أحدٌ، فاجتاز به بعضُ قوَّاده، فرآه قتيلًا فحمَلَ رأسَه إلى أحمد، فساءه قَتلُه. ورحل عن أنطاكية إلى طرسوس، فدخلها وعزم على المُقام بها وملازمة الغُزاة، فغلا السِّعرُ بها وضاقت عنه وعن عساكِرِه، فركب أهلُها إليه بالمخيم وقالوا له: قد ضَيَّقْتَ بلَدَنا وأغليتَ أسعارَنا؛ فإمَّا أقمْتَ في عددٍ يَسيرٍ، وإمَّا ارتحلْتَ عنَّا، وأغلظوا له القولَ، وشَغَّبوا عليه، فقال أحمد لأصحابه: لتنهَزِموا من الطرسوسيين، وترحلوا عن البلد، ليظهَرَ للنَّاسِ وخاصةً العدُوَّ أنَّ ابن طولون على بُعدِ صِيتِه وكثرةِ عَساكِرِه لم يقدِرْ على أهل طرسوس؛ وانهزم عنهم ليكونَ أهيبَهم في قلبِ العَدُو، وعاد إلى الشام. فأتاه خبَرُ ولده العباس- وهو الذي استخلفه بمصرَ- أنه قد عصي عليه، وأخذ الأموالَ وسار إلى بُرقة مُشاقًّا لأبيه، فلم يكتَرِثْ لذلك، ولم ينزعِجْ له، وثبتَ وقضى أشغاله، وحَفِظَ أطراف بلاده، وتَركَ بحرَّانَ عسكرًا وبالرِّقَّة عسكرًا مع غلامِه لؤلؤ، وكان حرَّان لمحمد بن أتامش، وكان شجاعًا فأخرجه عنها وهزمه هزيمةً قبيحةً، فلمَّا بلغ خبَرُه أخاه موسى بن أتامش، وكان شُجاعًا بطلًا فجمع عسكرًا كثيرًا وسار نحو حَرَّان، وبها عسكَرُ ابن طولون، ومُقَدَّمُهم أحمد ابن جيعويه، فلما وصله خبَرُ مسيرِ موسى أقلقَه ذلك وأزعجه، ففَطِنَ له رجلٌ مِن الأعرابِ، يقال له أبو الأغر، فقال له: أيُّها الأميرُ، أراك مفكِّرًا منذ أتاك خبَرُ ابن أتامش، وما هذا محلَّه؛ فإنَّه طيَّاشٌ قَلِقٌ، ولو شاء الأميرُ أن آتيَه به أسيرًا لفعلتُ، فغاظه قولُه، وقال: قد شئتُ أن تأتيَ به أسيرًا؛ قال: فاضمُمْ إليَّ عشرينَ رجلًا أختارُهم، قال: افعَلْ، فاختار عشرينَ رجلًا وسار بهم إلى عسكر موسى، فلمَّا قاربَهم كَمَنَ بعضُهم، وجعل بينه وبينهم علامةً إذا سَمِعوها ظهروا. ثم دخل العسكرَ في الباقينَ في زي الأعرابِ، وقارب مُضارَب موسى، وقصد خيلًا مربوطةً فأطلَقَها وصاح هو وأصحابُه فيها فنَفَرت، وصاح هو ومَن معه من الأعراب، وأصحابُ موسى غارُّون، وقد تفَرَّق بعضُهم في حوائجهم، وانزعج العسكَرُ، ورَكِبوا ورَكِبَ موسى، فانهزم أبو الأغَرِّ من بين يديه، فتَبِعَه حتى أخرجه من العسكرِ، وجاز به الكمينَ، فنادى أبو الأغَرِّ بالعلامة التي بينهم، فثاروا من النواحي، وعطفَ أبو الأغرِّ على موسى فأسَروه، فأخذوه وساروا حتى وصلوا إلى ابنِ جيعويه، فعَجِبَ الناس من ذلك، فسيَّرَه ابن جيعويه إلى ابن طولون، فاعتَقَله وعاد إلى مصر.
كان المستنصِرُ بالله أبو القاسِمِ أحمَدُ بن أمير المؤمنين الظاهِر مُعتقَلًا ببغداد فأُطلِقَ، وكان مع جماعةِ الأعراب بأرض العراق، ثم قصَدَ الظاهر بيبرس حين بلغه تسلطُنَه بمصر، فقدم إليه بصحبته جماعةٌ مِن أمراء الأعراب عشرةٌ منهم الأمير ناصر الدين مهنا في ثامن رجب من هذه السنة، فخرج السلطانُ الظاهر ومعه الوزير والشهود والمؤذنون فتلَقَّوه وكان يومًا مشهودًا، وخرج أهلُ التوراة بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ودخل مِن باب النصر في أبهةٍ عظيمة، فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب جلس السلطان والخليفة بالإيوان بقلعةِ الجبل، والوزيرُ والقاضي والأمراء على طبقاتهم، وأثبت نَسَب الخليفة المستنصر بالله على الحاكِم تاج الدين بن الأعز، وهذا الخليفةُ هو أخو المستنصر باني المستنصريَّة، وعم المستعصِم بالله، فبويع بالخلافةِ بمصرَ، بايعه المَلِك الظاهر والقاضي والوزير والأمراء، وركب في دست الخلافةِ بديار مصر والأمراء بين يديه والناسُ حَولَه، وشَقَّ القاهرة في ذلك اليوم، وهو الخليفة الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، بينه وبين العباس أربعة وعشرون أبًا، قال عز الدين بن عبد السلام: لما أخَذْنا في بيعة المستنصر باللهِ، قلت للملك الظاهر: بايِعْه، فقال: ما أُحسِنُ، لكن بايِعْه أنت أوَّلًا وأنا بعدك، فكان أوَّلَ من بايعه القاضي تاج الدين لما ثَبت نَسَبه، ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والدولة، وخطب له على المنابر، وضُرِبَ اسمُه على السكة وكان مَنصِبُ الخلافة قد شغر منذ ثلاثِ سنين ونصف؛ لأنَّ المستعصم بالله قُتِلَ في أول سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة، وقد أُنزل الخليفةُ المستنصر بالله وحَشَمُه في البرج الكبير بقلعة الجبل، فلما كان يوم سابع رجب ركب في السواد وجاء إلى الجامِعِ بالقلعة فصَعِدَ المنبر وخطب خطبةً ذكر فيها شَرَفَ بني العباس، ثم استفتح فقرأ صدرًا من سورة الأنعام، ثم صلى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم ترضى عن الصحابةِ ودعا للسلطان الظاهر، ثم نزل فصلى بالنَّاسِ فاستحسنوا ذلك منه، وكان وقتًا حسنًا ويومًا مشهودًا، ثم لما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفةُ والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحَل والعَقدِ إلى خيمة عظيمةٍ قد ضُرِبَت ظاهِرَ القاهرةِ فجلسوا فيها، فأُلبِسَ الخليفةُ السلطان بيده خلعةً سوداء، وطوقًا في عنقه، وقيدًا في رجليه وهما من ذهب، ثمَّ إن الخليفة طلب من السلطان أن يجَهِّزَه إلى بغداد، فرتَّبَ السلطان له جندًا هائلة وأقام له من كل ما ينبغي للخلفاء والملوك، ثم سار السلطانُ بصحبته قاصدين دمشق فدخلوا دمشقَ يوم الاثنين سابع ذي القعدة، وكان يومًا مشهودًا، وصلَّيَا الجمعة بجامع دمشق، وكان دخولُ الخليفة من باب البريد، ودخل السلطانُ من باب الزيارة، وكان يومًا مشهودًا أيضًا، ثم جهَّزَ السلطان بيبرس الخليفةَ المستنصر بالله إلى بغداد ومعه أولاد صاحِبِ الموصل, وأنفق عليه وعليهم وعلى من استقَلَّ معه من الجيش الذين يَرِدونَ عنه من الذَّهَب العين ألف ألف دينار، وأطلق له وزاده، فجزاه الله خيرًا.
بَلَغ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن بني المُصطَلِقِ -وهم بَطنٌ من قَبيلةِ خُزاعةَ الأزديَّةِ اليَمانيَّةِ- يَجمَعون لقِتالِه، وقائِدُهمُ الحارِثُ بن أبي ضِرارٍ؛ فلمَّا سَمِع رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهم خَرَج إليهم حتَّى لَقيَهم على ماءٍ لهم يُقال له: (المُرَيسيعُ)، ولذلك تُسَمَّى هذه الغَزوةُ أيضًا: بغَزوةِ المُرَيسيعِ. فتَزاحَفَ النَّاسُ واقتَتَلوا، فهَزَمَ اللهُ بني المُصطَلِقِ وقُتِلَ مَن قُتِلَ منهم، ونَفَلَ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبناءَهم ونِساءَهم وأموالَهم فأفاءَهم عليه، وكان فيمَن سُبي جُوَيريةُ رَضي اللهُ عنها بنتُ الحارِثِ بنِ أبي ضِرارٍ سيِّدِ بني المُصطَلِقِ، التي تزوَّجَها رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين جاءَته تَستَعينُه في كِتابَتِها، وجَعَل صَداقَها رَضي اللهُ عنها أربَعينَ أسيرًا مِن قَومِها، فأعتَقَ النَّاسُ ما بأيديهِم من الأسرَى؛ لمَكانِ جُويريةَ رَضي اللهُ عنها. وأثناءَ الرُّجوعِ من هذه الغَزوةِ تكلَّم أهلُ الإفكِ بما تَكَلَّموا به في حقِّ أُمِّ المؤمنين عائِشةَ رَضي اللهُ عنها، الصِّدِّيقةِ بنتِ الصِّدِّيقِ المُبَرَّأةِ من فَوقِ سَبعِ سمواتٍ. وفيها أيضًا قال ابنُ أبيٍّ ابنُ سَلولَ قَوْلَتَه: "لَئِن رَجَعنا إلى المَدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ!"، فسَمِعَه زيدُ بن أرقَمَ، ونَزَلت سورةُ "المنافقون".
أَمَرَ عُثمانُ عبدَ الله بن سعدِ بن أبي السَّرْحِ أن يَغْزُوَ بِلادَ أفريقيا فإذا افتَتَحها الله عليه فله خُمُسُ الخُمُسِ مِن الغَنيمةِ نَفْلًا، فسار إليها في عشرةِ آلافٍ فافتَتَحها سَهْلَها وجَبَلَها، وقتَل جُرْجِيرَ مَلِكَ الرُّومِ وخَلْقًا كثيرًا مِن أهلِها، ثمَّ اجتمَع أهلُ أفريقيا على الإسلامِ، وحَسُنَتْ طاعتُهم. أخَذ عبدُ الله بن سعدِ خُمُسَ الخُمُسِ مِن الغَنيمةِ، ثمَّ بعَث بخُمُسٍ إلى عُثمانَ، وقَسَّمَ الباقي بين الجيشِ، فأصاب الفارِسُ ثلاثةَ آلافِ دِينارٍ، والرَّاجِلُ ألفَ دِينارٍ. ثمَّ ضرَب عبدُ الله بن أبي السَّرْحِ فُسْطاطًا في مَوضِع القَيْروانِ، ووَفَّدَ وَفْدًا مِن جُندِه لِعُثمانَ، فشَكَوْا عبدَ الله فيما أخَذ، فقال لهم: أنا نَفَّلْتُه, وقد أَمرتُ له بذلك، وذاك إليكم الآن، فإن رَضِيتُم فقد جاز، وإنَّ سَخِطْتُم فهو رَدٌّ. قالوا: فإنَّا نَسْخَطُه. قال: فهو رَدٌّ. وكتَب إلى عبدِ الله بِرَدِّ ذلك واسْتِصْلاحِهم، قالوا: فاعْزِلْهُ عَنَّا، فإنَّا لا نُريدُ أن يَتَأَمَّرَ علينا، وقد وقَع ما وقَع. فكتَب إليه أن اسْتَخْلِفْ على أفريقيا رجلًا ممَّن تَرضى ويَرْضَوْنَ، واقْسِمْ الخُمُسَ الذي كُنتَ نَفَّلْتُكَ في سَبيلِ الله، فإنَّهم قد سَخِطوا النَّفْلَ. ففعَل، ورجَع عبدُ الله بن سعدٍ إلى مِصْرَ وقد فتَح أفريقيا.
هو جُنْدُب بن جُنادة أبو ذَرٍّ الغِفاريُّ كان طُوالًا آدمَ، وكان يَتعبَّدُ قبلَ مَبعثِ رسولِ الله. صلَّى الله عليه وسلَّم، وأَسلمَ بمكَّةَ قديمًا، وقال: كنتُ في الإسلامِ رابعًا. ورجَع إلى بلادِ قومِه فأقام بها حتَّى مَضَتْ بدرٌ وأُحُدٌ والخندقُ، ثمَّ قدِم المدينةَ، كان أبو ذَرٍّ شُجاعًا يَنفَرِد وحدَه فيقطعُ الطَّريقَ ويُغِيرُ على الصِّرْمِ كأنَّه السَّبُعُ، ثمَّ إنَّ الله قذَف في قَلبِه الإسلامَ وسمِع بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمكَّةَ فأَتاهُ، تُوفِّيَ أبو ذَرٍّ رضِي الله عنه بالرَّبْذَةِ، وكان قد أَوْصى امْرأَتَه وغُلامَه: إذا مِتُّ فاغْسِلاني, وكَفِّناني, ثمَّ احْمِلاني فَضَعاني على قارعةِ الطَّريقِ، فأوَّلُ رَكْب] يَمُرُّون بكم فقولوا: هذا أبو ذَرٍّ. فلمَّا مات فعلوا به كذلك، فطلَع رَكْبٌ, فما عَلِموا به حتَّى كادت رَكائبهم تَطَأُ سَريرَهُ، فإذا ابنُ مَسعودٍ في رَهْطٍ مِن أهلِ الكوفةِ، فقال: ما هذا؟ فقِيلَ: جِنازةُ أبي ذَرٍّ، فاسْتَهَلَّ ابنُ مَسعودٍ يبكي، ثمَّ غَسَّلوهُ وكَفَّنوهُ وصَلُّوا عليه ودَفَنوه، فلمَّا أرادوا أن يَرتَحِلوا قالت لهم ابنتُه: إنَّ أبا ذَرٍّ يقرأُ عليكم السَّلامَ, وأَقْسَمَ ألَّا تَركبوا حتَّى تَأكُلوا. ففعلوا، وحَمَلوهم حتَّى أَقدَموهُم إلى مكَّةَ، ونَعَوْهُ إلى عُثمانَ رضِي الله عنه فضَمَّ ابنتَه إلى عِيالِه.
عَيَّنَ الوَليدُ بن عبدِ الملك عُمَرَ بنَ عبدِ العزيز على إِمارَةِ المَدينَة بعدَ أن عَزَلَ هِشامَ بن إسماعيلَ عن وِلَايَتِها، ثمَّ ضَمَّ إليه وِلايَةَ الطَّائِف سنة 91هـ، وبذلك صار وَالِيًا على الحِجازِ كُلِّها, وكانت إمارتُه عليها أربعَ سِنين غير شَهرٍ أو نَحوِه، فقَدِمَها وَالِيًا وثَقَلُه على ثلاثين بَعِيرًا، فنَزَل دارَ مَرْوان، وجَعَل يَدخُل عليه النَّاسُ فيُسَلِّمون، فلمَّا صلَّى الظُّهْرَ دَعَا عَشرةً مِن الفُقَهاء الذين في المدينة: عُرْوَةَ بن الزُّبير، وأبا بَكْر بن سُليمان بن أبي خَيْثَمَة، وعُبيدَ الله بن عبدِ الله بن عُتْبَة بن مَسْعود، وأبا بَكْر بن عبدِ الرَّحمن بن الحارِث، وسُليمان بن يَسار، والقاسِم بن محمَّد، وسالِم بن عبدِ الله بن عُمَرَ، وعبدَ الله بن عُبيدِ الله بن عُمَرَ، وعبدَ الله بن عامِر بن ربِيعَة، وخارِجَة بن زَيدٍ، فدَخَلُوا عليه، فقال لهم: إنَّما دَعَوْتُكم لِأَمْرٍ تُؤْجَرُون عليه, وتَكُونون فيه أَعوانًا على الحَقِّ، لا أُريدُ أن أَقْطَعَ أَمْرًا إلَّا بِرَأْيِكم، أو بِرَأْيِ مَن حَضَر منكم، فإن رَأيتُم أَحدًا يَتَعَدَّى, أو بَلَغَكُم عن عامِلٍ لي ظُلْمٌ، فأُحَرِّجُ اللهَ على مَن بَلغَهُ ذلك إلَّا بَلَّغَنِي. فخَرجُوا يَجْزُونَهُ خَيْرًا وافْتَرقوا.
كانت الرَّها بيدِ نَصرِ الدَّولة بن مروان، فلمَّا قُتِلَ عَطير الذي كان صاحِبَها، شَفَعَ صالحُ بنُ مرداس، صاحِبُ حَلَب، إلى نَصرِ الدَّولة ليُعيدَ الرَّها إلى ابنِ عطير، وإلى ابنِ شبلٍ، بينهما نِصفَينِ، فقَبِلَ شَفاعَتَه، وسَلَّمَها إليهما، وكان في الرَّها برجانِ حَصينانِ أحَدُهما أكبَرُ من الآخر، فتَسَلَّمَ ابنُ عطير الكبير، وابنُ شبل الصَّغيرَ، وبَقِيَت المدينةُ معهما إلى هذه السَّنة، فراسل ابنُ عطير أرمانوس مَلِكَ الروم، وباعَه حِصَّتَه من الرَّها بعشرينَ ألف دينار، وعِدَّة قُرًى من جملتِها قريةٌ تُعرَفُ إلى الآن بسن ابن عطير، وتسَلَّموا البرُجَ الذي له، ودخلوا البلَدَ فمَلَكوه، وهرب أصحابُ ابنِ شبل من البُرجِ الآخَر، وقَتَل الرُّومُ المُسلِمين، وخَرَّبوا المساجِدَ، وسَمِعَ نَصرُ الدَّولة الخبَرَ، فسَيَّرَ جيشًا إلى الرها، فحصَروها وفتَحوها عَنوةً، واعتصم مَن بها مِن الرُّومِ بالبُرجَينِ، واحتمى النَّصارى بالبيعةِ التي لهم، وهي من أكبَرِ البِيَعِ وأحسَنِها عِمارةً، فحَصَرهم المسلمونَ بها، وأخرَجوهم، وقَتَلوا أكثَرَهم، ونَهَبوا البلدَ، وبَقِيَ الرومُ في البرجين، وسَيَّرَ إليهم عسكرًا نحو عشرةِ آلاف مقاتل، فانهزم أصحابُ ابنِ مَروانَ مِن بينِ أيديهم، ودخَلوا البلدَ وما جاوَرَهم من بلادِ المُسلِمينَ، وصالحهم ابنُ وَثَّاب النميري على حَرَّان وسروج وحمَلَ إليهم خراجًا.
اجتمع ثلاثةُ مُلوكٍ مِن ملوك الهند، وقَصَدوا لاهور وحَصَروها، فجمع مُقَدَّم العساكر الإسلامية بتلك الديار مَن عندَه منهم، وأرسل إلى صاحِبِه مودود يستنجِدُه، فسَيَّرَ إليه العساكِرَ فاتَّفَقَ أنَّ بعض أولئك الملوك فارَقَهم وعاد إلى طاعةِ مودود، فرحل الملكانِ الآخران إلى بلادِهما، فسارت العساكرُ الإسلاميَّة إلى أحدهما، ويُعرَفُ بدوبال هرباته، فانهزم منهم، وصَعِدَ إلى قلعةٍ له منيعةٍ هو وعساكِرُه، فاحتَمَوا بها، وكانوا خمسةَ آلاف فارس وسبعين ألف راجلٍ، وحصرهم المسلمونَ وضَيَّقوا عليهم، وأكثروا القتلَ فيهم، فطلب الهنودُ الأمانَ على تسليم الحِصنِ، فامتنع المسلمونَ مِن إجابتِهم إلى ذلك إلَّا بعد أن يُضيفوا إليه باقيَ حصونِ ذلك المَلِك الذي لهم، فحَمَلهم الخوفُ وعدمُ الأقواتِ على إجابتِهم إلى ما طلبوا وتسَلَّموا الجميع، وغَنمَ المسلمونَ الأموال، وأطلقوا ما في الحصونِ مِن أسرى المسلمين، وكانوا نحو خمسةِ آلاف، فلمَّا فَرَغوا من هذه الناحية قَصَدوا ولايةَ المَلِك الثاني، واسمه تابت، بالرَّيِّ، فتقدم إليهم ولَقِيَهم، فاقتَتَلوا قتالًا شديدًا، وانهزمت الهنودُ، وأجْلَت المعركةُ عن قتلِ مَلِكِهم وخمسةِ آلاف قتيل، وجُرِحَ وأُسِرَ ضِعفُهم، وغَنِمَ المسلمونَ أموالهم وسلاحَهم ودوابَّهم. فلما رأى باقي الملوكِ مِن الهند ما لقي هؤلاء أذعنوا بالطاعةِ، وحملوا الأموالَ، وطَلَبوا الأمانَ والإقرارَ على بلادهم، فأُجيبوا إلى ذلك.
سار السليطين- وهو الأذفونش مَلِكُ طليطلة وأعمالِها، وهو مِن مُلوك الجلالقة، نوعٌ من الفرنج- في أربعينَ ألفَ فارسٍ إلى مدينةِ قُرطُبةَ، فحَصَرَها، وهي في ضَعفٍ وغَلاءٍ، فبَلَغَ الخبَرُ إلى عبدِ المؤمن وهو في مراكش، فجَهَّزَ عَسكرًا كثيرًا، وجعَلَ مُقَدَّمَهم أبا زكرياء يحيى بن يرموز، ونفَذَهم إلى قُرطُبةَ، فلَمَّا قَرُبوا منها لم يَقدِروا أن يلقَوا عسكَرَ السليطين في الوطاءِ، وأرادوا الاجتماعَ بأهلِ قُرطُبةَ ليَمنَعوها لخَطَرِ العاقبةِ بعد القتال، فسَلَكوا الجِبالَ الوَعْرةَ والمضايقَ المُتشَعِّبةَ، فساروا نحوَ خمسة وعشرين يومًا في الوَعرِ في مسافة أربعةِ أيَّامٍ في السَّهلِ، فوصلوا إلى جَبَلٍ مُطِلٍّ على قرطبة، فلمَّا رآهم السليطين وتحَقَّقَ أمرَهم رحَلَ عن قُرطُبةَ، فلما رحل الفرنجُ خرَجَ منها أميرُها لوَقتِه وصَعِدَ إلى ابنِ يرموز، وقال له: انزِلوا عاجلًا وادخُلوا البلد؛ ففعلوا، وباتوا فيها، فلما أصبحوا من الغَدِ رأوا عَسكَرَ السليطين على رأسِ الجَبَلِ الذي كان فيه عَسكَرُ عبد المؤمن، فقال لهم أبو الغمر: "هذا الذي خِفتُه عليكم؛ لأني عَلِمتُ أنَّ السليطين ما أقلَعَ إلَّا طالبًا لكم، فإنَّ مِن المَوضِعِ الذي كان فيه إلى الجَبَلِ طَريقًا سهلةً، ولو لَحِقَكم هناك لنال مرادَه منكم ومِن قُرطُبةَ"، فلمَّا رأى السليطين أنَّهم قد فاتوه عَلِمَ أنَّه لم يَبقَ له طَمَعٌ في قُرطُبةَ، فرحل عائدًا إلى بلادِه، وكان حَصرُه لقُرطُبةَ ثلاثةَ أشهُرٍ.
سَبَبُه أنَّه لَمَّا قُبِضَ على الوزير منجك، خرج الأميرُ قمارى الحموي، وبيده ملطفات لأمراء صفد بالقَبضِ على أحمد، فبلغه ذلك من هجان جَهَّزه إليه أخوه، فندب الأمير أحمد الساقي طائفةً من مماليكه لتلَقِّي قمارى، وطلب نائب قلعة صفد وديوانه، وأمره أن يقرأَ عليه كم له بالقلعة من غَلَّة، فأمر لمماليكه منها بشيءٍ فَرَّقه عليهم إعانةً لهم على ما حصَل من المحْلِ في البلاد، وبعثهم ليأخذوا ذلك، فعندما طلعوا القلعة شَهَروا سيوفهم ومَلَكوها، فقَبَض الأمير أحمد الساقي على عِدَّة من الأمراء، وطلع بحريمِه إلى القلعة وحَصَّنَها، وأخذ مماليكُه قمارى، وأتوه به فكتب السلطان لنائب غزة ونائب الشام تجريدَ العسكر إليه، ورسَمَ بالإفراج عن فياض بن مهنا وعيسى بن حسن الهجان أمير العايد، وخلَعَ عليه وجهَّزه، وأخذت الهجن من جمال الدين بقر أمير عرب الشرقية، وأعيدت إلى علي بن حسن، وكانت الأراجيفُ قد كثرت بأن الأمير طاز قد تحالف هو والأمير بيبغا روس بعقبة أيلة، فخرج الأمير فياض وعيسى بن حسن أمير العايد؛ ليقيما على عقبة أيلة، بسبب بيبغا روس، وكتب لعرب شطي وبني عقبة وبني مهدي بالقيامِ مع الأمير فضل، وكتب لنائب غزَّة بإرسال السوقة إلى العقبة.
كان المنصور أحمد السعيدي قد فرَّق عمالات المغرب على أولادِه، فاستعمل محمد الشيخ المأمون على فاس والغرب وولَّاه ولاية العهد من بعده، واستعمل زيدان على تادلا وأعمالها، واستخلفه عند نهوضه إلى فاس؛ للقضاء على ثورة ابنه الشيخ المأمون، وعيَّن ابنه أبي فارس على مراكش وأعمالها, فلما بلغ أهل مراكش وفاةُ المنصور وكتب إليهم أهلُ فاس بمبايعتهم لزيدان، امتنعوا وبايعوا أبا فارس لكونه خليفةَ أبيه بدارِ مُلكه التي هي مراكش، ولأن جلَّ الخاصة من حاشية أبيه كان يميلُ إلى أبي فارس؛ لأن زيدان كان منتبِذًا عنهم بتادلا سائر أيام أبيه، فلم يكن لهم به كثيرُ إلمام ولا مزيدُ استئناسٍ، مع أنه كان جديرًا بالأمر؛ لعلمه وأدبه وكمال مروءته, فلما شقَّ أهل مراكش العصا على زيدان صدرت فتوى من قاضي فاس ابن أبي النعيم ومفتيها أبي عبد الله القصَّار تتضمن التصريحَ بحديث (إذا بويعَ خليفتان فاقتلوا الآخَرَ منهما) وكانت بيعة أبي فارس بمراكش يوم الجمعة أواخر ربيع الأول من هذه السنة، وهو شقيق الشيخ المأمون، أمُّهما أم ولد اسمها الجوهر، ويقال الخيزران. واسمُ أبي فارس هذا عبد الله وتلقب بالواثق بالله، وكان أكولًا عظيم البطن مصابًا بمس الجن.
استطاع محمود بن أويس الأفغاني أن ينهي دولة الصفويين في إيران، ثم عقبه أشرف بن عبد العزيز ابن عمه، وكان طهماسب بن حسين الصفوي الذي فرَّ من أصفهان يريد استرجاعَ الملك، وكان قد تعاقد مع الروس على أن يُعينوه ضدَّ الأفغان على أن يتخلى لهم عن البلاد الشمالية من إيران، وكان نادر شاه قائد جيوشه فزحفوا إلى أصفهان لطرد أشرف الأفغاني الذي تولى بعد محمود الأفغاني، وكان السكان الإيرانيون الذين بقوا في إيران قد ساعدوا في القتال وانضموا لجيش طهماسب ونادر شاه، واستطاع نادر بعد حروب شديدة أن يستردَّ أصفهان، فصارت القوةُ كلُّها لنادر شاه، مع أن المُلك لطهماسب، ولكن الأمر لم يدُمْ طويلًا حتى أصبح نادر شاه حاكمًا على خراسان وكرمان وخوارزم وسيستان، ثم تمَّ له الأمر بواسطة الحرب مع العثمانيين الذين كانوا يغيرون على البلاد الغربية لإيران، ثم عاد نادر إلى خراسان لثورة الأفغان فيها، وتقدَّم طهماسب إلى جهة الأتراك ليكمل القتال عن نادر، لكنه كُسِر كسرة عنيفة فعقد الصلح مع الأتراك، فلما سمِعَ نادر بذلك خلعه وعيَّن مكانه ابنه عباسًا الطفل، وصار هو الوصيَّ عليه، ثم مات هذا الطفل فصار هو الملك باسم حِفظِ البلاد من الفوضى والأعداء، ويُذكر أن أصل نادر هو من الأفشار من خراسان، وبذلك بدأت دولة الأفشار وانتهت تمامًا دولة الصفويين.
نزل الإمامُ فيصل بجنودِه على ماء الصريف من أرضِ القصيمِ، فأقام عليها أكثَرَ مِن شهر حتى بلغه أنَّ خالد بن سعود وإسماعيل بك وعساكِرَهم نزلوا الرسَّ، فرحل الإمام ونزل عُنَيزة، واستنفر أهلَها، فركب معه أميرُها يحيى بن سليمان، ورئيسُ بريدة عبد العزيز بن محمد، ونزل في رياض بلد الخبرا بين الرس والخبرا، فأقام فيها عشرين يومًا، وهو ملازم عسكر الترك في الرس ومحاربٌ لهم، ولكن لم يحصُلْ بينه وبينهم قِتالٌ، ولا طلع عليه أحدٌ منهم، حاول أن يُدخِلَ بعضَ جنوده بلد الشنانة عند الرسِّ، لكنهم لم يتمكَّنوا، فاستشار الرؤساءَ في الرحيل أو المقام، فأشاروا عليه أن يأمُرَ بالرحيل إلى عُنَيزة، ثم يَشُنَّ الغارةَ بمن معه على الذين تابعوا عساكِرَ الترك فلما شُدَّت رحايلهم وحمَّل عليها، ظَنَّ أناس من أطراف الغزو أن القومَ راحلون ومنهَزِمون فشالوا على رواحِلِهم ووقع الفشَلُ في جندِه، فأمر فيصل رجالَه بتسكينِهم، وضَرَب من رحَلَ وانهزم منهم، فقاموا وأدَّبوا فيهم فسكنوا وباتوا في مكانِهم، فلما أصبح فيصل ركِبَ بجنوده قاصدًا عنيزة فوقع فشَلٌ وخِفَّةٌ في جيشه، فلما نزل عنيزة شاور رؤساء قومه المقامَ أو الرحيل، فاقتضى رأيه أن يرحل ويقصِدَ بلده، وأذن لأهلِ النواحي يقصِدون بلدانَهم.