كُتِبَ بتَجريدِ عَسكَرِ دمشق وطرابلس وحماة وحلب، ونواب الثغور وتركمان الطاعة وأكرادها، إلى جهة التركمان العصاة بالبلاد السيسية، كالصارم بن رمضان نائب أدنه وبني أوزر، وابن برناص من طائفة الأجقية؛ لمقاتلتهم على تعديهم طريقَهم، وقطْعِهم الطرقات، ونهْبِهم حُجَّاج الروم، ولاتفاقهم مع الأمير علاء الدين علي بك بن قرمان صاحب لارندة على اقتلاع بلاد سيس، فتأهَّبت العساكِرُ لذلك ووافت حلب، فتقَدَّمها الأميرُ يلبغا الناصري نائب حلب، وركب من حَلَب في ثاني ذي القعدة يريد العُمقَ، وكتب إلى بني أوزر وبقية التركمان العصاة، ينذرهم ويحذرهم التخَلُّفَ عن الحضور إلى الطاعة، ويخَوِّفهم بأس العساكر، وإنَّهم إن أذعنوا وأطاعوا كانوا آمنينَ على أنفُسِهم وأموالِهم، ومن تخَلَّف كان غنيمةً للعساكرِ، وسار حتى نزل تحتَ عُقبة بغِراسٍ، فعرض العساكِرَ، وتَرَك الثِّقلَ وتوجَّه مُخِفًّا، وجاوز عقبةَ بغراس، وترك بها نائبي عينتاب وبغراس بخيَّالتهما ورجالهما؛ حِفظًا للدربند إلى أن تصل العساكِرُ الشاميَّة، ثم ركب في الثلث الأول من ليلة الأحد الخامس عشر وسار مجِدًّا، فوصل المصيصة عصرَ نهار الأحد فوجد الأميرين قد ملكا الجسرَ بعد أنْ هدم التركمانُ بَعضَه، وقطعوا منه جانبًا لا يمنع الاجتيازَ، وتوقَّدَت بينهم نارُ الحرب، وعَدت العساكر نهر جاهان إلى جانِبِ بلاد سيس، واقتَفَوا آثار من كان بالمصيصة من التركمان، فأدركوا بعض البيوت فانتهبوها، فتعلق الرِّجالُ بشعف الجبال، ثم حضرت قصاد التركمان على اختلاف طوائفِهم يسألون الأمان، فأجاب الأميرُ يلبغا الناصري سؤالَهم، وكتب لهم أمانًا، ولما أحس الصارمُ بن رمضان بالعساكر، ترك أذنة وفَرَّ إلى الجبال التي لا تُسلَك، ووصلت الأطلابُ والثقل إلى المصيصة في السابع عشر، فقَدِمَ من الغد الثامن عشر قاصد الأمير طَشبغا العزي نائب سيس بخبر وصول ابن رمضان إلى أطراف البلاد السيسية، وأنه ركب في أثَرِه ومعه طائفةٌ من التركمان القرمانيين، فأدركوا بيوتَه فانتهبوها، وأمسكوا أولادَه وحريمه ونجا بنفسه، ولَحِقَ بالتركمان البياضية مستجيرًا بهم، فأجمعت الآراءُ على التوجه بالعساكر إلى جهتهم وإمساكِه، فقَدِمَ الخبر من نائب سيس في آخر النهار بأنه استمَرَّ في طلب ابن رمضان إلى أن أدركه وأمسَكَه، وأمسك معه أخاه قرا محمد وأولاده وأمه وجماعته وعاد إلى سيس، فسُرَّت العساكر بذلك سرورًا زائدًا، ورحلت في التاسع عشر تريد سيس، وأحاطت بطائفةٍ من التراكمين اليراكية، فانتهبت كثيرًا من خيل ومتاع وأثاث، ثم أمنوهم بسؤالهم ذلك وتفَرَّقت جموع التركمان بالجبال، ومرت العساكر إلى جهة سيس، وأُحضِرَ ابنُ رمضان وأخوه قرا محمد ومن أُمسِك معهما، فوُسِّطوا، وعاد العسكرُ يريد المصيصة، وركبَ الأمير يلبغا الناصري بعسكرِ حلب وسَلَبِهم جَبلًا يُسَمَّى صاروجا شام، وهو مكانٌ ضَيِّقٌ حَرَجٌ وَعْرٌ به جبالٌ شوامخ وأودية عِظام، مُغَلَّقة بالأشجار والمياه والأوحال، وبه دربندات خطرة، لا يكادُ الراجل يسلُكُه، فكيف بالفارِسِ وفَرَسِه الموفرين حملًا باللَّبوس؟! وإذا هم بطائفةٍ مِن التركمان اليراكية، فجرى بينهم القتال الشديد، فقُتِلَ بين الفريقين جماعةٌ، وفُقِدَ الأمير يلبغا الناصري وجماعة من أمراء حلب، وإذا بهم قد تاهوا في تلك الأودية، ثم تراجع الناسُ وقد فُقِدَ منهم طائفة، ووصل الخبر بأن التركمان قد أحاطوا بدربند باب الملك، فالتجؤوا إلى مدينة إياس، ثم قَدِمَ يلبغا الناصري إلى إياس بعد انقطاع خبره، فتباشروا بقدومِه، وأقاموا عليها أيامًا ثم رحلوا، فلقيهم التركمان في جمع كبير، فكانت بينهم وقعةٌ لم يمُرَّ لهم مثلُها، قُتِلَ فيها خلق كثير، وانجَلَت عن كسرة التركمان بعد ما أبلى فيها الناصريُّ بلاء عظيمًا، وارتحل العسكرُ يوم عيد الأضحى إلى جهة بإياس، فما ضُرِبَت خيامهم بها حتى أحاط بهم التركمان وأنفذوا فرقةً منهم إلى باب الملك، فوقَفوا على دربندة ومنعوا عنهم الميرة، فعَزَّت الأقوات عند العسكر، وجاعت الخيولُ، وكَثُرَ الخوف وأشرفوا على الهلاك، إلَّا أن الله تداركهم بخَفِيِّ لُطفِه؛ فقَدِمَ عليهم الخبر بوصول الأمير سودن المظفري حاجِبِ الحجَّاب بحلب في عِدَّة من الأمراء، وقد استخدم من أهل حَلَبٍ ألفَ راجلٍ من شبان بانقوسا، ودفعوا لكل واحد منهم مائة درهم، وخرج العُلَماء والصلحاء وغالِبُ الناس، وقد بلغهم ما نزل بالعسكر، ونودي بالنفيرِ العام، فتَبِعَهم كثير من الرجَّالة والخيَّالة والأكراد ببلد القصير والجبل الأقرع وغيره من أعمال حلب، فقام بمؤنتهم الحاجِبُ ومن معه من الأمراء، وهجموا على باب الملك، فمَلَكوه وقتلوا طائفةً ممن كان به من التركمان، وهزموا بقيَّتَهم، ففرح العسكرُ بذلك فرحًا كبيرًا، وساروا إلى باب الملك حتى جاوزوا دربنده ونزلوا بغراس، ثم رحلوا إلى أنطاكية وقدموا حلب، فكانت سفرةً شديدةَ المشقةِ؛ بُلُوا فيها من كثرةِ تتابع الأمطار الغزيرة، وتوالي هبوب الرياح العاصفة، وكثرة الخوف، ومقاساة آلام الجوع- ما لا يمكِنُ وَصفُه.
اجتمَعَ كثيرٌ مِن الأُمَراءِ وأصحابِ الأطرافِ على الخُروجِ عن طاعةِ السُّلطانِ مَسعود، فسار المَلِكُ داود بن السُّلطان محمود في عسكَرِ أذربيجان إلى بغداد، فوصَلَها رابِعَ صَفَر، ونزل بدارِ السُّلطان، ووصل أتابك عماد الدين زنكي بَعدَه مِن المَوصِل، ووصل يرنقش بازدار صاحِبُ قزوين وغيرها، والبقش الكبيرُ صاحب أصفهان، وصَدقةُ بنُ دبيس صاحِبُ الحلة، ومعه عنترُ بنُ أبي العسكر الجاواني يدَبِّرُه، ويُتَمِّمُ نَقصَ صِباه، وابنُ برسق، وابن الأحمديلي، وخرج إليهم مِن عَسكَرِ بغدادَ كج أبه والطرنطاوي وغيرهما، وجعل المَلِكُ داود في شحنكية بغداد يرنقش بازدار، وقبض الخليفةُ الراشِدُ بالله على ناصحِ الدَّولة أبي عبد الله الحَسَن بن جهير أستاذ الدار، وهو كان السَّبَبَ في ولايتِه، وعلى جَمالِ الدولةِ إقبالِ المسترشدي، وكان قد قَدِمَ إليه من تكريت، وعلى غيرِهما من أعيانِ دَولتِه، فتغَيَّرَت نِيَّاتُ أصحابِه عليه وخافوه. فأمَّا جَمالُ الدَّولةِ؛ فإنَّ أتابك زنكي شَفَعَ فيه شفاعةً تحتها إلزامٌ، فأُطلِقَ وصار إليه ونزل عنده، وخرج موكِبُ الخليفةِ مع وزيرِه جلالِ الدينِ أبي الرضا بن صدقة إلى عمادِ الدِّينِ زنكي لتَهنئتِه بالقدوم، فأقام الوزيرُ عنده، وسأله أن يمنَعَه من الخليفةِ فأجابه إلى ذلك، وعاد الموكِبُ بغير وزير، وأرسل زنكي مَن حَرَسَ دارَ الوزيرِ مِن النَّهبِ، ثم أصلحَ حالَه مع الخليفة، وأعاده إلى وزارتِه. وكذلك أيضًا عبَرَ عليه قاضي القضاة الزينبي، وسار معه إلى الموصِل، ثمَّ إنَّ الخليفةَ جَدَّ في عمارةِ السُّورِ، فأرسل المَلِكُ داود مَن قَلَع أبوابَه، وأخرب قطعةً منه، فانزعج الناسُ ببغداد، ونقلوا أموالَهم إلى دارِ الخلافة، وقُطِعَت خُطبةُ السُّلطان مسعود، وخُطِبَ للملك داود وجَرَت الأيمانُ بين الخليفة والملك داود وعمادِ الدينِ زنكي، وأرسل الخليفةُ إلى زنكي ثلاثين ألفَ دينار ليُنفِقَها، ووصل الملِكُ سلجوق شاه إلى واسط فدخَلَها وقَبَض على الأميرِ بك أبه ونهَبَ مالَه وانحدَرَ زنكي إليه لدَفْعِه عنها واصطلحا وعاد زنكي إلى بغداد وعبَرَ إلى طريق خراسان، وحثَّ على جمعِ العساكِرِ للِقاءِ السُّلطانِ مَسعود، وسار المَلِكُ داود نحو خراسانَ أيضًا، فنَهَب العسكَرُ البلادَ وأفسدوا، ووصلت الأخبارُ بمَسيرِ السُّلطان إلى بغداد لقِتالِ الملك، وفارق الملِكُ داود وزنكي، فعاد زنكي إلى بغداد، وفارق المَلِكُ داود، وأظهر له أن يمضيَ إلى مراغة إذ فارقَ السُّلطان مسعود إلى همذان، فبرز الراشِدُ بالله إلى ظاهِرِ بغدادَ أوَّلَ رمَضان، وسار إلى طريقِ خُراسان، ثم عاد بعد ثلاثةِ أيَّامٍ ونزل عند جامِعِ السُّلطانِ، ثمَّ دخل إلى بغداد خامِسَ رَمَضان، وأرسَلَ إلى داود وسائرِ الأُمَراء يأمُرُهم بالعَودِ إلى بغداد، فعادوا، ونزلوا في الخيامِ، وعَزَموا على قِتالِ السُّلطان مسعودٍ مِن داخِلِ سورِ بغداد، ووصَلَت رسُلُ السُّلطان مسعود يبذُلُ مِن نفسِه الطاعةَ والمُوافَقةَ للخليفة والتهديدَ لِمَن اجتمع عنده، فعرض الخليفةُ الرِّسالةَ عليهم، فكُلُّهم رأى قتاله، فقال الخليفة: وأنا معكم على ذلك.
أمر نائِبُ السُّلطانِ الأميرُ الحاج آل ملك والي القاهرة بأن يُنزَل إلى خزانة البنود بالقاهرة، ويُحتاطَ على ما بها من الخَمرِ والبغايا، ويخرج مَن فيها من النَّصارى الأسرى، ويريق ما هناك من الخُمور، ويخرِّبها حتى يجعَلَها دكًّا، وسبَبُ ذلك أنَّ خِزانةَ البنود كانت يومئذٍ حانةً، بعدما كانت سجنًا يُسجَنُ فيه الأمراءُ والجُندُ والمماليك، كما أنَّ خِزانةَ شمائِل سجنٌ لأرباب الجرائِمِ من اللصوصِ وقُطَّاع الطريق، فلما كانت دولةُ السلطان الملك الناصر محمَّد بن قلاوون بعد عَودِه من الكرك، وشُغِفَ بكثرةِ العماراتِ، اتَّخَذ الأسرى وجَلَبَهم إلى مصر من بلاد الأرمن وغيرها، وأنزَلَ عِدَّةً كثيرةً منهم بقلعة الجبل، وجماعةً كثيرة بخزانة البنود، فملأ أولئك الأرمن خزانةَ البنود حتى بطل السِّجنُ بها، وعَمَرها السلطانُ الناصر مساكِنَ لهم، وتوالدوا بها، وعَصَروا الخمورَ بحيث إنَّهم عصروا في سنة واحدة اثنتين وثلاثين ألف جَرَّة، باعوها جِهارًا، وكان لحمُ الخنزير يُعَلَّقُ عندهم على الوضم، ويباعُ مِن غيرِ احتشامٍ، واتَّخَذوا عندهم أماكِنَ لاجتماع النَّاسِ على المحَرَّمات، فيأتيهم الفُسَّاق ويظَلُّونَ عندهم الأيامَ على شُربِ الخُمورِ ومُعاشرة الفواجِر والأحداثِ، ففَسَدت حُرَمٌ كثيرةٌ من الناسِ وكثيرٌ مِن أولادِهم وجماعةٌ مِن مماليك الأمراءِ فسادًا شَنيعًا، حتى إنَّ المرأةَ إذا تركت أهلَها أو زوجَها، أو الجاريةَ إذا تركت مواليَها، أو الشَّابَّ إذا ترك أباه، ودخل عند الأرمن بخزانةِ البنودِ، لا يقدِرُ أن يأخُذه منهم، ولو كان مَن كان! فقام الأميرُ الحاج آل ملك في أمرِهم، وفاوض السُّلطانَ المَلِكَ الناصِرَ محمدَ بن قلاوون في فسادِهم غيرَ مرة، فلم يجِبْه إلى أن أكثَرَ عليه، فغَضِبَ السلطان عليه، وقال له: يا حاج! كم تشتكي مِن هؤلاء، إن كان ما يُعجِبُك مُجاوَرَتَهم انتَقِلْ عنهم! فشَقَّ ذلك عليه، وركِبَ إلى ظاهر الحُسَينية واختار مكانًا، وعَمَره دارًا، وأنشأ بجانِبِها جامعًا، وحَمَّامًا ورَبْعًا وحوانيت، وبَقِيَت في نفسِه حزازاتٌ حتى أمكنَتْه القدرةُ منهم، وانبسَطَت يدُه فيهم بكونِه نائِبَ السُّلطانِ، فنزل والي القاهرةِ ومعه الحاجِبُ وعِدَّةٌ من أصحاب النائِبِ، وهجموا خزانةَ البنود، وأخرجوا جميعَ سُكَّانِها، وكَسَروا أوانيَ الخَمرِ، فكانت شيئًا يجِلُّ وَصفُه كثرةً، وهدموها واشترى أرضَها الأميرُ قماري مِن بيت المالِ، وتقَدَّمَ إلى الضياء المحتَسِب أن يناديَ بتَحكيرِها، فرَغِبَ النَّاسُ في أرضها واحتكَروها، وبَنَوها دُورًا وطواحينَ وغَيرَها، فكان يومُ هَدمِ خزانة البنود يومًا مَشهودًا من الأيامِ المشهورةِ المذكورة، عَدَلَ هَدْمُها فتحَ طرابلُس وعكا؛ لكثرةِ ما كان يُعمَلُ فيه بمعاصي اللهِ! ثمَّ طلب النائِبُ الأميرُ الحاج واليَ القلعةِ، وألزَمَه أن يفعَلَ ذلك ببيوت الأسرى من القلعةِ، فمضى إليها وكَسَّر جِرارَ الخَمرِ التي بها، وأنزلهم من القلعةِ، وجعَلَهم مع نصارى خزانةِ البنود في مَوضِعٍ بجوار الكوم، فيما بين جامِعِ ابن طولون ومصر، فنزلوه واتخَذوا به مساكِنَهم، وكانت الأسرى التي بالقلعة من خواصِّ الأسرى، وعليهم كان يعتَمِدُ السلطان المَلِكُ الناصر محمد بن قلاوون في أمر عمائِرِه، وكانوا في فَسادٍ كبيرٍ مع المماليكِ وحرَمِ القلعةِ، فأراح الله منهم، ثم رسم الأميرُ الحاج آل ملك النائب بتتَبُّع أهل الفساد، فمَنَع الناسَ مِن ضَربِ الخِيَم على شاطئ النيلِ بالجزيرةِ وغَيرِها للنُّزهة، وكانت محلَّ فَسادٍ كبيرٍ؛ لاختلاطِ الرِّجالِ فيها بالنِّساءِ، وتعاطيهم المُنكَرات.
كانا الأميران نوروز وشيخ مشتركينِ في العصيان على السلطان الناصر فرج بن برقوق حتى تم لهما التغلب عليه، وقاما بسلطنة الخليفة المستعين بالله الذي فوض إلى الأمير نوروز كفالة الشام جميعه: دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزة، وجعل له أن يعيِّنَ الأمراء والإقطاعات لمن يريده ويختاره، وأن يولي نواب القلاع الشامية والسواحل وغيرها لمن أراد من غير مراجعة في ذلك، غير أنه يطالع الخليفة، ثم إن الأمير شيخًا استطاع أن يتسلطن ويخلع الخليفة من السلطنة فهذا ما أثار حفيظة نوروز الذي استدعى جميع النواب بالبلاد الشامية، فخرج الأمير نوروز إلى ملاقاتهم، والتقاهم وأكرمهم، وعاد بهم إلى دمشق، وجمع القضاة والأعيان، واستفتاهم في سلطنة الملك المؤيد شيخ وحبسه للخليفة وما أشبه ذلك، فلم يتكلم أحد بشيء، وانفضَّ المجلس بغير طائل، وأخذ الأمير نوروز في تقوية أموره واستعداده لقتال الملك المؤيد شيخ، وطلب التركمان، وأكثر من استخدام المماليك، وبلغ الملك المؤيد شيخًا ذلك فخلع في ثالث ذي الحجة من السنة على الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش المدعو سيدي الكبير باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن الأمير نوروز الحافظي، فلما وصل قرقماس سيدي الكبير إلى غزة، سار منها في تاسع صفر وتوجَّه إلى صفد واجتمع بأخيه تغري بردي سيدي الصغير، ثم خرج في أثرهما الأمير ألطنبغا العثماني نائب غزة، والجميع متوجِّهون لقتال الأمير نوروز فقرَّروا البدء بأخذ حلب لَمَّا بلغهم خروج نوروز منها إلى جهة دمشق، فعاد نوزوز من حلب إلى دمشق، فأقاموا بالرملة، ولما بلغ نوروز قدوم قرقماس بمن معه إلى الرملة سار لحربهم، وخرج من دمشق بعساكره، فلما بلغ قرقماس وأخاه ذلك عادا بمن معهما إلى جهة الديار المصرية عجزًا عن مقاومته حتى نزلا بالصالحية، ثم إن السلطان جهز جيشًا وسيَّره إلى الشام للقاء نوروز، ثم في شهر صفر في ثامنه من السنة 817 نزل السلطان شيخ على قبة يلبغا خارج دمشق، وقد استعد نوروز وحَصَّن القلعة والمدينة، فأقام السلطان أيامًا، ثم رحل ونزل بطرف القبيبات، وكان السلطان -من الخربة- قد بعث قاضي القضاة مجد الدين سالم الحنبلي إلى الأمير نوروز ومعه قرا أول المؤيدي في طلب الصلح، فامتنع من ذلك، ووقعت الحرب، فانهزم نوروز، وامتنع بالقلعة في السادس والعشرين ونزل السلطان بالميدان، وحاصر القلعة، ورمى عليها بالمكاحل والمدافع والمنجنيق، حتى بعث نوروز بالأمير قمش الأمان، فأُجيبَ ونزل من القلعة، ومعه الأمراء: طوخ، ويشبك بن أزدمر، وسدن كستا، وقمش، وبرسبغا، وأينال، فقُبِض عليهم جميعًا في الحادي والعشرين شهر ربيع الآخر، وقُتِل من ليلته، وحُمِل رأسه على يد الأمير جرباش إلى القاهرة، وعلى يده كتب البشارة، وذلك أن الأمير كزل نائب طرابلس قَدِمَ في العشر الأخير من صفر، وقاتل عسكر نوروز، فركب السلطان بمن معه، فانهزم النوروزية إلى القلعة، وملك السلطان المدينة، ونزل بالإسطبل ودار السعادة، وحصر القلعة، وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى قدم رأس نوروز، فعُلِّقَ على باب القلعة!
بعد أن تسلطن الظاهر جقمق أصبح الأمير قرقماس هو أتابك العساكر وهو الأمير الكبير، ثم في ربيع الآخر ثارت عدة من المماليك القرانصة الذين قاموا مع السلطان العزيز يوسف بن برسباي قبل ذلك على الأشرفية، وطلبوا الآن من السلطان الزيادة في مرتباتهم، فنزل إليهم الأمير قرقماس ووعدهم بأن يكلم السلطان بذلك، ولكنهم أبوا إلَّا أن يقاتلوا السلطان واستطاعوا أن يقنعوا الأمير قرقماس بأن يكون معهم ضِدَّ السلطان، فلبسوا سلاحهم ولبس هو الآخر أيضًا، وأتاه كثير من الأشرفية، وساروا به حتى وقف بالرميلة تجاه باب السلسلة، وهم في اجتماعهم مختلفة آراؤهم، وعندما وقف تجاه باب السلسلة من القلعة سار بعض أتباعه ونادى في القاهرة على لسانه بمجيء المماليك إلى الأمير قرقماس، وأنه ينفق فيهم مائتي دينار لكل واحد، وبمجيء الزعر إليه وأنه يعطي كل واحد منهم عشرين دينارًا، فعَظُم جمعُه، بحيث توهَّم كثير من الناس أن الأمر له، وكان السلطان عند ذلك في نفر قليل، فبادر بنزوله من القصر إلى المقعد الذي بجانب باب السلسلة، ومعه المال، وبعث بجماعة للقتال، فوقعت الحربُ بين الفريقين مرارًا، والجراح فاشية فيهم، وقد قُتِل جماعة وتعَيَّن الغلب لقرقماس ومن معه، إلا أن عدة من الأمراء فرُّوا عنه، وصعدوا من باب السلسلة إلى السلطان، فسُرَّ بهم، ثم أقبل أيضًا من جهة الصليبة عدة أمراء، ووقفوا تجاه قرقماس في هيئة أنهم جاؤوا ليقاتلوا معه، ثم ساقوا خيولهم بمن معهم، ودخلوا باب السلسلة، وصاروا مع السلطان، فازداد بهم قوة، هذا وقد دُقَّت الكوسات -قطعتان من نحاس يدق بإحداهما على الأخرى بإيقاع مخصوص- السلطانية حربيًّا بالطبلخاناه من القلعة، وقامت ثلاثة مشاعلية على سور القلعة تنادي من كان في طاعة السلطان فليحضُرْ وله من النفقة كذا وكذا، ونثر مع ذلك السلطان من المقعد على العامة ذهبًا كثيرًا، وصار يَقِفُ على قدميه ويحَرِّض أصحابه على القتال، فأقبلت الفرسان نحوه شيئًا بعد شيء داخلة في طاعته، وتركت قرقماس، والحرب مع هذا كله قائمة بين الفريقين ضربًا بالسيوف، وطعنًا بالرماح، إلا أن الرمي من القلعة على قرقماس ومن معه بالنشاب كثيرٌ جدًّا، مع رمى العامة لهم بالحجارة في المقاليع؛ لبغضها في قرقماس وفي الأشرفية، فتناقص جمعهم، وتزايد جمع السلطان إلى قبيل العصر، فتوجه بعض الأشرفية وأخذوا في إحراق باب مدرسة السلطان حسن؛ ليتمكنوا من الرمي على القلعة من أعلاها، فلم يثبت قرقماس، وفَرَّ وقد جُرِح، فثبتت الأشرفية وقاتلت ساعة، حتى غُلِبت بالكثرة عليها، فانهزمت بعدما قُتِل من الفرسان والرجالة جماعة، وجُرح الكثير، فممن جُرح من السلطانية الأمير تغري بردي المعروف بالمؤذي حاجب الحجاب من طعنة برمح في شدقه، والأمير أسنبغا الطيارى الحاجب في آخرين، فكانت هذه الوقعة من الحروب القوية بحسب الوقت، إلا أن قرقماس جرى فيها على عادته في العجلة والتهور، ففاته الحزم، وأخطأه التدبير من وجوه عدة؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} وعندما انهزم القوم ندب السلطان الأمير أقبغا التمرازي أمير سلاح في جماعة؛ لطلب المنهزمين، فتوجه نحو سرياقوس خشية أن يمضوا إلى الشام، فكانوا أعجز من ذلك، ولم يجد أحدًا فعاد، ثم قُبِض على الأمير قرقماس، ثم سُجِن بالإسكندرية، ثم قُتِل بعد عدة أشهر.
لما ملك شاه رخ ابن الطاغية تيمورلنك، واستقلَّ بممالك العجَم وعراقة، وعظُمَ أمرُه وهابَتْه الملوك، وحُمِدَت سيرته، وشُكِرت أفعالُه، وقَدِمَت رسله إلى البلاد المصرية مرارًا عديدة, وراسلته ملوكُ مصر، إلى أن تسلطن الملك الأشرف برسباي، طلب شاه رخ أن يكسو البيت الشريف، فأبى الأشرفُ برسباي وخشَّن له الجواب. وترددت الرسلُ بينهما مرارًا، واحتجَّ شاه رخ أنَّه نذر أن يكسو البيت الشريف، فلم يلتفت الأشرف برسباي إلى كلامه، ورد قُصَّاده إليه بالخيبة. ثم أرسل بعد ذلك شاه رخ بجماعة أُخرى وزعم أنهم أشراف، وعلى يدِهم خلعة للملك الأشرف برسباي، فجلس الأشرف مجلسًا عامًّا للحكم بالإصطبل السلطاني على عادة الملوك، ثم طلب القصَّاد رسل شاه رخ، فحضروا ومعهم الخِلعة، فأمر بها الأشرف فمُزِّقت الخلعة شذَرَ مذَرَ، ثم أمر بضرب حامِلِها عظيم القصَّاد، فضُرِبَ بين يديه ضربًا مُبَرِّحًا أشرف منه على الهلاك، ثم ضَرَب الباقين، ثم أمر بهم فأُلقوا في فسقية ماء بالإصطبل السلطاني منكوسين، رؤوسُهم إلى أسفل وأرجلهم إلى فوق، والأوجاقية تمسِكُهم بأرجلهم، واستمرُّوا يغمسِونَهم في الماء حتى أشرفوا على الهلاكِ، ولا يستجرئُ أحد من الأمراء يشفَعُ فيهم ولا يتكلَّم؛ لشدة غضب السلطان في أمرِهم بكلمةٍ واحدة، والسلطان يسبُّ شاه رخ جهارًا، ويحطُّ من قَدْره، على أنه كان قليلَ الفحش والسبِّ لآحاد الناس، وصار لونُه يتغير لعِظَمِ حَنَقِه، ثم طلب القصَّادَ بين يديه، وحدَّثَهم بكلام طويل، محصولُه أنه قال لهم: قولوا لشاه رخ: الكلامُ الكثيرُ ما يصلحُ إلا من النساء، وأما الرجالُ فإن كلامهم فعلٌ، لا سيما الملوك، فإن كان له مادة وقوَّة فيتقَدَّم ويسير نحوي، وأنا ألقاه حيث شاء، وإن كان بعد ذلك ما ينتجُ منه أمرٌ فكلامُه كله فشارٌ، وهو أفشَرُ من كلامه، وكتب له بأشياءَ من هذا المعنى، وانفَضَّ الموكب، فتحققَّ كل واحد بمجيء شاه رخ إلى البلاد الشاميَّةِ، وقاسوا على أنَّه ما أرسل هذه الخِلعةَ إلا وهو قد تهيأ للقتال، وقد أفحش الأشرفُ أيضًا وأمعن في الجوابِ. فلما بلغ القان شاه رخ ما فعل الأشرف بقصَّاده، ما زاده ذلك إلا رعبًا، وسكت عن كسوةِ الكعبة، ولم يذكُرْها بعد ذلك إلى أن مات الملِكُ الأشرف، وآل المُلكُ إلى الملك الظاهر جقمق، فبعث شاه رخ رسُلَه إلى الملك الظاهر بهدايا وتُحَف، وأظهر السرورَ الزائد بسلطنته، وأنَّه لما بلغه سلطنة الملك الظاهر جقمق دُقَّت البشائر بهراة، وزُيِّنت له أيامًا، فأكرم الملك الظاهر جقمق قصَّاده وأنعم عليهم، ثم بعث السلطان إليه في الرسلية الأمير ششك بغا دوادار السلطان بدمشق، فتوجَّه إليه وعاد إلى السلطان الملك الظاهر جقمق بأجوبة مرضية. ثم بعد ذلك في سنة 846، أرسل شاه رخ يستأذِنُ في إرسال ما نذر قديمًا أنه يكسو الكعبة، فأذِنَ له السلطان الملك الظاهر جقمق في ذلك، فأرسل شاه رخ بعد ذلك كسوةً للكعبة. فصعب ذلك على الأمراء وعلى أعيان الديار المصريةِ، فلم يلتفِت السلطانُ لكلامهم، وأمر أن يأخُذَها ناظِرُ الكسوة بالقاهرة، ويبعَثَها كي تلبسَ من داخل البيت، وتكون كسوةُ السلطان من خارج البيت على العادةِ، قال ابن تغري بردي: "رأيتُ أنا الكسوةَ المذكورة، وما أظنُّها تساوي ألف دينار".
هو الأمير ألوغ بك بن القان معين الدين شاه رخ، ابن الطاغية تيمورلنك كوركان بن أيتمش قنلغ بن زنكي بن سنيا بن طارم بن طغريل بن قليج بن سنقور بن كنجك بن طغر سبوقا بن التاخان، المغولي الأصل، من طائفة جغتاي، وقيل: اسمه تيمور على اسم جدِّه، وقيل: محمد. صاحب سمرقند، فريد دهره ووحيد عصره في العلوم العقلية، والهيئة، والهندسة، طوسي زمانه، وهو حنفيُّ المذهب. ولد في حدود 790، ونشأ في أيام جدِّه، وتزوج في أيامه, ولما مات جدُّه تيمور وآل الأمر إلى أبيه شاه رخ ولَّاه سمرقند وأعمالها فحكمها نيِّفًا وثلاثين سنة، وعمل بها رصدًا عظيمًا انتهى به إلى سنة وفاته، وقد جمع لهذا الرَّصد علماء هذا الفنِّ من سائر الأقطار، وأغدق عليهم الأموالَ، وأجرى لهم الرواتبَ الكثيرة، حتى رحل إليه علماء الهيئة والهندسة من البلاد البعيدة، وهُرِعَ إليه كل صاحب فضيلة، وهو مع هذا يتلفت إلى من يسمع به من العلماء في الأقطار، ويُرسِلُ يطلب من سمِعَ به. هذا مع علمه الغزير وفضله الجمِّ واطلاعه الكبير وباعه الواسعِ في هذه العلوم، مع مشاركةٍ جيدة إلى الغاية في فقه الحنفية، والأصلين، والمعاني، والبيان، والعربية، والتاريخ، وأيام الناس. قيل: إنه سأل بعض حواشيه: ما تقول الناس عنِّي؟ وألحَّ عليه، فقال: يقولون: إنك ما تحفظ القرآنَ الكريم، فدخل من وقته وحَفِظَه في أقل من ستة أشهر حفظًا مُتقَنًا. وكان أسنَّ أولاد أبيه، واستمَرَّ بسمرقند إلى أن خرج عن طاعتِه ولدُه عبد اللطيف، وسببه أنه لما ملك ألوغ بك هراة طَمِعَ ابنه عبد اللطيف أن يوليَه هراة فلم يفعل، وولَّاه بلخ، ولم يعطِه من مال جدِّه شاه رخ شيئًا. وكان ألوغ بك هذا مع فضله وغزير علمِه مسيكًا كوالده لا يصرف المال إلا بحقه، فسأمَتْه أمراؤه لذلك، وكاتبوا ولده عبد اللطيف في الخروج عن طاعتِه، وكان في نفسه ذلك، فانتهز الفرصة وخرج عن الطَّاعة، وبلغ أباه الخبر فتجرَّد لقتاله، والتقى معه، وفي ظنِّه أن ولده لا يثبُت لقتالِه، فلما التقى الفريقان وتقابلا هرب جماعة من أمراء ألوغ بك إلى ابنه، فانكسر ألوغ بك وهرب على وجهه، وملك ولدُه سمرقند، وجلس على كرسي والده أشهرًا ثم بدا لألوغ بك العود إلى سمرقند، ويكون المُلك لولدِه، ويكون هو كآحاد الناس، واستأذن ولدَه في ذلك فأذن له، ودخل سمرقند وأقام بها، إلى أن قبض عبد اللطيف على أخيه عبد العزيز وقتله صبرًا في حضرة والده ألوغ بك، فعظم ذلك عليه، فإنَّه كان في طاعته وخدمته حيث سار، ولم يمكِنْه الكلام فاستأذن ولده عبد اللطيف في الحجِّ فأذن له، فخرج قاصدًا للحجّ إلى أن كان عن سمرقند مسافة يوم أو يومين، وقد حذَّر بعض الأمراء ابنَه منه، وحسَّن له قتله، فأرسل إليه بعض أمرائه ليقتُلَه، فدخل عليه مخيَّمه واستحيا أن يقول: جئتُ لقَتْلِك، فسلَّم عليه ثم خرج، ثم دخل ثانيًا وخرج، ثم دخل ففطن ألوغ بك، وقال له: لقد علمتُ بما جئتَ به فافعل ما أمَرَك به، ثم طلب الوضوء وصلَّى، ثم قال: واللهِ لقد علمت أنَّ هلاكي على يد ولدي عبد اللطيف هذا من يومِ وُلِدَ، ولكن أنساني القدر ذلك، والله لا يعيشُ بعدي إلَّا خمسة أشهُرٍ ثم يقتل أشرَّ قِتلةٍ، ثم سلَّم نفسَه فقُتِل، وقُتِلَ ولدُه عبد اللطيف بعد خمسة أشهر!!
ورد الخبَرُ في يوم السبت رابع عشر محرم بمنازلة الفرنج الإسكندرية، وأنهم قدموا يوم الأربعاء حادي عشر، فسُرِّح الطائِرُ بذلك إلى الأمير يلبغا، فتوهَّمَ أن تكون هذه مكيدةً يُكادُ بها، فبادَرَ ودخل إلى داره خارِجَ القاهرة، وتَبِعَه السلطان، فصَعِدَ القلعة في يوم الأحد خامس عشر، فلما تحقَّق الأمير يلبغا الخبَرَ، عدى النيلَ مِن ساعته إلى البر الغربي، وتلاحق به أصحابُه، ونودِيَ بالقاهرة: من تأخَّرَ مِن الأجناد غدًا حَلَّ دَمُه ومالُه، فخرج الناس أفواجًا، وسار السلطانُ بعساكره إلى الطرانة، وقَدَّمَ عسكرًا عليه الأمير قطلوبغا المنصوري والأمير كوكنداي، والأمير خليل بن قوصون ليُدرِكوا أهلَ الثَّغرِ، فقَدَّر الله تعالى في ذلك أنَّ أهلَ الثغر كان قد بلَغَهم منذ أشهر اهتمام الفرنج بغزوهم، فكتب بذلك الأميرُ صلاح الدين خليل بن عرام- متولي الثغر- إلى السلطان والأمير يلبغا، فلم يكُنْ مِن الدولة اهتمامٌ بأمْرِهم، فلمَّا توجه ابنُ عرام إلى الحج، واستناب عنه في الثغر الأمير جنغرا- أحد أمراء العشرات- وجاء أوان قدوم مراكب البنادقة من الفرنج، لاح للناظور عِدَّة قلاع في البحر، ثم قَدِمَ في عسكره يوم الأربعاء الحادي والعشرين إلى الميناء، ثمانية أغربة، وتلاها من الأغربة والقراقر ما بلَغَت عدَّتُها ما بين سبعين إلى ثمانين قطعة، فأغلق المسلمون أبواب المدينة، ورَكِبوا الأسوار بآلةِ الحرب، وخرجت طائفةٌ إلى ظاهر البلد، وباتُوا يتحارسون، وخرجوا بُكرةً يوم الخميس يريدونَ لِقاءَ العَدُو، فلم يتحَرَّك الفرنجُ لهم طولَ يَومِهم، وليلة الجمعة، فقَدِمَ بكرة يوم الجمعة طوايفُ من عربان البحيرة وغيرهم، ومضوا جهةَ المنار، وقد نزل من الفرنجِ جَماعةٌ في الليل بخيولهم، وكَمَنوا في الترب التي بظاهر المدينة، فلما تكاثر جمعُ المسلمين من العربان، وأهل الثغر، عند المنار، برز لهم غرابٌ إلى بحر السلسلة، حتى قارب السورَ، فقاتله المسلمون قتالًا شديدًا، قُتِلَ فيه عدة من الفرنج، واستُشهِدَ جماعةٌ من المسلمين، وخرج إليهم أهلُ المدينة وصاروا فرقَتَين، فرقة مضت مع العربان، نحو المنار، وفرقة وقفت تقاتل الفرنج بالغراب، وخرجت الباعةُ والصبيان وصاروا في لهوٍ، وليس لهم اكتراثٌ بالعدو، فضرب الفرنج عند ذلك نفيرَهم، فخرج الكمينُ وحملوا على المسلمينَ حملة منكرة، ورمى الفرنجُ من المراكب بالسِّهام، فانهزم المسلمون، وركب الفرنجُ أقفِيَتَهم بالسيف، ونزل بقيَّتُهم إلى البَرِّ فملكوه، بغير مانعٍ، وقَدَّموا مراكبهم إلى الأسوار، فاستُشهِدَ خَلقٌ كثير من المسلمين، وهلك منهم في الازدحامِ عند عبور باب المدينة جماعةٌ، وخلت الأسوارُ من الحماة، فنصب الفرنجُ سلالم ووضعوا السور، وأخذوا نحو الصناعة، فحرقوا ما بها، وألقَوا النار فيها، ومضوا إلى باب السدرة، وعَلَّقوا الصليب عليه، فانحشر الناسُ إلى باب رشيد، وأحرقوه، ومَرُّوا منه على وجوهم، وتركوا المدينةَ مفتوحة بما فيها للفرنج، وأخذ الأميرُ جنغرا ما كان في بيت المال، وقاد معه خمسين تاجرًا من تجارِ الفرنج كانوا مسجونينَ عنده، ومضى هو وعامَّةُ الناس، إلى جهةِ دمنهور، فدخل وقتَ الضحى من يوم الجمعة مَلِكُ قبرص- واسمه ربير بطرس بن ريوك- وشق المدينةَ وهو راكب، فاستلم الفرنجُ النَّاسَ بالسيف، ونهبوا ما وجدوه من صامتٍ وناطق، وأسَرُوا وسَبَوا خلائق كثيرة، وأحرقوا عِدَّة أماكن، وهلك في الزحام بباب رشيد ما لا يقع عليه حَصرٌ، فأعلن الفرنجُ بدينهم، وانضَمَّ إليهم من كان بالثغر من النصارى، ودلُّوهم على دُور الأغنياء، فأخذوا ما فيها، واستمَرُّوا كذلك يقتلون، ويأسرون، ويَسْبُون وينهبون ويحرقون، من ضَحوة نهار الجمعة إلى بكرة نهار الأحد، فرفعوا السيفَ، وخرجوا بالأسرى والغنائم إلى مراكبهم، وأقاموا بها إلى يوم الخميس الثامن والعشرين، ثم أقلعوا، ومعهم خمسة آلاف أسير، فكانت إقامتُهم ثمانية أيام، وكانوا عِدَّة طوائف، فكان فيهم من البنادقة أربعةٌ وعشرون غرابًا، ومن الجنوية غرابان، ومن أهل رودس عشرة أغربة، والفرنسيين في خمسة أغربة، وبقية الأغربة من أهل قبرص، وكان مسيرهم عند قدوم الأمير يلبغا بمن معه، فلمَّا قَدِمَ عليه الأمير قطلوبغا المنصوري، لم يجد معه سوى عشرين فارسًا، وعليه إقامة مائة فارس، فغَضِبَ عليه، ووجد الأمر قد فات، فكتب بذلك إلى السلطان، فعاد إلى القلعةِ، وبعث بابنِ عرام، نائب الإسكندرية على عادته، بأمر الأمير يلبغا، بموارة من استُشهِدَ من المسلمين، ورَمِّ ما احتَرَق، وغضب على جنغرا وهَدَّده، وعاد فأخذ في التأهُّبِ لغزو الفرنج، وتُتُبِّعَت النصارى، فقُبِضَ على جميع من بديار مصر، وبلادِ الشام وغيرهما من الفرنج، وأُحضِرَ البِطريقُ والنصارى، وأُلزِموا بحَملِ أموالهم، لفِكاكِ أسرى المسلمين من أيدي الفرنج، وكُتِبَ بذلك إلى البلاد الشامية، وتُتُبِّعَت ديارات النصارى التي بأعمال مصر كلِّها، وأُلزِمَ سُكَّانُها بإظهار أموالهم وأوانيهم، وعُوقبوا على ذلك، فكانت هذه الواقعةُ من أشنَعِ ما مرَّ بالإسكندرية من الحوادث، ومنها اختلت أحوالها، واتَّضَع أهلها، وقَلَّت أموالهم، وزالت نِعَمُهم، وكان الناس في القاهرة منذ أعوام كثيرة تجري على ألسنتهم جميعًا: في يوم الجمعةِ تُؤخَذُ الإسكندرية، فكان كذلك.
جُزُر أرخبيل دَهْلَك: مُدُن حَبَشِيَّة ساحِلِيَّة في البَحرِ الأحمر، وبها أكثر مِن مائتي جَزيرَة، وهي عبارة عن جُزُر صَحراوِيَّة بتُرْبَتِها الصَّلْبَة وقِلَّةِ مِياهِها العَذْبَة, لَعِبَت هذه الجُزُر دَوْرًا هامًّا كنُقْطَةِ تَجَمُّعٍ وانْطِلاقٍ للهِجْرات العَربِيَّة القَديمَة المُتَّجِهَة صَوْبَ ساحِل أفريقيا, وعن طَريقِها كان يَتِمُّ نَقْل التِّجارَة واسْتِقبالها, ثمَّ أصبحت جُزُر دَهْلَك مَرْكَزًا للقَراصِنَة الذين كانوا يُهَدِّدُون المِلاحَة, وبَدَأوا بِغاراتٍ على سَواحِل المسلمين، وهَدَّدوا بِتَدْمِير مَكَّة، فَجَرَّدَ أُمَراءُ الأُمَويِّين حَمَلَات تَمَكَّنُوا مِن الاسْتِيلاء عليها وتَطْهِيرها مِن القَراصِنَة، وبعَد الفَتْحِ الإسلاميِّ ازْدَهرت جُزُر دَهْلَك حتَّى كان لها شأنٌ كبيرٌ شَجَّعَ المسلمين على اسْتِيطانِها وتَعْميرِها، كما أصبحت مَوْطِنًا للتِّجارَةِ وطَلَبِ الرِّزْق، أو لاتِّخاذِ مَوْطِنٍ جديدٍ هَرَبًا مِن الحُروبِ والمَجاعات، فَنَقَل هؤلاء إليها الحَضارَة والعِلْم حتَّى أصبحت مَرْكَزَ إِشْعاعٍ لِتَعليم فِقْه الدِّين واللُّغَة، ووَفَد إليها طُلَّاب العِلْم مِن مُخْتَلَف أَنْحاء مَنْطِقة شَمال أفريقيا، كما اتَّخَذَها بَعضُ الخُلَفاء المسلمين مَنْفًى للمَغْضُوب عليهم كَنَوْعٍ مِن العِقاب، وبالذَّاتِ الشُّعَراء الذين عُرِفوا في شِعْرِهِم بالمُجون والتَّشْبِيب بالنِّساء؛ وذلك لِبُعْدِها عن الجَزيرَةِ العَربيَّة ولِشِدَّةِ حَرِّها، وقد عَنِيَ سَلاطِينُ دَهْلَك بعِمارَةِ المَساكِن، والقُصُورِ، ومَنابِر المَساجِد، ومَداخِل القُصُور، والنُّقوش الكِتابِيَّة بالخَطِّ الكوفيِّ.
بعدَ فَتْحِ تُونُس اقْتَضَتْ الحاجَةُ لِبِناءِ مَسجِد للصَّلاة ونَشْر الدِّين الإسلاميِّ بين أهالي تُونُس، بَنَي أوَّلَ مَسجِد فيها الشَّيْخُ الأمينُ حَسَّان بن النُّعْمان الغَسَّانيُّ فاتِحُ تُونُس وقَرْطاجَنَّة، وسُمِّيَ بـ (جامِع الزَّيْتونَة) لأنَّ مَوْقِعَه كانت به شَجَرَة زَيْتون عندَ صَوْمَعَة كان يَتَعَبَّد فيها راهِبٌ نَصْرانيٌّ، وقِيلَ: إنَّ السَّبَب في تَسْمِيَتِه بهذا الاسم هو لِكَثْرَةِ شَجَر الزَّيْتون بالقُرْبِ مِن مَكان الجامِع عندَ بِنائِه، ثمَّ في سنة 116هـ قام والي أفريقيا الأميرُ عُبيدُ اللّه بن الحَبْحاب بِتَوْسِعَة وإِعْمار الجامِع، وأَحْكَم وَضْعَه على أساسٍ فَخْمٍ، وزاد في ضَخامَتِه. وفي سنة 250هـ بَنَى أبو إبراهيم أحمدُ الأَغْلَبِيُّ في عَهْدِ الخَليفَة المُسْتَعين باللّه قُبَّةَ الجامِع. وفي سنة 381هـ قام أبو الفَتْح المَنْصور بن أبي الفُتُوح يُوسُف بن زِيرِي ثاني مُلوك الصَّنْهاجِيِّين بِتَرْمِيم قُبَّةِ بَهْوِ الجامِع. وفي سنة 747هـ في أيَّام محمَّد المُسْتَنْصِر بن أبي زكريَّا زُوِّدَ الجامِع بالماءِ عن طَريقِ بِناء قَناطِر، وقام أُمَراءُ الشِّيعَة المَهْدِيَّة وبَنُو حَفْص سَلاطين تُونُس بالاهْتِمام بهذا الجامِع، وكان الانْتِهاء من العَمَل به في عَهْد الحاكِم الأغلبيِّ زِيادَة اللّه الثَّاني. وفي سنة 1312هـ /1894م بُنِيَت مِئْذَنَة الجامِع مَكانَ المِئْذَنَة القَديمَة مِن قِبَلِ المُهَنْدِس سُليمان النيقرو. وفي سنة 1357هـ /1939م حَصَل آخِرُ تَرْمِيم للجامِع.
هو الأَميرُ أبو حَفْص قُتيبةُ بن مُسلِم بن عَمرِو بن حُصَين بن رَبيعَة الباهلي، أَحَدُ الأَبطال والشُّجْعان، ومِن ذَوِي الحَزْمِ والدَّهاءِ والرَّأْيِ والغَنَاءِ، كان مِن سادات الأُمَراء وخِيارِهم، وكان مِن القادَة النُّجَباء الكُبَراء، والشُّجْعان وذَوِي الحُروبِ والفُتوحات السَّعيدَة والآراء الحَميدَة، وهو الذي فَتَح خَوارِزْمَ وبُخارَى، وسَمَرْقَنْد، وكانوا قد نَقَضوا وارْتَدُّوا، ثمَّ إنَّه افْتَتَح فَرْغانَة، وبِلادَ التُّرْك، وقد هَدَى الله على يَديهِ خَلْقًا لا يُحصِيهم إلَّا الله، فأَسلَموا ودانوا لله عَزَّ وجَلَّ، وفَتَح مِن البِلادِ والأقاليم الكِبار والمُدُن العِظام شَيْئًا كَثيرًا، والله سُبحانَه لا يُضَيِّع سَعْيَهُ ولا يُخَيِّب تَعَبَه وجِهادَه, وكانت وَفاتُه بِفَرْغانَه مِن أَقصى بِلادِ خُراسان، كان قُتيبَة يَفتَح في بِلادِ المَشرِق, وموسى بن نُصيَر يَفتَح في بِلادِ المَغرِب، فجَزاهُما الله خيرًا، فكِلاهُما فَتَح مِن الأقاليم والبُلْدان شَيْئًا كَثيرًا، كان فيمَن قُتِلَ أَبوهُ مع مُصعَب بن الزُّبير، وكانت وِلايتُه على خُراسان عَشر سِنين، وله رِوايَة عن عِمْران بن حُصَين، وأبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ. لمَّا بَلَغَه مَوتُ الوَليد نَزَعَ الطَّاعَة، فاخْتَلَفَ عليه جَيْشُه، وقام عليه وَكيعُ بن حَسَّان التَّميمي وأَلَّبَ عليه، ثمَّ شَدَّ عليه في عَشرة مِن فُرْسان تَميم فقَتَلوه, وكان عُمُرُهُ ثَمانِيًا وأربعين سَنَة، وقد سَبَق له مِن الأعمال الصَّالِحَة ما قد يُكَفِّر الله به سَيِّئاته، ويُضاعِف به حَسَناته، والله يُسامِحه ويَعفُو عنه، ويَتَقَبَّل منه ما كان يُكابِده مِن مُناجَزة الأعداء.
هو الفقيهُ العابِدُ أبو محمَّدِ الحسَنُ بن علي بن خلف البربهاري، شيخُ الحنابلة في عصره، كان كبيرَ القَدرِ مُعَظَّمًا مُهابًا، له صِيتٌ عند السلطان وجلالةٌ، شديدًا على المبتدعة, عارفًا بالمذهب أصولًا وفروعًا. كان له فضلٌ كبير بالدعوة إلى الرجوعِ إلى منهج السلف في العقيدةِ، وإنكار البِدَع والخرافات، وله مواقِفُ شديدة على أهل البِدَع والفِرَق وخاصَّةً الشِّيعة، قال أبو الحُسَين بن الفراء: "كان للبربهاريِّ مُجالدات ومقامات في الدين كبيرة، وكان المخالِفونَ يغيظون قَلبَ السلطانِ عليه". وفي سنة 321 أرادوا حبسَه، فاستتَرَ وقُبِضَ على جماعة من كبار أصحابه، وحُملوا إلى البصرة، فعاقب اللهُ الوزيرَ ابنَ مقلة فسَخِطَ عليه الخليفةُ وأحرق دارَه، ثم سُمِلَت عينا الخليفةِ في جمادى الآخرة سنة 322. وأعاد اللهُ البربهاري إلى حِشمتِه وزادت، وكثُرَ أصحابه، ثم لم تَزَل المبتَدِعة يُوحشوا قلب الراضي بالله عليه, وثارت بسبَبِ البربهاري الحنابلةُ في بغداد أكثَرَ من مرة، واشتَدَّ أمرُهم حتى هدَّدَهم الخليفة ونودي في بغدادَ أنْ لا يجتَمِع من أصحابِ البربهاري نفسان. وأمر بملاحقةِ البربهاري الذي اختفى عند أخت توزون أميرِ الأمراءِ شهرًا، ثم مَرِضَ عندها وتوفي ودفَنَتْه في بيتها، وله من العُمُر ستٌّ وتسعون عامًا. قال ابن بطة: "إذا رأيتَ الرجُلَ البغداديَّ يحِبُّ أبا الحسن بنَ بشَّار، وأبا محمد البربهاري، فاعلم أنَّه صاحِبُ سُنَّة"
قام أُمراءُ خوارزمَ بقَتلِ حاكِمِهم أبي العَبَّاسِ خوارزمشاه لَمَّا رأَوْا مِن مُوافَقَتِه ليَمينِ الدَّولةِ ودُعائِه له على المنابِرِ، فقَتَلوه غِيلةً وأجلَسوا مكانَه أحدَ أولادِه، وتعاهَدوا على مُقاتَلةِ يَمينِ الدَّولة ومُقارَعتِه، واتَّصَل الخبَرُ بيمينِ الدَّولة، فجمَعَ العساكِرَ وسار نحوَهم، فلمَّا قارَبَهم جَمَعَهم صاحِبُ جَيشِهم، ويُعرَفُ بالبتكين البخاري، وأمَرَهم بالخُروجِ إلى لِقاءِ مُقَدِّمةِ يَمينِ الدَّولةِ والإيقاعِ بمن فيها من الأجنادِ، فساروا معه وقاتَلوا مُقَدِّمةَ يَمينِ الدَّولة، واشتَدَّ القِتالُ بينهم، واتَّصَل الخبَرُ بيَمينِ الدَّولة، فتقَدَّمَ نَحوَهم في سائِرِ جُيوشِه، فلَحِقَهم وهم في الحَربِ، فثَبَت الخوارزميَّةُ إلى أن انتَصَف النَّهارُ، وأحسَنوا القِتالَ، ثمَّ إنَّهم انهزموا، ورَكِبَهم أصحابُ يمينِ الدَّولةِ يَقتُلونَ ويأسِرونَ، ولم يَسلَمْ إلَّا القليلُ، ثمَّ إنَّ البتكين رَكِبَ سفينةً لينجوَ فيها، فجرى بينه وبين مَن معه مُنافَرةٌ، فقاموا عليه وأوثقوه، ورَدُّوا السَّفينةَ إلى ناحيةِ يَمينِ الدَّولة، وسَلَّموه إليه، فأخَذَه وسائِرَ القُوَّادِ المأسورينَ معه، وصَلَبَهم عند قبرِ أبي العبَّاسِ خوارزمشاه، وأخذَ الباقينَ مِن الأسرى فسَيَّرَهم إلى غزنةَ فوجًا بعد فوجٍ، فلمَّا اجتَمَعوا بها أفرَجَ عنهم، وأجرى لهم الأرزاقَ، وسَيَّرَهم إلى أطرافِ بلادِه مِن أرضِ الهِندِ يَحمُونَها مِن الأعداءِ، ويَحفَظونَها من أهلِ الفَسادِ، وأخذ خوارزمَ واستنابَ بها حاجِبَه التونتاش.
هي المَلِكةُ عِصمةُ الدين أمُّ خليل شَجَرةُ الدر كانت تركيةَ الجنس، وقيل بل أرمنيَّة، اشتراها الملِكُ الصالح نجم الدين أيوب، وحَظِيَت عنده بحيث كان لا يفارِقُها سفرًا ولا حضرًا، هي أوَّلُ مَن ملك مصر من ملوكِ الترك المماليكِ، وذلك أنَّه لما قُتِلَ الملك المعظم غياث الدين توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، اجتمع الأمراءُ المماليك البحرية، وأعيانُ الدولة وأهل المشورة، بالدهليز السلطاني، واتفقوا على إقامةِ شَجرةِ الدر أمِّ خليل زوجةِ الملك الصالح نجم الدين أيوب، في مملكةِ مِصرَ، وأن تكونَ العلاماتُ السلطانيَّة على التواقيعِ تَبرُز مِن قِبَلِها، وأن يكون مُقَدَّم العسكر الأميرَ عِزَّ الدين أيبك التركماني الصالحيَّ أحدَ البحرية، وحَلَفوا على ذلك في عاشر صفر، وخرج عزُّ الدين التركماني من المعسكَرِ إلى قلعة الجبل، وأنهى إلى شَجرةِ الدر ما جرى من الاتفاقِ، فأعجَبَها، وصارت الأمورُ كُلُّها معقودةً بها، والتواقيعُ تبرز من قلعة الجبل، وعلامتُها عليها والدةُ خليل، وخُطِبَ لها على منابِرِ مصر والقاهرة، ونُقِشَ اسمها على السكة، ومثالُه المستعصمة الصالحيَّة، ملكةُ المسلمين، والِدةُ الملك المنصورِ خليلٍ أمير المؤمنين، وكان الخطباءُ يقولون في الدعاء: اللهمَّ أدِمْ سلطان السِّترِ الرفيع، والحِجابِ المنيع، مَلِكة المسلمين، والِدَة الملك الخليل، وبَعضُهم كان يقول بعد الدعاء للخليفة: واحفَظِ اللهم الجُبَّةَ الصالحيَّة، ملكةَ المسلمين، عِصمةَ الدنيا والدين، أمَّ خليل المستعصميَّة صاحبة الملك الصالحِ.
حضر جماعةٌ كثيرة من الفقراء الأحمدية في يوم السبت تاسع جمادى الأولى إلى نائب السَّلطنةِ بالقصر الأبلق وحضر الشيخُ تقي الدين ابن تيمية فسألوا من نائب السلطنةِ بحَضرةِ الأمراء أن يكُفَّ الشيخ تقي الدين إمارتَه عنهم، وأن يسَلِّمَ لهم حالهم، فقال لهم الشيخ: هذا ما يمكِنُ، ولا بُدَّ لكل أحد أن يدخُلَ تحت الكتاب والسنة، قولًا وفعلًا، ومن خرج عنهما وجب الإنكارُ عليه، فأرادوا أن يفعلوا شيئًا من أحوالِهم الشيطانيَّة التي يتعاطَونَها في سماعاتهم، فقال الشيخ: تلك أحوالٌ شيطانيَّةٌ باطلة، وأكثَرُ أحوالهم من باب الحِيَل والبهتان، ومن أراد منهم أن يدخُلَ النارَ فليدخُلْ أوَّلًا إلى الحَمَّامِ وليغسل جسَدَه غَسلًا جَيِّدًا ويَدلكَه بالخَلِّ والأُشنان ثم يدخُل بعد ذلك إلى النَّارِ إن كان صادقًا، ولو فرض أن أحدًا من أهل البِدَعِ دخل النار بعد أن يغتَسِلَ فإن ذلك لا يدُلُّ على صلاحِه ولا على كرامتِه، بل حالُه من أحوال الدَّجاجِلة المخالِفة للشريعة إذا كان صاحِبُها على السُّنَّة، فما الظنُّ بخلاف ذلك؟! فابتدر شيخُ المنيبع الشيخُ الصالح وقال: نحن أحوالُنا إنما تَنفُق عند التتر ليست تَنفُق عند الشرع، فضبط الحاضرونَ عليه تلك الكلمة، وكثُرَ الإنكار عليهم من كل أحدٍ، ثم اتفق الحالُ على أنهم يخلعون الأطواقَ الحديدَ مِن رقابهم، وأنَّ من خرج عن الكتابِ والسنة ضُرِبَت عنقه، وصنَّف الشيخُ جزءًا في طريقة الأحمدية، وبيَّنَ فيه أحوالهم ومسالِكَهم وتخيُّلاتِهم، وما في طريقتِهم من مقبولٍ ومَردودٍ بالكتاب، وأظهر اللهُ السنة على يديه وأخمد بدعتَهم، ولله الحمدُ والمِنَّة.