لَمَّا كان مِن أمْرِ انتهاءِ دَولةِ الأغالِبةِ واستحواذِ أبي عبدالله الشيعيِّ على البلادِ، واستقَرَّت له القيروانُ ورقادة، سار إلى سجلماسة، وكان المهديُّ وابنه أبو القاسم محبوسينِ عند اليسَع بن المدرار أميرِ سجلماسة، فلاطفه أبو عبدِالله ليُخَلِّصَ المهديَّ منه دون أذًى، وكان المهدي قد حاول الحضورَ إلى المغربِ بعد أن راسله أبو عبدالله بما فتح من البلادِ وغلبَ، وأن الأمرَ قد استتَبَّ له فلْيَحضُرْ، ولكنَّه قُبِضَ عليه في الطريقِ وأُسِرَ حتى صار أمرُه عند اليسَع بن مدرار أميرِ الخوارج الصفريَّة، لكنَّ اليسع لم يتلطَّفْ له بل حاربه، ثمَّ لَمَّا أحس بقوة أبي عبدالله الشيعي هرب من الحِصنِ فدخله أبو عبدالله وأخرج المهديَّ منه واستخرجَ ولَدَه، فأركَبَهما، ومشى هو ورؤساءُ القبائِلِ بين أيديهما، وأبو عبد الله يقول للنَّاسِ: هذا مولاكم، (وهو يبكي) من شِدَّةِ الفَرَح، حتى وصل إلى فسطاطٍ قد ضُرِبَ له فنزل فيه، وأمر بطَلَبِ اليسع (فطُلِبَ)، فأُدرِكَ، فأُخِذَ وضُرِبَ بالسِّياطِ ثمَّ قُتِل.
هو السلطان أبو يحيى تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن بلكين بن زيري بن مناد الحميري الصنهاجي، ملَكَ إفريقيةَ بعد أبيه. كان ملكًا جليلًا شهمًا، شجاعًا ذكيًّا، مَهيبًا فاضلًا، شاعرًا جوادًا فصيحًا, حليمًا كثير العفو عن الجرائم العظيمة، وله معرفة حسنة، وله شِعر حسن, كان حسَنَ السيرة، محبًّا للعلماء، قصده الشعراء من النواحي. ولد سنة 422، ولم يزل بالمهدية منذ ولاه أبوه إياها من صفر سنة خمس وأربعين إلى أن توفِّي أبوه, وكان له في البلاد أصحاب أخبار يجري عليهم أرزاقًا سَنية ليطالعوه بأحوال أصحابه؛ لئلا يظلموا الناس. ولما توفي كان عمره تسعًا وسبعين سنة، وكانت ولايته ستًا وأربعين سنة وعشرة أشهر وعشرين يومًا، وخلف من الذكور ما يزيد على مائة، ومن البنات ستين بنتًا، ولما توفي ملك بعده ابنُه يحيى بن تميم.
لَمَّا قُتِل الآمر بحكم الله الفاطمي ولم يكن له ولد ذكَرٌ بعده، وقد كان عَهِد بالولاية لحملٍ كان ما يزال في بطنِ أمِّه منه، فوَلِيَ بعده ابن عمه الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله، ولم يبايَع بالحكم، وإنما بُويعَ له لينظُرَ في أمر الحمل أيكون ذكرًا أم أنثى، ويكون هو نائبًا عنه، ولما وليَ استوزر أبا علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي، واستبدَّ الوزير بالأمر، وتغلَّب على الحافظ وحجر عليه، وأودعه في خزانة، ولا يدخل إليه إلا من يريده أبو علي، وبقي الحافِظُ له اسم لا معنى تحته، ونقل أبو علي كلَّ ما في القصر إلى داره من الأموال وغيرها، ولم يزَل الأمر كذلك إلى أن قُتِل أبو علي سنة ست وعشرين وخمسمائة، فاستقامت أمور الحافظ، وحكم في دولته، وتمكَّن من ولايته وبلاده.
حاول العثمانيون عقدَ اتفاقٍ مع روسيا مماثلٍ لِما جرى بين إنكلترا وروسيا، ولكنَّه فَشِل واشتعلت نارُ الحرب بينهما، وهُزم العثمانيون واستولى الروسُ على بعض المواقع، وعُزِل الصدر الأعظم ضياء يوسف باشا وتولى مكانه أحمد باشا الذي انتصر على الروس، وأجلاهم عن المواقِعِ التي دخلوها، وساءت العلاقة بين فرنسا وروسيا، وكادت تقعُ الحرب بينهما، فطلبت روسيا الصلحَ مع الدولة العثمانية، وعقدت بين الطرفين مُعاهدة بوخارست التي نصَّت على بقاء الأفلاق والبغدان وبلاد الصرب تابعة للدولة العثمانية. وقد مكَّنَ الصُّلحُ السلطانَ محمود الثاني من القيام ببعض الإصلاحاتِ والقضاءِ على الثورات والتمَرُّد في الدولة، ولَمَّا عَلِم الصربيون بمعاهدة بوخارست، وإعادة خضوعهم للدولة العثمانية، قاموا بالثورة غيرَ أنَّ القوات العثمانية أخضعَتْهم بالقوة، وفَرَّ زعماء الثورة إلى النمسا، ولكِنَّ أحدهم وهو ثيودور فِتش أظهر الولاء للعثمانيين وخضع للسلطةِ العثمانية، وحصل على امتيازات خاصةٍ مِن الدولة.
كُتِبَ بتَجريدِ عَسكَرِ دمشق وطرابلس وحماة وحلب، ونواب الثغور وتركمان الطاعة وأكرادها، إلى جهة التركمان العصاة بالبلاد السيسية، كالصارم بن رمضان نائب أدنه وبني أوزر، وابن برناص من طائفة الأجقية؛ لمقاتلتهم على تعديهم طريقَهم، وقطْعِهم الطرقات، ونهْبِهم حُجَّاج الروم، ولاتفاقهم مع الأمير علاء الدين علي بك بن قرمان صاحب لارندة على اقتلاع بلاد سيس، فتأهَّبت العساكِرُ لذلك ووافت حلب، فتقَدَّمها الأميرُ يلبغا الناصري نائب حلب، وركب من حَلَب في ثاني ذي القعدة يريد العُمقَ، وكتب إلى بني أوزر وبقية التركمان العصاة، ينذرهم ويحذرهم التخَلُّفَ عن الحضور إلى الطاعة، ويخَوِّفهم بأس العساكر، وإنَّهم إن أذعنوا وأطاعوا كانوا آمنينَ على أنفُسِهم وأموالِهم، ومن تخَلَّف كان غنيمةً للعساكرِ، وسار حتى نزل تحتَ عُقبة بغِراسٍ، فعرض العساكِرَ، وتَرَك الثِّقلَ وتوجَّه مُخِفًّا، وجاوز عقبةَ بغراس، وترك بها نائبي عينتاب وبغراس بخيَّالتهما ورجالهما؛ حِفظًا للدربند إلى أن تصل العساكِرُ الشاميَّة، ثم ركب في الثلث الأول من ليلة الأحد الخامس عشر وسار مجِدًّا، فوصل المصيصة عصرَ نهار الأحد فوجد الأميرين قد ملكا الجسرَ بعد أنْ هدم التركمانُ بَعضَه، وقطعوا منه جانبًا لا يمنع الاجتيازَ، وتوقَّدَت بينهم نارُ الحرب، وعَدت العساكر نهر جاهان إلى جانِبِ بلاد سيس، واقتَفَوا آثار من كان بالمصيصة من التركمان، فأدركوا بعض البيوت فانتهبوها، فتعلق الرِّجالُ بشعف الجبال، ثم حضرت قصاد التركمان على اختلاف طوائفِهم يسألون الأمان، فأجاب الأميرُ يلبغا الناصري سؤالَهم، وكتب لهم أمانًا، ولما أحس الصارمُ بن رمضان بالعساكر، ترك أذنة وفَرَّ إلى الجبال التي لا تُسلَك، ووصلت الأطلابُ والثقل إلى المصيصة في السابع عشر، فقَدِمَ من الغد الثامن عشر قاصد الأمير طَشبغا العزي نائب سيس بخبر وصول ابن رمضان إلى أطراف البلاد السيسية، وأنه ركب في أثَرِه ومعه طائفةٌ من التركمان القرمانيين، فأدركوا بيوتَه فانتهبوها، وأمسكوا أولادَه وحريمه ونجا بنفسه، ولَحِقَ بالتركمان البياضية مستجيرًا بهم، فأجمعت الآراءُ على التوجه بالعساكر إلى جهتهم وإمساكِه، فقَدِمَ الخبر من نائب سيس في آخر النهار بأنه استمَرَّ في طلب ابن رمضان إلى أن أدركه وأمسَكَه، وأمسك معه أخاه قرا محمد وأولاده وأمه وجماعته وعاد إلى سيس، فسُرَّت العساكر بذلك سرورًا زائدًا، ورحلت في التاسع عشر تريد سيس، وأحاطت بطائفةٍ من التراكمين اليراكية، فانتهبت كثيرًا من خيل ومتاع وأثاث، ثم أمنوهم بسؤالهم ذلك وتفَرَّقت جموع التركمان بالجبال، ومرت العساكر إلى جهة سيس، وأُحضِرَ ابنُ رمضان وأخوه قرا محمد ومن أُمسِك معهما، فوُسِّطوا، وعاد العسكرُ يريد المصيصة، وركبَ الأمير يلبغا الناصري بعسكرِ حلب وسَلَبِهم جَبلًا يُسَمَّى صاروجا شام، وهو مكانٌ ضَيِّقٌ حَرَجٌ وَعْرٌ به جبالٌ شوامخ وأودية عِظام، مُغَلَّقة بالأشجار والمياه والأوحال، وبه دربندات خطرة، لا يكادُ الراجل يسلُكُه، فكيف بالفارِسِ وفَرَسِه الموفرين حملًا باللَّبوس؟! وإذا هم بطائفةٍ مِن التركمان اليراكية، فجرى بينهم القتال الشديد، فقُتِلَ بين الفريقين جماعةٌ، وفُقِدَ الأمير يلبغا الناصري وجماعة من أمراء حلب، وإذا بهم قد تاهوا في تلك الأودية، ثم تراجع الناسُ وقد فُقِدَ منهم طائفة، ووصل الخبر بأن التركمان قد أحاطوا بدربند باب الملك، فالتجؤوا إلى مدينة إياس، ثم قَدِمَ يلبغا الناصري إلى إياس بعد انقطاع خبره، فتباشروا بقدومِه، وأقاموا عليها أيامًا ثم رحلوا، فلقيهم التركمان في جمع كبير، فكانت بينهم وقعةٌ لم يمُرَّ لهم مثلُها، قُتِلَ فيها خلق كثير، وانجَلَت عن كسرة التركمان بعد ما أبلى فيها الناصريُّ بلاء عظيمًا، وارتحل العسكرُ يوم عيد الأضحى إلى جهة بإياس، فما ضُرِبَت خيامهم بها حتى أحاط بهم التركمان وأنفذوا فرقةً منهم إلى باب الملك، فوقَفوا على دربندة ومنعوا عنهم الميرة، فعَزَّت الأقوات عند العسكر، وجاعت الخيولُ، وكَثُرَ الخوف وأشرفوا على الهلاك، إلَّا أن الله تداركهم بخَفِيِّ لُطفِه؛ فقَدِمَ عليهم الخبر بوصول الأمير سودن المظفري حاجِبِ الحجَّاب بحلب في عِدَّة من الأمراء، وقد استخدم من أهل حَلَبٍ ألفَ راجلٍ من شبان بانقوسا، ودفعوا لكل واحد منهم مائة درهم، وخرج العُلَماء والصلحاء وغالِبُ الناس، وقد بلغهم ما نزل بالعسكر، ونودي بالنفيرِ العام، فتَبِعَهم كثير من الرجَّالة والخيَّالة والأكراد ببلد القصير والجبل الأقرع وغيره من أعمال حلب، فقام بمؤنتهم الحاجِبُ ومن معه من الأمراء، وهجموا على باب الملك، فمَلَكوه وقتلوا طائفةً ممن كان به من التركمان، وهزموا بقيَّتَهم، ففرح العسكرُ بذلك فرحًا كبيرًا، وساروا إلى باب الملك حتى جاوزوا دربنده ونزلوا بغراس، ثم رحلوا إلى أنطاكية وقدموا حلب، فكانت سفرةً شديدةَ المشقةِ؛ بُلُوا فيها من كثرةِ تتابع الأمطار الغزيرة، وتوالي هبوب الرياح العاصفة، وكثرة الخوف، ومقاساة آلام الجوع- ما لا يمكِنُ وَصفُه.
لمَّا بايَع النَّاسُ مَرْوانَ سار مِن الجابِيَة إلى مَرْج راهِط قريبا من دمشق وبها الضَّحَّاك بن قيسٍ ومعه ألفُ فارسٍ، وكان قد اسْتَمَدَّ الضَّحَّاكُ النُّعمانَ بن بَشيرٍ وهو على حِمْص فأَمَدَّهُ حَبيبَ بن ذي الكِلاعِ، واسْتَمَدَّ أيضًا زُفَرَ بن الحارثِ وهو على قِنَّسْرين فأَمَدَّهُ بأهلِ قِنَّسْرين، وأَمَدَّهُ ناتِل بأهلِ فِلَسْطين، فاجتمعوا عنده، واجتمع على مَرْوان كَلْبٌ وغَسَّانُ, والسَّكاسِك والسَّكون، وتَحارَب مَرْوانُ والضَّحَّاكُ بمَرْج راهِط عِشرين ليلةً، واقْتَتَلوا قِتالًا شَديدًا، فقُتِلَ الضَّحَّاكُ، قَتلَهُ دِحْيَةُ بن عبدِ الله، وقُتِلَ معه ثمانون رجلًا مِن أشرافِ أهلِ الشَّام، وقُتِلَ أهلُ الشَّام مَقتلَةً عَظيمةً، وقُتِلَت قَيسٌ مَقتلةً لم يُقْتَلُ مِثلُها في مَوطِن قَطُّ، وكان فيمَن قُتِلَ هانىءُ بن قَبيصةَ النُّمَيْريُّ سَيِّدُ قومِه، كان مع الضَّحَّاك، قَتلَهُ وازِعُ بن ذُؤالَة الكَلبيُّ، ولمَّا انْهزَم النَّاسُ مِن المَرْج لَحِقوا بأَجنادِهِم، فانتهى أهلُ حِمْص إليها وعليها النُّعمانُ بن بَشيرٍ، فلمَّا بَلغَهُ الخَبرُ خرَج هَربًا ليلًا ومعه امرأتُه نائِلةُ بنتُ عُمارةَ الكَلبيَّة وثَقَلُهُ وأوَّلادُه، فتَحَيَّرَ لَيلَتَهُ كُلَّها، وأصبَح أهلُ حِمْص فطلبوه، وكان الذي طَلبَهُ عَمرُو بن الجَلِيِّ الكَلاعيُّ، فقَتلَهُ ورَدَّ أهلَه والرَّأسَ معه، وجاءَت كَلْبٌ مِن أهلِ حِمْص فأخذوا نائِلةَ وولدَها معها، ولمَّا بَلغَت الهَزيمةُ زُفَرَ بن الحارثِ الكِلابيَّ بقِنَّسْرين هرَب منها فلَحِقَ بقَرْقِيسِيا وعليها عِياضٌ الحَرَشِيُّ، وكان يَزيدُ وَلَّاهُ إيَّاها، وهرَب ناتِلُ بن قيسٍ الجُذاميُّ عن فِلَسْطين فلَحِقَ بابنِ الزُّبيرِ بمكَّة، واسْتَعمَل مَرْوانُ بعده على فِلَسْطين رومَ بن زِنْباع، واسْتَوْثَق الشَّامُ لمَرْوان واسْتَعمَل عُمَّالَه عليها.
لمَّا سَمِعَ الحَجَّاجُ بِتَمَرُّدِ ابنِ الأشعث جَهَّزَ جُيوشًا وطَلَب مِن عبدِ الملك إمْدادَه فكان ذلك، ثمَّ الْتَقى الطَّرَفان في تُسْتَر واقْتَتَلوا قِتالًا شَديدًا فهَزَمَهُم ابنُ الأشعث ودَخَل البَصْرَةَ فبايَعَهُ أهلُها، وكان ذلك في ذي الحجَّة، ثمَّ في أواخر مُحَرَّم حصَل قِتالٌ شديدٌ آخر انْهزَم فيه أيضًا أصحابُ الحَجَّاج، فحمَل سُفيانُ بن الأبرد الكَلْبِيُّ على المَيْمَنَةِ التي لِعبدِ الرَّحمن فهَزَمها، وانْهزَم أهلُ العِراق وأقبلوا نحو الكوفَة مع عبدِ الرَّحمن، وقُتِلَ منهم خَلْقٌ كثيرٌ، ولمَّا بلَغ عبدُ الرَّحمن الكوفَة تَبِعَهُ أهلُ القُوَّةِ وأصحابُ الخَيْلِ مِن أهلِ البَصْرَة، واجتمع مَن بَقِيَ في البَصْرَة مع عبدِ الرَّحمن بن عبَّاس بن رَبيعَة بن الحارث بن عبدِ المُطَّلِب فبايَعُوه، فقاتَل بهم الحَجَّاجَ خَمْسَ ليالٍ أشدَّ قِتالٍ رآه النَّاسُ، ثمَّ انْصَرف فلَحِقَ بابنِ الأشعث ومعه طائفةٌ مِن أهلِ البَصْرَة، وهذه الوقعة تُسَمَّى: يومَ الزَّاوِيَة، اسْتَبْسَلَ فيها القُرَّاءُ -وهُم العُلَماء- وكان عليهم جَبَلَةُ بن زُحَر فنادَى فيهم: أيُّها النَّاس، ليس الفِرار مِن أَحَدٍ بأقْبَح منه منكم، فقاتِلُوا عن دِينِكم ودُنياكُم. وقال سعيدُ بن جُبير نحو ذلك، وقال الشَّعْبِيُّ: قاتِلُوهم على جَوْرِهِم، واسْتِذْلالِهِم الضُّعَفاء، وإماتَتِهِم الصَّلاة. ثمَّ حَمَلَت القُرَّاءُ على جيشِ الحَجَّاجِ حَمْلَةً صادِقَة، فبَدَّعُوا فيهم، وكان ابنُ الأشعث يُحَرِّض النَّاسَ على القِتال، فلمَّا رأى ما النَّاس فيه أَخَذ مَن اتَّبَعَه وذَهَب إلى الكوفَة، فبايَعَه أهلُها. ثمَّ إنَّ عبدَ الملك عرَض على أهلِ العِراق أن يَخْلَعَ الحَجَّاج ويَعودوا كما كانوا حَقْنًا للدِّماء فأبوا لمَّا رأوا بأَنفُسِهم قُوَّةً وكَثْرَةً وخلعوا عبدَ الملك أيضًا فخَلَّى بين الحَجَّاجِ وبينهم.
لما توفِّيَ عزُّ الدين مسعود بن آقسنقر البرسقي صاحِبُ الموصل، أشار الوزير أنوشروان على السلطان محمود أن يولِّيَ الأتابك عماد الدين زنكي الموصِلَ وما حولَها؛ لحاجة الناس إلى من يقوم بإزاء الفرنج, وخاصةً أن الفرنج قد استولوا على أكثر الشام، فاستحسن ذلك السلطان ومال إلى توليته؛ لما يعلمه من كفايته لما يليه، فأحضره وولَّاه البلاد كلها، وكتب منشورةً بها، وسار عماد الدين فبدأ بالبوازيج ليملكها ويتقوى بها ويجعلها ظهرَه؛ لأنه خاف من جاولي سقاوو أنه ربما صدَّه عن البلاد، ثم تملَّك الموصل ثم ترك نائبًا له فيها هو نصر الدين جقر, وسار هو إلى حلب مفتتحًا في طريقه جزيرة ابن عمر وبها مماليك البرسقي، فامتنعوا عليه، فحصرهم وراسلهم، وبذل لهم البذولَ الكثيرة إن سَلَّموا، فلم يجيبوه إلى ذلك، فجد في قتالهم حتى استلَمَها، ثم سار إلى نصيبين وفيها حسام الدين تمرتاش، فلما ملك نصيبين سار عنها إلى سنجار، فامتنع مَن بها عليه، ثم صالحوه وسلَّموا البلد إليه، ثم سار إلى حران، وهي للمسلمين، وكانت الرها، وسروج، والبيرة، وتلك النواحي جميعها للفرنج، وأهل حران معهم في ضرٍّ عظيم، وضيقٍ شديدٍ؛ لخلو البلدِ مِن حامٍ يذُبُّ عنها، وسلطان يمنَعُها، فلما قارب حران خرج أهل البلد وأطاعوه وسَلَّموا إليه، فلما ملَكَها أرسل إلى جوسلين الفرنجي، صاحب الرها وتلك البلاد، وراسله وهادنه مدة يسيرة، وكان غرضه أن يتفرغ لإصلاح البلد، وتجنيد الأجناد، وكان أهم الأمور إليه أن يعبُرَ الفرات إلى الشام، ويملك مدينة حلب وغيرها من البلاد الشامية، فاستقرَّ الصلح بينهم، وأمِنَ الناس، ثم مَلَك حلب في أول السنة التالية من محرم.
لمَّا مَلَكَ بركيارق بعدَ أَبيهِ وكان ما كان مِن قِتالِه مع عَمِّهِ تتش، ومُحاولَةِ بَعضِ العَسكرِ بالتَّحريضِ أن يَكحَلوهُ ويَسمُلوا عَينَيهِ فنَجَّاهُ الله من ذلك، ثم إنه مَرَضَ بالجُدَرِي وعاد عَمُّهُ لقِتالِه ثم شُفِيَ وقَتَلَ عَمَّهُ فأَصبحَ يَعلُو كَعبُه ويَقوَى شَأنُه ويَستَفحِل أَمرُه.
هو الأمير الكبيرُ سَيفُ الدين بلبان المعروف بالزردكاش. من أمراء دمشقَ الأعيان، وكان دَينًا مشكورًا، وقد استنابه بيبرس موضِعَه بدار العدل على دمشق لما سافر إلى حصار أنطاكية، وكان دَيِّنًا خيِّرًا يحب العدل والصلاح. مات في الثامن من ذي الحجة من هذه السنة.
استولى الفِرنجُ على مدينة تطيلة بالأندلس، وسبب ذلك أنَّ الحَكَمَ بن هِشامٍ صاحِبَ الأندلُسِ استعمَلَ على ثغورِ الأندلُسِ قائدًا كبيرًا من أجنادِه، اسمُه عمروس بن يوسف، فاستعمل ابنَه يوسُفَ على تطيلة. وكان قد انقلب على الحَكَم بنِ هشام بيتٌ من بيوت الأندلُسِ أولُو قوَّةٍ وبأس؛ لأنَّهم خرجوا عن طاعته، فالتحَقوا بالمُشرِكين، فقَوِيَ أمرُهم، واشتَدَّت شوكتُهم، وتقَدَّموا إلى مدينة تطيلة فحَصَروها ومَلَكوها من المسلمين، فأسَروا أميرَها يوسُفَ بن عمروس، وسجَنوه بصخرة قيس. واستقَرَّ عمروس بن يوسف بمدينةِ سرقسطة ليحفَظَها من الكُفَّار، وجمَعَ العساكِرَ، وسيَّرَها مع ابنِ عَمٍّ له، فلَقِيَ المشركين، وقاتَلَهم، ففَضَّ جَمعَهم، وهزَمَهم، وقتل أكثَرَهم، ونجا الباقون منكوبين، وسار الجيشُ إلى صخرة قيس، فحصروها وافتتحوها ولم يقدِر المشركون على مَنعِها منهم؛ لِما نالهم من الوَهَنِ بالهزيمة، ولَمَّا فَتَحَها المسلمون خلَّصوا يوسُفَ بن عمروس أميرَ الثغر، وسيَّروه إلى أبيه، وعظم أمر عمروس عند المشركين، وبَعُد صوتُه فيهم.
لمَّا بَلغَ قاورت بك، وهو بكرمان، وَفاةُ أَخيهِ ألب أرسلان سارَ طالِبًا للرَّيِّ يُريدُ الاستِيلاءَ على المَمالِكِ، فسَبَقَهُ إليها السُّلطانُ ملكشاه ونِظامُ المُلْكِ، وسارا منها إليه، فالتَقوا بالقُربِ من همذان في شَعبانَ، وكان العَسكرُ يَمِيلون إلى قاورت بك، فحَمَلَت مَيسرةُ قاورت بك على مَيمَنَةِ ملكشاه، فهَزَموها، وحَمَلَ شَرفُ الدَّولةِ مُسلمُ بن قُريشٍ، وبَهاءُ الدَّولةِ مَنصورُ بن دبيس بن مزيد، وهُما مع ملكشاه، ومَن معهما من العَربِ والأَكرادِ، على مَيمَنَةِ قاورت بك فهَزَموها، ومَضَى المُنهَزِمون من أَصحابِ السُّلطانِ ملكشاه إلى حُلَلِ شَرفِ الدَّولةِ، وبَهاءِ الدَّولةِ، فنَهَبوها غَيْظًا منهم، حيث هَزَموا عَسكرَ قاورت بك، وجاءَ رَجلٌ سواديٌّ إلى السُّلطانِ ملكشاه، فأَخبرَهُ أنَّ عَمَّهُ قاورت بك في بَعضِ القُرَى، فأَرسلَ مَن أَخذَهُ وأَحضَرَهُ، فأَمَرَ سَعدَ الدَّولةِ كوهرائين فخَنَقَهُ، وأَقَرَّ كرمان بِيَدِ أَولادِه، وسَيَّرَ إليهم الخِلَعَ، وأَقطَعَ العَربَ والأَكرادَ إقطاعاتٍ كَثيرةً لِمَا فَعَلوهُ في الوَقعَةِ.