بعدَ أن تَوَلَّى عُثمانُ بن عفَّانَ الخِلافةَ، وكان عَمرَو بن العاصِ هو أَميرُ مِصْرَ مِن قِبَلِ عُمَر بن الخطَّاب، فَعُيِّنَ بدلًا عنه عبدُ الله بن سعدِ بن أبي السَّرْحِ، عَيَّنَهُ على مِصْرَ وخَراجَها، وأَمَرَهُ كذلك بالانْسِياحِ في أفريقيا والتَّوَغُّلِ فيها واسْتِكمالِ الفُتوحِ.
صاحب مملكة فاس من بلاد الغرب السلطان أبو العباس أحمد بن أبي سالم بن إبراهيم بن أبي الحسن على بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني ملك الغرب، تولى حكم بلاد المغرب بعد خلع السعيد محمد بن عبد العزيز أبي الحسن في ذي الحجة 774. توفي أبو العباس أحمد في المحرَّم، وأقيم بعده ابنه أبو فارس عبد العزيز، وهو غير متملِّك تونس المتوكل على الله أبو العباس أحمد الحفصي صاحب تونس مع أنَّ اسمهما يكاد يتطابق.
بعدَ أن فُتِحَت نَهاوَنْد اطْمَأنَّ عُمَرُ بن الخطَّاب رضِي الله عنه للانْسِياحِ داخِلَ فارِسَ كُلِّها، فأَمَرَ بذلك، وكان ممَّن أُمِرَ بذلك نُعيمُ بن مُقرِّن أخو النُّعمانَ، فسار إلى هَمَذان ففتَحها واسْتخلَف عليها يَزيدَ بن قيسٍ، ثمَّ سار هو باتِّجاهِ الرَّيِّ -موقع طِهْران اليوم- ففتَحها كذلك، ثمَّ بعَث بأخيه سُويدِ بن مُقرِّن إلى قُومِس فأخذها سِلْمًا، وصالَح أهلَها، وجاء إليه أهلُ جُرْجان وطَبَرِستان وصالَحوهُ، وكان نُعيمٌ قد بعَث وهو بِهَمَذان بُكيرَ بن عبدِ الله إلى أَذْرَبِيجان، ثمَّ أَمَدَّهُ بعبدِ الله بن سِماكِ بن خَرَشَةَ ففتَح بعضَ بِلادِ أَذْرَبِيجان، في حين كان عُتبةُ بن فَرْقَد يَفتحُ البِلادَ مِن الجِهَةِ الثَّانيةِ.
هو المَلِكُ المنصور صاحب ماردين أبو الفتح نجم الدين غازي بن المَلِك المظَفَّر قرارسلان بن الملك السعيد نجم الدين غازي بن الملك المنصور ناصر الدين أرتق بن غازي بن المني بن تمرتاش بن غازي بن أرتق أصحاب ماردين من عِدَّة سنين، كان شيخًا حسنًا مَهيبًا كامِلَ الخلقة بدينًا سمينًا، إذا ركب يكون خلْفَه محَفَّة، خوفًا من أن يمسَّه لُغوبٌ فيركب فيها، توفِّيَ في تاسع ربيع الآخر ودُفِنَ بمدرسته تحت القلعة، وقد بلغ من العمر فوق السبعين، ومكث في الملك قريبًا من عشرين سنة، وقام مِن بَعدِه في المُلْكِ وَلَدُه العادل فمكث سبعة عشر يومًا، ثم مَلَك أخوه المنصور.
سارَ عبدُ المُؤمِنِ بنُ علي إلى بجاية ومَلَكَها، ومَلَك جميعَ مَمالِكِ بني حَمَّاد. وكان لَمَّا أراد قَصْدَها سار من مراكِشَ إلى سبتة سنة 546، فأقام مُدَّةً يَعمُر الأسطولَ، ويَجمَعُ العساكِرَ القَريبةَ منه، فكتَبَ لِمَن في طريقِه إلى بجاية ليتجَهَّزوا ويكونوا على الحَرَكةِ أيَّ وَقتٍ طَلَبَهم، والنَّاسُ يَظُنونَ أنَّه يريدُ العبور إلى الأندلُسِ، فأرسل في قَطعِ السَّابلةِ عَن بلادِ شَرقِ المَغرِبِ بَرًّا وبَحرًا، وسار مِن سبتة في صفر سنة 547، فأسرع السَّيرَ وطَوى المراحِلَ، والعساكِرُ تلقاه في طريقِه، فلم يَشعُرْ أهلُ بجاية إلَّا وهو في أعمالها، وكان مَلِكُها يحيى بن العزيز بن حماد آخرَ مُلوكِ بني حمَّاد، وكان مُولَعًا بالصَّيدِ واللَّهوِ، لا ينظُرُ في شَيءٍ مِن أمورِ مَملَكَتِه، فلَمَّا اتَّصَلَ الخبَرُ بميمون بن حمدون، جمَعَ العساكِرَ وسار عن بجاية نحوَ عبد المؤمن، فلَقِيَهم مُقَدِّمةُ عبد المؤمن، وهم يزيدون على عشرينَ ألف فارس، فانهزم أهلُ بجاية مِن غَيرِ قِتالٍ، ودخَلَت مُقَدِّمةُ عبد المؤمن بجاية قَبلَ وصول عبدِ المؤمِنِ بيومين، وتفَرَّقَ جَميعُ عَسكَرِ يحيى بن عبد العزيز، وهَرَبوا برًّا وبحرًا، وتحَصَّن يحيى بقلعةِ قسنطينة الهوى، وهَرَبَ أخواه الحارِثُ وعبد الله إلى صقليَّةَ، ودخل عبدُ المؤمن بجاية، ومَلَك جميعَ بلاد يحيى بن العزيز بغَيرِ قِتالٍ، ثمَّ إنَّ يحيى نَزَل إلى عبدِ المُؤمِنِ بالأمان، فأمَّنَه، ولَمَّا فَتَحَ عبدُ المؤمِنِ بجاية لم يتعَرَّضْ إلى مالِ أهلِها ولا غَيرِه، وسَبَبُ ذلك أن بني حمدون استأمنوا فوفَى بأمانِه، وكان يحيى قد فَرِحَ لَمَّا أُخِذَت بلادُ إفريقيَّةَ مِن الحَسَنِ بنِ عَليِّ بنِ يحيى بن تميم بن المعز بن باديس فرحًا ظَهَرَ عليه، فكان يَذُمُّه، ويَذكُرُ مَعايبَه، فلم تَطُلِ المدَّةُ حتى أُخِذَت بلادُه هو، فسُبحانَ مُقَلِّبِ الأمورِ! ووصل الحسَنُ بنُ علي إلى عبدِ المؤمِنِ في جزائر بني مزغنان، واجتَمَعا عنده، فأرسل عبدُ المؤمن يحيى بن العزيز إلى بلادِ المغرب، وأقام بها، وأجرى عليه شيئًا كثيرًا, وأمَّا الحَسَنُ بن علي فإنَّه أحسَنَ إليه، وألزَمَه صُحبَتَه، وأعلى مرتَبَتَه، فلَزِمَه إلى أنْ فَتَحَ عبد المؤمن المهديَّة فجَعَلَه فيها، وأمَرَ واليَها أن يقتَدِيَ برأيِه ويَرجِعَ إلى قَولِه.
لَمَّا ظهر المهدِيُّ مِن سِجنِه أقام بسِجِلماسة أربعين يومًا، ثم سار إلى أفريقيَّة، وأحضر الأموالَ من إنكجان، فجعَلَها أحمالًا وأخذها معه، وقد عمِلَ أبو عبدالله الشيعي على زوالِ مُلك بني الأغلب، ومُلك بني مدرار الذين منهم اليسَع، وكان لهم ثلاثون ومائة سنةً منفردين بسجلماسة، وزوالِ مُلكِ بني رستم من تاهرَت، ولهم ستون ومائة سنةٍ تفرَّدوا بتاهَرت، ومَلَك المهديُّ جميع ذلك، فلمَّا قَرُب من رقادة تلقَّاه أهلها، وأهلُ القَيروان، وأبو عبدالله، ورؤساءُ كُتامة مشاةً بين يديه، وولَدُه خَلْفَه، فسلَّموا عليه، فردَّ جميلًا، وأمَرَهم بالانصراف، ونزل بقصرٍ من قصور رقادة، وأمر يومَ الجُمُعة بذِكرِ اسمِه في الخطبة في البلاد، وتلقَّب بالمهديِّ أميرِ المؤمنين، وجلس بعد الجمعةِ رجلٌ يُعرَف بالشَّريف، ومعه الدُّعاةُ، وأحضروا النَّاسَ بالعنف والشدّة، ودَعَوهم إلى مذهبِهم، فمن أجاب أُحسِنَ إليه، ومَن أبى حُبِسَ، فلم يدخُلْ في مذهبِهم إلَّا بعضُ الناس، وهم قليلٌ، وقُتِلَ كثيرٌ ممَّن لم يوافِقْهم على قولهم، فكان أوَّل من حَكَم هو هذا الملَقَّب بالمهدي واسمُه عبيدالله بن عبدالله بن ميمون، وقد اختُلِفَ كثيرًا في نَسَبِه وصِحَّتِه، فمنهم من يقولُ: نسبُه صحيحٌ إلى علي بن أبي طالب، ومنهم من يقولُ: بل هو راجِعٌ إلى ميمون القدَّاح، ومنهم من يقولُ: بل أصلُه يهودي ربيبُ الحسين بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بل قيل: إنَّ اليسَع قد قَتَل عُبيدَ الله، وجعل مكانه رجلًا يهوديًّا في السجن، وهو الذي أخرجه أبو عبدالله الشيعي، عِلمًا أنَّ أبا عبدالله الشيعي لم يَسبِقْ له أن رأى المهديَّ أصلًا؛ ولذلك حصل الشِّقاقُ بينهم فيما بعدُ, وعلى أيِّ حالٍ كان ومِن أيِّ نسَبٍ كان، فإنَّ دولَتَهم وما كانوا يَدْعونَ إليه كفيلةٌ ببيان ما كانوا عليه من الكُفرِ والنِّفاقِ والشِّقاقِ لأهلِ الحقِّ والإسلامِ.
هي أم المؤيد زينبُ بنت أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبدوس الجرجاني الأصل النيسابوري الدار، الصوفي المعروف بالشعري- وتدعى حرة- وُلِدَت سنة 524 بنيسابور، وكانت عالمة، وأدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة. سمعت من أبي محمد إسماعيل بن أبي القاسم ابن أبي بكر النيسابوري القارئ، وأبي القاسم زاهر وأبي بكر وجيه ابني طاهر الشحاميين، وأبي المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري، وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي وغيرهم، وأجاز لها الحافظ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي، والعلامة أبو القاسم محمود ابن عمر الزمخشري صاحب " الكشاف " وغيرهما من السادات الحُفَّاظ. قال ابن خلكان: "ولنا منها إجازة كتبتها في بعض شهور سنة 610، ومولدي يوم الخميس بعد صلاة العصر حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة 608 بمدينة إربل بمدرسة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين" توفيت الحرة سنة 615 في جمادى الآخرة بمدينة نيسابور" قال الذهبي: "حدثت أم المؤيد أكثر من ستين سنة، روى عنها: عبد العزيز بن هلالة، وابن نقطة، والبرزالي، والضياء، وابن الصلاح، والشرف المرسي، والصريفيني، والصدر البكري، ومحمد بن سعد الهاشمي، والمحب ابن النجار، وجماعة كثيرة. وسمعت بإجازتها على التاج بن عصرون، والشرف بن عساكر، وزينب الكندية. وكانت شيخة صالحة، عالية الإسناد معمرة، مشهورة، انقطع بموتها إسناد عال". قال ابن خلكان: "الشَّعْري بفتح الشين المثلثة وسكون العين المهملة وفتحها وبعدها راء، هذه النسبة إلى الشعر وعمله وبيعه، ولا أعلم من كان في أجدادها يتعاطاه فنسبوا إليه، والله أعلم".
هو عَمرُو بن العاصِ بن وائلِ بن هاشِم بن سُعَيْدِ –بالتصغير- بن سهمِ بن عَمرِو بن هُصَيْص بن كعبِ بن لُؤَيٍّ القُرشيُّ السَّهميُّ، أميرُ مِصْرَ، يُكَنَّى أبا عبدِ الله، وأبا محمَّد، أَسلَم قبلَ الفتحِ في صَفَر سنة ثمانٍ، وقِيلَ: بين الحُديبيَة وخيبر، ولمَّا أَسلَم كان النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُقَرِّبُه ويُدْنِيهِ لِمَعرفتِه وشَجاعتِه. ووَلَّاهُ غَزوةَ ذاتِ السَّلاسِل، وأَمَدَّهُ بأبي بكرٍ وعُمَر وأبي عُبيدةَ بن الجَرَّاح، ثمَّ اسْتَعمَله على عمَّان، فمات صلَّى الله عليه وسلَّم وعَمرٌو هو أميرُها، ثمَّ كان مِن أُمراءِ الأجنادِ في الجِهادِ بالشَّام في زمن عُمَر، وهو الذي افتتَح قِنَّسْرين، وصالَح أهلُ حَلَب ومَنْبِج وأَنْطاكِيَة، ووَلَّاهُ عُمَرُ فِلَسْطين، ووُلِيَّ عَمرٌو إمِرَةَ مِصْرَ في زمن عُمَر بن الخطَّاب، وهو الذي افتَتَحها وأبقاهُ عُثمانُ قليلًا ثمَّ عزَلهُ ووَلَّى عبدَ الله بن أبي سَرْحٍ، ثمَّ لم يَزَلْ عَمرٌو بغيرِ إمْرَةٍ إلى أن كانت الفِتنَة بين عَلِيٍّ ومُعاوِيَة، فلَحِقَ بمُعاوِيَة فكان معه يُدَبِّرُ أمْرَهُ في الحربِ إلى أن جَرى أَمْرُ الحَكَمَيْنِ، ثمَّ سار في جيشٍ جَهَّزَهُ مُعاوِيَةُ إلى مِصْرَ فوَلِيَها لمُعاوِيَة مِن صَفَر سنة ثمانٍ وثلاثين إلى أن مات سنة ثلاثٍ وأربعين على الصَّحيح. تُوفِّي وهو ابنُ تِسعين سنة. وفي صحيحِ مُسلمٍ مِن رِواية عبدِ الرَّحمن بن شِماسَةَ قال: فلمَّا حَضَرَت عَمرَو بن العاصِ الوَفاةُ بَكى، فقال له عبدُ الله بن عَمرٍو ابنُه: ما يُبكيكَ؟ فذَكر الحديثَ بطُولِه في قِصَّةِ إسلامِه، وأنَّه كان شديدَ الحياءِ مِن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَرفَعُ طَرْفَه إليه. وذكَرها ابنُ عبدِ الحَكَم في فُتوحِ مِصْر، وزاد فيها أشياء مِن رِواية ابنِ لَهِيعَةَ.
اتَّفَقَ أنَّ عَضُدَ الدولة أبا شجاع فناخسرو بن ركن الدولة بن بُويه أخذ بغدادَ مِن ابنِ عَمِّه بختيار بن أحمدَ بنِ بُوَيه، فسار بختيار إلى المَوصِل، واتَّفَق مع أبي تغلِبَ الغضنفر بن ناصر الدولة بن حِمدانَ على قتالِ فناخسرو، فسار إليهم فناخسرو وأوقَعَ بهم، فانهزموا، وأَسَر بختيار وقَتَلَه، وفَرَّ حينئذٍ مِن أولاد بختيار إعزازُ الدولة المرزبان، وأبو كاليجار وعَمَّاه: عُمدةُ الدولة أبو إسحاق، وأبو طاهرٍ مُحمَّد، ابنا مُعِزِّ الدولة أحمدَ بنِ بُوَيه، وساروا إلى دمشق في عسكرٍ، فأكرَمَهم خليفةُ أفتكين، وأنفَقَ فيهم، وحمَلَهم وصَيَّرَهم إلى أفتكين بطبَرِيَّة، فقَوِيَ بهم، وصار في اثني عشر ألفًا، فسار بهم إلى الرملة، ووافى بها طليعةَ العزيز، فحَمَل عليها أفتكين مرارًا، وقتَلَ منها نحوَ مائة رجل، فأقبل عسكرُ العزيز زُهاءَ سبعين ألفًا، فلم يكنْ غيرُ ساعةٍ حتى أحيط بعَسكرِ أفتكين، وأَخَذوا رِجالَه، فصاح الديلمُ الذين كانوا معه: زنهار، زنهار، يريدونَ: الأمان، الأمان. واستأمَنَ إليه أبو إسحاق إبراهيم بن مُعزِّ الدولة، وابنُ أخيه إعزاز الدولة، والمرزبان بن بختيار، وقتل أبو طاهر محمَّدُ بنُ معز الدولة، وأُخِذَ أكثَرُهم أسرى، ولم يكن فيهم كبيرُ قَتلى، وأخذَ أفتكين نحو القدس، فأُخِذَ وجيءَ به إلى حسَّانِ بنِ علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح، فشَدَّ عمامتَه في عُنُقِه، وساقَه إلى العزيز، فشُهِرَ في العسكر، وأُسنِيَت الجائزةُ لابن الجرَّاح، وكانت هذه الوقعة لسبعٍ بقين من المحرم سنة 368. فورد كتابُ العزيز إلى مصر بنُصرتِه على أفتكين، وقَتْل عدة من أصحابه وأسْرِه، فقُرِئَ على أهلِ مِصرَ فاستبشروا وفَرِحوا.
هو محمَّد المهدي بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولد بسامرَّا، وهو المهديُّ المنتظَرُ عند الرافضة، يقولون إنَّه دخل في سردابٍ في بيت والده ولم يخرُج منه، وزعموا أنَّه سيخرج في آخر الزمان بنفس العمُرِ الذي دخل فيه السرداب، وهم ينتظرونَه إلى اليومِ عند السرداب المزعوم. قيل: إنه دخل وعمُره تسعُ سنين، وقيل: تسع عشر سنة. وقيل: إنَّ أباه الحسن مات عن غيرِ عَقِبٍ، وقيل: وُلِدَ له ولدٌ بعد موتِه مِن جارية اسمها "نرجس" أو "سوسن" وقيل: إن اسمَها "صقيل" ادَّعَت الحملَ به بعد وفاةِ سَيِّدها, فزادت فتنةُ الرافضة بصقيل هذه، وبدَعواها، إلى أن حبسها المعتضِدُ بعد نيِّف وعشرين سنة من موت سَيِّدها، وبقيت في قصره إلى أن ماتت في زمن المقتَدِر؛ قال الذهبي: "نعوذ بالله من زوالِ العَقلِ، فلو فرَضْنا وقوعَ ذلك في سالفِ الدَّهرِ، فمن الذي رآه؟! ومن الذي نعتَمِدُ عليه في إخباره بحياته؟ ومن الذي نصَّ لنا على عصمتِه وأنَّه يعلمُ كلَّ شَيءٍ؟! هذا هَوَسٌ بيِّنٌ، إنْ سَلَّطْناه على العقولِ ضَلَّت وتحيَّرَت، بل جَوَّزَت كلَّ باطلٍ، أعاذنا اللهُ وإياكم من الاحتجاجِ بالمُحالِ والكَذِب، أو رَدِّ الحقِّ الصحيحِ، كما هو ديدَنُ الإماميَّةِ، وممن قال: إنَّ الحسن العسكري لم يُعقِب: محمد بن جرير الطبري، ويحيى بن صاعد، وناهيك بهما معرفةً وثِقةً"..
هو العالم الفقيهُ الشيخ عثمان بن عبد الجبَّار بن حمد بن شبانة الوهبي التميمي، بقيَّةُ العُلماء الزُّهَّاد، ورِثَ العلمَ كابرًا عن كابر مِن آبائه وأجداده وأعمامه وإخوانه، وممَّن تعلم منهم ابنُ عمه الشيخ حمد بن عثمان بن عبد الله، والشيخ حمد التويجري، والشيخ عبد المحسن بن نشوان بن شارخ، القاضي في الكويت والزبير، والشيخ عبد العزيز بن عيد الإحسائي نزيل الدرعية، وكان الشيخ عثمان فقيهًا له قُدرةٌ على استحضار أقوال العلماء، وله معرفةٌ في التفسير والفرائض والحساب، وهو عالمُ زمانِه في المذهَبِ، لا يدانيه فيه أحدٌ، تخرَّج على يديه وانتفع به خلقٌ كثير، منهم: ابنه القاضي الشيخ عبد العزيز، والشيخ عبد الرحمن بن أحمد الثميري قاضي سدير، والشيخ عثمان بن علي بن عيسى قاضي الغاط والزلفي، وغيرهم. وكان في الغايةِ مِن الوَرَعِ والعبادة والعفاف، عَيَّنه الإمام عبد العزيز بن محمد قاضيًا لعسير، وألمع عند عبد الوهاب أبو نقطة المتحَمِّي، وأقام هناك مدة ثم رجع، وأرسله الإمام عبد العزيز بن محمد أيضًا قاضيًا لعسير عند ابن حرملة وعشيرته، ثم أرسله الإمام سعود قاضيًا في عمان، وأقام في رأس الخيمة يقضي بين الناسِ ويُدَرِّس لطلابِ العلم، ثم رجع، ولَمَّا توفِّيَ عَمُّه محمد قاضي بلدان سدير، عَيَّنه الإمام سعود مكانه قاضيًا لبلدان سدير، واستمَرَّ في القضاء زمن الإمام سعود وزمن ابنه الإمام عبد الله وما بعدهما، إلى أن توفي في السابع والعشرين من هذا الشهر.
هو العلَّامة، الأخباريُّ أبو الفَرَج عليُّ بنُ الحسين بن محمَّد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي، وجَدُّه مروان بن محمَّد آخِرُ خُلَفاء بني أمية، وهو أصبهانيُّ الأصل بغداديُّ المنشأ، كان من أعيانِ أُدَبائِها، وأفراد مُصَنِّفيها, صاحِبُ كتاب الأغاني، وكتاب أيَّام العرب، ذكَرَ فيه ألفًا وسَبعمائة يومٍ مِن أيامهم، وكان شاعرًا أديبًا كاتبًا، عالِمًا بأخبار الناس وأيَّامِهم، بحرًا في نقل الآداب، وكان فيه تشيُّع، قال ابن الجوزي: "ومِثلُه لا يُوثَقُ به؛ فإنَّه يُصَرِّحُ في كتُبِه بما يوجِبُ العِشقَ ويُهَوِّنُ شُربَ الخَمرِ، وربَّما حكى ذلك عن نَفسِه، ومن تأمَّل كِتابَ الأغاني رأى فيه كلَّ قبيحٍ ومُنكَرٍ " قال التنوخي: "كان يحفَظُ مِن الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديثِ المُسنَدة والنَّسَب ما لم أرَ قَطُّ مَن يحفَظُ مِثلَه، ويحفظ دونَ ذلك من علومٍ أُخَرَ- منها اللغة والنحو، والخرافات والسِّيَر والمغازي، ومن آلةِ المُنادمة- شيئًا كثيرًا، مثل علم الجوارح والبَيطرة ونُتَف من الطب والنُّجوم والأشربة وغير ذلك، وله شِعرٌ يجمَعُ إتقانَ العُلَماء وإحسانَ الظُّرَفاء الشعراء ". كان مولده في سنة أربع وثمانين ومائتين، السنة التي توفِّيَ فيها البحتري الشاعر.
هو إمامُ دار الهجرة، أبو عبدِ الله مالكُ بنُ أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث الأصبحي، ثم المدني، جَدُّه الصحابيُّ أبو عامرٍ الأصبحيُّ، كان طويلًا عظيمَ الهامةِ أصلعَ أبيضَ الرأسِ واللِّحية. أبيضَ شديدَ البياضِ إلى الشُّقرة. وُلِدَ بالمدينة سنة ثلاث وتسعين، عام موتِ أنسِ بنِ مالكٍ خادمِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ونشأ في أسرةٍ ذاتِ صَونٍ ورفاهيةٍ وتجَمُّل. أحدُ الأئمَّة الأربعة المشهورين، إليه تُنسَبُ المالكيَّة، كان إمامًا في الحديثِ بلا منازعٍ، له كتابُ الموطأ المشهور. تعرَّضَ للفتنة أيَّامَ المنصورِ؛ بسبب فتوى له في قتالِ البُغاة، أقام في المدينةِ، وكان يُعظِّمُ ما جرى عليه عمَلُ أهلِ المدينةِ في الفِقهِ، وروى عن نافعٍ مولى ابنِ عُمَرَ، وأكثَرُ مَن رحل إليه للعلمِ المصريُّونَ والمغربيونَ، فكان هذا سببَ انتشارِ مَذهَبِه في تلك البقاعِ، توفي في المدينة ودُفِنَ في البقيعِ- رَحِمَه اللهُ تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمُسلمِينَ خَيرًا.
لَمَّا توفِّيَ السري أميرُ مصرَ للمأمونِ، وليَ بعدَه ابنُه عُبيدالله، ولَّاه الجُندُ وبايعوه، ثم حدَّثَته نفسُه الخروجَ عن طاعة المأمونِ وجَمَع وحَشَد، فبلغ المأمونَ ذلك وطلب عبدَ الله بنَ طاهرٍ لقتالِه وقتالِ الخوارج بمصرَ، فسار إليه ابنُ طاهر فتهَّيأ عُبيد الله بن السري لحَربِه وعبَّأ جيوشَه وحفَرَ خندقًا عليه، ثم تقدَّم بعساكِرِه إلى خارج مصرَ والتقى مع عبد اللهِ بنِ طاهر وتقاتلا قتالًا شديدًا، وثبت كلٌّ من الفريقينِ ساعةً كبيرةً حتى كانت الهزيمةُ على عُبيد الله بن السري أميرِ مصر، وانهزم إلى جهةِ مِصرَ، وتَبِعَه عبد الله بن طاهر بعساكِرِه فحاصره عبدُ الله بن طاهر وضيَّقَ عليه حتى أباده وأشرف على الهلاكِ، فطلب عُبيد الله بن السري الأمانَ مِن عبد الله بن طاهر بشُروطِه، فأمَّنَه عبدُ الله بن طاهر بعد أمورٍ صَدَرت، فخرج إليه عُبيد الله بن السري بالأمانِ، وبذل إليه أموالًا كثيرةً، وأذعن له وسلَّمَ إليه الأمرَ.
هو أبو عبدِ الله الزُّبيرُ بن العَوَّام بن خويلدِ بن أَسَدِ بن عبدِ العُزَّى بن قُصَيِّ بن كِلابٍ، أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ، أُمُّهُ صَفيَّةُ بنتُ عبدِ المُطَّلِب عَمَّةُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كان مِن أوائلِ الذين أسلموا، هاجَر الهِجرتين إلى الحَبشةِ وإلى المدينةِ، آخَى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين سَلمةَ بن سَلامةَ بن وَقْشٍ، قال فيه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَواريًّا، وحَواريَّ الزُّبيرُ بن العَوَّام). أوَّلُ مَن سَلَّ سَيْفًا في سَبيلِ الله عزَّ وجلَّ، شهِد بدرًا مُعْتَجِرًا بعِمامةٍ صَفراءَ فنزَلت الملائكةُ على سِيماهُ، اشْتُهِرَ الزُّبيرُ بِبَسالَتِه في القِتالِ وشِدَّتِهِ وإقْدامِه حتَّى كأنَّه جيشٌ لوحده، ولم يَتَخلَّفْ عن غَزاةٍ غَزاها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وقد قُتِلَ رحمه الله وهو ابن سبعٍ وسِتِّين، وقِيلَ: سِتٍّ وسِتِّين.