هو الأفضل أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ لدين الله العلوي، صاحب مصر. ولد بعسقلان. كان داهيةً، تغلَّب على المُلك وحَجَر على الحافظ وردَّ على المصادِرين أموالهم، فحَمِد له المصريون ذلك. وكتَبَ اسمه على السكة، ودعا على المنابر للقائم في آخر الزمان، واستمر إلى أن قتله أحد مماليك الحافظ، بظاهر القاهرة. وسبب قتله: أنه كان قد حجر على الحافظ، ومنعه أن يحكُمَ في شيء من الأمور؛ قليل أو جليل، وأخذ ما في قصر الحافظ إلى داره، وأسقط من الدعاء ذكر إسماعيل الذي هو جدهم، وإليه تُنسَب الإسماعيلية، وأسقط من الأذان حي على خير العمل، ولم يخطب للحافظ، وأمر الخطباء أن يخطبوا له بألقاب كتبها لهم، وهي: "السيد الأفضل الأجَلُّ، سيد مماليك أرباب الدول، والمُحامي عن حوزة الدين، وناشر جناح العدل على المسلمين الأقربين والأبعدين، ناصر إمام الحق في حالتي غيبته وحضوره، والقائم بنصرته بماضي سيفه وصائب رأيه وتدبيره، أمين الله على عباده، وهادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده، ومرشد دعاة المؤمنين بواضح بيانه وإرشاده، مولي النعم، ورافع الجور عن الأمم، ومالك فضيلتي السيف والقلم، أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل، شاهنشاه أمير الجيوش"، وكان إماميَّ المذهب، يُكثِرُ ذم الآمر والتناقص به، فنفرت منه شيعة العلويين ومماليكهم، وكرهوه، وعزموا على قتله، فخرج في العشرين من المحرم إلى الميدان يلعب بالكرة مع أصحابه، فكمن له جماعة منهم مملوك فرنجي كان للحافظ، فخرجوا عليه، فحمل الفرنجي عليه فطعنه فقتله، وحزُّوا رأسه، وخرج الحافظ من الخزانة التي كان فيها، ونهب الناس دارَ أبي علي، وأخذوا منها ما لا يُحصى، وركب الناس والحافظ إلى داره، فأخذ ما بقي فيها وحمله إلى القصر وجُدِّدت يومئذ البيعة للحافظ بالحكم، فلما بويع استوزر أبا الفتح يانس الحافظي في ذلك اليوم بعينه، ولقب أمير الجيوش، وكانت مدة حكم أبي علي بن الأفضل سنة وشهرًا وعشرة أيام؛ ثم حُمِل بعد قتله ودُفن بتربة أمير الجيوش، ظاهر باب النصر.
وقعَت هذه الغَزوةُ بعدَ غَزوةِ الأحزابِ مُباشرةً، وكان سببُها نقضَ بني قُريظةَ العهدَ الذي بينهم وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بتَحريضٍ مِن حُيَيِّ بنِ أَخطبَ النَّضْريِّ. وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد أَرسلَ الزُّبيرَ لِمعرفةِ نِيَّتِهم، ثمَّ أَتبَعهُ بالسَّعدَيْنِ –سَعدِ بنِ عُبادةَ وسَعدِ بنِ مُعاذٍ- وابنِ رَواحةَ، وخَوَّاتِ بنِ جُبيرٍ لِذاتِ الهدفِ ليَتأكَّدَ مِن غَدرِهم. وقد أمَر الله تعالى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، بقِتالِهم بعدَ عَودتِه مِنَ الخَندقِ ووَضْعِهِ السِّلاحَ، فأَوْصى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أصحابَهُ أن يَتوجَّهوا إلى بني قُريظةَ، وقال لهم: (لا يُصَلِّيَنَّ أَحدُكم العَصرَ إلَّا في بني قُريظةَ). كما في رِوايةِ البُخاريِّ، أو (الظُّهرَ) كما في رِوايةِ مُسلمٍ. فضرَب الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم الحِصارَ على بني قُريظةَ لمُدَّةِ خمسٍ وعِشرين ليلةً على الأرجحِ، حتَّى نزلوا على حُكمِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، فأَحَبَّ أن يَكِلَ الحُكمَ عليهم إلى واحدٍ مِن رُؤساءِ الأَوْسِ؛ لأنَّهم كانوا حُلفاءَ بني قُريظةَ، فجعل الحُكمَ فيهم إلى سعدِ بنِ مُعاذٍ، فلمَّا دَنا مِنَ المسلمين قال الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم للأنصارِ: قوموا إلى سَيِّدِكُم -أو خَيرِكُم- ثمَّ قال: إنَّ هؤلاءِ نزلوا على حُكمِك. قال -أي سعدُ بنُ مُعاذٍ-: تُقْتَلُ مُقاتِلَتُهم، وتُسْبى ذَرارِيُّهُم، وتُقْسَمُ أَموالُهم. فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: قَضيتَ بحُكمِ الله تعالى. ونَفَّذَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم هذا الحُكمَ فيهم، وكانوا أَربعمائةٍ على الأرجحِ. ولم يَنْجُ إلَّا بعضُهم، ثمَّ قَسَّمَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم أَموالَهم وذَراريَّهُم بين المسلمين.
كان الإسبان قد أسروا الملك أبا عبد الله محمد الصغير، وفي هذه السنة تم فك أسره بسعاية أمِّه الأميرة عائشة الحرة، بعد مفاوضات انتهت بعقد معاهدة مع ملك قشتالة تقتضي دفع غرامة مالية باهظة، والإفراج عن الأسرى الإسبان، وأن يكون الملك أبو عبد الله الصغير تحت حكم قشتالة وحكم ملكها فرديناند إلى غير ذلك من شروط مهينة، تحقِّقُ سياسة الاستيلاء على غرناطة.
وقَّع حزبُ الله والتيارُ الإسلاميُّ السلفيُّ في لُبنان وثيقةَ تفاهُمٍ مشترَكةٍ في خطوةٍ هي الأولى بين الجانِبَين. ووقَّع الوثيقةَ عن التيار السلفيِّ ممثِّلُ التيار السلفيِّ في لبنان الدكتور حسن الشهال رئيس "جمعية العدل والإحسان"، وعن حزبِ الله رئيسُ المجلسِ السياسيِّ إبراهيم أمين السيد. ولكنْ بعد يومٍ واحدٍ من توقيعِ وثيقةِ التفاهُمِ بين هذه الفَصائلِ، تم الإعلانُ عن تَجميدِ الوثيقةِ.
هو المستعين بالله أبو العباس أحمد بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد العباسي، ولد سنةَ إحدى وعشرين ومئتين, وأمُّه أمُّ ولد، اسمها مخارق, وكان رَبعةً، خفيف العارضينِ، وكان مليحًا أبيض، بوجهِه أثَرُ جُدريٍّ، وكان يلثغُ في السين نحو الثاء، بايعَ له الأتراكُ بالخلافة بعد المنتصر، فتسلَّطوا عليه وقهروه، فلم يكن له من الأمرِ شَيءٌ، فانتقل من سامرَّا إلى بغداد مُغضَبًا, جرت عدَّةُ وقائع بينه وبين أخيه المعتز، فلمَّا اشتد البلاءُ على الناس في بغداد تخلَّى ابن طاهر عن المستعينِ، وكاتب المعتزَّ، ثم سعى في الصلح على خلعِ المستعين، فخلع نفسَه على شروطٍ مؤكَّدة في أول سنة 252ه، ثم أنفذوه إلى واسط، فاعتُقِلَ تسعةَ أشهر، ثمَّ أُحضِرَ إلى سامرَّا، فقتلوه بقادسيَّة سامرا, وكان مُسرِفًا في تبذير الخزائنِ والذَّخائر.
اتَّفق رؤساء المهاشير من بني خالد وآل صبيح مع عبد المحسن بن سرداح آل عبيد الله ودويحس بن عريعر على عداوةِ سعدون بن عريعر رئيس بني خالد، وحَربِه، واستنجدوا بثويني بن عبد الله شيخ المنتفق، فتنازلوا مع سعدون في قتالٍ، وقُتِل بينهم كثيرٌ من القتلى، وصارت الكرَّةُ على سعدون ومن معه، فانهزموا وفرَّ سعدون إلى الدرعية وطلَبَ الأمانَ من عبد العزيز لكنَّه لم يجِبْه إلى طلَبِه؛ بسبب هُدنةٍ بينه وبين ثويني شيخ المنتفق، فعزم سعدون دخولَ الدرعية بدون أمانٍ، فشاور الأميرُ الشيخَ فأشار إليه أن يأذَنَ له بالدخولِ، فدخل وأكرمَه عبد العزيز، فلما علم ثويني بذلك تعاظم الأمرَ فاستعطَفَه عبد العزيز فلم ينجَحْ، فقام ثويني بالكيدِ للدرعية وأتباعِها.
هو محمَّدُ بن سِيرينَ أبو بَكر بن أبي عَمرٍو الأَنصارِي، مَوْلَى أَنَسِ بن مالِكٍ النَّضْرِي، كان أبوه مِن سَبْيِ عَيْنِ التَّمْر، أَسَرَهُ في جُملَةِ السَّبْيِ خالدُ بن الوَليدِ، فاشْتَراهُ أَنسُ بن مالِك ثمَّ كاتَبَهُ. وُلِدَ ابنُ سِيرينَ لِسَنَتينِ بَقِيَتا في خِلافَة عُثمان، كان مِن جُلَّةِ التَّابِعين، قال هِشامُ بن حَسَّان: هو أَصْدَقُ مَن أَدركْتُ مِن البَشَرِ. ولمَّا مات أَنسُ بن مالِك أَوْصى أن يُغَسِّلَه محمَّدُ بن سِيرينَ، قال ابنُ عَوْنٍ: كان محمَّد يأتي بالحَديثِ على حُروفِه. قال أَشْعَثُ: كان ابنُ سِيرينَ إذا سُئِلَ عن الحَلالِ والحَرامِ تَغَيَّرَ لَونُه حتَّى يكونَ كأنَّه ليس بالذي كان. قال مُوَرِّقٌ العِجْلِي: ما رَأيتُ أَحَدًا أَفْقَهَ في وَرَعِه ولا أَوْرَعَ في فِقْهِهِ مِن محمَّدِ بن سِيرينَ. كان مَشهورًا في تَعبيرِ الرُّؤى والأَحلامِ، وأمَّا الكِتابُ المَوجودُ اليومَ على أنَّه مِن تَألِيفِه فغَيْر صَحيح، فهو لم يُؤَلِّف كِتابًا في تَفسير الرُّؤى، وتَعْبِيراتُه للرُّؤَى مَبْثُوثَة في كُتُب التَّراجِم والتَّاريخ.
بعد أن انتظم الأمرُ في مِصرَ للفاطميِّينَ تهيَّأَ المعِزُّ الفاطميُّ العُبَيديُّ للانتقالِ إليها، فسار بخزائِنِه وتوابيتِ آبائه. وكان دخولُه إلى الإسكندريَّة في شعبان سنة 362 وتلقَّاه قاضي مصر الذهلي وأعيانُها، فأكرمهم وطال حديثُه معهم وأظهر لهم أنَّ قَصْدَه الحَقُّ والجِهادُ، وأن يختِمَ عُمُرَه بالأعمالِ الصالحة، وزعم أنَّه يُقيمُ أوامِرَ جَدِّه رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم، ووعَظَ وذَكَّرَ حتى بكى بعضُهم ثم خلَعَ عليهم. وقال للقاضي أبي الطاهر الذهلي: من رأيتَ مِن الخُلَفاء؟ فقال: واحِدًا. قال: من هو؟ قال مولانا، فأعجَبَه ذلك. ثم إنَّه سار حتى خيَّمَ بالجيزةِ فأخذ عسكرُه في التعدية إلى الفُسطاط، ثم دخل القاهرةَ وقد بُنِيَ له بها قَصرُ الإمارةِ وزُيِّنَت مصر، فاستوى على سريرِ مُلكِه.
وفي شوال مِن هذه السنة شكا الصوفيَّةُ بالقاهرة على الشيخِ تقيِّ الدين ابن تيميَّةَ, وكلامه في ابنِ عربي وغيرِه إلى الدولة، فردُّوا الأمرَ في ذلك إلى القاضي الشافعيِّ ابن صصرى، فعُقِد له مجلسٌ وادعى عليه ابنُ عطاء بأشياءَ فلم يثبُتْ عليه منها شيءٌ، لكنَّه قال: لا يُستغاثُ إلَّا بالله، لا يُستغاثُ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالاستغاثةُ بمعنى العبادة، فبعضُ الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شَيءٌ, ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أنَّ هذا فيه قِلَّةُ أدَبٍ!! فحضرت رسالةٌ إلى القاضي أن يعملَ معه ما تقتضيه الشريعةُ، فقال القاضي: قد قلتُ له ما يقالُ لِمِثله، ثمَّ إنَّ الدولة خيَّروه بين أشياء إمَّا أن يسيرَ إلى دمشقَ أو الإسكندريةِ بشُروطٍ أو الحبسِ، فاختار الحبسَ فدخل عليه جماعةٌ في السَّفَرِ إلى دمشق ملتَزِمًا ما شُرِط، فأجاب أصحابَه إلى ما اختاروا جبرًا لخواطِرِهم، فركب خَيلَ البريد ليلة الثامِنَ عشر من شوال ثم أرسلوا خلفَه من الغَدِ بريدًا آخرَ، فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابنِ جماعة وعنده جماعةٌ مِن الفقهاء، فقال له بعضُهم: إن الدولةَ ما ترضى إلا بالحبسِ، فقال القاضي: وفيه مَصلحةٌ له، واستناب شمسُ الدين التونسي المالكي وأذِنَ له أن يحكُمَ عليه بالحبسِ فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيءٌ، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحَيَّرَ، فلما رأى الشيخُ توقُّفَهم في حبسه قال: أنا أمضي إلى الحبسِ وأتَّبِعُ ما تقتضيه المصلحةُ، فقال نور الدين الزواوي: يكون في موضعٍ يصلُحُ لمِثلِه، فقيل له: الدولة ما ترضى إلا بمسمَّى الحبس، فأُرسِلَ إلى حبس القضاةِ في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بنت الأعزِّ حين سُجن، وأُذِنَ له أن يكون عنده من يخدُمُه، وكان ذلك كلُّه بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولةِ، فإنَّه كان قد استحوذ على عَقلِ بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعدُ، وغيرِه من الدولة، والسلطانُ مقهورٌ معه، واستمر الشيخُ في الحبس يُستفتى ويقصِدُه الناسُ ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المُشكِلة التي لا يستطيعُها الفُقَهاءُ من الأمراءِ وأعيانِ النَّاسِ، فيكتُب عليها بما يحيرُ العُقولَ من الكتاب والسنَّة، ثم عُقِدَ للشيخ مجلسٌ بالصالحية بعد ذلك كُلِّه، ونزل الشيخُ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكَبَّ الناس على الاجتماعِ به ليلًا ونهارًا.
هي الشيخةُ العاملةُ الفقيهة الزاهدة القانتة الواعظة سيدة نساء زمانها: أم زينب فاطمة بنت عياش بن أبي الفتح البغدادية، كانت تفقه الفقه جيدًا, وانتفع بها خلقٌ من نساء أهل دمشق لصِدقِها في وعظها، ثم تحولت إلى القاهرة فحصل بها النفع وارتفع قدرُها وبعُدَ صيتُها، وكانت قد تفقهت عند المقادسة، كالشيخ ابن أبي عمر وغيره. كانت وافرة العلم، فائقة قانعة باليسير، حريصة على النفع والتذكير، ذات إخلاص وخشية، انصلح بها نساء دمشق، ثم نساء مصر، وكان لها قبول زائد، ووقْع في النفوس, وقل من أُنجِبَ من النساء مثلها. قال ابن كثير: "كانت من العالِمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بالاحتساب على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالَهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا يقدر عليه الرجال، وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية، فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعتُ الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرًا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلِها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وقد ختم لديها نساء كثيرًا القرآن، منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق، زوجة الشيخ جمال الدين المِزِّي، وهي التي أقرأت ابنَتَها زوجتي أَمَة الرحيم زينب" ماتت فاطمة ليلة عرفة عن نيف وثمانين سنة، وشيَّعها خلائق.
جمالُ الدين أبو منصور حسن بن يوسف بن مُطَهَّر الحلي العراقي الشيعي المعتزلي، شيخُ الروافض بتلك النواحي وفقيهُهم، وله التصانيفُ الكثيرة، يقال تزيدُ على مائة وعشرين مجلدًا، وعِدَّتُها خمسةٌ وخمسون مصنَّفًا، في الفقه والنحو والأصول والفلسفة والرفض، وغير ذلك من كبارٍ وصغار، وله كتابُ منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة، خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدرِ كيف يتوجه، إذ خرج عن الاستقامةِ، وقد انتدب في الرَّدِّ عليه الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابنُ تيمية في كتابه منهاج السنَّة، أتى فيها بما يُبهِرُ العقول من الأشياء المليحة الحسنة، وكان شيخُ الإسلام يسمِّيه ابن المُنَجَّس, وله كتابُ تبصرة المتعلمين في أحكام الدين، وله قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام، وتهذيب طريق الوصول إلى علم الأصول، وإرشاد الأذهان إلى أحكام القرآن، وتحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، وله خلاصة الأقوال في الرجال، وكشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين، وغيرها من الكتب في علم الكلام والعقائد، وُلِدَ ابن المطَهَّر الذي لم تُطهَّر خلائقُه ولم يتطَهَّر من دَنَسِ الرفض ليلة الجمعة سابع عشرين رمضان سنة 648، وتوفي ليلة الجمعة عشرين محرم من هذه السنة، وكان اشتغالُه ببغداد وغيرها من البلاد، واشتغل على نصير الطوسي، وعلى غيره، ولَمَّا تَرَفَّض الملك خربندا حَظِيَ عنده ابن المطَهَّر وساد جدًّا وأقطعه بلادًا كثيرة.
في هذه السَّنَةِ خَرجَ أرمانوس مَلِكُ الرُّومِ في مائتي ألفٍ من الرُّومِ، والفِرنجِ، والغَربِ، والرُّوسِ، والبجناك، والكرج، وغَيرِهم، من طوائفِ تلك البِلادِ، فجاءوا في تَجَمُّلٍ كَثيرٍ، وزِيٍّ عَظيمٍ، وقَصدَ بِلادَ الإسلامِ، فوَصلَ إلى ملازكرد من أَعمالِ خلاط. فبَلغَ السُّلطانَ ألب أرسلان الخَبرُ. وهو بمَدينةِ خوي من أذربيجان، قد عاد من حَلَب. وسَمِعَ بكَثرَةِ الجُموعِ التي مع مَلِكِ الرُّومِ، فلم يَتَمَكَّن من جَمْعِ العَساكرِ لبُعدِها وقُرْبِ العَدُوِّ، فسَيَّرَ الأَثقالَ مع زَوجتِه ونِظامِ المُلْكِ إلى همذان، وسار هو فيمن عنده من العَساكرِ، وهُم خَمسة عشر ألف فارس. وَجَدَّ في السَّيْرِ وقال لهم: إنَّني أُقاتِلُ مُحتَسِبًا صابرًا، فإن سَلِمْتُ فنِعمةٌ مِن الله تعالى، وإن كانت الشهادةُ فإنَّ ابني ملكشاه وَلِيُّ عَهْدِي. وساروا فلمَّا قارَبَ العَدُوَّ جَعلَ له مُقدِّمةً، فصادَفَت مُقدِّمَتُه، عند خلاط، مُقدِّمَ الرُّوسِيَّة في نَحوِ عشرة آلاف من الرُّومِ، فاقتَتَلوا، فانهَزمَت الرُّوسِيَّةُ، وأَسَرَ مُقدِّمَهم، وحُمِلَ إلى السُّلطانِ، فجَدَعَ أَنْفَهُ، وأَنْفَذَ بالسَّلَبِ إلى نِظامِ المُلْكِ، وأَمرَهُ أن يُرسِلَهُ إلى بغداد، فلمَّا تَقارَب العَسكرانِ أَرسلَ السُّلطانُ إلى مَلِكِ الرُّومِ يَطلُب منه المُهادَنة، فقال: لا هُدْنَةَ إلَّا بالرَّيِّ. فانزَعجَ السُّلطانُ لذلك، فقال له إِمامُه وفَقِيهُه أبو نصرٍ محمدُ بن عبدِ المَلِكِ البُخاريُّ، الحَنَفيُّ: إنَّك تُقاتِل عن دِينٍ وَعَدَ الله بِنَصْرِهِ وإِظهارِهِ على سائرِ الأديانِ، وأَرجو أن يكون الله تعالى قد كَتبَ باسمِك هذا الفَتحَ، فالْقِهِم يومَ الجُمعةِ، بعدَ الزَّوالِ، في الساعةِ التي تكون الخُطباءُ على المنابرِ، فإنَّهم يَدعُون للمُجاهِدين بالنَّصرِ، والدُّعاءُ مَقرونٌ بالإجابةِ. فلمَّا كانت تلك الساعةُ صلَّى بهم، وبَكَى السُّلطانُ، فبَكَى الناسُ لِبُكائِه، وَدَعا ودَعَوا معه وقال لهم: مَن أَرادَ الانصرافَ فليَنصَرِف، فما هاهنا سُلطانٌ يأمرُ ويَنهى، وأَلقَى القَوْسَ والنِّشابَ، وأَخذَ السَّيفَ والدَّبُّوسَ – الدَّبُّوس آلة من آلاتِ الحَربِ تُشبِه الإِبْرَة-، وعَقَدَ ذَنَبَ فَرَسِه بِيَدِه، وفَعلَ عَسكرُه مِثلَه، ولَبِسَ البَياضَ وتَحَنَّطَ، وقال: إن قُتِلتُ فهذا كَفَني. وزَحَفَ إلى الرُّومِ وزَحَفوا إليه، فلمَّا قارَبَهم نَزلَ السُّلطانُ عن فَرَسِه وسَجَدَ لله عزَّ وجلَّ، ومَرَّغَ وَجهَه في التُّرابِ وَدَعا الله واستَنصَرَهُ، فأَنزلَ الله نَصرَهُ على المُسلمينَ، ومَنَحَهم أَكتافَهم فقَتَلوا منهم خَلْقًا كَثيرًا، وأُسِرَ مَلِكُهم أرمانوس، أَسَرَهُ غُلامٌ رُومِيٌّ، فلمَّا أُوقِفَ بين يدي المَلِكِ ألب أرسلان ضَرَبَهُ بِيَدِه ثلاثَ مَقارِع وقال: لو كنتُ أنا الأَسيرَ بين يَديكَ ما كنتَ تفعل؟ قال: كلَّ قَبيحٍ. قال: فما ظَنُّكَ بي؟ فقال: إمَّا أن تقتل تَقتُلَني وتُشْهِرَني في بِلادِك، وإمَّا أن تَعفُو وتَأخُذ الفِداءَ وتُعيدَني. قال: ما عَزمتُ على غَيرِ العَفوِ والفِداءِ. فافتَدَى نَفسَه منه بألف ألف دِينارٍ وخمسمائة ألف دينار، فلما انتهى إلى بِلادِه وَجدَ الرُّومَ قد مَلَّكوا عليهم غَيرَه، فأَرسلَ إلى السُّلطانِ يَعتَذِر إليه، وبَعثَ من الذَّهبِ والجَواهِر ما يُقارِب ثلاثمائة ألف دينار، وتَزَهَّدَ ولَبِسَ الصُّوفَ ثم استغاث بملك الأرمن فأَخذَه وكحله وأَرسلَه إلى السُّلطانِ يَتَقَرَّبُ إليه بذلك.
إنَّ خاقان التكين صاحبَ سَمرقَند مَلَكَ تِرمِذَ بعدَ قَتْلِ السُّلطانِ ألب أرسلان، فلمَّا استَقامَت الأُمورُ للسُّلطانِ ملكشاه سار إلى تِرمِذ وحَصرَها، وطَمَّ العَسكرُ خَندَقها، ورَماها بالمجانيقِ، فخافَ مَن بها، فطَلَبوا الأَمانَ فأَمَّنَهم، وخَرَجوا منها وسَلَّموها، وكان بها أَخٌ لِخَاقان التكين، فأَكرَمَه السُّلطانُ، وخَلَعَ عليه وأَحسنَ إليه وأَطلَقَه، وسَلَّمَ قَلعةَ تِرمِذ إلى الأَميرِ ساوتكين، وأَمرَهُ بعِمارَتِها وتَحصِينِها وعِمارَةِ سُورِها بالحَجَرِ المُحْكَمِ، وحَفْرِ خَندَقِها وتَعمِيقِه، ففَعلَ ذلك. وسارَ السُّلطانُ ملكشاه يُريدُ سَمرقَند، ففارَقَها صاحِبُها، وأَنفذَ يَطلُب المُصالَحَةَ، ويَضرَع إلى نِظامِ المُلْكِ في إجابَتِه إلى ذلك، ويَعتَذِر مِن تَعَرُّضِه إلى تِرمِذ، فأُجِيبَ إلى ذلك، واصطَلَحوا، وعاد ملكشاه عنه إلى خُراسان، ثم منها إلى الرَّيِّ، وأَقطعَ بَلْخ وطخارستان لأَخيهِ شِهابِ الدِّينِ تكش.
لما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة، سار عنها إلى اللاذقية، فوصل إليها في الرابعِ والعشرين من جمادى الأولى، فترك الفرنجُ المدينة لعَجزِهم عن حِفظِها، وصَعِدوا إلى حصنينِ لها على الجبل فامتنَعوا بهما، فدخل المسلمونَ المدينة وحصروا القلعتينِ اللتين فيهما الفرنجُ، وزحفوا إليهما، ونَقَّبوا السور ستين ذراعًا، وعَلِقوه- حازوه- وعَظُمَ القتال، واشتد الأمرُ عند الوصول إلى السور، فلما أيقن الفرنجُ بالعَطَبِ، ودخل إليهم قاضي جبَلة فخَوَّفَهم من المسلمين؛ طَلَبوا الأمانَ فأمَّنَهم صلاح الدين، ورفع المسلمونَ الأعلامَ على الحصنين، وكان ذلك في اليومِ الثالث من النزول عليها، وكانت عمارةُ اللاذقية من أحسَنِ الأبنية وأكثَرِها زَخرفةً مملوءةً بالرخام على اختلافِ أنواعها، فسَلَّمَها صلاح الدين إلى ابن أخيه تقيِّ الدين عمر، فعَمَرَها، وحَصَّنَ قَلعتَها.
مَلَك غياثُ الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلادَ الرومِ التي كانت بيد أخيه رُكن الدين سليمان وانتَقَلَت بعد موته إلى ابنه قلج أرسلان بن ركن الدين، وكان سبَبُ مِلك غياث الدين لها أنَّ ركنَ الدين كان قد أخذ ما كان لأخيه غياث الدين، وهي مدينةُ قونية، فهَرَب غياث الدين منه، وقَصَد الشامَ إلى المَلِك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحب حلب، فلم يجد عنده قبولًا، وقصر به، فسار مِن عنده، وتقَلَّب في البلاد إلى أن وصل إلى القُسطنطينيَّة، فأحسن إليه مَلِكُ الروم وأقطَعَه وأكرَمَه، فأقام عنده، وتزوجَ بابنةِ بعض البطارقة الكبارِ، فأقام عنده، فلما مات أخوه ركن الدين سليمان سنة ستمائة، اجتمع الأمراءُ على ولده قلج، وخالَفَهم الأتراك الأوج، وهم كثيرٌ بتلك البلاد، وأنِفَ مِن اتباعهم، أرسل قلج إلى عَمِّه غياث الدين كيخسرو يستدعيه إليه ليُمَلِّكَه البلاد، فسار إليه، فوصَلَ في جمادى الأولى، واجتمع به، وكَثُرَ جَمعُه، وقصد مدينة قونيَّة ليَحصُرَها، وكان قلج والعساكرُ بها، فأخرجوا إليه طائفةً من العسكر، فلَقُوه فهزموه، فبَقِيَ حيران لا يدري أين يتوجَّهُ، فقصد بلدةً صغيرة يقالُ لها أوكرم بالقُربِ من قونية، فقَدَّرَ الله تعالى أن أهل مدينة أقصر وثبوا على الوالي فأخرجوه منها ونادَوا بشعار غياثِ الدين، فلَمَّا سَمِعَ أهل قونية بما فعله أهل أقصر قالوا: نحن أولى مَن فعل هذا؛ لأنَّه كان حَسَنَ السيرة فيهم لَمَّا كان مالكهم، فنادوا باسمِه أيضًا، وأخرجوا مَن عِندَهم، واستدعوه، فحضَرَ عندهم، ومَلَك المدينةَ وقبض على ابن أخيه ومَن معه.