ورد إلى واسط رجلٌ يعرف بالزكم محمد بن طالب بن عصية، وأصلُه من القارب، مِن قُرى واسط، وكان باطنيًّا ملحدًا، ونزل مجاورًا لدور بني الهروي، وغَشِيَه الناس، وكَثُر أتباعه، وكان ممَّن يغشاه رجلٌ يُعرَف بحسن الصابوني، فاتَّفَق أنه اجتاز بالسويقة، فكَلَّمه رجل نجَّار في مذهبهم، فرَدَّ عليه الصابوني ردًّا غليظًا، فقام إليه النجَّار وقتَلَه، وتسامع الناسُ بذلك، فوثبوا وقتلوا مَن وَجَدوا ممَّن يَنتَسِبُ إلى هذا المذهب، وقَصَدوا دار ابن عصية وقد اجتمع إليه خلقٌ من أصحابه، وأغلقوا الباب، وصَعِدوا إلى سطحها، ومنعوا النَّاسَ عنهم، فصَعِدوا إليهم من بعضِ الدور مِن على السطح، وتحصَّنَ مَن بقي في الدارِ بإغلاق الأبواب والممارق، فَكَسَروها، ونزلوا فقَتَلوا من وجدوا في الدارِ وأحرقوها، وقُتِلَ ابن عصية، وفتح الباب، وهرب منهم جماعةٌ فقُتِلوا؛ وبلغ الخبَرُ إلى بغداد، وانحدر فخرُ الدين أبو البدر بن أمسينا الواسطي لإصلاحِ الحال، وتسكينِ الفِتنةِ.
تعَذَّرت الأقواتُ بديار مصر، وتزايدت الأسعارُ، وعَظُم الغلاءُ، حتى أكل النَّاسُ الميتاتِ، وأكَلَ بَعضُهم بعضًا، وتَبِعَ ذلك فناءٌ عظيم، وابتدأ الغلاءُ من أول العام، وتمادى الحالُ ثلاث سنين متواليةً، لا يَمُدُّ النيلُ فيها إلا مدًّا يسيرًا، حتى عَدِمَت الأقوات، وخرج من مصرَ عالمٌ كثيرٌ بأهليهم وأولادهم إلى الشام، فماتوا في الطُّرُقاتِ جُوعًا، وشَنع الموتُ في الأغنياء والفقراء، وأُكِلَت الكلابُ بأسرِها، وأُكِلَ من الأطفال خلقٌ كثير، ثم صار الناس يحتالُ بعضُهم على بعض، ويؤخَذُ مَن قَدَر عليه فيُؤكَل، وإذا غَلَب القويُّ ضعيفًا ذبَحَه وأكله، وفُقِدَ كثيرٌ مِن الأطباء لكثرةِ مَن كان يستدعيهم إلى المرضى، فإذا صار الطبيبُ إلى داره ذبَحَه وأكله، وخَلَت مدينة القاهرة ومِصرُ أكثَر أهلها، وصار من يموتُ لا يجِدُ من يواريه، فيصير عِدَّة أشهر حتى يؤكَلَ أو يبلى، واتَّفَق أن النيل توقَّفَ عن الزيادة في سنة ست وتسعين، فخاف النَّاسُ، وقَدِمَ إلى القاهرةِ ومِصرَ من أهل القرى خلقٌ كثير، فإنَّهم لم يجدوا شيئًا من القُوتِ، لا الحبوب ولا الخضروات، وكان الناس قد فَنُوا بحيث بَقِيَ من أهل القرية الذين كانوا خمسمائة نفر، إمَّا نفرانِ أو ثلاثة، فلم تجِدِ الجسورُ من يقوم بها، ولا القُرى من يعمل مصالحُها، وعَدِمَت الأبقار وجافت الطرقاتُ بمصر والقاهرة وقراهما، ثم أكلَت الدودةُ ما زُرِعَ، فلم يوجَدْ مِن التقاوى ولا من العقر ما يمكن به رَدُّه، ولم يبقَ بمصرَ عامِرٌ إلا شَطُّ النيل، وكانت أهل القرى تخرج للحَرثِ فيموتُ الرجلُ وهو ماسِكٌ المحراثَ، ثمَّ وقع في بني عنزة بأرضِ الشراة- بين الحجاز واليمن- وباءٌ عظيمٌ، وكانوا يسكُنونَ في عشرين قرية، فوقعَ الوباء في ثماني عشرة قريةً، فلم يبقَ منهم أحد، وكان الإنسانُ إذا قرب من تلك القرى يموت ساعةَ ما يقاربها، فتحاماها النَّاسُ، وبقيت إبلُهم وأغنامُهم لا مانع لها، وأمَّا القريتان الأخريان فلم يمُتْ فيهما أحد، ولا أحسُّوا بشيءٍ مِمَّا كان فيه أولئك, فسُبحانَ مُقَدِّرِ الأقدارِ!!
خرج محمَّدُ بنُ البعيث بن حلبس عن الطاعةِ في بلاده أذربيجان، وأظهر أن المتوكِّلَ قد مات، والتفَّ عليه جماعةٌ مِن أهلِ تلك الرساتيق، ولجأ إلى مدينةِ مرند فحصَّنَها، وجاءته البعوثُ مِن كلِّ جانبٍ، وأرسل إليه المتوكِّلُ جيوشًا يَتبَعُ بَعضُها بعضًا، فنصبوا على بلده المجانيقَ مِن كلِّ جانب، وحاصروه محاصرةً عظيمةً جِدًّا، وقاتلهم مُقاتلةً هائلة، وصبَرَ هو وأصحابُه صبرًا بليغًا، وقَدِمَ بغا الشرابي لمحاصرتِه، فلم يزَلْ به حتى أسَرَه واستباح أموالَه وحريمَه، وقتل خَلقًا مِن رؤوسِ أصحابِه، وأسَرَ سائِرَهم وانحَسَمت مادةُ ابن البعيث، وأُرسِلَ ابنُ البعيث إلى سامِرَّا وحُبِسَ، ثم شُفعَ له عند المتوكِّل، فلم يقتُلْه، ولكنه مات بعد شهر في سامرَّا.
كان خمارتكين وكوهرائين يَسعَيانِ في قَتْلِ ابنِ عَلَّان اليَهوديِّ، ضامِنِ البَصرَةِ، وكان مُلتَجِئًا إلى نِظامِ المُلْكِ، وكان بين نِظامِ المُلْكِ وبين خمارتكين الشرابي وكوهرائين عَداوَةٌ، فسَعَيا باليهوديِّ لذلك، فأَمَرَ السُّلطانُ ملكشاه بتَغرِيقِه فغُرِّقَ، وانقَطعَ نِظامُ المُلْكِ الوَزيرُ عن الرُّكوبِ ثلاثةَ أيامٍ، وأَغلقَ بابَه، ثم أُشِيرَ عليه بالرُّكوبِ فرَكِبَ، وعَمِلَ للسُّلطانِ دَعوةً عَظيمةً قَدَّمَ له فيها أَشياءَ كَثيرةً، وعاتَبَهُ على فِعلِه، فاعتَذرَ إليه، وكان أَمْرُ اليهوديِّ قد عَظُمَ إلى حَدِّ أنَّ زَوجتَه تُوفِّيَت، فمَشَى خَلفَ جَنازَتِها كلُّ مَن في البَصرَةِ، إلَّا القاضي، وكانت له نِعمةٌ عَظيمةٌ، وأَموالٌ كَثيرةٌ، فأَخذَ السُّلطانُ منه مائةَ ألفِ دِينارٍ، وضَمِنَ خمارتكين البَصرةَ كلَّ سَنَةٍ بمائةِ ألفِ دِينارٍ ومائةِ فَرَسٍ.
سار صلاحُ الدين إلى بزاعة فحصرها، وقاتَلَه مَن بالقلعة، ثم تسلَّمَها وجعل بها من يحفَظُها، وسار إلى مدينة منبج فحصَرها آخِرَ شوال، وبها صاحِبُ قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وكان شديدَ العداوة لصلاح الدين والتَّحريضِ عليه، والإطماع فيه، والطَّعن فيه، فحَنِقَ عليه صلاح الدين وهَدَّده، ثم مَلَك منبج، ولم تمتنِعْ عليه إلا قلعَتُها وبها صاحِبُها اسمه ينال، قد جمع إليها الرجال والذخائر والسلاح، فحصره صلاحُ الدين وضَيَّق عليه وزَحَف إلى القلعة، فوصل النقَّابون إلى السور فنَقَبوها ومَلَكوها عَنوةً، وغَنِمَ العسكر الصلاحي كلَّ ما بها، وأخذ صاحِبَها ينال أسيرًا، فأخذ صلاحُ الدين كُلَّ ماله، ثم أطلقه صلاح الدين فسار إلى الموصل، فأقطعه سيفُ الدين غازي مدينةَ الرقَّةِ.
وُلِد الشَّيخُ يوسُفُ بنُ عبدِ اللهِ القَرَضاويُّ عامَ 1345هـ /1926م، درَس مراحِلَ تعليمِه كُلَّها في الأزهَرِ حتى حصَل فيه على درَجةِ الدُّكتوراه، ثمَّ سافر عامَ 1961م إلى دولةِ قَطَر وعَمِل فيها مديرًا للمعهدِ الدِّينيِّ الثَّانويِّ، وبعدَ استقرارِه هناك حَصَل القَرَضاويُّ على الجِنسيَّةِ القَطَريَّةِ، وفي سنةِ 1397هـ/ 1977 م تولَّى تأسيسَ وعِمادةَ كُلِّيَّةِ الشَّريعةِ والدِّراساتِ الإسلاميَّةِ بجامعةِ قَطَر، كما أصبح مديرًا لمركَزِ بحوثِ السُّنةِ والسِّيرةِ النَّبَويَّةِ بجامعةِ قَطَر.
أسَّس الاتِّحادَ العالَميَّ لعُلَماءِ المُسلِمين وأصبح رئيسًا له إلى قَبلِ وفاتِه بسَنَواتٍ، وكان رئيسَ المجلِسِ الأوروبِّيِّ للإفتاءِ والبُحوثِ.
له العديدُ من المؤلَّفاتِ أشهَرُها كتابُ: (فِقهُ الزَّكاةِ).
توفِّيَ في مدينةِ الدَّوحةِ بقَطَر عن عُمرٍ يناهِزُ 96 عامًا.
لَمَّا أتت صلاحُ الدين البِشارةَ بهزيمة الإسبتارية والدواية، وقَتْل مَن قُتِل منهم، وأسْر مَن أُسِرَ في صفوريَّة، عاد عن الكرك إلى العسكَرِ الذي مع وَلَدِه الملك الأفضل، فنزل بالأقحوانةِ بقرب طبرية، وتقَدَّم صلاح الدين حتى قارب الفرنجَ، فلم يَرَ الفرنج من يمنَعُهم من القتال، ونزل جريدةً إلى طبرية وقاتلَهم، ونقَّبَ بعض أبراجها، وأخذَ المدينة عَنوةً في ليلة، ولجأ من بها إلى القلعةِ التي لها، فامتنعوا بها، وفيها صاحبتُها، فنهَبَ المدينةَ وأحرَقَها، فقَوِيَ عَزمُ الروم على التقَدُّم إلى المسلمين وقتالِهم، فرحلوا من مُعسكَرِهم الذي لَزِموه، وقَرُبوا من عساكِرِ الإسلام، فلما سمع صلاح الدين بذلك عاد عن طبريَّةَ إلى عسكره، وكان قريبًا منه، وإنما كان قَصدُه بمحاصرةِ طبريَّةَ أن يفارِقَ الفرنج مكانَهم للتمكُّنِ مِن قتالهم، وكان المسلمونَ قد نزلوا على الماء، والزَّمانُ قَيظٌ شديدُ الحر، فوجد الفرنجُ العَطشَ، ولم يتمكنوا من الوصولِ إلى ذلك الماء من المسلمين، وكانوا قد أفنَوا ما هناك من ماءِ الصهاريج ولم يتمكَّنوا من الرجوع خوفًا مِن المسلمين، فبَقُوا على حالهم إلى الغد، وهو يوم السبت، وقد أخذ العطشُ منهم، وأصبح صلاحُ الدين والمسلمونَ يوم السبت لخمسٍ بَقِينَ مِن ربيع الآخر، فرَكِبوا وتقَدَّموا إلى الفرنج، فركب الفرنجُ، ودنا بعضُهم من بعضٍ إلَّا أن الفرنجَ قد اشتَدَّ بهم العَطَشُ وانخَذَلوا، فاقتتلوا، واشتَدَّ القتال، وصبر الفريقان، ورمى المسلمونَ مِن النشاب ما كان كالجراد المنتَشِر، فقَتَلوا من خيول الفرنج كثيرًا. والفرنج قد جمعوا نفوسَهم براجِلِهم وهم يقاتلون سائرينَ نحو طبرية، لعَلَّهم يردون الماء. فلما عَلِمَ صلاح الدين مَقصِدَهم صَدَّهم عن مرادِهم، وكان بعضُ المتطَوِّعة من المسلمين قد ألقى في تلك الأرض نارًا، وكان الحشيش كثيرًا فاحترق، وكانت الريحُ على الفِرنجِ، فحَمَلت حَرَّ النار والدُّخان إليهم، فاجتمع عليهم العَطَشُ وحَرُّ الزمانِ وحَرُّ النار، والدُّخانُ، وحَرُّ القتال، فلما انهزم القُمُّص-كبير القساوسة- سُقِطَ في أيديهم وكادوا يستسلِمونَ، ثمَّ عَلِموا أنَّهم لا ينجِّيهم من الموتِ إلَّا الإقدام عليه، فحملوا حملاتٍ مُتداركة كادوا يزيلونَ بها المسلمينَ، على كثرتِهم، عن مواقِفِهم، لولا لُطفُ الله بهم، إلَّا أن الفرنجَ لا يَحمِلونَ حملةً فيَرجِعونَ إلَّا وقد قُتِلَ منهم، فوهنوا لذلك وهنًا عظيمًا، فأحاط بهم المسلمون إحاطةَ الدائرة بقُطرِها، فارتفع من بَقِيَ مِن الفرنج إلى تلٍّ بناحية حطين، وأرادوا أن ينصِبوا خيامَهم، ويجمُّوا نفوسَهم به، فاشتد القتالُ عليهم من سائر الجهات، ومنعوهم عمَّا أرادوا، ولم يتمَكَّنوا من نصب خيمةٍ غيرَ خيمةِ مَلِكِهم، وأخذ المسلمونَ صَليبَهم الأعظمَ الذي يسمُّونَه صليبَ الصلبوت، ويذكرون أنَّ فيه قطعة من الخَشَبة التي صُلِبَ عليها المسيحُ عليه السَّلامُ- بزَعمِهم- فكان أخذُه عندهم من أعظَمِ المصائب عليهم، وأيقنوا بعده بالقَتلِ والهلاك، هذا والقَتلُ والأسرُ يَعمَلانِ في فرسانهم ورجالتِهم، فبَقِيَ الملك على التلِّ في مقدار مائة وخمسين فارسًا من الفُرسان المشهورين والشُّجعان المذكورين، وكان سبَبُ سقوط الفرنج لَمَّا حملوا تلك الحملات ازدادوا عطشًا، وقد كانوا يرجون الخلاص في بعض تلك الحَمَلاتِ مِمَّا هم فيه، فلما لم يجِدوا إلى الخلاصِ طريقًا، نزلوا عن دوابِّهم وجلسوا على الأرض، فصَعِدَ المسلمون إليهم، فألقوا خيمةَ الملك، وأسرُوهم عن بَكرةِ أبيهم، وفيهم الملِكُ وأخوه والبرنس أرناط، صاحِبُ الكرك، ولم يكن للفرنجِ أشَدُّ منه عداوةً للمسلمين، وأسَروا أيضًا صاحِبَ جبيل، وابن هنفري، ومقدم الداوية، وكان من أعظم الفرنجِ شأنًا، وأسروا أيضًا جماعةً مِن الداوية، وجماعةً من الإسبتارية، وكثُرَ القتل والأسر فيهم، فكان من يرى القتلى لا يظُنُّ أنهم أَسَروا واحدًا، ومَن يرى الأسرى لا يظُنُّ أنهم قتلوا أحدًا! فلما فرغ المسلمونَ منهم نزل صلاح الدين في خيمتِه، وأحضر مَلِكَ الفرنجِ عنده، وبرنس أرناط صاحِبَ الكرك، وأجلس المَلِك إلى جانبه وقد أهلَكَه العَطَشُ، فسقاه ماءً مثلوجًا، فشَرِبَ، وأعطى فَضْلَه برنس صاحب الكرك، فشَرِبَ، فقال صلاح الدين: إنَّ هذا الملعون لم يشرَبِ الماءَ بإذني فينالَ أماني؛ ثمَّ كلَّم البرنس، وقَرَّعه بذنوبه، وعَدَّد عليه غَدَراتِه، وقام إليه بنفسه فضَرَبَ رَقَبتَه، وقال: كنتُ نَذَرتُ دفعتَينِ أن أقتُلَه إن ظَفِرتُ به: إحداهما لَمَّا أراد المسيرَ إلى مكة والمدينة، والثانية لَمَّا أخذ القافلةَ غدرًا، فلما قتَلَه وسُحِبَ وأُخرِجَ، ارتعدت فرائص الملك، فسَكَّن جأشَه وأمَّنَه.
كان دخولُ الرُّومِ إلى حَلَب بصحبة الدُّمُسْتُق مَلِك الروم، في مائتي ألفِ مقاتل، وكان سببُ ذلك أنَّه ورَدَ إليها بغتةً فنهَضَ إليه سيفُ الدولة بن حمدان بمن حضَرَ عنده من المقاتِلة، ولم يتمَكَّنوا من مقاوَمتِه لكثرةِ جُنودِه، وقَتَلَ مِن أصحاب سيف الدولة خلقًا كثيرًا، وكان سيفُ الدولة قليلَ الصبرِ ففَرَّ منهزمًا في نفرٍ يسيرٍ مِن أصحابه، فأوَّل ما استفتح به الدُّمُسْتُق- قبَّحه الله- أن استحوذ على دار سيفِ الدولة، وأخذ ما فيها من النِّساءِ والولدان وغيرِهم، ثمَّ حاصَرَ سُورَ حَلَب فقاتل أهلُ البلد دونه قتالًا عظيمًا، وقَتَلوا خلقًا كثيرًا من الروم، وثَلَمت الرومُ بسور حلب ثُلمةً عظيمة، فوقف فيها الرومُ فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها، فلمَّا جَنَّ الليلُ جَدَّ المسلمون في إعادتِها، فما أصبح الصباحُ إلا وهي كما كانت، وحَفِظوا السورَ حِفظًا عظيما، ثم بلغ المسلمونَ أنَّ الشُّرَط والبلاحية قد عاثُوا في داخل البلد ينهَبونَ البُيوتَ، فرجع الناسُ إلى منازلهم يمنعونها منهم قبَّحهم الله؛ فإنَّهم أهلُ شَرٍّ وفساد، فلما فعلوا ذلك غَلَبت الرومُ على السور فعَلَوه ودخلوا البلد يقتلونَ مَن لَقُوه، فقتلوا من المسلمينَ خلقًا كثيرًا وانتهبوا الأموالَ وأخذوا الأولاد والنساء، وخَلَّصوا من كان بأيدي المُسلمين من أسارى الروم، وكانوا ألفًا وأربعمائة، فأخذ الأُسارى السيوفَ وقاتَلوا المسلمين، وكانوا أضَرَّ على المسلمينَ مِن قَومِهم، وخَرَّبوا المساجِدَ وأحرقوها، وكلُّ شيءٍ لا يَقدِرونَ على حَملِه أحرقوه، وأسَرُوا نحوًا مِن بضعة عشر ألفًا ما بين صبيٍّ وصبيَّةٍ، ومن النساء شيئًا كثيرا، ومن الرجال الشَّباب ألفينِ، وأقاموا في البلد تسعةَ أيام يفعلون فيها الأفاعيلَ الفاسدةَ العظيمة، كلُّ ذلك بسببِ فِعلِ البلاحية والشُّرطِ في البلد- قاتَلَهم الله. ثم عزم الدُّمُسْتُق على الرحيلِ عنهم؛ خوفًا من سيف الدولة، ثمَّ إن الدُّمُسْتُق أمر بإحضارِ مَن في يديه من أُسارى المسلمين الرِّجال، وكانوا قريبًا من ألفينِ فضُرِبَت أعناقُهم بين يديه- لعنه الله- ثم كَرَّ راجِعًا.
تحكَّمَ عبدُ المَلِك ابنُ أبي عامرٍ المُلَقَّبُ بالمُظَفَّر بأمرِ الأندلُسِ بعد أخيه المنصورِ، ثمَّ توفِّيَ المُظَفَّر وتولى أخوه عبدُ الرَّحمنِ المُلَقَّب بشنشول، الذي قام بإخراجِ هِشام المؤيَّد أميرِ الأندلس مِن مُعتَقَلِه, وأعاده إلى قَصرِه الزَّهراءِ، فتقَرَّبَ له حتى ولاه المؤيَّدُ ولايةَ العَهدِ بَعدَه، ولَقَّبه بالنَّاصِرِ المأمون، ثم سار عبدُ الرحمن للغزو. وخلالَ ذلك خُلِعَ هِشامٌ المُؤَيَّد، وبُويعَ لمحمَّدِ بنِ هِشامِ بن عبد الجبار وأمَرَ بإثباتِ كُلِّ مَن جاءه في الدِّيوان، فلم يبقَ زاهِدٌ ولا جاهِلٌ ولا حَجَّامٌ، حتى جاءه، فاجتمع له نحوٌ مِن خمسين ألف، وذَلَّت له الوُزَراءُ والصَّقالبة، وجاؤوا وبايعوه، وأمَرَ بنَهبِ دور بني عامرٍ، وانتهى جميعُ ما في الزهراء من الأموالِ والسِّلاح، حتى قُلِعَت الأبوابُ، فيُقالُ: إنَّ الذي وصلَ إلى خزانةِ ابن عبدِ الجبَّار خمسةُ آلافِ ألفِ دينارٍ، وخَمسُمِئَة ألفِ دينارٍ، ومن الفِضَّة ألفُ درهمٍ، ثم وَجَد بعد ذلك خوابي فيها ألفُ ألفٍ، ومِئَةُ ألفِ دينارٍ، وخُطِبَ لمحمَّدِ بنِ هشامٍ بالخِلافةِ بقُرطبة، وتسَمَّى بالمهديِّ، وقُطِعَت دعوةُ المُؤَيَّدِ، وصلَّى المهديُّ الجُمعةَ بالنَّاسِ، وقُرِئَ كتابٌ بلَعنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي عامرٍ المُلَقَّب بشنشول، ثمَّ سار إلى حَربِه إثرَ ذلك، وكان أمرُ ابنِ عبدِ الجبَّار يَقوى، وأمْرُ شنشول يَضعُفُ، وأصحابُه يَنخَذِلونَ عنه, وقد استعان بعَسكرٍ مِن الفِرنجِ، وقام معه ابنُ عومس القومص، فسار شنشول إلى قُرطبةَ، فقال له القومص: ارجعْ بنا قبل أن يدهَمَنا العدوُّ، فأبى، ومال إلى ديرِ شريس، جَوعانَ سَهرانَ، فنزل له الرَّاهِبُ بخُبزٍ ودجاجةٍ، فأكَلَ وشَرِبَ وسَكِرَ، وجاء لحَربِه حاجِبُ المهديِّ في خمسِمِئَة فارس، فجَدُّوا في السَّيرِ وقَبَضوا عليه، فقال: أنا في طاعةِ المَهديِّ، وظهَرَ منه جزَعٌ وذُلٌّ، وقَبَّل قَدَم الحاجِبِ، ثم ضُرِبَ عُنُقُ شنشول، ونودي عليه «هذا شنشول المأبونُ المخذول». فكانت هذه نهايةُ الدَّولة العامريَّة بالأندلُسِ.
فارق السُّلطانُ مَسعودًا جماعةٌ مِن أكابِرِ الأمراءِ، وهم من أذربيجان: إيلدكر المسعودي، صاحِبُ كنجة وأرانية، وقيصر، ومن الجبل: البقش كون خر، وتتر الحاجب، وهو من مماليك مسعود أيضًا، وطرنطاي المحمودي، شحنة واسط، والدكز، وقرقوب وابن طغايرك، وكان سَبَبُ ذلك مَيلَ السُّلطانِ إلى خاص بك واطِّراحَه لهم، فخافوا أن يَفعَلَ بهم مِثلَ فِعلِه بعبدِ الرَّحمنِ وعَبَّاس وبوزابة، ففارقوه وساروا نحو العراق، ووصل إليهم عليُّ بن دبيس صاحِبُ الحلة، فنزل بالجانب الغربيِّ، فجند الخليفةُ أجنادًا يحتمي بهم، ووقع القتالُ بين الأمراء وبين عامَّةِ بغداد ومَن بها مِن العَسكَرِ، واقتتلوا عِدَّةَ دَفعاتٍ، ففي بَعضِ الأيَّامِ انهزَمَ الأمراءُ الأعاجِمُ مِن عامَّةِ بغدادَ مَكرًا وخَديعةً، وتَبِعَهم العامة، فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بَعضُ العسكَرِ مِن ورائهم، ووضعوا السَّيفَ فقُتِلَ مِن العامَّةِ خَلقٌ كثير، ولم يُبقُوا على صغيرٍ ولا كبيرٍ، وفَتَكوا فيهم، فأصيبَ أهلُ بغداد بما لم يصابوا بمِثلِه، وكَثُرَ القتلى والجرحى، وأُسِرَ منهم خلقٌ كثيرٌ، فقُتِلَ البعضُ وشُهر البَعضُ، ودفَنَ النَّاسُ مَن عرفوا، ومَن لم يُعرَفْ تُرِكَ طريحًا بالصَّحراءِ، وتفَرَّقَ العَسكَرُ في المحالِّ الغربية، فأخذوا مِن أهلِها الأموالَ الكثيرة، ونهَبوا بلدَ دجيل وغيره، وأخذوا النِّساءَ والولدان، ثمَّ إن الأمراءَ اجتَمَعوا ونزلوا مقابِلَ التاج وقَبَّلوا الأرضَ واعتَذروا، وتَردَّدَت الرُّسُلُ بينهم وبين الخليفةِ إلى آخِرِ النَّهارِ، وعادوا إلى خيامِهم، ورَحَلوا إلى النهروان، فنَهَبوا البلادَ، وأفسَدوا فيها، وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد، ثمَّ إنَّ هؤلاء الأمراءَ تفَرَّقوا وفارَقوا العراقَ، وتوفِّيَ الأميرُ قيصر بأذربيجان، هذا كُلُّه والسُّلطانُ مَسعود مُقيمٌ ببَلَدِ الجبل، والرسُلُ بينه وبين عَمِّه السُّلطان سنجر مُتَّصِلة، فسار السُّلطانُ سنجر إلى الريِّ، فلَمَّا عَلِمَ السُّلطان مسعود بوصولِه سار إليه وترَضَّاه، واستنزله عمَّا في نَفسِه فسَكَنَ. وكان اجتماعُهما سنة 544.
لمَّا استقَرَّ الملك ناصر بالكرك وعَزَم على الإقامة بها بعد أن خرج من مصرَ على أنَّه يريد الحَجَّ، كتب كتابًا إلى الديار المصرية يتضَمَّنُ عَزلَ نَفسِه عن المملكة، فأثبت ذلك على القُضاةِ بمصر، وكان قد اشتَدَّ حَنَقُه، وصار في غاية الحَصرِ مِن تحَكُّم بيبرس الجاشنكيري- متذوِّق طعام السلطان- وسيف الدين سلار المغولي عليه، وعَدَم تصَرُّفِه ومَنْعه من كلِّ ما يريد، حتى إنه ما يصِلُ إلى ما يشتهي أكلَه لقِلَّةِ المُرَتَّب، فلولا ما كان يتحَصَّلُ له من أوقاف أبيه لما وجد سبيلًا إلى بلوغِ بعض أغراضِه، فكانت مُدَّةُ سلطنة الملك الناصر هذه عشر سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يومًا، ثم نفذَ على قضاة الشامِ وبُويِعَ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنةِ في الثالث والعشرين من شوَّال يوم السبت بعد العصر، بدار الأمير سيف الدين سلار، اجتمع بها أعيانُ الدولة من الأمراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالمَلِك المظَفَّر، ورَكِبَ إلى القلعة ومَشَوا بين يديه، وجلس على سريرِ المَملكة بالقلعة، ودُقَّت البشائِرُ وسارت البريدية بذلك إلى سائِرِ البلدان، وفي مستهَلِّ ذي القعدة وصل الأميرُ عز الدين البغدادي إلى دمشق فاجتمع بنائِبِ السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان بالقَصرِ الأبلقِ، فقرأ عليهم كتابَ الناصر إلى أهل مصر، وأنَّه قد نزل عن الملك وأعرض عنه، فأثبَتَه القضاة وامتنع الحنبليُّ من إثباته وقال: ليس أحدٌ يترُكُ المُلكَ مُختارًا، ولولا أنَّه مُضطهدٌ ما تركه، فعُزِلَ وأقيم غيره، واستحلَفَهم للسلطانِ الملك المظفر ركن الدين بيبرس، وكُتِبَت العلامة على القلعة، وألقابُه على محالِّ المملكة، ودُقَّت البشائِرُ وزُيِّنَت البلد، ولما قرئَ كتاب الملك الناصر على الأمراءِ بالقصر، وفيه: إني قد صَحِبتُ الناس عشر سنين ثم اخترت المقامَ بالكرك، تباكى جماعةٌ من الأمراء وبايعوا كالمُكرَهين، وتولى مكانَ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأميرُ سيف الدين بن علي، ويُذكَرُ أن أصل بيبرس هذا من مماليكِ الملك المنصور قلاوون البرجية، وكان شركسي الجِنسِ، ولم نعلم أحدًا ملَكَ مِصرَ مِن الشراكسة قبله إن صَحَّ أنه كان شَركسيًّا.
في رابع عشر شهر صفر قدم الخبر بخروج تنبك البجاسي عن الطاعة ومحاربته أمراء دمشق، وسبب ذلك أنه لما ولي سودن بن عبد الرحمن نيابة الشام عوضا عن تنبك، تقدمت الملطفات السلطانية إلى أمراء دمشق، بالقبض على تنبك البجاسي، فأتوا دار السعادة في ليلة الجمعة رابِعَه، واستدعوه ليقرأ عليه كتاب السلطان، فارتاب من ذلك، وخرج من باب السِّرِّ، وقد لبس السلاحَ في جمع من مماليكه، فثار إليه الأمراءُ واقتتلوا معه حتى مضى صدر نهار الجمعة، فانهزموا منه، وتحصن طائفة منهم بالقلعة، ومضى آخرون إلى سودن بن عبد الرحمن، وقد نزل على صفد، ثم خرج تنبك البجاسي من دمشق بعد محاربته الأمراء حتى نزل على الجسر في يوم الجمعة الحادي عشر، وقد قطع سودن بن عبد الرحمن الجسرَ، فباتوا يتحارسون، وأصبحوا يوم السبت الثاني عشر يترامَون نهارهم كلَّه حتى حجز الليلُ بينهم، فباتوا ليلةَ الأحد على تعبيتهم، وأصبح تنبك يوم الأحد الثالث عشر راحلًا إلى جهة الصبيبة، في انتظار ابن بشارة أن يأتيه تقويةً له، فكتب سودن بذلك إلى السلطان، وركب بمن معه على جرائد الخيل، وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس، وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء السادس عشر، فتمكن من القلعة، فللحال أدركهم تنبك وقد بلغه مسيرهم، فلقوه عند باب الجابية وقاتلوه، فثبت لهم مع كثرتهم، وقاتلهم أشد قتال، والرمي ينزل عليه من القلعة، فتقنطر عن فرسه لضربةٍ أصابت كَتِفَه حتى خلعته، فتكاثروا عليه وجروه إلى القلعة ومعه نحو عشرين من أصحابه، وكُتِبَ بذلك للسلطان، فقَدِمَ الكتاب الأول من جسر يعقوب في يوم الأحد عشرين، فاضطرب الناس، ووقع الشروع في السفر، وأُحضِرَت خيول كثيرة من مرابطها بالربيع، فقدم الخبر الثاني بأخذ تنبك البجاسي بدمشق، فدُقَّت البشائر، وكُتِبَ بقتله وحَمْل رأسه إلي مصر، وتتبُّع من كان معه، وبطلت حركةُ السَّفَرِ.
بَعَثَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحمَّدَ بن مَسلَمةَ رَضي اللهُ عنه في ثلاثين راكِبًا إلى القُرْطاءِ -بينها وبين المدينةِ سَبعُ ليالٍ-، وهم بَطنٌ من بني بَكرٍ، واسمُه: عُبَيدُ بنُ كِلابٍ.
فخَرَج محمدُ بنُ مَسلَمةَ رَضي اللهُ عنه وأصحابُه فسار اللَّيلَ واستَتَر النَّهارَ، فلمَّا أغار عليهم هَرَب سائِرُهم بعد أن قَتَل نَفَرًا منهم، واستاقَ المسلمون نَعَمًا وشاءً، وقَدِموا المدينةَ لِلَيلةٍ بَقيَت من المُحرَّمِ ومعهم ثُمامةُ بنُ أُثالٍ الحَنفيُّ سيِّدُ بني حَنيفةَ، كان قد خَرَج مُتنَكِّرًا لاغتيالِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأمرِ مُسيلِمةَ الكَذَّابِ، فأخَذَه المسلمون، فلمَّا جاؤوا به رَبَطوه بساريةٍ من سَواري المَسجِدِ، فخَرَج إليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: "ما عِندَكَ يا ثُمامةُ؟" فقال: عِندي خَيرٌ يا مُحمَّدُ، إنْ تَقتُلْ تَقتُلْ ذا دَمٍ، وإنْ تُنعِمْ تُنعِمْ على شاكِرٍ، وإنْ كُنتَ تُريدُ المالَ فسَلْ تُعطَ منه ما شِئتَ، فتَرَكَه. ثم مرَّ به مرَّةً أُخرَى، فقالَ له مِثلَ ذلك، فرَدَّ عليه كما ردَّ عليه أولًا، ثم مرَّ مرَّةً ثالِثةً فقال بعدما دار بينهما الكَلامُ السَّابِقُ: "أطلِقوا ثُمامةَ"، فأطلَقوه، فذَهَب إلى نَخلٍ قَريبٍ من المسجِدِ، فاغتَسَل، ثم جاءه فأسلَمَ، وقال: "واللهِ ما كان على وَجهِ الأرضِ وَجهٌ أبغَضَ إليَّ من وَجهِك، فقد أصبَحَ وَجهُك أحبَّ الوُجوهِ إليّ، وواللهِ ما كان على وَجهِ الأرضِ دينٌ أبغَضَ إلَيَّ من دِينِك، فقد أصبَحَ دينُك أحَبَّ الأديانِ إليَّ، وإنَّ خَيلَك أخذَتْني وأنا أُريدُ العُمرةَ، فبَشَّرَه رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَره أن يَعتَمِرَ؛ فلمَّا قَدِم على قُرَيشٍ قالوا: صَبَأتَ يا ثُمامةُ، قال: لا واللهِ، ولكنِّي أسلَمتُ مع مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا واللهِ لا يأتيكُم من اليَمامةِ حَبَّةُ حِنطةٍ حتى يأذنَ فيها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم". وكانت يَمامةُ ريفُ مكةَ؛ فانصَرَف إلى بلادِه، ومَنَع الحَمْلَ إلى مكةَ، حتى جَهِدَت قُريشٌ، وكَتَبوا إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسألونه بأرحامِهِم أن يَكتُبَ إلى ثُمامةَ يُخلِّي إليهِم حَمْلَ الطَّعامِ؛ ففَعَل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
كانت غرناطة لعبد المؤمن، فأرسل أهلُها إلى الأمير إبراهيم بن همشك صهر ابن مردنيش فاستدعوه إليهم؛ ليسلموا إليه البلد؛ وكان قد وحَّدَ- صار من أتباع الموحدين- ومن أصحاب عبد المؤمن، وفي طاعته، وممن يحرِّضُه على قتل ابن مردنيش. ثم فارق طاعة عبد المؤمن وعاد إلى موافقة ابن مردنيش. فامتنعوا بحصنها، فبلغ الخبر أبا سعيد عثمان بن عبد المؤمن وهو بمدينة مالقة، فجمع الجيش الذي كان عنده وتوجَّه إلى غرناطة لنصرة من فيها من أصحابهم، فعلم بذلك إبراهيم بن همشك فاستنجد بن مردنيش، ملك البلاد بشرق الأندلس، فأرسل إليه ألفي فارس من أنجاد أصحابه ومن الفرنج الذين جندهم معه، فاجتمعوا بضواحي غرناطة، فالتقوا هم ومن بغرناطة من عسكر عبد المؤمن قبل وصول أبي سعيد إليهم، فاشتد القتال بينهم فانهزم عسكر عبد المؤمن، وقدم أبو سعيد، واقتتلوا أيضًا، فانهزم كثير من أصحابه، وثبت معه طائفة من الأعيان والفرسان المشهورين، والرجالة الأجلاد، حتى قُتلوا عن آخرهم، وانهزم حينئذ أبو سعيد ولحق بمالقة، وسمع عبد المؤمن الخبر، وكان قد سار إلى مدينة سلا، فسيَّرَ إليهم في الحال ابنَه أبا يعقوب يوسف في عشرين ألف مقاتل، فيهم جماعة من شيوخ الموحدين، فجدُّوا المسيرَ، فبلغ ذلك ابن مردنيش فسار بنفسه وجيشه إلى غرناطة ليُعين ابن همشك، فاجتمع منهم بغرناطة جمعٌ كثير، فنزل ابن مردنيش في الشريعة بظاهرها، ونزل العسكر الذي كان أمد به ابن همشك أولًا، وهم ألفا فارس، بظاهر القلعة الحمراء، ونزل ابن همشك بباطن القلعة الحمراء بمن معه، ووصل عسكر عبد المؤمن إلى جبل قريب من غرناطة، فأقاموا في سفحِه أيامًا، ثمَّ سَيَّروا سريةً أربعة آلاف فارس، فبيَّتوا العسكر الذي بظاهر القلعة الحمراء، وقاتلوهم من جهاتهم، فما لحقوا يركبون، فقتلوهم عن آخرهم، وأقبل عسكرُ عبد المؤمن بجملته، فنزلوا بضواحي غرناطة، فعَلِمَ ابن مردنيش وابن همشك أنَّهم لا طاقة لهم بهم، ففَرُّوا في الليلة الثانية، ولحقوا ببلادِهم، واستولى الموحِّدون على غرناطة, وعاد عبدُ المؤمن مِن مدينة سلا إلى مراكش.
في الوقتِ الذي كانت الحربُ دائرةً بين الشريف غالب وعثمان المضايفي في الطائفِ، كان الأميرُ سعود بن عبد العزيز يجمَعُ البواديَ والحاضرة في السبلة الموقع القريب من بلدة الزلفي، فلما اجتمعوا إليه رحَلَ بهم إلى الحجاز ونزل العقيقَ المعروف عند المعان، وكان ذلك وقتَ الحَجِّ, وكانت الحُجَّاج الشاميَّة والمصريَّة والمغربية وغيرُهم في مكة، وهم في قوَّةٍ هائلةٍ وعُدَّة عظيمة، فهَمُّوا بالخروج إلى سعود والمسير إلى قتاله، ثم تخاذَلوا وفسَد أمرُهم وانصرفوا إلى أوطانِهم، فألقى الله الرعبَ في قلب الشريفِ غالب وهو في مكَّة فلم يستقِرَّ فيها، فانهزم إلى جُدَّةَ هو وأتباعُه من العساكِرِ، وحمل خزائِنَه وذخائِرَه وبعضَ متاعِه وشوكتِه, وترك أخاه عبد المعين في مكَّةَ يدبِّرُ شؤونها فكتب عبد المعين إلى الأمير سعود يَعرِضُ عليه السَّمعَ والطاعة وعلى أن يستبقيَه في إمارةِ مكَّةَ، وأرسل الكتابَ مع بعض علماء مكة, فلما اجتمع هؤلاء العلماءُ بالأمير سعود في السَّيلِ وعرضوا عليه الكتاب قَبِلَ ما فيه وأعطاهم كتابًا بالأمان وموافقتِه على بقاءِ ولاية الشريف عبد المعين على مكَّةَ, ثم إنَّ سعودًا وجموعه أحرموا بالعُمرة، ودخلوا مكَّةَ واستولَوا عليها بدون قتال، وأعطى أهلَها الأمانَ وبذَلَ لهم من الصَّدَقاتِ والعطاء الشيءَ الكثير, فلما قضى سعودٌ العمرة فرَّق أهلَ النَّواحي يهدِمونَ القبابِ التي بُنِيت على القُبورِ والمشاهِدِ الشِّركيةِ بأنفُسِهم ففعلوا، وكان في مكَّةَ من هذا النوع شيءٌ كثيرٌ في أسفَلِها وأعلاها ووسَطَها وبيوتها، فأقام فيهم أكثَرَ من عشرينَ يومًا وأهل مكَّةَ يهدمونَها، حتى لم يبقَ مِن تلك المشاهِدِ والقِبابِ إلا أعدموها وجعلوها ترابًا! كانت العادة أن يصلِّيَ في المسجِدِ الحرامِ بالجماعةِ الحاضرةِ أحدُ الأئمَّةِ من المذاهب الأربعةِ، ثم يتلوه غيرُه، فأمر الأميرُ سعود بإبطال تلك العادةِ وألَّا يصلِّي في المسجِدِ الحرام إلَّا إمامٌ واحدٌ، فيصلي الصُّبحَ الشافعيُّ، والظُّهرَ المالكيُّ، وهكذا بقية الأوقات، ويصلِّي الجمعةَ مفتي مكَّةَ عبد الملك القلعي الحنفي, وأمر بتدريس كشفِ الشبُهاتِ في المسجد الحرام في حَلقةٍ يحضُرُها العلماء والأهالي ففعلوا, وكان الشريفُ في هذه المدةِ يراسل سعودًا، وطلبَ الصُّلحَ وبَذَل المالَ، وهو يريد أن يحصِّنَ جُدَّة.