ظهر في إيران رجلٌ شيعي إسماعيلي اسمُه حسن علي شاه، وجمع حولَه عددًا كبيرًا من الإسماعيليَّةِ وغيرهم، فأرهبوا القوافل، وهاجموا القرى حتى ذاع صيتُه، وقَوِيت شوكته، وخَشِيَته الأسرة القاجارية الشيعية الحاكمةُ في إيران، فأُعجِبَ الناس بقوته، وانضموا تحت لوائِه؛ طمعًا في المكاسب المادية التي وعدهم بها، وكان الإنجليزُ في ذلك الوقت يعملون على بَسطِ الثورة ضِدَّ شاه إيران. وقام الإسماعيلي حسن علي بالثورة ضِدَّ الشاه القاجاري بعد أن وعَده الإنجليزُ بحكم فارس، لكِنَّ الثورة لم يُكتَب لها النجاح، حيث قَبَض عليه الشاه وسجنه، فتدخَّل الإنجليز للإفراج عنه، فتحقق لهم ذلك على أن يُنفى خارج إيران، فزيَّن له الإنجليز الرحيلَ إلى أفغانستان، فلما وصلها كشف أمرَه الأفغانُ، فاضطرَّ إلى الرحيل إلى الهند فأقام بها، واتخذ من مدينة بومباي مقرًّا له، واعترف به الإنجليزُ إمامًا للطائفة النزارية الإسماعيلية لقبوه بـ "آغا خان". وتجمَّع الإسماعيليون في الهند حوله، فلما رأى فيهم الطاعةَ العمياء، كما هي طاعة الإسماعيلية لأئمَّتهم، قَوِيَ عُوده، وأخذ ينظِّمُ شؤون طائفتِه إلى أن هلك سنة 1881م. ويعتبر حسن علي شاه مؤسِّسَ الأسرة الآغاخانية، وأوَّلَ إمام إسماعيلي يلقَّب بـ (أغاخان) وهو الإمامُ السادس والأربعون في ترتيب الأئمة الإسماعيلية في رأي هذه الفرقة، وصارت هذه الفرقةُ مِن الإسماعيلية تُعرَف بـ "الأغاخانية". وعقائد الأغاخانية هي عقائِدُ الإسماعيلية، ومِن أبرزها ما صاغه الأغاخانيون بأسلوبِهم، وما احتوته كتبُهم ونشراتهم؛ فبنى الإسماعيليون ومنهم الأغاخانيون معتقدَهم في الألوهية على ما أسموه (التنزيه والتجريد) وانتهوا إلى تعطيلِ الله سبحانه عن كلِّ وصفٍ وتجريدِه من كل حقيقة، وقالوا: "لا هو موجود، ولا لا موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز..!" ونَفَوا أسماءه وصفاته بزعم أنه فوق متناول العقل. وصرفوا صفاتِ الله إلى أول مبدعٍ خلقه الله ـ بزعمهم ـ وهو العقل الأول، واعتبروا أن المخلوقاتِ كُلَّها وُجِدَت بواسطة العقل والنفس! حيث يقول مصطفى غالب، وهو من الإسماعيلية المعاصرين، في كتابه "الثائر الحميري الحسن الصباح": "والعقل الأوَّلُ أو المبدِعُ الأول في اعتقاد الإسماعيلية هو الذي رمز له القرآن بـ (القلم) في الآية الكريمة (ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، وهو الذي أبدع النفسَ الكلية التي رمز لها القرآن أيضًا بـ ( اللوح المحفوظ) ووصفت بجميع الصفات التي للعقل الكلي، إلَّا أن العقل كان أسبقَ إلى توحيد الله فسُمِّيَ بـ (السابق) وسميت النفس بـ (التالي)، وبواسطة العقل والنفس وُجِدَت جميع المبدعات الروحانية والمخلوقات الجسمانية، من جماد وحيوان ونبات وإنسان، وما في السموات من نجوم وكواكب. ويصرف الأغاخانيون صفات الربوبية والألوهية إلى أئمتهم؛ فقد ادَّعى الأغاخان الثالث أنَّ الإله متجسم فيه شخصيًّا وأن آلافًا من البشر يعتقدون ذلك. ويعتقدون أن النبوَّةَ مكتسبة وليست هبةً من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم عندهم عبارةٌ عن شخص فاضت عليه من "السابق" بواسطة "التالي" -أي: العقل والنفس- قوةٌ قدسية صافية؛ ذلك أن الإنسانَ تميَّز عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض الأنوار عليه، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يمثِّل أعلى درجات هذا الاستعداد، وأن هذه القوةَ القدسيَّةَ الفائضة على النبي صلى الله عليه وسلم لا تستكملُ في أول حلولها.. وأنَّ كمال هذه القوةِ أن تنتقل من الرسولِ الناطق إلى الأساسِ الصامت، أي الإمام، وهم بهذا الاعتقاد يعتبرون الإمامةَ مكملة للنبوة واستمرارًا لها، واشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصِلَ إلى مرتبته أن يمرَّ بمرتبة الولي؛ لأنه يجمع في نفسه الولاية والنبوة والرسالة. ويعتقدون أن رسالةَ النبي صلى الله عليه وسلم محمد صلى الله عليه وسلم ليست آخرَ الرسالات، بل هي حلقةٌ من حلقات تتابُعِ النبوة التي انتهت بظهورِ إمامهم السابع محمد بن إسماعيل بن جعفر كما يزعمون. واعتقدوا أنَّه فاتح عهد جديد، وصاحِبُ شريعة نسخت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم!! ويتوجَّه بعض الأغاخانيون بقِبلتِهم إلى حيث يقيمُ إمامُهم، وهم لا يقيمون الصلاةَ مع المسلمين، ولا يُسمُّون أماكِنَ عبادتهم مساجِدَ، إنما بيتُ الجماعة، والصلاة عندهم عبارةٌ عن مجموعة من السَّجَدات، وهم يجمعون في صلاتِهم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، والأغاخانيون يعتبرون قبلةَ المسلمين الكعبة ليست سوى حِجارة، ويقولون إن الحج إليها في بداية الإسلام كان نظرًا للمستوى العقلي للنَّاسِ في ذلك الوقت، وبدلًا من ذلك يفضِّلون الذهاب للأغاخان وزيارته، وتقديم الولاء والإجلال له، ويوجدون بشكلٍ خاص في باكستان؛ حيث المركز الرئيسي في مدينة كراتشي، وفي المنطقة الشمالية الجبلية من باكستان مثل منطقة جيترال وكيلكيت، ويُعرَفون هناك بالهونزا، إضافةً إلى وجودٍ أقَلَّ في بعض المدن، مثل العاصمة إسلام أباد، ولاهور، وروالبندي. وفي غرب الهند في ولاية كجرات، لا سيما في مدينة بومباي. وكذلك في سوريا وخاصة في مدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة، وفي بعضِ قراها، وفي جوار قلعة الخوابي قرب طرطوس، وفي قدموس. ويوجدون في شرق أفريقيا: في أوغندا وكينيا وتنزانيا وزنجبار وما حولها، وفي جزيرة مدغشقر جنوب شرق أفريقيا. كما يوجدون بشكل أقل في قم بإيران، وفي المناطق الجبلية لطاجيكستان، ومنطقة جبال الهندوكوش في أقصى الشمال الشرقي لأفغانستان، ويُعرَفون في أفغانستان باسم (مفتدي)، ولهم في عُمان حيٌّ خاص في مطرح بالقرب من مسقط. وينتشرون كذلك في بورما، أمَّا في طاجكستان وهي إحدى جمهوريات آسيا الوسطى، فإنهم يوجدون في إقليم بدخشان الذي يتمتع بما يشبه الحُكم الذاتي، ويقدَّر عددهم هناك بـ 100 ألف.
بعَث رسولُ اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم أبا عُبيدةَ بنَ الجَرَّاحِ على رأسِ ثلاثمائةِ رجلٍ إلى سِيفِ البَحرِ, وكان الغَرَضُ مِن هذه السَّرِيَّةِ رَصْدَ عِيرٍ لقُريشٍ، ومُحارَبةَ حَيٍّ مِن جُهينةَ, وزَوَّدَهُم جِرابًا مِن تمرٍ, فجعل أبو عُبيدةَ يَقُوتُهُم إيَّاهُ, حتَّى صار إلى أن يَعُدَّهُ لهم عددًا, حتَّى كان يُعطي كُلَّ رجلٍ منهم كُلَّ يومٍ تمرةً, فقَسَمَها يومًا فنَقصَتْ تمرةٌ عن رجلٍ, فوَجَد فَقْدَها ذلك اليومَ, فلمَّا نَفَدَ ما كان معهم مِنَ الزَّادِ أَكلوا الخَبَطَ وهو وَرَقُ السَّلِمِ, فسُمِّيَ الجيشُ لذلك "جيشَ الخَبَطِ"، وأصابَهُم جوعٌ شَديدٌ, فنَحَرَ قيسُ بنُ سعدِ بنِ عُبادةَ -وكان أحدَ جُنودِ هذه السَّرِيَّةِ- ثلاثَ جَزائِرَ، ثمَّ نَحَرَ ثلاثَ جَزائِرَ، ثمَّ نَحَرَ ثلاثَ جَزائِرَ، ثمَّ إنَّ أبا عُبيدةَ نَهاهُ، فأَلقى إليهم البَحرُ دابَّةً يُقالُ لها: العَنْبَرُ، فأكلوا منها عِشرين ليلةً، وادَّهَنوا منه, حتَّى ثابَتْ منه أَجسامُهم، وصَلحتْ، وأخَذ أبو عُبيدةَ ضِلعًا مِن أَضلاعِه فنظَر إلى أَطولِ رجلٍ في الجيشِ وأَطولِ جَملٍ فحُمِلَ عليه ومَرَّ تَحتَهُ، وتَزوَّدوا مِن لَحمِه وَشَائِقَ، فلمَّا قَدِموا المدينةَ، أَتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذَكَروا له ذلك، فقال: "هو رِزقٌ أَخرَجهُ الله لكم، فهل معكم مِن لَحمِه شيءٌ تُطْعِمونا؟). فأَرسلوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منه فأَكلَهُ".
غَزَا قُتيبَةُ بن مُسلِم بِلادَ الصُّغْد ونَسَف وكِشّ وقد لَقِيَه هنالك خَلْقٌ مِن الأَتراك فظَفَر بهم فقَتَلَهم، وسارَ إلى بُخارَى فلَقِيَه دونها خَلْقٌ كَثيرٌ مِن التُّرْك فقاتَلَهم يَوْمَين ولَيْلَتين عندَ مَكانٍ يُقالُ له خَرْقان وظَفَر بهم, ثمَّ قَصَد قُتيبةُ وَرْدانَ خُذاه مَلِك بُخارَى فقاتَلَه وَرْدان قِتالًا شَديدًا فلم يَظْفَر به قُتيبةُ، فرَجَع عنه إلى مَرْو فجاءَهُ البَريدُ بكِتابِ الحَجَّاج يُعَنِّفُه على الفِرار والنُّكول عن أَعداءِ الإسلام، وكَتَب إليه أن يَبْعَث بِصُورَة هذا البَلَد يعني بُخارَى، فبَعَث إليه بِصُورَتِها، فكَتَب إليه: أن ارْجِع إليها وتُبْ إلى الله مِن ذَنْبِك وائْتِها مِن مكان كذا وكذا، ورُدَّ وَرْدانَ خُذاه، وإيَّاكَ والتَّحْوِيط، ودَعْنِي وبُنَيَّات الطَّريق.
سَيَّرَ الخَليفةُ العبَّاسيُّ المُقتَفِي لأَمرِ الله عَسكرًا إلى تَكريتَ لِيَحصُروها، وأَرسلَ معهم مُقدَّمًا عليهم أبا البَدرِ بن الوَزيرِ عَوْنِ الدِّينِ بن هُبيرَة وتُرشُكَ، وهو مِن خَواصِّ الخَليفةِ، وغَيرَهما، فجَرَى بين أبي البَدرِ وتُرشُكَ مُنافرَةً فكَتَبَ ابنُ الوَزيرِ للخَليفةِ يشكو من تُرشكَ، فأَمرَ الخَليفةُ بالقَبضِ على تُرشكَ، فعَرَفَ ذلك، فأَرسلَ إلى مَسعودِ بِلال، صاحِبِ تَكريت، وصالَحَهُ وقَبَضَ على ابنِ الوَزيرِ ومَن معه مِن المُتَقدِّمينَ، وسَلَّمَهم إلى مَسعودِ بِلالٍ فانهَزمَ العَسكرُ وغَرَقَ منه كَثيرٌ، وسار مَسعودُ بِلالٍ وتُرشكُ من تَكريتَ إلى طَريقِ خراسان فنَهَبَا وأَفسَدا، فسار المُقتَفِي عن بغداد لدِفْعِهِما، فهَرَبا من بين يَديهِ، فقَصَدَ تَكريتَ، فحَصَرَها أَيامًا وجَرَى له مع أَهلِها حُروبٌ مِن وَراءِ السُّورِ، فقُتِلَ من العَسكرِ جَماعةٌ بالنُّشَّابِ، فعاد الخَليفةُ عنها، ولم يَملِكها.
لما توفِّيَ أبو عبد الله محمد السعدي حاكِمُ المغرب اجتمع الناسُ على بيعة ابنه ووليِّ عهده السلطان أبي العباس الأعرج من سائر الآفاق، وآتوه طاعتهم عن رضًا منهم، فاستقام أمره وصرف عزمه إلى تمهيد البلاد واقتناء الأجناد، وتعبئة الجيوش إلى الثغور وشن الغارات على العدو في الآصال والبكور، في أحواز تيلمست وآسفي وغيرهما. وكان النصارى قد خيَّموا بشاطئ البحر وعاثُوا في تلك السواحل فأجلاهم عنها وطهَّر تلك البقاع من رِجسِهم، وأراح أهلَها مِن شؤمهم ونحسِهم، وهنا بَعُدَ صيتُه وانتشر في البلاد ذِكرُه، وهُرِع الناسُ إليه من كل جانب، ودخلت في طاعته سائرُ البلاد السوسية، فعند ذلك كاتَبه أمراء هنتاتة ملوك مراكش يخطبون أمرَه ويرومون الدخولَ في طاعته، فأجاب داعيَهم، وانتقل إلى مراكش فدخلها واستولى عليها.
وقَع انفجارٌ هائل في مَرفَأ بَيروت؛ ممَّا جعَل وَسائلَ الإعلام تُطلِق عليه مُصطلَح "بيروتشيما" تَشبيهًا له بما جَرى لمدينة هِيروشيما جرَّاء الانفجارِ النَّووي عامَ 1945 م، وقد وقَع الانفجارُ الضَّخم على مَرحلَتَين نتجَت عنه سحابةٌ دُخانيةٌ ضخْمةٌ على شاكلةِ سَحابة الفِطْر، ترافَقت مع مَوجةٍ صادمة هزَّت العاصمةَ بَيروت، مما أدَّى إلى أضرارٍ كبيرة في المَرْفَأ وتَهشيم الواجهاتِ الزُّجاجية للمباني والمنازل في مُعظَم أحياء العاصمةِ اللُّبنانية بَيروت، وكان عددُ الجرحى كبيرًا جدًّا، مات فيه المئاتُ، وأُصيب الآلافُ، وتَشرَّد فيه عشراتُ الآلافِ، وبلَغَت الخسائرُ أكثرَ من 10 مليار دولارٍ أمريكي.
وكان سَببُ الانفجار "موادَّ شَديدةَ الانفجار" كانت مُخزَّنةً في المَرْفَأ منذ أكثر مِن ستِّ سَنواتٍ، وأُشِيرت أصابعُ الاتِّهام وقْتَها لحزبِ الله اللُّبناني.
رُفِعَ إلى وزيرِ مُعِزِّ الدولة الحسَنِ المهلَّبي أنَّ رجلًا يُعرَفُ بالبصريِّ مات ببغداد، وهم مُقَدَّم القراقرية، يدَّعي أنَّ رُوحَ أبي جعفرٍ محمَّد بن علي بن أبي القراقر قد حَلَّت فيه، وأنَّه خَلَّف مالًا كثيرًا كان يَجبيه من هذه الطائفةِ، وأنَّ له أصحابًا يعتَقِدونَ ربوبيَّته، وأنَّ أرواحَ الأنبياءِ والصِّديقينَ حَلَّت فيهم، فأمر بالختمِ على التَّرِكة، والقبضِ على أصحابه، والذي قام بأمرِهم بعده، فلم يجِدْ إلَّا مالًا يسيرًا، ورأى دفاتِرَ فيها أشياءُ مِن مذاهبهم، وكان فيهم غلامٌ شابٌّ يدَّعي أنَّ رُوحَ عليِّ بنِ أبي طالب حلَّت فيه، وامرأةٌ يقال لها فاطمة تدَّعي أنَّ رُوحَ فاطمةَ حَلَّت فيها، وخادِمٌ لبني بسطام يدَّعي أنه ميكائيل، فأمر بهم المهلبي فضُرِبوا ونالهم مكروهٌ، ثمَّ إنَّهم توصَّلوا بمن ألقى إلى مُعِزِّ الدولة أنَّهم من شيعة عليِّ بنِ أبي طالب، فأمر بإطلاقِهم، وخاف المهلَّبي أن يقيمَ على تشَدُّدِه في أمرِهم فيُنسَبَ إلى تَركِ التشَيُّع، فسكَت عنهم.
كان أبو علي يونُس بنُ عمر وَلِيَ المهديَّةَ، وجَعَل قائِدَ الجيش بالمهدية محمَّد بن عبد الكريم، وهو شجاعٌ مشهور، فعَظُمَت نكايته في العرب، فلم يَبقَ منهم إلَّا من يخافه، فاتَّفَق أنه أتاه الخبَرُ بأن طائفة من عوف نازلون بمكان، فخرج إليهم، وعَدَل عنهم حتى جازهم، ثم أقبَلَ عائدًا يطلُبُهم، وأتاهم الخبَرُ بخروجه إليهم، فهربوا من بين يديه، فلَقُوه أمامهم، فهربوا وتركوا المالَ والعيال من غيرِ قتال، فأخذ الجميعَ ورجع إلى المهديَّة، وسَلَّم العيالَ إلى الوالي، وأخَذَ مِن الأسلاب والغنيمة ما شاء، وسَلَّمَ الباقيَ إلى الوالي وإلى الجند، ثمَّ إن العرب من بني عوف قصدوا أبا سعيدِ بن عمر اينتي، فوحدوا وصاروا من حِزبِ الموحِّدين، واستجاروا به في رَدِّ عيالهم، فأحضَرَ محمد بن عبد الكريم، وأمره بإعادةِ ما أخذ لهم من النَّعَم، فقال: أخَذَه الجُندُ، ولا أقدِرُ على رده، فأغلظ له في القَولِ، وأراد أن يبطِشَ به، فاستمهَلَه إلى أن يرجِعَ إلى المهديَّة ويسترِدَّ مِن الجند ما يجِدُه عندهم، وما عَدِمَ منه غُرِّمَ العِوَضَ عنه من ماله، فأمهله، فعاد إلى المهديَّة وهو خائف، فلما وصلها جمَعَ أصحابَه وأعلمهم ما كان من أبي سعيد، وحالفهم على موافقتِه، فحَلَفوا له، فقَبَضَ على أبي علي يونس، وتغلَّب على المهديَّة ومَلَكَها، فأرسل إليه أبو سعيد في معنى إطلاقِ أخيه يونس، فأطلَقَه على اثني عشر ألف دينار، فلما أرسَلَها إليه أبو سعيد فَرَّقَها في الجند وأطلق يونس، وجمَعَ أبو سعيد العساكرَ، وأراد قَصْدَه ومحاصرته، فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى عليِّ بن إسحاق الملثم فحالفه واعتضَدَ به، فامتنع أبو سعيدٍ مِن قصده، ومات يعقوبُ وولي ابنه محمد، فسير عسكرًا مع عَمِّه في البحر، وعسكرًا آخَرَ في البر مع ابنِ عَمِّه الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، فلما وصلَ عسكر البحر إلى بجاية، وعسكَرُ البَرِّ إلى قسنطينة الهوى، هرب الملثَّم ومن معه من العرب من بلاد إفريقيَّة إلى الصحراء، ووصل الأسطولُ إلى المهديَّة، فشكا محمد بن عبد الكريم ما لَقِيَ من أبي سعيد، وقال: أنا على طاعةِ أمير المؤمنين محمد، ولا أسَلِّمُها إلى أبي سعيد، وإنما أسلمها إلى من يَصِلُ من أمير المؤمنين؛ فأرسل محمَّد مَن يتَسَلَّمُها منه، وعاد إلى الطاعةِ.
كان رحيل تيمورلنك عن دمشق في يوم السبت ثالث شعبان من هذه السنة واجتاز على حلب وفعل بها ما قدر عليه ثانيًا، ثم سار منها حتى نزل على ماردين يوم الاثنين عاشر شهر رمضان من السنة، ووقع له بها أمور، ثم رحل عنها، وأوهم أنه يريد سمرقند، يورِّي بذلك عن بغداد، وكان السلطان أحمد بن أويس قد استناب ببغداد أميرًا يقال له فرج، وتوجَّه هو وقرا يوسف نحو بلاد الروم، فندب تيمور على حين غفلة أمير زاده رستم ومعه عشرون ألفًا لأخذِ بغداد، ثم تبعه بمن بقي معه ونزل على بغداد، وحصرها حتى أخذها عنوةً في يوم عيد النحر من السنة، ووضع السيف في أهل بغداد، لما استولى على بغداد ألزم جميعَ من معه أن يأتيَه كل واحد منهم برأسين من رؤوس أهل بغداد؛ فوقع القتل في أهل بغداد وأعمالها، حتى سالت الدماء أنهارًا، حتى أتوه بما أراد، فبنى من هذه الرؤوس مائة وعشرين مِئذنة، فكانت عدة من قُتِل في هذا اليوم من أهل بغداد تقريبًا مائة ألف إنسان, وقيل: تسعين ألف إنسان، وهذا سوى من قُتِل في أيام الحصار، وسوى من قُتِل في يوم دخول تيمور إلى بغداد، وسوى من ألقى نفسَه في نهر دجلة فغرق، وهو أكثر من ذلك! قال: وكان الرجل المرسوم له بإحضار رأسين إذا عجز عن رأس رجل قطع رأس امرأةٍ من النساء وأزال شعرَها وأحضرها، قال: وكان بعضُهم يقِفُ بالطرقات ويصطاد من مَرَّ به ويقطع رأسَه، ثم رحل تيمور عن بغداد وسار حتى نزل قراباغ بعد أن جعلها دكًّا خرابًا.
هو شَيخُ الآدابِ، أبو العلاء أَحمدُ بن عبدِ الله بن سُليمانَ المَعَرِّي التَّنوخي الشاعر، اللُّغويُّ، صاحبُ الدَّواوين والمُصَنَّفات في الشِّعرِ واللُّغةِ، المشهور بالزَّندقَةِ، وُلِدَ سنة 363هـ, وأصابهُ جُدَري وله أربعُ سِنين أو سَبع، فذَهبَ بَصرهُ، وقال الشِّعْرَ وله إحدى أو ثنتا عشرة سَنة، ودخلَ بغداد سنةَ تِسعٍ وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنةً وسبعةَ أَشهُر، ثم خَرجَ منها طَريدًا مُنهزِمًا، لمَّا عَزَم الفُقهاءُ على أَخذِه ببَعضِ أَشعارهِ الدَّالةِ على فِسْقِه، هَرَب ورَجَع إلى بَلدِه، ولَزِمَ مَنزِلَه فكان لا يَخرُج منه، وسَمَّى نَفسَه: رَهينَ المَحْبَسَينِ لذلك ولِذهابِ بَصرِه, وقد كان المَعَرِّي غايةً في الذَّكاءِ المُفرِط، ومَكَثَ المَعَرِّي خمسًا وأربعين سنةً من عُمُرِه لا يأكلُ اللَّحمَ ولا اللَّبَنَ ولا البَيْضَ، ولا شيئًا مِن حَيوانٍ، على طَريقَةِ البَراهِمَة الفَلاسِفَة، ويُقال: "إنَّه اجتَمَع بِراهبٍ في بَعضِ الصَّوامِع في مَجيئِه من بَعضِ السَّواحِل آواهُ اللَّيلَ عنده، فشَكَّكَهُ في دِينِ الإسلام" فكان لا يَتَقَوَّتُ إلَّا بالنَّباتِ وغَيرِه، وأَكثرُ ما كان يأكلُ العَدسَ، ويَتَحَلَّى بالدِّبْسِ وبالتِّينِ، وكان لا يأكل بِحَضرَةِ أَحدٍ، ويقول: أَكْلُ الأعمى عَورةٌ وسَترُه واجب. قال ابنُ كَثيرٍ: "كان ذَكِيًّا ولم يكن زَكِيًّا، وله مُصنفاتٌ كَثيرةٌ أَكثرُها في الشِّعْرِ، وفي بَعضِ أَشعارِه ما يَدلُّ على زَندَقتِه، وانحِلالِه مِن الدِّين، ومن الناسِ مَن يَعتَذِر عنه ويقول: إنَّه إنمَّا كان يقول ذلك مُجونًا ولَعِبًا، ويقول بلِسانِه ما ليس في قَلبِه، وقد كان باطنُه مُسلِمًا"، قال أبو الوفاء ابن عَقيلٍ شيخُ الحنابلة: "مِن العجائبِ أنَّ المَعَرِّي أَظهرَ ما أَظهرَ مِن الكُفرِ الباردِ، وسَقَطَ مِن عُيونِ الكُلِّ، ثم اُعتُذِرَ بأن لِقَولهِ باطِنًا، وأنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ، لأنَّه تَظاهَر بالكُفرِ وزَعَم أنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، وهذا عَكسُ قضايا المُنافِقين والزَّنادِقة، حيث تَظاهَروا بالإسلامِ وأَبطَنوا الكُفرَ، فهل كان في بلادِ الكُفَّارِ حتى يحتاج إلى أن يُبطِنَ الإسلام، فلا أَسخَف عَقلًا ممَن سَلكَ هذه الطَّريقَة التي هي أَخَسُّ مِن طَريقةِ الزَّنادِقة والمُنافِقين، إذا كان المُتَدَيِّن يَطلُب نَجاةَ الآخِرةِ، والزِّنديق يَطلُب النَّجاةَ في الدُّنيا، وهو جَعلَ نَفسَه عُرضةً لإهلاكِها في الدنيا حين طَعَنَ في الإسلامِ في بلادِ الإسلامِ، وأَبطَن الكُفرَ، وأَهلكَ نَفسَه في المَعادِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ" قال ابنُ الجوزيُّ: "وقد رَأيتُ لأبي العَلاءِ المَعَرِّي كِتابًا سَمَّاهُ (الفُصول والغايات)، يُعارض به السِّور والآيات، وهو كَلامٌ في نِهايةِ الرَّكَّةِ والبُرودةِ، فسبحان مَن أَعمَى بَصرَهُ وبَصيرتَهُ، وقد ذَكرهُ على حُروفِ المُعجَم في آخرِ كِلماتِه"، قال ابنُ كَثيرٍ: "وقد أَورَد ابنُ الجوزي من أَشعارِه الدَّالَّةِ على استِهتارِه بِدِينِ الإسلامِ أَشياءً كَثيرةً تَدُلُّ على كُفرِه؛ بل كلُّ واحدةٍ مِن هذه الأشياءِ تَدُلُّ على كُفرِه وزَندقَتِه وانحِلالِه، وقد زَعمَ بعضُهم أنَّه أَقلَع عن هذا كُلِّه وتاب منه وأنَّه قال قَصيدةً يَعتذِر فيها مِن ذلك كُلِّه، ويَتنَصَّل منه، ومنهم مَن قال: بل كلُّ ذلك مَدسوسٌ عليه مِن قِبَلِ حُسَّادِه وَهُم كُثُر. بل أَلَّفَ ابنُ العديم كِتابًا في الدِّفاعِ عنه، وللمَعَرِّي (دِيوانُ اللُّزومِيَّات)، و(سِقْطُ الزَّنْدِ) و(رِسالةُ الغُفران)"، قال الباخرزي: "أبو العلاء ضَريرٌ ما له ضَريبٌ، طال في ظِلِّ الإسلامِ آناؤهُ، ورَشَحَ بالإلحاد إناؤهُ، وعندنا خَبرُ بَصرِه، والله العالم بِبَصيرَتِه والمُطَّلِع على سَريرَتِه، وإنمَّا تَحدَّثت الأَلسُنُ بإساءتِه بكِتابِه الذي عارَضَ به القُرآنَ، وعَنْوَنَهُ: (الفُصولُ والغايات في مُحاذاةِ السُّوَرِ والآيات)", وقال غَرسُ النِّعمَة محمدُ بن هلالِ بن المُحسِن بن إبراهيمَ الصابئ عنه: "له شِعْرٌ كَثيرٌ، وأَدَبٌ غَزيرٌ، ويُرمَى بالإلحادِ، وأَشعارُه دَالَّةٌ على ما يُتَّهَمُ به" قال أبو زكريا التِّبريزي: "لمَّا قَرأتُ على أبي العَلاءِ بالمَعَرَّةِ قوله:
تَناقُضٌ ما لنا إلَّا السُّكوتُ له
وأن نَعوذُ بمولانا مِن النَّارِ
يَدٌ بِخَمسِ مِئٍ مِن عَسْجَدٍ وُدِيَت
ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دِينارِ؟
سَألتُه، فقال: هذا كَقولِ الفُقهاءِ: عِبادَةٌ لا يُعقَل مَعناها". قال الذَّهبيُّ: لو أراد ذلك؛ لقال: تَعَبُّد، ولَمَا قال: تَناقُض, ولِمَا أَردَفهُ ببَيتٍ آخرَ يَعترِض على رَبِّه, وبإسنادي قال السَّلفيُّ: إن كان قاله مُعتَقِدًا مَعناهُ، فالنَّارُ مَأْواهُ، وليس له في الإسلامِ نَصيبٌ". تُوفِّي في المَعَرَّةِ مَعَرَّةِ النُّعمانِ، وفيها دُفِنَ عن عُمُرٍ 86 عامًا.
هو شيخُ الإسلام الحافظ العلامة أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن معطي العبدوسي المالكي، مفتي فاس وعالِمُها ومحَدِّثُها. قال فيه السيوطي: "كان عالِمًا بارعًا صالحًا مشهورًا" وقال الشيخ أحمد زروق الفاسي: "كان أبو محمد العبدوسي عالِمًا صالحًا مفتيًا، حُملتُ إليه وأنا رضيع ولم أزل أتردَّدُ إليه في ذلك السن؛ لكون جدتي تقرأُ عليه مع أختيه فاطمة وأم هانئ، وكانتا فقيهتين صالحتين، وكان قطبًا في السخاءِ، إمامًا في نصح الأمة، أمات كثيرًا من البِدَع بالمغرب، وأقام الحدود والحقوق وتولَّى آخِرَ أمره خطابةَ جامع القرويين، ثم توفى سنة تسع وأربعين، وكان أكثر علمه فقهَ الحديث، سمعت شيخنا القوري يقول: إنهم حسبوا الخارج من يده والداخل فيها فوجدوا الخارج أكثر، وحدَّثنا أنه حَفِظَ مختصر مسلم للقرطبي في كل خميس خمسة أحاديث، وشهرةُ أخلاقه وسخائه أبينُ من أن تُذكَر، كان لا يدَّخِر شيئًا حتى لم يوجَدْ يوم مات إلا بدنان وإحرامان ودراعتان إحداهما للأمير يحيى بن زيان، فقال: هكذا يكون الفقيهُ وإلا فلا. وكان يشترط العزلَ في النكاحِ، فرارًا من الولدِ؛ لفساد الزمانِ، قالوا: وكان لا تفارِقُ كُمَّه الشمائلُ عاملًا بها، وحَدَّثَت زوجته أنه كان يعمل الخوصَ خُفيةً ويعطيه لمن لا يعرفُ أنَّها له يبيعُها، ثم يتقَوَّتُ بها في رمضان، ومناقبُه كثيرة جمع فيها بعض أصحابنا تأليفًا ذكر فيه كثيرًا, وكان العبدوسي أقوى من جَدِّه موسى في العمل، وإنَّ جَدَّه أقوى منه في العلم, وكان شيخ الجماعة الفقهاء والصوفية، وتخرَّج به جماعةٌ، كالفقيه المحقق ابن آملال، والفقيه القوري، وأبي محمد الورياجلي، وغيرهم" قال شمس الدين السخاوي: كان أبو محمد هذا واسِعَ الباع في الحفظ، وليَ الفُتيا بالمغرب الأقصى، وإمامة جامع القرويين بفاس، ومات فجأة وهو في صلاةٍ"
أبو عبدِ الرحمنِ مُقبلُ بنُ هادي بنِ مُقبلِ بنِ قايدةَ الوادعيُّ الهَمْدانيُّ، نشأ يتيمًا، ونشأ في بيئة مليئةٍ بالجهل والشركِ، وقد منَّ الله عليه بالهداية، فكان يأمُرُ بالمعروفِ ويَنْهى عن المنكرِ، فأُوذيَ بسبب ذلك كثيرًا، ثم عُنيَ بطلب العلم، وخاصَّةً الحديثَ، حتى برعَ فيه، وأجاد، وكان مشهورًا بحرصه على اتِّباع السُّنة، والرد على أصحاب الأهواء والبِدعِ، مع زهدٍ، وعزوفٍ عن الدنيا، وتواضعٍ، وكرمٍ، وسخاءٍ، ومؤلَّفاتُه تُبيِّن مدى براعته في علم الحديث، ومنها: ((الصحيح المسنَد ممَّا ليس في الصحيحَينِ))، و((الصحيح المسنَد من أسباب النزول))، و((الصحيح المسنَد من دلائل النبوة))، و((غارة الفصل على المعتدين على كتب العلل))، و((أحاديث معلة ظاهرها الصحة))، و((أدلة الجمع بين الصلاتين في السفر))، وغيرها، كان الشيخ قد أُصيبَ بمرضٍ في الكبدِ اضطره للسفرِ للخارج لعمل زراعة للكبدِ، ثم بعد عدة سفراتٍ رجَعَ إلى جُدَّةَ، وبَقيَ في مَشفَى الملك فَيصلٍ بين غيبوبةٍ ويَقظةٍ، حتى كان بعد غروب يوم ليلة الأحد أول جمادى الأولى 1422هـ تُوفيَ، ولم يبلُغِ السبعينَ من عمرِه، ثم غُسِّلَ، وكُفِّنَ، وصُلِّيَ عليه بمكَّة المكرَّمة في المسجد الحرام، ودُفِنَ في مقبرة العدل، رحمه اللهُ تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
دخل محمدٌ وعليٌّ ابنا الحُسَين بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المدينة، وقتلا جماعةً مِن أهلها وأخذا من القومِ مالًا، ولم يُصَلِّ أهلُ المدينة في مسجدِ رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلم- لا جمعةً ولا جماعةً، شَهرًا.
هو غياثُ الدين أبو شجاع السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، سلطان بلاد العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة, والأقاليم الواسعة. كان من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، عادلًا رحيمًا، سهل الأخلاق، محمود العشرة، لما توفي والده ملكشاه اقتسم مملكته أولادُه الثلاثة وهم: بركيارق، وسنجر، ومحمد، ولم يكن لمحمد وسنجر، وهما من أم واحدة، وجود في اهتمام بركيارق؛ لأنه كان السلطان المشار إليه، وهما كالأتباع له، ثم اختلف محمد وبركيارق، فدخل محمد وأخوه سنجر إلى بغداد، فخلع عليهما الخليفة المستظهر بالله, وخطب لمحمد، وتركوا الخطبة لبركيارق، وكان ذلك في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وقيل سنة 495, وقُطِعت خطبته عدة مرات، ولَقِيَ من المشاق والأخطار ما لا حدَّ له، فلما توفي أخوه بركيارق صفت له السلطنة، وعَظُمت هيبته، وكثرت جيوشه وأمواله، وكان اجتمع الناس عليه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر. قال ابن خلكان: "كان السلطان محمد رجل الملوك السلجوقية وفحلهم، وله الآثار الجميلة والسيرة الحسنة، والمعدلة الشاملة، والبر للفقراء والأيتام، والحرب للطائفة الملحِدة والنظر في أمور الرعية". مرض السلطان محمد زمانًا طويلًا، ولما أيس من نفسه أحضر ولده محمدًا فقَبَّله وبكى كلٌّ واحد منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة وينظر في أمور الناس، فقال لوالده: إنه يوم غير مبارك، فقال: صدقتَ، ولكنْ على أبيك، وأمَّا عليك فمُبارَك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين، وتوفي يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة في هذه السنة بمدينة أصبهان، وعمره سبع وثلاثون سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وهو مدفون بأصبهان في مدرسة عظيمة، وهي موقوفة على الطائفة الحنفية، وليس بأصبهان مدرسة مثلها, ولم يخلف أحد من الملوك السلجوقية ما خلفه من الذخائر وأصناف الأموال والدواب.