قُتِلَ السلطانُ سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملكشاه، وسببُ ذلك أنه كان فيه تهوُّرٌ وخرقٌ، وبلغ به شربُ الخمر حتى إنه شربها في رمضان نهارًا، وكان يجمع المساخِرَ ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكرُ أمره، وصاروا لا يحضُرون بابه، وكان قد ردَّ جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم، وهو من مشايخ الخدم السلجوقية، كان فيه دينٌ وعقل وحسن تدبير، فكان الأمراء يشكُون إليه السلطان وهو يُسَكِّنُهم، فكتب سليمان شاه إلى إينانج صاحب الري يطلبُ منه أن يُنجِدَه على كردبازو، فوصل الرسولُ وإينانج مريض، فأعاد الجوابَ يقول: إذا أفقتُ من مرضي حضرتُ إليك بعسكري؛ فبلغ الخبر كردبازو، فازداد استيحاشًا، فأرسل إليه سليمان يومًا يطلبه، فقال: إذا جاء إينانج حَضرتُ، وأحضر الأمراء واستحلفهم على طاعته، وكانوا كارهين لسليمان، فحلفوا له، فأوَّل ما عَمِلَ أن قتل المساخرة الذين لسليمان، وقال: إنما أفعل ذلك صيانةً لملكك؛ ثم اصطلحا، وعَمِلَ كردبازو دعوةً عظيمة حضرها السلطان والأمراء، فلما صار السلطان سليمان شاه في داره قبضَ عليه كردبازو وعلى وزيره ابنِ القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي، وعلى أصحابه، في شوال سنة 555، فقَتَلَ وزيرَه وخواصَّه، وحَبَس سليمان شاه في قلعة، ثمَّ أرسل إليه من خنَقَه؛ وقيل: بل حبسه في دار مجد الدين العلوي رئيس همذان، وفيها قُتِلَ، وقيل بل سُقِيَ سُمًّا فمات.
هو الإمامُ العلَّامةُ الأميرُ السيد الشريف المحقِّقُ محيي السنة وقامِعُ البدعة: أبو الطيب محمد صديق بن حسن بن علي بن لطف الله القنوجي البخاري، نزيل بهوبال، ويرجع نَسَبُه إلى زين العابدين بن علي بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب. ولِدَ في بلدة "بريلي" موطِنِ جَدِّه من جهةِ الأمِّ، عام 1248هـ ولما بلغ السادسةَ مِن عمره توفِّيَ والدُه، فرحل مع أمِّه إلى قِنَّوج موطِنِ آبائهِ بالهندِ، فنشأ فيها في حجرِ أمِّه يتيمًا فقيرًا على العَفافِ والطهارة، وتلقَّى الدروس في علومٍ شتى على صفوةٍ مِن علماءِ قِنَّوج ونواحيها وغيرهم. درسَ صِدِّيق على شيوخٍ كثيرين من مشايخِ الهند واليمن، واستفاد منهم في علومِ القرآن والحديثِ وغيرهما، ولقد أجازه شيوخٌ كثيرون ذكَرَهم في ثَبتِه "سلسة العَسْجَد في مشايخ السند". وله تلاميذ كثيرون درَسوا عليه واستجازوه، وبعد عودتِه مِن الحجازِ إلى الهند انتقل العلامةُ صِدِّيق حسن خان من (قنوج) إلى مدينة (بهوبال) في ولاية (مادهيا براديش) في وسط الهند، وقد ذاع صيتُه في تلك الأيام، كإمام في العلومِ الإسلامية، ومؤلِّفٍ بارع في العلوم العقليَّةِ والنَّقلية، وكاتبٍ قديرٍ في اللغات العربية والفارسية والأوردية، ومجتهدٍ متواصلٍ في الدرس والتأليف والتدوين، ولم يلبَثْ أن تزوَّجَ بأميرة بهوبال (شاهجان بيجوم) التي كانت تحكُمُها حينذاك، تزوَّجَت به لَمَّا عَلِمَت من شَرَفِ نَسَبِه وغزارة عِلمِه واستقامة سيرتِه، سنة 1287هـ، وجعلَتْه مُعتَمِدَ المهامِّ، ومنحته أقطاعًا من الأرضِ الخراجيَّة تغلُّ له خمسين ألف ربيَّة في كلِّ سنة، وخلعت عليه ولقَّبَتْه الدولةُ البريطانيةُ الحاكِمةُ بالهند نواب أمير الملك سيد محمد صديق حسن خان بهادر، ومنحته حَقَّ التعظيم في أرض الهند بطولِها وعرضِها بإطلاقِ المدافِعِ سَبعَ عشرة طلقةً، وخلَعَت عليه بالخِلَعِ الفاخرةِ، ومنَحَه السلطانُ عبد الحميد خان الوسامِ المجيدي من الدرجةِ الثانية. عَمِلَ صديق خان وزيرًا لزوجته الأميرة (شاهجان بيجوم) ونائبًا عنها. كان زواجُ العلَّامة صديق حسن خان بالأميرة شاهجان وتلقُّبه بأمير بهوبال نقطةَ تحوُّلٍ لا في حياتِه العلميَّةِ فقط، بل في النشاطِ العلميِّ والعهد التأليفي في الهند كلِّها، فكان له موهبةٌ فائقةٌ في الكتابة وفي التأليف، حتى قيل إنَّه كان يكتُبُ عَشَرات الصفحاتِ في يوم واحد، ويكمِلُ كتابًا ضخمًا في أيام قليلة، ومنها كتب نادرةٌ على منهج جديد، وعندما ساعدته الظروفُ المَنصبيَّةُ والاقتصادية على بذل المالِ الكثيرِ في طَبعِها وتوزيعِها، تكَلَّلت مساعيه العلمية بنجاحٍ منقطعِ النظير. من مؤلَّفاتِه: فتح البيان في مقاصد القرآن، ونيل المرام من تفسير آيات الأحكام، والدين الخالص (جمع فيه آيات التوحيد الواردة في القرآن، ولم يغادر آيةً منها إلا أتى عليها بالبيان الوافي)، وعون الباري بحَلِّ أدلة البخاري (شرح كتاب التجريد)، والسراج الوهاج في كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجَّاج، والحِرز المكنون من لفظ المعصوم المأمون (في الحديث)، والرحمة المهداة إلى من يريد زيادةَ العلمِ على أحاديثِ المِشكاة، والجنة في الأسوة الحسنة بالسنَّة،(في اتباع السنة)، الحِطَّة في ذكر الصحاح الستة، والروضة الندية شرح الدرر البهية للقاضي محمد اليمني الشوكاني، وفتح العلام شرح بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني، وحصول المأمول من علم الأصول (تلخيص إرشاد الفحول للشوكاني) (في أصول الفقه)، وقطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، وغيرها كثير، قال عبد الحي الطالبي: "له مصنَّفاتٌ كثيرةٌ ومؤلَّفاتٌ شهيرة في التفسير والحديث، والفقه والأصول، والتاريخ والأدب، قلَّما يتَّفِقُ مثلُها لأحدٍ من العلماء، وكان سريعَ الكتابةِ حُلوَ الخَطِّ، يكتب كراستين في مجلسٍ واحدٍ بخَطٍّ خفيٍّ في ورقٍ عالٍ، ولكنه لا تخلو تأليفاتُه عن أشياءَ، إما تلخيص أو تجريد، أو نقل من لسانٍ إلى لسان آخر، وكان كثيرَ النقل عن القاضي الشوكاني، وابن القيم، وشيخه ابن تيمية الحراني، وأمثالهم، شديدَ التمَسُّك بمختاراتهم، وقد اعتراه مرَضُ الاستسقاء، واشتدَّ به المرضُ وأعياه العلاجُ واعتراه الذهولُ والإغماء، وكانت أناملُه تتحَرَّك كأنَّه مشغول بالكتابة، فلما كان نصفُ الليل فاضت على لسانِه كلمةُ أحِبُّ لقاءَ اللهِ، قالها مرة أو مرتين، وطلب الماءَ واحتُضِرَ، وفاضت نفسه، وكان ذلك في ليلة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة سنة 1307هـ، وله من العُمرِ تِسعٌ وخمسون سنة وثلاثة أشهر وستة أيام، وشُيِّعَت جنازته في جمعٍ حاشدٍ، وصلِّيَ عليه ثلاث مرات، و كان قد أوصى بأن يُدفَنَ على طريقةِ السُّنَّة، فنُفِّذَت وصيَّتُه.
هو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي الهاشمي العباسي, وأمه: سلامة البربريَّة. وُلِدَ سنة 95, وكان أسمرَ, طويلًا, نحيفًا, مَهيبًا, خفيفَ العارِضَينِ, مُعرق الوجه, رحْبَ الجبهة, كأنَّ عينيه لسانان ناطقان, تخالِطُه أبَّهة المُلك بِزِيِّ النسَّاك, تَقبَلُه القلوبُ، وتَتبَعُه العيون, وكان فحْلَ بني العباس؛ هيبةً وشجاعةً، ورأيًا وحزمًا، ودهاءً وجبروتًا، وكان جمَّاعًا للمال, حريصًا تاركا للَّهوِ واللَّعب, كامِلَ العقلِ بعيدَ الغَورِ، حسَن المشاركةِ في الفقهِ والأدب والعِلم. أباد جماعةً كبارًا حتى توطَّدَ له المُلك، ودانت له الأمَمُ على ظُلمٍ فيه، وقُوَّةِ نَفسٍ، ولكنَّه يرجِعُ إلى صِحَّة إسلامٍ وتديُّنٍ في الجُملة، وتَصَوُّنٍ وصلاةٍ وخيرٍ، مع فصاحةٍ وبلاغةٍ وجَلالةٍ، وعظَ المنصور عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة فأبكاه، وكان المنصورُ يهابُ عَمرًا ويُكرِمُه، وقد كان المنصورُ يُصغي إلى أقوال المنجِّمين، وهذا من هناتِه مع فضيلتِه. كان حاكمًا على ممالك الإسلام بأسرِها, سوى جزيرة الأندلس، وكان ينظُرُ في حقيرِ المال، ويثَمِّرُه، ويجتهد بحيث إنَّه خلَّفَ في بيوت الأموالِ مِن النقدين أربعة عشر ألف ألف دينار، وستمئة ألف ألف درهم، وكان كثيرًا ما يتشبَّه بالثلاثة في سياسته وحَزمِه، وهم: معاوية، وعبد المَلِك، وهشام. لَمَّا رأى المنصورُ ما يدلُّ على قُربِ مَوتِه سار للحَجِّ، فلمَّا وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحَرِ قبل أن يصِلَ مكة، ولم يحضُرْه عند وفاتِه إلَّا خَدَمُه، والربيعُ مولاه، فكتم الربيعُ مَوتَه، واشتغلوا بتجهيزِ المنصور، ففرغوا منه العصرَ، وكُفِّنَ، وغطِّيَ وجهُه وبدَنُه، وجُعِلَ رأسُه مكشوفًا لأجل إحرامِه، وصلَّى عليه عيسى بن موسى، وقيل: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ودُفِنَ في مقبرة المُعَلَّاة، وحَفَروا له مائة قبرٍ ليغُمُّوا على النَّاسِ، ودُفِنَ في غيرها، عاش أربعًا وستِّينَ سنة، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلَّا أربعة وعشرين يومًا.
هو معالي الوزير عبد الله بن سليمان الحمدان وزير الملك عبد العزيز، وُلِدَ سنة 1305هـ 1887م بمدينة عنيزة في القصيم. قصد الهند بعد أن تجاوز الطفولةَ، ثم تنقَّل بينها وبين البحرين وبعض بلاد الخليج في طلب الرزق، ثم استقرَّ في الرياض؛ حيث كان له أخٌ اسمُه محمد يعمل في ديوان الملك عبدالعزيز قبل أن يتمَّ تنظيم الديوان، ولما مَرِضَ محمد ناب عنه عبد الله سنة 1338هـ 1919م، ولما رأى الملك عبد العزيز حُسنَ خَطِّه وذكاءَه ونشاطَه سَلَّمه صندوقَ دراهمه يُنفِقُ منه على بيتِه وأضيافِه. تقدَّم ابن سليمان في عمله حتى كفى الملكَ همَّ توفير المال. استمرَّ ابنُ سليمان وهو الشخصية الأولى في الدولة بعد الملك وكبار الأمراء مدةَ وزارته الطويلة، فلم يبلغْ إنسان من رجال عبد العزيز ما بلغه عنده من وثوقٍ ونفوذِ كلمة، وتمكُّنٍ؛ لذا لم يقتصِرْ عمله على المالية، بل أضيفت له مهامُّ خطيرة أخرى، كالدفاع قبل أن تنشأ وزارةُ الدفاع، ووكالةِ الخارجية أحيانًا، وشُؤون المعادن، ومنها البترول وما يتَّصِل بذلك من اتفاقيات ومداولات داخلية وخارجية؛ فهو الذي وقَّع اتفاقيةَ منح شركة "استاندر أويل أوف كاليفورنيا" -التي أصبحت فيما بعدُ أرامكو- حقَّ امتياز التنقيب عن النفط، وكانت من عادة ابن سليمان حين يجمعُه بالملك بلدٌ واحد أن يدخل عليه في غرفة النوم بعد صلاة الفجر كلَّ يوم، فيَعرِض عليه ما يهمُّه ويخرج بالموافقة على ما يريد، وكانت لا تخرجُ برقية من ديوان الملك إلَّا أرسلت بالبرق ثلاث نُسَخٍ منها: إلى ولي العهد، والنائب العام، وابن سليمان. استقال ابنُ سليمان بعد وفاة الملك عبد العزيز من العمل من الحكومة، وتحوَّل إلى رجل أعمال، فأنشأ فنادِقَ وشركات. خدم الملك 35 سنة، وسمِّي ابن سليمان وزيرًا للمالية سنة 1347هـ / 1929م، واستقال في مطلع محرم 1374هـ 1954م وتوفِّي بجدة.
هو المُستَنصِر بالله أبو تَميمٍ مَعَدُّ بنُ أبي الحَسنِ عليٍّ الظاهر بن الحاكم الفاطِميُّ العُبيديُّ صاحِبُ مصر والشام، وُلِدَ سَنةَ 420هـ, ووَلِيَ الأَمرَ بعدَ أَبيهِ الظاهرِ وله سَبعُ سنين، في شعبان سنة 427هـ، وفي وَسطِ دَولتِه خُطِبَ له بإَمْرَةِ المؤمنين على مَنابرِ العِراقِ. قال ابنُ خلكان: "جَرَى في أَيامِه ما لم يَجرِ على أَيامِ أَحَدٍ مِن أَهلِ بَيتِه ممَّن تَقدَّمهُ ولا تَأخَّرهُ: منها قَضيةُ البساسيري فإنه لمَّا عَظُمَ أَمرُه، وكَبُرَ شأنُه ببغداد قَطعَ خُطبةَ الخَليفةِ العبَّاسيِّ القائمِ بأَمرِ الله، وخَطبَ للمُستَنصِر العُبيديِّ سَنةَ 450هـ، ودَعَا له على مَنابِرِها مُدَّةَ سَنَةٍ, ومنها أنه ثار في أَيامِه عليُّ بنُ محمدٍ الصليحيُّ ومَلَكَ بِلادَ اليَمنِ، ودَعَا للمُستَنصِر على مَنابِرِها, ومنها أنه أقامَ في الأَمرِ سِتِّينَ سَنَةً، وهذا أَمرٌ لم يَبلُغه أَحدٌ مِن أَهلِ بَيتِه ولا مِن بَنِي العبَّاسِ, ومنها أنه وَلِيَ الأَمرَ وهو ابنُ سَبعِ سِنين. ومنها أن دَعوتَهم لم تَزل قائمةً بالمَغربِ منذ قام جَدُّهُم المَهديُّ إلى أَيامِ المُعِزِّ ولمَّا تَوَجَّه المُعِزُّ إلى مصر واستَخلَف بلكين بن زيري، كانت الخُطبةُ في تلك النواحي لا زالت للعُبيديِّين، إلى أن قَطَعَها المُعِزُّ بن باديس في أَيامِ المُستَنصِر سَنةَ 443هـ، وفي سَنةِ 449هـ قُطِعَ اسمُ المُستَنصِر واسمُ آبائِه مِن الخُطبةِ في الحَرَمينِ، وذُكِرَ اسمُ المُقتدِي بأَمرِ الله خَليفةِ بغداد، ومنها أنه حَدَثَ في أَيامِه الغَلاءُ العَظيمُ الذي ما عُهِدَ مِثلُه منذ زَمانِ يوسف عليه السلام، وأقامَ سَبعَ سِنينَ، وأَكلَ الناسُ بَعضُهم بَعضًا، حتى قِيلَ: إنه بِيعَ رَغيفٌ واحدٌ بخَمسين دِينارًا، وكان المُستَنصِر في هذه الشِّدَّةِ يَركَب وَحدَه، وكلُّ مَن معه من الخَواصِّ مُتَرَجِّلون ليس لهم دَوابٌّ يَركَبونَها، وكانوا إذا مَشوا تَساقَطوا في الطُّرُقاتِ من الجُوعِ، وآخِرُ الأمرِ تَوجَّهَت أُمُّ المُستَنصِر وبَناتُه إلى بغداد من فَرْطِ الجُوعِ سَنةَ 462هـ، وتَفَرَّق أَهلُ مصر في البِلادِ وتَشتَّتوا"، وتُوفِّي المُستَنصِر لَيلةَ الخميسِ لاثنتي عشرة لَيلةً بَقِينَ من ذي الحجَّةِ سَنةَ 487هـ وكانت مُدَّةُ حُكمِه سِتِّينَ سَنةً وأربعةَ أَشهُر، ولمَّا مات وَلِيَ بَعدَه ابنُه أبو القاسمِ أحمدَ المُستَعلِي بالله، وكان قد عَهِدَ في حَياتِه لابنِه نزار، فخَلَعهُ الأفضلُ أبو القسمِ شاهنشاه بن أَميرِ الجُيوشِ وبايَعَ المُستَعلِي بالله، وسَببُ خَلعِه أن الأفضلَ رَكِبَ مَرَّةً، أَيامَ المُستَنصِر، ودَخلَ دِهليزَ القَصرِ من بابِ الذَّهبِ راكِبًا، ونزار خارِجٌ، والمَجازُ مُظلِمٌ، فلم يَرَهُ الأفضلُ، فصاحَ به نزار: انزِل، يا أرمني، كلب، عن الفَرَسِ، ما أَقَلَّ أَدَبَك! فحَقَدَها عليه، فلمَّا مات المُستَنصِر خَلَعهُ خَوفًا منه على نَفسِه، وبايَعَ المُستَعلي، فهَرَب نزار إلى الإسكندريةِ، وبها ناصِرُ الدولةِ أفتكين، فبايَعَهُ أَهلُ الإسكندريةِ وسَمَّوهُ المُصطفَى لدِينِ الله، فخَطَبَ الناسَ، ولَعنَ الأَفضلَ، وأَعانَه أيضًا القاضي جَلالُ الدولةِ بنُ عَمَّارٍ، قاضي الإسكندريةِ، فسار إليه الأَفضلُ، وحاصَرَهُ بالإسكندريةِ، فعاد عنه مَقهورًا، ثم ازدادَ عَسكرًا، وسار إليه، فحَصَرهُ وأَخَذهُ، وأَخذَ أفتكين فقَتَلهُ، وتَسلَّم المُستعلِي نزارًا فبَنَى عليه حائِطًا فماتَ، وقَتَلَ القاضيَ جَلالَ الدولةِ بنَ عَمَّارٍ ومَن أَعانَه.
هو المَلِكُ رُكن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق، صاحب ديار الروم، ما بين ملطية وقونية، وكان موته بمرض القولنج في سبعة أيام، وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية (أنقرة) وهي مدينة منيعة، وكان مُشاقًّا لركن الدين، فحصَرَه عِدَّة سنين حتى ضَعُفَ وقَلَّت الأقوات عنده، فأذعن بالتسليمِ على عِوَضٍ يأخذه، فعَوَّضَه قلعة في أطراف بلده وحَلَفَ له عليها، فنزل أخوه عن مدينة أنقرة، وسَلَّمَها، ومعه ولدان له، فوضع ركن الدين عليه مَن أخَذَه، وأخذ أولادَه معه، فقَتَلَه، فلم يمضِ غيرُ خمسة أيام حتى أصابه القولنج، فمات في سادس ذي القعدة، واجتمع الناس على ولده قلج أرسلان، وكان صغيرًا، فبَقِيَ في الملك إلى بعض سنة إحدى وستمائة، وأُخِذَ منه، وكان ركنُ الدين شديدًا على الأعداءِ، قيِّمًا بأمرِ المُلك، إلَّا أنه فاسِدُ الاعتقاد. قال ابن كثير: "المَلِك ركن الدين بن قلج أرسلان، كان يُنسَبُ إلى اعتقاد الفلاسفة، وكان كهفًا لِمَن يُنسَبُ إلى ذلك، وملجأً لهم"
أبو القاسمِ الفَضلُ ابنُ المُقتَدر جعفر بن المعتضد أحمد بن الموفق الخليفة العباسي. ولدَ سنة 301 وبويع بالخلافةِ بعد خَلعِ المُستكفي نفسَه سنة 334، وأمُّه اسمُها مشغلة أمُّ ولد. كان مقهورًا مع نائب العراقِ ابنِ بُوَيه مُعِزِّ الدولة الذي قرَّرَ له في اليومِ مائة دينار فقط. ولَمَّا اشتَدَّ الغَلاءُ المُفرطُ ببغداد، اشتري المطيعُ لله لمعِزِّ الدولةِ كر دقيقٍ بعشرين ألف درهم, وفي سنة 360 فُلِجَ المُطيعُ، وبطَلَ نِصفُه، وتمَلَّكَ في أيَّامِه بنو عُبَيدٍ مِصرَ والشَّام، وأذَّنُوا بدمشق " بحيَّ على خير العمل "، وغلت البلادُ بالرَّفضِ شرقًا وغربًا، وخَفِيَت السنَّةُ قَليلًا، واستباحت الرومُ نصيبين وغيرَها، فلا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله، ولَمَّا تحكَّم الفالِجُ في المطيعِ دعاه سبكتكين الحاجِبُ التركيُّ إلى عزلِ نَفسِه، وتسليمِ الخلافةِ إلى ابنِه الطائِعِ لله، ففعل ذلك في ثالثَ عشر من ذي القعدة سنة 363, ولَمَّا استفحل بلاءُ اللُّصوصِ ببغداد، ورَكِبوا الخيل، وأخذوا الخفارةَ، وتلقَّبوا بالقُوَّاد. خرج المطيعُ وولده الخليفةُ الطائِعُ لله إلى واسط فمات المطيعُ هناك في المحرم سنة 364 بعد ثلاثة أشهر من عزلِه. وعمره 63 سنة، فكانت خلافته ثلاثين سنة سوى أشهر. وفي أيَّامه سنة 316 تلقَّب عبد الرحمن الناصر صاحبُ الأندلس بأمير المؤمنين. وقال: أنا أحقُّ بهذا اللقبِ مِن خليفةٍ تحت يدِ بني بُوَيه. قال الذهبي: " وصدق النَّاصِرُ؛ فإنَّه كان بطلًا شُجاعًا سائسًا مَهيبًا، له غَزَواتٌ مَشهودةٌ، وكان خليقًا للخلافةِ"
الكاتِبُ المَشهورُ صاحِبُ الخَطِّ المنسوبِ أبو الحَسَنِ عليُّ بنُ هلالٍ البَغداديُّ، المعروف بابنِ البَوَّاب؛ ويقال له "ابن الستري" أيضًا؛ لأنَّ أباه كان بوَّابًا، والبَوَّاب ملازِمٌ سِترَ البابِ، فلهذا نُسِبَ إليهما. كان شَيخُه في الكتابةِ ابنَ أسَدٍ الكاتِبَ المَشهورَ، وهو أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بنُ أسدِ بنِ عليِّ بنِ سَعيدٍ القارئ الكاتب البزَّاز البغدادي. قال ابن كثيرٍ: "وقد أثنى على ابنِ البوَّابِ غَيرُ واحد في دينِه وأمانته، وأمَّا خَطُّه وطريقتُه، فهي أشهرُ مِن أن نُنَبِّهَ عليها، وخَطُّه أوضَحُ تعريبًا من خط الوزيرِ أبي عليِّ بنِ مُقلةَ الكاتبِ المَشهورِ، ولم يكُنْ بعدَ ابنِ مُقلةَ أكتَبُ منه، وعلى طريقتِه النَّاسُ اليومَ في سائِرِ الأقاليمِ إلَّا القَليلَ". قال ابنُ خَلِّكانَ: "لم يوجَدْ في المتقَدِّمينَ ولا المتأخِّرينَ مَن كَتَبَ مِثلَه ولا قارَبَه، وإن كان أبو عليٍّ ابنُ مُقلةَ الوزيرُ أوَّلَ مَن نَقَل هذه الطريقةَ مِن خَطِّ الكوفيِّينَ، وأبرَزَها في هذه الصُّورةِ، وله بذلك فضيلةُ السَّبقِ، وخَطُّه أيضًا في نهايةِ الحُسنِ، لكِنَّ ابنَ البوَّابِ هَذَّبَ طريقةَ ابنِ مُقلةَ ونَقَّحَها وكَساها طلاوةً وبَهجةً. والكُلُّ مُعتَرِفٌ لابنِ البوَّابِ بالتفَرُّد، وعلى منوالِه يَنسجونَ، وليس فيهم من يَلحَقُ شَأوَه ولا يَدَّعي ذلك، مع أنَّ في الخَلقِ مَن يدَّعي ما ليس فيه، ومع هذا فما رأَينا ولا سَمِعْنا أنَّ أحدًا ادَّعى ذلك، بل الجميعُ أقَرُّوا له بالسَّابقةِ وعَدَمِ المشاركة". توفِّي ابنُ البوَّاب ببغداد، ودُفِنَ جوارَ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ.
هو العلامةُ ضياءُ الدين أبو محمَّد عبد الله بن أحمد المالقي النباتي المعروفُ بابن البيطار، الطبيبُ، ولد في مالقةَ بالأندلس، كان عالمًا بالنبات وصفاتِه ومنافِعِه وأماكِنِه، سافر في البلادِ إلى اليونان والمغرب ومصر وبلاد الشام، وكان كلَّ ذلك يدرس علمَ النبات ويجمع العيِّنات، كان ثقةً فيما ينقُلُه حُجَّةً, وإليه انتهت معرفة النباتِ وتحقيقه وصفاته وأسمائه وأماكنه. كان لا يجارَى في ذلك. سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم. وأخذ فنَّ النبات عن جماعة، وكان ذكيًّا فَطِنًا. قال الموفق أحمد بن أبي أصيبعة: "شاهدت معه كثيرًا من النبات في أماكِنِه بظاهر دمشق. وقرأت عليه تفسيرَه لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنت أجِدُ من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئًا كثيرًا جِدًّا. ثم ذكر الموفَّقُ فَصلًا في براعته في النبات والحشائش، ثم قال: وأعجَبُ من ذلك أنه كان ما يذكرُ دواء إلا ويُعَيِّن في أي مقالة هو في كتاب ديسقوريدس وجالينوس، وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة في تلك المقالة". وكان في خدمة الملكِ الكامِلِ، وكان يَعتَمِدُ عليه في الأدوية المفردة والحشائِش، ثم خَدَمَ بعده ابنَه الملك الصالح. وكان متقدِّمًا في أيامه، حظيًّا عنده. عُيِّنَ في مصر رئيسًا للعشَّابين وأصحاب البسطات, ثم رحل إلى دمشق، ومن أشهر مصنَّفاته: الجامع لمفردات الأدوية والأغذية،كتاب الأدوية المفردة الذي لم يصنف مثله. وصَفَ فيه لألف وأربعمائة نوع من أنواع النبات والعقاقير بتراكيبها الكيميائية مع ملاحظات دقيقة على طرق الاستخدام في العلاج، وله المغني في الأدوية المفردة والأغذية، وله ميزان الطبيب، وكتاب الأفعال الغريبة والخواص العجيبة، فكان ابنُ البيطار يعتبَرُ من أشهر أطباء الأعشاب في عصره، توفِّيَ في دمشق.
هو الشيخُ المفسِّر أبو الثناء شهاب الدين محمود بن عبد الله الألوسي الحسيني البغدادي صاحِبُ التفسير المعجب المسمى (روح المعاني)، أحد علماء القرن 13 الهجري، وهو مفتي بغداد، وخاتِمةُ المحقِّقين من أعلام المشرق، ولِدَ ببغداد سنة 1217 وتعلم بها وتوفِّيَ فيها، جلس للتدريس وأقبل عليه الطلاب من كلِّ مكان، وترك مؤلفات كثيرة أهمها: التفسير المعروف بروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. قال عنه صاحب فهرس الفهارس: "خدم العِلمَ في القرن المنصرم خدمةً تُذكَر ولا تُكفَر، له من الرحلات: نشوةُ الشمول في السَّفَر إلى استامبول، وكتاب نزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب، تعرَّض فيها لذكر أشياخِه وما قرأه عليهم وما أخذ منهم، وله أيضًا غرائب الاغتراب ونزهة الألباب، وله نشوة المدام في العود إلى دار السلام. في هذه الرحلات الثلاثة تفصيل رحلته إلى الأستانة ومن لقِيَ في ذهابه وإيابه من رجال العلم والأدب، لا سيما شيخ الإسلام عارف حكمت بك، وما جرى بينهما من المباحثة. وله مجلدٌ نفيس في ترجمة شيخ الإسلام بالمملكة العثمانية عارف حكمت بك "، قال عنه الزركلي: "مفسِّر، محدث، أديب، من المجدِّدين، من أهل بغداد، مولده ووفاته فيها. تقلَّد الإفتاء ببلده سنة 1248هـ، ثم عزل عنه، فانقطع للعلم. ثم سافر سنة 1262هـ إلى الموصل فالأستانة، ومرَّ بماردين وسيواس، فغاب 21 شهرًا وأكرمه السلطانُ عبد المجيد الأول. وعاد إلى بغداد يدوِّنُ رحلاته ويكمِلُ ما كان قد بدأ به من مصنَّفاتِه، فاستمَرَّ الى أن توفِّيَ".
هو الملك أبو يوسف يعقوب بن الليث الصفَّار الخارجي- خرج على سلطانِ الخلافةِ- التُّركمانيُّ، من سجستان، أصلُه فارسي ينحدِرُ من جبال شرق فارس، أسَّسَ السُّلالةَ الصفَّاريَّة التي حكَمَت فارس وبلاد ما وراء النهر. وقد أكثَرَ أهلُ التاريخ مِن ذِكرِ هذا الرجل وذِكرِ أخيه عمرو وما ملكا من البلادِ وقتلا من العبادِ، وما جرى للخلفاءِ معهما من الوقائع، كان رجلًا عاقلًا حازمًا, وكان أوَّلَ أمْرِه أنه وأخاه عَمرًا صفَّارانِ في حداثتِهما، يعملان في النُّحاس، وكانا يُظهِران الزهد، فجاهدا مع صالح المُطَّوِّعِي المحاربِ للخوارج، فصَحِبَه إلى أن مات، فتولَّى مكان صالح المطوعي درهمُ بن الحسين المطوعي، فجعل درهمُ يعقوبَ بن الليث قائدًا لعسكره، ثمَّ رأى أصحاب درهم عجْزَه، فملَّكوا يعقوبَ لحُسنِ سياستِه، فأذعَنَ لهم دِرهَم، واشتَهَرت صولةُ يعقوب، فغَلَب على هراة وبوشنج، وحارب الترك، وظفِرَ بِرُتْبِي، فقتله، وقتل ثلاثةَ ملوك ورجع معه ألوفٌ من الرؤوس، فهابته الملوك, وكان بوجهِه ضربةُ سيف مُخَيَّطَة. أظهر يعقوبُ حرصه على تدعيم مُلكِه؛ حيث اهتمَّ بتدبير أمور مملكتِه وتحصينِها وعمارة أرضه، فكثرت أموالُه وعَمَرت خزائنُه, ثم أعلن نفسَه حاكمًا على موطِنِه في سجستان (بلوشستان). ثم ضمَّ إليه المناطِقَ التي حكمها الطاهريون: هراة، وفارس، وشيراز، وبلخ, ثم طخرستان, حتى انتهى الأمرُ بأن قام بإجلائهم عن خراسان وأفغانستان. فعيَّنَه الخليفةُ المعتزُّ واليًا على المناطق التي سيطر عليها, فأخذ يعقوبُ يبعث هداياه إلى المعتز لمُداراته، ثم صار يرسِلُ للمعتَمِد في العام خمسةَ آلاف ألف درهم، ثمَّ أخذ بلخَ ثم نيسابور، وقصَدَ جرجان، فهزم المُتغلِّبَ عليها الحسن بن زيد العلوي، ثم دخل جرجان، فظَلَم وعَسَف، فاستغاث جماعةٌ جرجانيون ببغداد من يعقوب، فعزم المعتَمِد على حربه، ونفَّذَ كتبًا إلى أعيان خراسان بذمِّ يعقوب، وأن يهتمُّوا لاستئصاله، فكاتبَ يعقوبُ المعتَمِد يخضَعُ ويُراوغ، ويطلُبُ التقليدَ بتوليته المَشرِق، ففعل المعتمِدُ ذاك وأخوه الموفِّقُ؛ لاشتغالهم بحرب الزَّنْج. كان يعقوبُ قد افتتح الرخج، وقتَلَ مَلِكَها وأسلم أهلُها على يده، وافتتح الخلجية وزابل وغيرهما. بعد أن غلب يعقوبُ الصفَّار على سجستان ونيسابور والديلم وفارس، طَمِعَ في بغداد فأقبل عليها غازيًا، فقابلَه جيشُ الموفَّق بدير العاقول، وكشفَ الموفَّق الخوذة وحَمَل، وقال: أنا الغلامُ الهاشميُّ. وكَثُرت القتلى، فانهزم يعقوبُ، وجُرِحَ أمراؤه، وذهبت خزائِنُه، وغَرِق منهم خلقٌ في النهر. مات يعقوبُ بجند يسابور من كور الأهواز، وكانت عِلَّتُه القولنج، فأمره الأطبَّاءُ بالاحتقان بالدواء، فلم يفعل، واختار الموت. وكان المعتمِد قد أنفذ إليه رسولًا وكتابًا يستميلُه ويترضَّاه، ويقَلِّده أعمال فارس، فوصل الرسولُ ويعقوب مريضٌ، فجلس له وجعل عنده سيفًا ورغيفًا من الخبز، ومعه بصَلٌ، وأحضر الرَّسول، فأدَّى الرسالة، فقال له: قُل للخليفة إنَّني عليل، فإن مِتُّ فقد استرحتُ منك واسترحْتَ مني، وإن عوفِيتُ فليس بيني وبينك إلَّا هذا السَّيفُ، حتى آخُذَ بثأري، أو تكسِرَني وتعقِرَني، وأعودَ إلى هذا الخبز والبصل، وأعاد الرسولُ، فلم يلبَثْ يعقوبُ أن هلك. فقام بالأمرِ بعده أخوه عمرو بن الليث، وكتب إلى الخليفةِ بطاعته، فولَّاه الموفَّق خراسان، وفارس، وأصبهان، وسجستان، والسند، وكرمان، والشرطة ببغداد.
الوَزيرُ عَميدُ المُلْكِ، أبو نَصرٍ محمدُ بن منصورِ بن محمدٍ الكندريُّ، وَزيرُ السُّلطانِ طُغرلبك. كان أَحَدَ رِجالِ الدَّهرِ شَهامةً وكتابةً وكَرَمًا. وُلِدَ سنة 415هـ بقَريةِ كندر في نيسابور. تَفَقَّهَ لأبي حنيفةَ، وتَأَدَّبَ، ثم صَحِبَ رَئيسًا بنيسابور، فاستَخدَمهُ في ضِياعِه، ثم استَنابَهُ عنه في خِدمَةِ السُّلطانِ طُغرلبك، فطَلَبَه منه، فوَصَل في خِدمَتِه، وصار صاحِبَ خِبْرَةٍ. ثم وَلَّاهُ خوارزم، وعَظُمَ جاهُهُ. وعَصَى بخوارزم، ثم ظَفَرَ به السُّلطانُ، ونَقَمَ عليه أنَّه تَزَوَّج امرأةَ مَلِكِ خوارزم فخَصاهُ, ثم رَقَّ له فدَاوَاهُ وعُوفِيَ, واستَوْزَرهُ وله إحدى وثلاثون سنةً, فقَدِمَ بغداد، وأقامَ بها مُدَّةً، ولَقَّبَهُ الخليفةُ بسَيِّدِ الوُزراءِ, ونالَ من الجاهِ والحُرْمَةِ ما لم يَنَلْهُ أَحَدٌ. قال الذهبيُّ: "كان كَريمًا جَوادًا، مُتَعَصِّبًا لِمَذهَبِه، مُعتَزِليًّا، مُتكَلِّمًا له النَّظْمُ والنَّثْرُ". قال ابنُ الأثيرِ: "كان شديدَ التَّعَصُّبِ على الشافعيَّةِ، كَثيرَ الوَقيعَةِ في الشافعيِّ رضي الله عنه، بَلَغَ مِن تَعَصُّبِه أنه خاطَبَ السُّلطانِ في لَعْنِ الرَّافِضَةِ على مَنابر خُراسان، فأَذِنَ في ذلك، فأَمَرَ بِلَعْنِهِم، وأَضافَ إليهم الأَشعريَّة، فأَنِفَ من ذلك أَئمَّةُ خُراسان، منهم الإمام أبو القاسم القشيري، والإمام أبو المعالي الجويني، وغيرُهما، ففارقوا خُراسان، وأقامَ إمامُ الحَرمينِ بمَكَّةَ أربعَ سنين إلى أن انقَضَت دَولتُه، فلما جاء الوزيرُ نِظامُ المُلكِ، أَحضرَ مَن انتَزحَ منهم وأَكرَمَهم، وأَحسنَ إليهم, وقيلَ: إن الكندريَّ تابَ مِن الوَقيعةِ في الشافعيِّ، فإن صَحَّ فقد أَفلحَ، وإلَّا فَعَلَى نَفسِها براقش تَجنِي" في هذه السَّنَةِ قَبَضَ عليه ألب أرسلان، وسَجنَهُ ببَيتِه ثم أرسل إليه مَن قَتَلهُ. قُتِلَ بمروالروذ في ذي الحجَّةِ. وكان قد قُطِعَت مَذاكِرُه ودُفِنَت بخوارزم، فلمَّا قُتِلَ حُمِلَ رَأسُه إلى نيسابور. ولهذا قال ابنُ الأثير: "ومِن العَجَبِ أن ذَكَرَهُ دُفِنَ بخوارزم لمَّا خُصِيَ، ودَمُهُ مَسفوحٌ بمرو، وجَسَدُه مَدفونٌ بكندر، ورَأسُه مَدفونٌ بنيسابور، فاعتَبِروا يا أولي الأبصار".
هي أم المؤيد زينبُ بنت أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن سهل بن أحمد بن عبدوس الجرجاني الأصل النيسابوري الدار، الصوفي المعروف بالشعري- وتدعى حرة- وُلِدَت سنة 524 بنيسابور، وكانت عالمة، وأدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة. سمعت من أبي محمد إسماعيل بن أبي القاسم ابن أبي بكر النيسابوري القارئ، وأبي القاسم زاهر وأبي بكر وجيه ابني طاهر الشحاميين، وأبي المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري، وأبي الفتوح عبد الوهاب بن شاه الشاذياخي وغيرهم، وأجاز لها الحافظ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي، والعلامة أبو القاسم محمود ابن عمر الزمخشري صاحب " الكشاف " وغيرهما من السادات الحُفَّاظ. قال ابن خلكان: "ولنا منها إجازة كتبتها في بعض شهور سنة 610، ومولدي يوم الخميس بعد صلاة العصر حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة 608 بمدينة إربل بمدرسة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين" توفيت الحرة سنة 615 في جمادى الآخرة بمدينة نيسابور" قال الذهبي: "حدثت أم المؤيد أكثر من ستين سنة، روى عنها: عبد العزيز بن هلالة، وابن نقطة، والبرزالي، والضياء، وابن الصلاح، والشرف المرسي، والصريفيني، والصدر البكري، ومحمد بن سعد الهاشمي، والمحب ابن النجار، وجماعة كثيرة. وسمعت بإجازتها على التاج بن عصرون، والشرف بن عساكر، وزينب الكندية. وكانت شيخة صالحة، عالية الإسناد معمرة، مشهورة، انقطع بموتها إسناد عال". قال ابن خلكان: "الشَّعْري بفتح الشين المثلثة وسكون العين المهملة وفتحها وبعدها راء، هذه النسبة إلى الشعر وعمله وبيعه، ولا أعلم من كان في أجدادها يتعاطاه فنسبوا إليه، والله أعلم".
هو الإمامُ العلَّامةُ المُفتي المجتَهِد, عَلَمُ العراق أبو بكر أحمدُ بنُ عليٍّ الرازي الجَصَّاصُ، الفقيهُ الحنفي، إمامُ أصحاب الرأي في وقته، صاحب التصانيف، وتلميذُ أبي الحسن الكرخي. ولد سنة 305 في مدينة الريِّ التي يُنسَبُ لها بالرازي, وقد مكث بها حتى سِنِّ العشرينَ، حيث رحل إلى بغداد واستوطَنَها. وقد حاز الإمامُ مكانةً عِلميَّةً سامِقةً بين علماءِ الأمة عمومًا, وعُلَماءِ الحنفيَّة خُصوصًا. كان مع براعتِه في العِلمِ مَشهورًا بالزهد والورع، لَمَّا ورد بغداد في شبيبتِه درس الفقهَ على أبي الحسَنِ الكَرخيِّ ولم يزَلْ حتى انتهت إليه الرياسةُ الحنفية ببغداد، وعنه أخذ فقهاؤُها, ورحل إليه المتفَقِّهة، وخوطِبَ في أن يلي قضاءَ القُضاةِ فامتنع، وأعيد عليه الخطابُ فلم يفعل، وله تصانيفُ كثيرة مشهورة؛ منها "أحكام القرآن" و "شرح الجامع الصغير" لمحمد بن الحسن الشيباني، و "شرح المناسك" لمحمد بن الحسن الشيباني، و "شرح مختصر الفقه" للطحاوي، وغيرها، وتصانيفه تدُلُّ عل حفظه للحديثِ وبَصَرِه به. قال الذهبي: " وكان يميلُ إلى الاعتزالِ، وفي تصانيفِه ما يدُلُّ على ذلك في مسألةِ الرؤية وغيرِها ". توفِّيَ عن خمسٍ وستين سنة، وصلَّى عليه أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي.
غَزَا قُتيبةُ بِيكَنْد وهي أَدْنَى مَدائِن بُخارَى إلى النَّهْر، فلمَّا نَزَل بهم اسْتَنْصَروا الصُّغْدَ واسْتَمَدُّوا مَن حَولهم، فأَتوهم في جَمْعٍ كَثيرٍ وأَخَذوا الطُّرُقَ على قُتيبَة، فلم يَنْفَذ لِقُتيبَة رَسولٌ ولم يَصِل إليه خَبَرٌ شَهْرَيْنِ، وأَبطأَ خَبرُه على الحَجَّاج فأَشفَق على الجُنْدِ فأَمَر النَّاس بالدُّعاء لهم في المَساجِد وهُم يَقْتَتِلُون كُلَّ يومٍ. وكان لِقُتيبةَ عَيْنٌ مِن العَجَمِ يُقالُ له: تَنْدُر، فأَعطاهُ أهلُ بُخارَى مَالًا لِيَرُدَّ عنهم قُتيبة، فأَتاه فقال له سِرًّا مِن النَّاس: إنَّ الحَجَّاج قد عُزِلَ وقد أَتَى عامِل إلى خُراسان فلو رَجَعْتَ بالنَّاس كان أَصْلَح. فأَمَر به فقُتِلَ خَوفًا مِن أن يَظهَر الخَبَرُ فيَهْلك النَّاس، ثمَّ أَمَرَ أَصحابَه بالجِدِّ في القِتال فقَاتَلهم قِتالًا شَديدًا، فانْهَزَم الكُفَّارُ يُريدون المدينةَ وتَبِعَهم المسلمون قَتْلًا وأَسْرًا كيف شَاؤُوا، وتَحَصَّنَ مَن دَخَل المدينةَ بها، فوَضَع قُتيبةُ الفَعَلَةَ لِيَهْدِمَ سُورَها، فَسَألُوه الصُّلْحَ فصَالَحَهم واسْتَعْمَل عليه عامِلًا وارْتَحَل عنهم يُريد الرُّجوعَ, فلمَّا سَارَ خَمسةَ فَراسِخ نَقَضُوا الصُّلْحَ, وقَتَلوا العامِلَ ومَن معه، فرَجَع قُتيبةُ فنَقَبَ سُورَهم فسَقَطَ فَسألوه الصُّلْحَ فلم يَقبَل، ودَخَلها عَنْوَةً وقَتَل مَن كان بها مِن المُقاتِلَة، وأصابوا فيها مِن الغَنائِم والسِّلاح وآنِيَة الذَّهَب والفِضَّة ما لا يُحْصَى، ولا أصابوا بخُراسان مِثلَه، فقَوِيَ المسلمون، ووَلِيَ قَسْمَ الغَنائِم عبدُ الله بن وَأْلَان العَدَوِيُّ أَحَدُ بَنِي نلكان، وكان قُتيبةُ يُسَمِّيه الأَمين ابن الأَمين، فإنَّه كان أَمِينًا. فلمَّا فَرَغ قُتيبةُ مِن فَتْح بِيكَنْد رَجَع إلى مَرْو.