هو الناصر لدين الله الإمام الحسن بن علي بن داود المؤيدي إمام الدولة الزيدية في اليمن. له تبحُّرٌ في علوم عديدة، كالنحو والصرف، والمنطق والمعاني والبيان، والأصول والتفسير، والفقه والحديث، وله رسائل تدلُّ على بلاغته وقوة تصرُّفه، دعا إلى نفسه سنة 984 في نصف شهر رمضان منها، فاجتمعت إليه الزيدية وأجابوا دعوتَه، وبايعوه في بلاد صعدة، وخرج منها بجيش إلى الأهنوم واشتعلت الأرض نارًا بقيامه على الأتراك، ودخل في طاعته بعضُ أولاد الإمام شرف الدين، وأَسَر عبد الله بن المطهر وأودعه السجنَ ثم توجَّه بجند واسع لأخذ بلاد همدان، ففتح أكثرها وخرج الأتراك من صنعاء وأميرُهم سنان، فما زالت الحرب بينهما سِجالًا، وفي سنة 993 افتتح سنان بلاد الأهنوم، وانحصر الإمام الحسن في محل يقال له الصاب، ودُعي إلى السلم فأجاب، وخرج إلى سنان في نصف شهر رمضان منها، وهذا من غرائب الزمان: كونُ قيامه في نصف شهر رمضان، وأسْرُه في نصف شهر رمضان، ثم دخل به سنان إلى صنعاء، فوصل به إلى الباشا حسن فسجنه وقد كان أسَرَ أولاد المطهر بن شرف الدين الأربعة لطف وعلي يحيى وحفظ الله وغوث الدين، وسجنهم مع الإمام الحسن، وفي شهر شوال من هذه السنة أرسل الباشا بهم جميعًا إلى بلاد الترك، وكان آخر العهد بهم، وقد روي أنه مات الإمام الحسن في بلاد الترك محبوسًا في شهر شوال، وله أخبار حسان.
سيَّرَ شريف مكة الشريف غالبُ عساكِرَه بقيادة أخيه عبد العزيز إلى أعالي نجد لمحاربة أهلِها في قوة هائلة في العددِ والعُدَّة، نحو عشرة آلاف، ومعهم 20 مدفعًا وأمَرَهم أن يقصدوا الدرعية ومنازلَتَها فضلًا عن غيرِها من بلدانِ نجدٍ التابعة للدرعية, فلمَّا رأى أعداءُ الدعوة في نجدٍ هذه القوة أيقَنوا بنهاية دولة الدرعية ودعوة الشيخِ، خاصَّةً أنها جاءت من شريفِ مكَّةَ؛ ولذلك نقض عددٌ من العربان وأهالي بعض بلدان نجدٍ بيعَتَهم وعهدَهم مع الشيخ والأمير، وراسل الشريف عبد العزيز أناسًا من أهل بلدان نجدٍ، منهم حسين الدويش رئيس مطير وعربانه، وكثير من قحطان، فأقبلت تلك العساكِرُ والجنود معهم كثيرٌ مِن بوادي الحجاز وعربان شمر ومطير وغيرهم، وامتلأ منهم السهلُ والجبَلُ، وصار في قلوبِ المسلمين منهم وجَلٌ, فنزلوا على قصر بسَّام في السر وحاصروه أيامًا وضربوه بالمدافِعِ ولم ينالوا منه شيئًا، على الرغم أنَّ عدد من فيه لا يتجاوز30 رجلًا، وبناء القصر كان ضعيفًا! فرحل عنه الشريفُ عبد العزيز مع جموعِه ونزل في أرض السر أربعة أشهر، ثم عزم على العودة إلى قصر بسام، وحلَفَ ألا يدَعَه حتى يهدِمَه ويقتُلَ من فيه، فعمل السلالم ودهموا بها الجدرانَ فلم يحصلوا على طائلٍ, وقُتِلَ من قومِه عِدَّة رجال. كان الإمامُ عبد العزيز لما أقبلت تلك الجموعُ استنفَرَ أهالي بلدان نجد التابعين له مع ابنه الأمير سعود، فنزل سعود رمحين النفود بالقربِ مِن بلدة أشيقر، وأقام فيها يخيفُ جنود الشريف، وهذه الواقعة هي أوَّلُ لقاء عسكري بين أشرافِ الحجازِ والدرعية، كان المبادِرُ بالقتال فيها هو شريفَ مكةَ.
لَمَّا صارت الهزيمةُ على عبد الله بن سعود في جمادى الآخرة رحل بالقُربِ من جَبَل ماوية ونزل إبراهيمُ باشا وقواته الرسَّ، فثبت له أهلُ الرس وحاربوه، وأرسل عبد الله للرس مرابِطةً مع حسن بن مزروع، والهزاني صاحب حريق نعام، فحاصرهم الرومُ أشَدَّ الحصار وتابعوا الحربَ عليهم في الليل والنهار، وكُلَّ يوم يسوقُ الباشا على سورِها صناديدَ الروم بعدما يجعل السورَ بالقبوس فوق الأرضِ مهدومًا، ومع ذلك ثبت أهلُ الرس والمرابطة، وقاتلوا قتالَ مَن حمى الأهل والعيال، وصبروا صبرًا عظيمًا، فكلما هَدَم الرومُ السورَ بالنهار بنوه بالليل، وكلَّما حفروا حُفَرًا للبارود حفَرَ أهل الرس تجاهَه حتى يبطلوه، وبعض الأحيان يثور عليهم وهم لا يعلمون، وطال الحصار إلى ذي الحجة، وذُكر أنَّ الروم رموه في ليلةٍ 5000 رمية بالمدافع والقنبر والقبس، وأهلكوا ما خلفَ القلعة من النخيل وغيرها، وعبدُ الله بن سعود وجنوده في عنيزة، فأرسل أهل الرس إليه إمَّا أن يرحلَ إليهم لقتال الرومِ، وإمَّا أن يأذَنَ لهم بالمصالحةِ، ثم أقبل عساكِرُ وقبوس وأمداد من الروم كثيرة ونزلوا على إبراهيم ومن معه في الرس واستعظم أمرُه وكثرت دولتُه، فوقعت المصالحة بينه وبين أهلِ الرسِّ على دمائِهم وأموالِهم وسلاحِهم وبلادِهم وجميعِ مَن عندهم من المرابِطة يخرجون إلى مأمَنِهم بسلاحِهم وبجميع ما معهم، فخرجوا من الرس وقصدوا عبدَ الله وهو في عنيزة، وقتُل من أهل الرس والمرابطة نحو سبعين رجلا وقُتِلَ من عسكر الروم ما ينيف على 600 رجلٍ.
استمَرَّت السيطرةُ البرتغاليَّةُ في عمان منذ بدايةِ القرنِ السادسَ عشَرَ وحتى عام 1060هـ /1650م حين استطاعت أسرةُ اليعاربةِ تحريرَ أرضِ عمان بطردِ البرتغاليِّين مِن معاقِلِهم في مسقط ومطرح، وكان ذلك التحريرُ ثمرةَ الكفاحِ والإرادةِ العُمانية التي استثمرت تنافُسَ وصراعَ الإنجليز والهولنديِّين مع البرتغاليين؛ لتخرُجَ منه في المنتَصَف الأوَّلِ من القرن السابع عشر أقوى قوَّةٍ بحرية محليَّةٍ في غَربِ المحيط الهندي، قادرةً على إنهاءِ السيطرةِ البرتغالية. وكانت إنجلترا قد برزت منذ أواخِرِ القَرنِ السادس عشر كقُوَّةٍ بحرية ضاربةٍ بين القوى الأوروبية، وراحت تفَتِّشُ عن سبيل الوصول إلى مناهلِ الثراء الشرقية، وكسر الاحتكار البرتغالي، فكانت (إدوارد بانوتي) أول سفينة إنجليزية قامت بزيارة زنجبار عام 1000هـ /1591م وظهرت نتائِجُ زياراتها بعد تسعِ سنوات، حين تشكَّلَت شركةُ الهند الشرقية الإنجليزية التي تأسَّسَت بموجِبِ مَرسومٍ مَلكيٍّ صدر في 1009هـ /1600م والتي اقترن بها نشاطُ إنجلترا التجاري والبحري فيما بعدُ. بدأت شركة الهندِ الشرقية تمارِسُ نشاطاتِها بدُخولِ مَنطقةِ الخليج العربي، وكان هدفُها من دخولها لهذه المنطقةِ بيعَ الأصواف الإنجليزية في إيران مقابِلَ الحصول على الحريرِ، وبذلك التقت مصالحُ كُلٍّ مِن إنجلترا والفُرسِ لمهاجمة العدو البرتغاليِّ المشتركِ، وقد بلغ الخطَرُ الإنجليزي الفارسي على مركزِ الهُجومِ المشترك الذي شَنَّه الإنجليز والفرس على هرمز، كذلك تعاون الإنجليز مع الهولنديين لإزاحة منافسةِ البرتغاليَّة، فنجح أسطولٌ إنجليزي هولندي مؤلَّفٌ مِن ثماني سفن في دَحْرِ الأسطول البرتغالي بالقُربِ مِن هرمز في عام 1035هـ /1625م.
تقدَّم اللورد ملنر وزير المستعمرات الألماني إلى الوفدِ المصري بنصِّ مشروع معاهدة تتكوَّن من عدة مواد، ومنها: (المادة الأولى) تتعهد بريطانيا بضمان سلامة أرضِ مِصرَ واستقلالها كمملكةٍ ذات أنظمة دستورية. (المادة الثانية) تتعهَّدُ مصر من جانبها ألَّا تَعقِدَ أيَّ معاهدة سياسية مع أي دولة أخرى بدون رضا بريطانيا. (المادة الثالثة) نظرًا للمسؤولية الملقاة على عاتق بريطانيا بمقتضى الفقرة المتقدمة، ونظرًا لِما لها من المصلحة الخاصة في حفظ مواصلاتها مع ممتلكاتها في الشرق والشرق الأقصى، فمِصرُ تعطيها حقَّ إبقاء قوة عسكرية بالأراضي المصرية، وحقَّ استعمال الموانئ والمطارات المصرية لغَرَضِ التمكن من الدفاع عن القُطرِ المصري، ومن المحافظة على مواصلاتها مع أملاكها المذكورة، أما المكان أو الأمكنة التي تعسكِرُ فيها تلك الجنود البريطانية فإنها تعَيَّن بعد اتفاق الطرفين، إلى غير ذلك من المواد. كما أن الوفد المصري قدَّم مشروعَ معاهدة إلى لجنة اللورد ملنر، والتي تتكوَّنُ مواده من: (المادة الأولى) تعترف بريطانيا باستقلال مصر. وتنتهي الحماية التي أعلنتها بريطانيا على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914 هي والاحتلال العسكري الإنجليزي، وبذلك تستردُّ مصرُ كامِلَ سيادتها الداخلية والخارجية، وتكونُ دولةً مَلَكيةً ذات نظام دستوري. (المادة الثانية) تُجلي بريطانيا جنودَها عن القطر المصري بدءًا من تاريخ العمل بهذه المعاهدة. (المادة الخامسة) في حالة إلغاء المحاكم القُنصلية وإحالة محاكمة الأجانب على ما يقع منهم من الجنايات والجُنَح إلى المحاكم المختلطة تَقبَل مصر أن تعَيِّن أحدَ رجال القانون من التبعية الإنجليزية في وظيفة النائبِ العمومي لدى المحاكمِ المختلطة.
كانت السودانُ مرتبطةً بمصر وتعَدُّ جزءًا منها؛ فحاكمُهما واحد، وسلطانهما واحد، فهي تابعة إداريًّا لمصر، ولكِنَّ هذا الارتباط كان يشكِّلُ أحيانًا عقبة أمام المصريين في مباحثاتهم مع الإنجليز بشأنِ الجلاء عن مصر، لذلك رأى الضباطُ الأحرار قادةُ انقلاب 23 يوليو 1952م / 1371هـ في مصر أنَّ علاج مشكلة السودان كفيلٌ بحَلِّ مشكلة الجلاء عن مصر، فقامت الحكومةُ المصرية بتقديم مذكِّرة للحكومة البريطانية بشأن الحُكمِ الذاتي للسودان وحقِّ تقرير مصيره، وتضَمَّنت بنودًا يتحصل من ورائها السودان على الحكم الذاتي، ثم أصدر القانون العام التفصيلي للحكم الذاتي الكامل في السودان، وأبلغت حكومة السودان دولتي الحكم الثنائي بقرار الجمعية التأسيسية بالرغبة في مزاولة حَقِّ تقرير المصير، وقبلت الدولتان مصر وإنجلترا قرارَ اللجنة، وفي 24 ربيع الأول 1375هـ / 9 نوفمبر 1955م جلت قوات الدولتين المصرية والإنجليزية عن الأراضي السودانية نهائيًّا، وتركت الحكومة المصرية جميعَ الأسلحة الثقيلة الخاصة بها إلى السودان، وفي 5 جمادى الأولى / 19 ديسمبر أصدر مجلِسُ النواب السوداني قرارًا يقضي بأن يُعَدَّ جلاء الجيوش عن أرضه استقلالًا له، فلا حاجة إلى إجراء استفتاء لاختيار نوع الحكم، وأعلنت الحكومة السودانية قيامَ الجمهورية السودانية رسميًّا في 1 يناير 1956، وقد أصبح السودان عضوًا في جامعة الدول العربية في 19 يناير، وفي الأمم المتحدة في 12 نوفمبر من نفس العام. وأبلغت مصر وبريطانيا بذلك ودعت الحكومة السودانية لانتخاب جمعية تأسيسية لتضع الدستورَ النهائيَّ للسودان.
خليل إبراهيم محمود الوزير (1935 - 16 إبريل 1988م) والمعروفُ بأبي جهاد. وُلِد في بلدة الرَّمْلة بفلسطين، وغادرها إلى غزَّة إثْر حرب 1948م مع أفرادِ عائلته. درس في جامعة الإسكندرية، ثم انتقل إلى السُّعودية، فأقام فيها أقلَّ من عامٍ، وبعدها توجَّه إلى الكويت، وظلَّ بها حتى عام 1963م. وهناك تعرَّف على ياسر عرفاتٍ، وشارك معه في تأسيس حركة فتح. في عام 1963م غادر الكويت إلى الجزائر حيث سمحتِ السُّلطات الجزائريَّةُ بافتتاح أوَّلِ مكتبٍ لحركة فتحٍ، وتولَّى مسؤوليَّة ذلك المكتب. وفي عام 1965م غادر الجزائر إلى دِمَشقَ، وأقام فيها مقرَّ القيادة العسكرية، وكُلِّف بالعَلاقات مع الخلايا الفدائيَّةِ داخل فلسطين، كما شارك في حرب 1967م وقام بتوجيه عمليَّاتٍ عسكريَّةٍ ضدَّ الجيش الإسرائيلي في مِنطَقة الجليل الأعلى. وتولَّى بعد ذلك المسؤوليةَ عن القطاع الغربي في حركة فتح. وقد تقلَّدَ العديدَ من المناصب، فكان أحدَ أعضاء المجلس الوطني الفِلَسطينيِّ، وعضوَ المجلس العسكري الأعلى للثَّورة، وعضوَ المجلس المركزيِّ لمُنظَّمة التَّحرير الفِلَسطينيَّةِ، ونائبَ القائد العامِّ لقُوَّات الثورة. وفي 16 إبريل 1988م تمَّ إنزال 20 عنصرًا مُدرَّبًا من الموساد من أربعِ سُفُنٍ وغوَّاصتَينِ وزوارقَ مطَّاطيةٍ وطائرتَينِ عموديَّتينِ للمُساندة على شاطئ الرُّواد قُرب ميناء قرطاجة في تونس، وبعد مجيئه إلى بيته كانت اتصالاتُ عُمَلاء الموساد على الأرض تنقلُ الأخبار، فتوجَّهت هذه القُوَّة الكبيرة إلى منزله، فقتلوا الحُرَّاس، وتوجَّهوا إلى غُرفته، وأطلقوا عليه الرصاص، فاستقرَّت به سبعون رصاصةً، وتُوُفِّيَ في نفس اللَّحظة.
في باكستان، سار ضياءُ الحق في سياستِهِ الأوَّليَّةِ باتجاهينِ يكادانِ يكونانِ متناقضينِ: اتجاه بالتقرُّب إلى أمريكا، واتجاه إسلاميٌّ، فدعَّم المجاهدين الأفغانَ، وهذا ما كانت أمريكا راضيةً عنه ثأرًا لها من روسيا التي دعَّمت الفيتناميين ضِدَّها، ثم إنَّ ضياء الحق في أواخر أيَّامه بدَت رغبتُه في تطبيق الشريعة، حيث أخذ يُصرِّح مُتسائِلًا: بماذا يُجيب اللهَ يوم القيامة، إذا سأله عن عدم تطبيقه للشريعة، وأخَذ يعمل لذلك، وقرَّر إجراء استفتاء عام 1990م ليعرف ثقة الشعب وتجاوبَهُ السياسيَّ، ولكن هذا ما لا يرضي أمريكا، وخاصَّة أن أزمة أفغانستان انتهت، فعرضت أمريكا على ضياء الحق شِراءَ دبَّابات أمريكية وأحضرَتْها لباكستان لرؤيتها، ومعرفة مزاياها على أرض الواقع، وتحدَّد الموعد وكان سِرِّيًّا جِدًّا، فخرَجَ الرئيسُ ضياء الحق، ومعه السفير الأمريكي في باكستان، والمُلحَق الأمريكي لشؤون الدفاع، والخبيرُ بسلاح الصواريخ، ولم يخطُرْ ببال ضياء الحق أيُّ مكيدةٍ بما أنه برُفقة هَذينِ الأمريكيَّينِ، ثم بعد انتهاء العُروض استقلُّوا الطائرةَ التي ستتوجَّه إلى مطار راولبندي، وما إن أقلعتِ الطائرةُ حتى سقطت مُنفجرةً محترقةً بمن فيها، وذلك في 5 محرم 1409هـ / 17 آب 1988م وكان المتهمون كُثُرًا، فالرُّوس، والهنودُ، والأفغانُ الشيوعيُّون بسبب مُساعدة ضياء الحق للأفغانِ، وإيرانُ بسبب الخلاف في تطبيق الإسلام، أو الشيعة وخاصَّة بعد مقتل عارف حسين الحُسَيني رئيس حركة تنفيذ الفقه الجعفري في باكستان، واليهودُ بسبب مواقف ضياء الحق ضدَّ دولتِهم، والباكستانيُّون العسكريُّون الذين يُريدون السُّلطة، وأمريكا، ثم وحسب الدُّستور الباكستاني تسلَّم الرئاسة رئيسُ الجمعيَّةِ الوطنيَّةِ غلام إسحاق غلام.
قامت وَقعةُ الوَلَجَةِ بين الفُرْس والمسلمين بقيادةِ خالدِ بن الوَليد رضِي الله عنه، والوَلَجَةُ مكان في العِراق، وسُمِّيت المعركة باسمه لوُقوع الأحداثِ فيه, لمَّا وقع الخبرُ بأَرْدَشِير بمُصابِ قارَنَ وأهلِ المَذارِ، جَنَّدَ المَلِكُ جيشًا عظيمًا مِن قبيلةِ بكرِ بن وائلٍ والقبائل الأُخرى المُواليةِ له, تحت قِيادةِ قائدٍ مشهور منهم يُدْعى الأندرزغر, وكان فارِسيًّا مِن مولدي السَّوادِ. وأرسل بهمن جاذُوَيْهِ في إثْرِهْ ليقودَ جُيوشَ المَلِكِ, وحشَرَ الأندرزغر مِن بين الحِيرَةِ وكَسْكَر ومِن عَربِ الضَّاحيَةِ, فلمَّا اجتمع للأندرزغر ما أراد واستتمَّ أَعجبَهُ ما هو فيه، وأَجْمَعَ السَّيْرَ إلى خالدٍ، ولمَّا بلغ خالدًا وهو بالقُرْبِ مِن نهرِ دِجْلة خبرُ الأندرزغر ونزوله الوَلَجَة، نادى بالرَّحيلِ، وخَلَّفَ سُوَيدَ بن مُقَرِّنٍ، وأَمرَهُ بِلُزومِ الحَفِيرِ، وتَقدَّم إلى مَن خَلَّفَ في أَسفلِ دِجْلة، وأَمَرَهُم بالحَذَرِ وقِلَّةِ الغَفْلَةِ، وتَرْك الاغْتِرارِ، وخرج خالدٌ سائرًا في الجُنود نحو الوَلَجَةِ، حتَّى نزَل على الأندرزغر بالوَلَجَةِ، فاقتتَلوا بها قِتالًا شديدًا، حتَّى ظن الفريقان أنَّ الصَّبرَ قد فَرَغَ، واسْتبطَأَ خالدٌ كَمينَهُ، وكان قد وضَع لهم كَمينًا في ناحيتين، عليهم بُسْرُ بن أبي رُهْمٍ، وسعيدُ بن مُرَّةَ العِجْليُّ، فخرَج الكَمينُ في وَجهينِ فانْهزمَت صُفوف الأعاجِم ووَلَّوْا، فأخذَهُم خالدٌ مِن بين أيديهم والكَمينُ مِن خَلفِهم، وكانت الهَزيمةُ كاملةً؛ ففَرَّ الفُرْسُ وفَرَّ العَربُ المُوالون لهم, بعد أن قتَل وأسَر منهم عددًا عظيمًا, ومضى الأندرزغر مُنهزمًا, فمات عَطَشًا في الفَلاةِ, وبذَل خالدٌ الأمانَ للفلَّاحين؛ فعادوا وصاروا أهلَ ذِمَّةٍ, وسَبَى ذراريَّ المُقاتِلة ومَن أَعانَهُم.
كان المنصورُ قد حَبَس عبدَ الله بن الحسن والدَ محمد النفس الزكية، وكان همُّ المنصورِ هو الظفَرَ بمحمَّدٍ - الذي كان متخفيًا في المدينة- وأخيه إبراهيمَ، وذلك أنَّهما تخلَّفا عن الحضور إليه في موسم الحج, وعِلْمه بسعيهما للوصول لأمر ِالخلافة منذ أيَّام بني أمية؛ بقصد إزالة المخالفاتِ الشَّرعية والظُّلم الذي وقع من الولاة والأمراء, فخاف مِن أمرِهما، ثمَّ إنَّ محمدًا دعا للبيعةِ لنفسه واستولى على مقاليد الأمور في المدينة في آخر شهر جمادى الآخرة وحبس واليها رياح المري، وأخذ البيعة من أهلها في المسجد النبوي بعد خروجِ المنصور إلى الكوفة، فكتب المنصورُ له كتابًا بالأمان فرفضه، وكتب هو للمنصور كتابًا مضمونُه أنَّه هو أحقُّ بالولاية منه، فانتشر أمرُ محمد في المدينة وبايعه خلقٌ كثير، وقَوِيَ أمرُه حتى أرسل بعضَ الجندِ إلى مكَّة ليبايعوا له فيها، وبعث لأهل الشامِ فأبَوا عليه واعتذروا بأنَّه ليس له قوةٌ في بلدِه التي هو فيها، فكيف يطلب مثلَ هذا؟! وقد ملُّوا الحروبَ بين بعضِهم، ثم َّإن المقاتلينَ الذين أرسلهم إلى مكةَ دخلوها ولم يكونوا يزيدونَ على ثمانينَ، وأمَّا في البصرةِ فقام إبراهيم أخو محمد وبايع أيضًا له خلْقٌ، فجهَّزَ له المنصورُ جيشًا بقيادة عيسى بن موسى، فعلم محمد النفس الزكية بالأمر فحفَرَ خندقًا، ثمَّ جاء جيشُ عيسى وبقي أيامًا يدعوه للطاعة ويأبى، ودعا أهلَ المدينة للخروجِ؛ فليسوا هم المقصودين، وأحلَّ محمدٌ من أرادَ مِن بيعتِه إن خاف، فرجَع خلقٌ عنها، ثم بعد عدة أيام نشبت الحرب بينهما، وكانت حربًا شديدة جدًّا، ودخل عيسى المدينة وبقيَ القتالُ حتى لم يبقَ مع محمد النفس الزكيَّة إلا نفرٌ، ثمَّ قُتِلَ في رمضان وبُعِثَ برأسه إلى المنصور، ونوديَ بالأمان لأهل المدينةِ.
دولةُ بَني زيادٍ هي أوَّلُ الدُّولِ اليَمنيةِ استقلالًا في القرنِ الثالثِ الهِجريِّ، ففي زمَنِ المأمونِ الخَليفةِ العباسيِّ بدأ النُّفوذُ الشِّيعيُّ يزدادُ بشدةٍ؛ ما جعَله يُولِّي محمدَ بنَ إبراهيمَ الزِّياديَّ اليَمنَ سنةَ 203هـ، وبعد عامٍ مِن هذا التاريخ بدأ الزِّياديُّ في بناءِ مَدينةٍ جَديدةٍ لها، وهي مَدينةُ زُبَيدٍ، وقد نجَح في بَسطِ نُفوذِه على جميعِ أرجاءِ اليَمنِ حتى استَقلَّ بمُلكها، فمَلَكَ إقليمَ اليَمنِ بأسْرِه، وحَضْرَمَوْتَ بأسْرِها، والشِّحْرَ وَمِرْباطَ وأَبْيَنَ وعَدَنَ والتهائِمَ إلى حَلْيِ يَعقوبَ، وكذلك مِن جبالِ الجَنَدِ وأعمالِه ومِخلافِ جَعفرَ ومِخلافِ المعافِرِ وصَنعاءَ وأعمالِها ونَجرانَ وبَيْحانَ والحِجازِ بأسْرِه. وبعدَ أنْ جَعَل الزِّياديُّ المُلكَ في ذُرِّيتِه ودانت له اليَمنُ، حَكم مِن بعده ابنُه إبراهيمُ سنةَ 245هـ، ثم تولى مِن بعدِه زيادٌ، ثم مِن بعدِه ابنُه أبو الجَيْشِ إسحاقُ الذي عمَّرَ طويلًا وبدأ في عَهدِه ضَعفُ الدولةِ الزِّياديةِ، فثارَ في صَنعاءَ ابنُ يَعفُرَ، وثارَ في صَعْدةَ يحيى بنُ القاسِمِ الرَّسِّيُّ المُلقَّبُ بالهادي سنةَ 288هـ، وأصبحت اليَمنُ كُلُّها في مهَبِّ الريحِ، وبدأت الدولةُ الزِّياديةُ بالتفكُّكِ. وانتزع اليَعفُريُّونَ مِن بَني زيادٍ بعضَ المناطقِ، وأصبحت اليَمنُ ثلاثَ دولٍ: دولةَ ابنِ يَعفُرَ في صَنعاءَ، والدولةَ الشِّيعيةَ الزَّيديةَ لِلرَّسِّيينَ في صَعدةَ، ودولةَ الزِّياديِّينَ في زُبَيدٍ. فلم يَدُمِ المُلكُ طَويلًا لِأحدٍ، وشهدَ اليَمنُ اضطراباتٍ مذهبيةً خِلالَ العَصرِ العباسيِّ الثاني. وفي آخِرِ الأمرِ تمكَّنَ نجاحٌ وهو مملوكٌ حبشيٌّ لِمُرجانَ مِن تأسيسِ دولةِ بَني نجاحٍ في زُبَيدٍ، وبهذا انقرضت دولةُ بَني زيادٍ.
عظُمَ أمرُ القرامطةِ بالبحرين، وأغاروا على نواحي هجَر، وقَرُب بعضُهم من نواحي البصرةِ، فكتب أحمدُ الواثقيُّ يسألُ المدَدَ، فأمر المعتَضِدُ باختيار رجلٍ يُنفِذُه إلى البصرة، وعزَلَ العبَّاسَ بنَ عمرو عن بلاد فارس، وأقطعه اليمامةَ والبحرين، وأمَرَه بمحاربة القرامطة وضَمَّ إليه زُهاءَ ألفَي رجل، فسار إلى البصرةِ، واجتمع إليه جمعٌ كثيرٌ من المتطوِّعة والجُند والخَدَم، ثم سار إلى أبي سعيدٍ الجَنابي، فلَقُوه مساءً، وتناوشوا القتال، وحجز بينهم الليلُ، فلما كان الليلُ انصرف عن العبَّاسِ مَن كان معه من أعرابِ بني ضَبَّة، وكانوا ثلاثَمائة إلى البصرةِ، وتبعهم مطَوِّعةُ البصرة، فلما أصبح العبَّاسُ باكَرَ الحربَ، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ثم حمل نجاحٌ غلامُ أحمد بن عيسى بن الشيخ من ميسرةِ العبَّاسِ في مائة رجل على ميمنةِ أبي سعيدٍ، فتوغَّلوا فيهم، فقُتِلوا عن آخِرِهم، وحمل الجنابيُّ ومن معه على أصحابِ العبَّاس، فانهزموا وأُسِرَ العبَّاس، واحتوى الجنابيُّ على ما كان في عسكَرِه، فلما كان من الغدِ أحضر الجنابيُّ الأسرى فقَتَلهم جميعًا وحَرَقَهم، ثم سار الجنابيُّ إلى هجر بعد الوقعة، فدخلها وأمَّنَ أهلَها وانصرف مَن سَلِمَ من المنهزمين، وهم قليلٌ، نحو البصرة بغير زادٍ، فخرج إليهم من البصرة نحوُ أربعمائة رجلٍ على الرواحل، ومعهم الطعامُ والكسوة والماء، فلَقُوا بها المنهزمين، فخرج عليهم بنو أسَدٍ وأخذوا الرواحِلَ وما عليها وقَتَلوا من سَلِمَ من المعركة، فاضطربت البصرةُ لذلك، وعزم أهلُها على الانتقالِ منها فمَنَعَهم الواثقي، وبقيَ العبَّاسُ عند الجنابي أيامًا ثم أطلَقَه، وقال له: امضِ إلى صاحِبِك وعرِّفْه ما رأيت؛ وحَمَله على رواحِلَ، فوصل إلى بعضِ السواحل وركب البحرَ فوافى الأبُلَّة، ثم سار منها إلى بغدادٍ فوصَلَها في رمضان، فدخل على المعتَضِدِ فخلع عليه.
كان الإخوةُ الثلاثة (عماد الدولة) أبو الحسَن علي، و(رُكْن الدولة) أبو علي الحسَن، و(مُعِزُّ الدولة) أبو الحسين أحمد- أولادُ أبي شجاع بُوَيه بن قباخسرو فرس- من أحفاد الملك يزدجرد, وإنَّما قيل لهم الديالمة؛ لأنهم جاوروا الدَّيلم، وكانوا بين أظهُرِهم مُدَّةً، وقد كان أبوهم أبو شجاع بويه فقيرًا مُدقِعًا، يصطاد السَّمَك ويحتَطِبُ بنوه الحطَبَ على رؤوسهم، وهؤلاء الإخوة الثلاثة كانوا عند ملِكٍ يقال له ماكان بن كاني في بلاد طبرستان، فتسَلَّطَ عليه مرداويج الديلمي فضَعُف، فتشاوروا في مفارقتِه حتى يكونَ من أمره ما يكون، فخرجوا عنه ومعهم جماعةٌ من الأمراء، فصاروا إلى مرداويجَ فأكرَمَهم واستعمَلَهم على الأعمالِ في البلدان، فأعطى أبا الحسَنِ على بن بويه نيابةَ الكرج، فأحسن فيها السيرةَ والتفَّ عليه النَّاسُ وأحبُّوه، فحَسَده مرداويجُ، وبعث إليه بعَزلِه عنها، ويستدعيه إليه فامتنَعَ من القدومِ عليه، وصار إلى أصبهانَ فحاربه نائبُها، فهزمه أبو الحسَنُ على بن بويه هزيمةً مُنكرةً، واستولى على أصبهان، وإنَّما كان معه سبعُمائة فارس، فقهر بها عشرةَ آلاف فارس، وعَظُمَ في أعيُنِ الناس، فلما بلغ ذلك مرداويج قَلِقَ منه، فأرسل جيشًا فأخرجوه من أصبهانَ، فقصد أذربيجان فأخذها من نائِبِها وحصل له من الأموال شيءٌ كثيرٌ جِدًّا، ثم أخذ بلدانًا كثيرة، واشتهَرَ أمرُه وبَعُدَ صِيتُه وحَسُنَت سيرتُه، فقصده النَّاسُ مَحبَّةً وتعظيمًا، فاجتمع إليه من الجُندِ خَلقٌ كثيرٌ وجَمٌّ غفير، فلم يزَلْ يترقى في مراقي الدنيا حتى آلَ به وبأخويه الحالُ إلى أن ملكوا بغدادَ مِن أيدي الخُلَفاء العباسيِّين، وصار لهم فيها القَطعُ والوَصلُ، والولايةُ والعَزلُ، وإليهم تُجبى الأموال، ويُرجَعُ إليهم في سائرِ الأمور والأحوال.
كانت فِتنةُ الجُندِ الأَتراكِ ببغداد، وكان سَببُها أنهم تَخَلَّفَ لهم على الوزيرِ الذي للمَلِكِ الرَّحيم مَبلَغٌ كَثيرٌ مِن رُسومِهم، فطالبوهُ، وأَلَحُّوا عليه، فاختَفَى في دارِ الخِلافةِ، فحَضَر الأتراكُ بالدِّيوانِ وطالبوهُ، وشَكَوْا ما يَلقَوْنَه منه من المَطْلِ بمالِهم، فلم يُجابوا إلى إظهارهِ، فعَدَلوا عن الشَّكوَى منه إلى الشَّكوَى من الدِّيوان، وقالوا: إنَّ أربابَ المُعاملات قد سَكَنوا بالحَريمِ، وأَخَذوا الأموالَ، وإذا طَلَبناهُم بها يَمتَنِعون بالمَقامِ بالحَريمِ، وانتَصَب الوَزيرُ والخَليفةُ لِمَنعِنا عنهم، وقد هَلكنا، فتَردَّد الخِطابُ منهم، والجوابُ عنه، فقاموا نافِرينَ، فلمَّا كان الغَدُ ظَهَرَ الخَبَرُ أنَّهم على عَزْمِ حَصْرِ دارِ الخِلافةِ، فانزَعَج النَّاسُ لذلك، وأَخْفَوْا أَموالَهم، وحَضرَ البساسيري دارَ الخِلافةِ، وتَوصَّل إلى مَعرفةِ خَبرِ الوَزيرِ، فلم يَظهَر له على خَبرٍ، فطُلِبَ من دارهِ ودُورِ مَن يُتَّهَمُ به، وكُبِسَت الدُّور، فلم يَظهَروا له على خَبرٍ، ورَكِبَ جَماعةٌ مِن الأَتراكِ إلى دارِ الرُّومِ فنَهبوها، وأَحرَقوا البِيَعَ والقَلَّايات، ونَهَبوا فيها دارَ أبي الحسنِ بن عُبيدٍ، وَزير البساسيري، ونَهبَ الأَتراكُ كُلَّ مَن وَرَدَ إلى بغداد، فغَلَت الأَسعارُ، وعُدِمَت الأَقواتُ، وأَرسلَ إليهم الخَليفةُ يَنهاهُم، فلم يَنتَهوا، فأَظهَر أنَّه يُريدُ الانتِقالِ عن بغداد، فلم يُزجَرُوا، هذا جَميعهُ والبساسيري غيرُ راضٍ بِفِعلِهم، وهو مُقيمٌ بدارِ الخليفةِ، وتَردَّدَ الأمرُ إلى أن ظَهرَ الوَزيرُ، وقام لهم الباقي بالباقي مِن مالِهم مِن مالِه، وأَثمانِ دَوابِّهِ، وغَيرِها، ولم يَزالوا في خَبْطٍ وعَسَفٍ، فعاد طَمَعُ الأَكرادِ والأَعرابِ أَشَدَّ منه أَوَّلًا، وعاوَدوا الغارةَ والنَّهْبَ والقَتْلَ، فخُرِّبَت البلادُ وتَفَرَّق أَهلُها، فازداد خَوفُ النَّاسِ من العامَّةِ والأَتراكِ، وعَظُمَ انحلالُ أَمرُ السَّلطَنةِ بالكُلِّيَّةِ، وهذا من ضَررِ الخِلاف.
هو أبو الحارثِ أرسلانُ بن عبدِ الله البساسيري مَملوكٌ تُركيٌّ، مُقَدَّمُ التُّركِ ببغداد، وهو الذي خَرجَ على الخَليفةِ القائمِ بأَمرِ الله ببغداد، وكان قد قَدَّمَهُ على جَميعِ التُّركِ، وقَلَّدَهُ الأمور بأَسرِها، وخُطِبَ له على مَنابرِ العِراقِ وخوزستان، فعَظُمَ أَمرُه وهابَتهُ المُلوكُ، ثم خَرجَ على الخَليفةِ القائمِ، في فِتنةٍ عَظيمةٍ شارَكهُ فيها قُريشُ بنُ بَدران العُقيليُّ، وخَطبَ البساسيري للمُستَنصِر العُبيدي الفاطِمي صاحبِ مِصر، ثم أَخرَج الخَليفةَ القائمَ بالله القائم بأمر الله إلى أَميرِ العَربِ مُحيي الدِّين أبي الحارثِ مهارش بن مجلي النَّدوي صاحبِ الحَديثَةِ وعانَة –أخو قُريشِ بنِ بَدران- فآواهُ وقام بجَميعِ ما يَحتاجُ إليه مُدَّةَ سَنَةٍ كاملةٍ حتى جاء طُغرلبك السلجوقي, فقاتل البساسيري, وقَتلهُ وعاد القائمُ بأَمرِ الله إلى بغداد، وكان دُخولُه إليها في مِثلِ اليَومِ الذي خَرجَ منها بعدَ حَوْلٍ كاملٍ، ثم حَملَ عَسكرُ طُغرلبك على البساسيري،حتى سَقطَ عن الفَرَسِ، ووَقعَ في وَجهِه ضَربةٌ، ودَلَّ عليه بَعضُ الجَرْحَى، فأَخذهُ كمشتكين دواتي عَميدُ المُلْكِ الكندريُّ وقَتلَهُ، وحَملَ رَأسَه إلى السُّلطانِ طُغرلبك، ودَخلَ الجُنْدُ في الظَّعْنِ، فساقُوهُ جَميعَه، وأُخذِت أَموالُ أَهلِ بغداد المَنهوبةُ وأَموالُ البساسيري مع نِسائِه وأَولادِه، وهَلكَ مِن النَّاسِ الخَلْقُ العَظيمُ، وأَمرَ السُّلطانُ بِحَملِ رَأسِ البساسيري إلى دارِ الخِلافةِ، فحُمِلَ إليها، فوَصلَ مُنتصفَ ذي الحجَّةِ سَنةَ إحدى وخمسين وأربعمائة، فنُظِّفَ وغُسِلَ وجُعِلَ على قَناةٍ وطِيفَ به، وصُلِبَ قُبالةَ بابِ النوبي، وكان في أَسْرِ البساسيري جَماعةٌ مِن النِّساءِ المُتَعَلِّقات بدارِ الخِلافةِ، فأُخِذْنَ، وأُكرِمْنَ، وحُمِلْنَ إلى بغداد. كان البساسيري من مماليك بهاءِ الدَّولةِ بن عَضُدِ الدَّولةِ البويهي، تَقَلَّبت به الأُمورُ حتى بلغَ هذا المقامَ المشهورَ، وهو مَنسوبٌ إلى بَسَا مدينةٍ بفارس.