كان بنو وطاس فرقة من بني مرين غير أنهم ليسوا من بني عبد الحق، ولما دخل بنو مرين المغرب واقتسموا أعماله كان لبني وطاس بلاد الريف، فكانت ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم، وكان بنو الوزير من بني وطاس يتطلعون إلى الرياسة ويسعون في الخروج على بني عبد الحق، وقد تكرر ذلك منهم، ثم أذعنوا إلى الطاعة وراضوا أنفسهم على الخدمة، فاستعملهم بنو عبد الحق في وجوه الولايات والأعمال واستظهروا بهم على أمور دولتهم، فحَسُن أثرهم لديها وتعدد الوزراء منهم فيها، ولم يزل السرور متربعًا بين أعينهم لذلك والرياسة شامخة بأنوفهم، ولما كانت دولة السلطان أبي عنان واستولى على بجاية عقد عليها لعمر بن علي الوطاسي من بني الوزير فثار عليه أهلها, ثم ولِيَ والد محمد الشيخ أبو زكريا يحيى بن زيان الوطاسي الوزارة للسلطان عبد الحق، وتولى بعده ابنه يحيى فقتله السلطان عبد الحق في جماعة من عشيرته لما رأى منافستهم له في الحكم, وفرَّ أخوه أبو عبد الله محمد الشيخ الوطاسي إلى الصحراء وبقي متنقلًا في البلاد حتى تمكن من جمع الأتباع حوله وهو في الصحراء ودخل بهم آصيلا، وتمكن من حكمها, ثم زحف على فاس وتمكن من دخولها وتمت البيعة له سنة 896.
هو أبو عبدِ الرَّحمن عبدُ الله بن عُمَر بن الخَطَّاب العَدَويُّ القُرشيُّ المَكِّيُّ ثمَّ المَدنيُّ، صَحابيٌّ جَليلٌ، وابنُ ثاني خُلفاءِ المُسلمين عُمَر بن الخَطَّاب، وعالِمٌ مِن عُلماءِ الصَّحابةِ، لُقِّبَ بِشَيخِ الصَّحابةِ رضي الله عنه، أَسْلَمَ قَديمًا مع أَبيهِ ولم يَبلُغ الحُلُمَ، وهاجَرا وعُمُرُهُ عشرُ سِنين، وقد اسْتُصْغِر يومَ أُحُدٍ، فلمَّا كان يومُ الخَندقِ أَجازَهُ وهو ابنُ خمسَ عشرةَ سَنة فشَهِدَها وما بعدها، وهو شَقيقُ حَفصةَ بنتِ عُمَر أُمِّ المؤمنين، أُمُّهُما زينبُ بنتُ مَظْعون أُختُ عُثمان بن مَظْعون، وكان عبدُ الله بن عُمَر رِبْعَةً مِن الرِّجال، آدَمَ له جُمَّةٌ تَضرِب إلى مَنْكِبَيْهِ، جَسِيمًا, وهو أَحدُ المُكْثِرين في الرِّوايَةِ عن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، عُرِضَتْ عليه الخِلافَةُ بعدَ مَوتِ يَزيدَ بن مُعاوِيَة فأبى ذلك حتَّى لا يُقْتَلَ بِسَبَبِه أَحدٌ تَوَجَّهَ للمَدينةِ بعدَ الحَرَّةِ وبَقِيَ فيها إلى مَقْدَمِ الحَجَّاج. كان عبدُ الله بن عُمَر حَريصًا كُلَّ الحِرْصِ على أن يَفْعَلَ ما كان الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم يَفعلُه، فيُصَلِّي في ذاتِ المكانِ، ويَدعو قائمًا كالرَّسولِ الكريمِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان صاحِبَ عِبادَةٍ منذ صِغَرِهِ، وكان ينامُ في المَسجِد. قال عنه صلَّى الله عليه وسلَّم: (نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ الله، لو كان يُصَلِّي مِن اللَّيلِ). فصار لا ينامُ مِن اللَّيلِ إلَّا قليلًا إلى أن مات، وكان إذا صلَّى مِن اللَّيلِ، قال لِمَولاهُ نافع: أَسْحَرْنا؟ -يعني: هل دَخَلْنا في وَقتِ السَّحَرِ- فيقول: لا. ثمَّ يُصلِّي، فيقولُ: أَسْحَرْنا؟ حتَّى يقولُ: نعم. فيُوتِرُ، هكذا يُصلِّي سائِرَ اللَّيلِ، وكان يُغْفِي إغْفاءةَ الطَّائرِ، ينامُ نَوْمَةً يَسيرةً. تُوفِّي بمكَّة وهو ابنُ أربعٍ وثمانين سَنَة، وكان ابنُ عُمَر يُسابِق الحَجَّاجَ في الحَجِّ إلى الأماكنِ التي يَعلَم أنَّ رسولَ الله يَسْلُكُها، فَعَزَّ ذلك على الحَجَّاجِ، وكان ابنُ عُمَر قد أَوْصى أن يُدْفَنَ في اللَّيلِ، فلم يُقدَرْ على ذلك مِن أجلِ الحَجَّاج, ودُفِنَ بذي طُوى في مَقْبَرةِ المُهاجِرين، وصلَّى عليه الحَجَّاجُ نَفسُه، فرضِي الله عن ابنِ عُمَر وأَرضاهُ وجَزاهُ عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
هو الإمامُ الحافِظُ المَجَوِّد, شيخُ الإسلام, عَلَمُ الجهابِذةِ, أبو الحسَنِ عليُّ بنُ عُمَرَ بنِ أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبد الله الدَارَقُطنيُّ، الحافِظُ الكبير، المقرئُ المحَدِّث, كان عالِمًا حافِظًا فقيهًا على مذهَبِ الإمام الشافعي. أخذ الفِقهَ عن أبي سعيدٍ الاصطخريِّ الفقيهِ الشافعي. كانت ولادتُه في ذي القَعدة سنة 306. والدَّارَقُطنيُّ بفتحِ الدالِ المُهملة وبعدَ الألف راءٌ مفتوحة ثم قافٌ مَضمومة نسبةً إلى دار قُطْن محلَّة كبيرة ببغداد. كان من بحورِ العِلمِ, ومن أئمَّة الدنيا, انتهى إليه الحِفظُ ومَعرفةُ عِلَل الحديث ورجالِه, مع التقَدُّم في القراءاتِ وطُرُقِها, وقُوَّة المشاركة في الفِقهِ والاختلافِ والمغازي وأيَّام الناس, وغير ذلك. أستاذُ الصناعةِ في عِلمِ الحديثِ والعِلَل، سَمِعَ الكثير، وجمع وصَنَّف وألفَّ وأجاد وأفاد، وأحسنَ النَّظَرَ والتعليلَ والانتقادَ والاعتقاد، وكان فريدَ عَصرِه، ونسيجَ وحْدِه، وإمامَ دَهرِه في أسماءِ الرِّجالِ وصناعةِ التَّعليلِ، والجَرحِ والتعديلِ، وحُسْنِ التَّصنيفِ والتأليفِ، والاطلاعِ التَّامِّ في الدراية، له كتابُه المشهورُ: (السُّنَن) من أحسَنِ المصَنَّفات في بابِه، وله كتابُ العِلَل بيَّنَ فيه الصَّوابَ مِن الدَّخَلِ، والمتَّصِلَ مِن المُرسَل، والمُنقَطِعَ والمُعضَل، وكتابُ الأفراد، وله غير ذلك من المصَنَّفات، وكان مِن صِغَرِه موصوفًا بالحِفظِ الباهِرِ، والفَهمِ الثَّاقِبِ، والبَحرِ الزَّاخر، وقال الحاكِمُ أبو عبد الله النَّيسابوري: "لم يَرَ الدَّارَقُطنيُّ مِثلَ نَفسِه"، وقد اجتمع له مع معرفةِ الحديثِ العِلمُ بالقراءاتِ والنَّحوِ والفِقهِ والشِّعرِ، مع الإمامةِ والعَدالةِ، وصِحَّةِ اعتقاد. قال أبو بكر البرقاني: كان الدَّارَقُطني يُملي عليَّ العِلَلَ مِن حِفظِه. قلت- والكلام للذهبي-: إن كان كتابُ "العلل" الموجود قد أملاه الدَّارقُطنيُّ مِن حِفظِه كما دلَّت عليه هذه الحكاية, فهذا أمرٌ عظيمٌ يُقضَى به للدَّارَقُطني أنَّه أحفَظُ أهلِ الدُّنيا، وإن كان قد أملى بعضَه مِن حِفظِه, فهذا ممكِنٌ، وقد جمَعَ قبلَه كتابَ " العِلَل " عليُّ بنُ المَديني حافِظُ زَمانِه". وقد كانت وفاتُه في يوم الثلاثاء السابِعَ مِن ذي القَعدة، وله من العُمُرِ سبعٌ وسبعون سنة ويومان، ودُفِنَ مِن الغد بمقبرة باب الدير قريبًا من قبرِ معروفٍ الكَرخيِّ- رَحِمَهما الله.
هو الإمام يحيى بن محمد بن يحيى حميد الدين الحسني العلويُّ الطالبي: ملك اليمن، الإمام المتوكل على الله ابن المنصور بالله، من أئمة الزيدية. وُلِدَ بصنعاء، وتفقَّه وتأدب بها، وخرج منها مع أبيه إلى صعدة سنة 1307 هـ وولي الإمامةَ بعد وفاة أبيه سنة 1322هـ في "قفلة عذر" شماليَّ صنعاء. وكانت صنعاءُ في أيدي العثمانيين فحاصرها، حتى استسلمت له حاميتها ودخلها، فأعادوا الكرَّةَ عليها، فانسحب منها، وواصل القتالَ شماليَّ صنعاء وبلاد ذمار إلى سنة 1326، واشتدَّت المعارك ولَقِيت الجيوش العثمانية الشدائدَ في تلك الديار، فأرسلت حكومة الأستانة وفدًا برئاسة عزت باشا اتَّفق مع الإمام يحيى، وأمضيا شروطًا للصلح، وانتهى الأمر بجلاء الترك عن البلاد اليمنية سنة 1336 بعد دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى. دخل الإمام صنعاء، وخَلَص له مُلكُ اليمن استقلالًا. وطالت أيامه، وهو كلُّ شيء في اليمن، ومرجِعُ كل أمرٍ دقَّ أو جَلَّ، وما عداه من موظفين وعمال وعسكر وحكام أشباحٌ وشخوصٌ لا سلطان لهم ولا رأي، وكان شديدَ الحذر من الأجانب، آثَرَ العزلة والانكماش في حدود بلاده. وله اشتغال بالأدب ونظمٌ كثير. ومن كلامه: "لَأن تبقى بلادي خَرِبةً وهي تحكُمُ نفسَها، أولى من أن تكون عامرةً ويحكمها أجنبي"، وكان يرى الاستبدادَ في الحكم خيرًا من الشورى، حتى ضاقت صدورُ بعض بنيه وخاصته، وفيهم الطامع بالعرش، والمتذمِّر من سياسة القمع، والراغب بالإصلاح، فتألَّفت جماعات في السرِّ تظهر له الإخلاص وتُبطِن نقيضَه، وعلى رأس هؤلاء أقرب الناس إليه: عبد الله بن أحمد المعروف بابن الوزير، وخرج ولد له يدعى إبراهيم عن طاعته، فلجأ إلى عدن، وجعل دأبه التنديدَ بأبيه والتشهيرَ بمساوئ الحكم في عهده. وكان هذا على اتصالٍ بابن الوزير وحزبِه، ومرض الإمام يحيى، فدبَّر ابن الوزير مَن قتَلَه في 17 فبراير، ودُفِن في مقبرة كان قد أعدَّها لنفسه. وخلَّف 14 ولدًا يلقَّبون بسيوف الإسلام. وبعد مقتلِه نصب عبد الله ابن الوزير نفسَه إمامًا لليمن، لكِنَّ حكمه لم يدم أكثر من 24 يومًا؛ فقد ثار عليه سيف الإسلام أحمد ابن الإمام يحي وانتزع منه الحكم وقتَلَه.
هو قَدْري بن صَوْقَل بن عَبْدُول بن سِنَان المشهور بعبد القادر الأرناؤوط، وُلد سنةَ 1347هـ بقرية «فريلا» في «إقليم كوسوفا» من بلاد الأرنؤوط في ما كان يُعرف بيوغوسلافيا، والألبانيون يُسمُّون هذا الإقليم: كوسوفا، والصرب يقولون: كوسوفو، والأرنؤوط جِنسٌ يندَرِجُ تحته شعوبٌ كثيرةٌ من الألبان واليوغسلاف وغيرهم هاجَرَ سنةَ 1353هـ من جرَّاء اضطهاد المحتلِّين الصرب إلى دِمَشقَ بصحبةِ والدِه وبقيَّةِ عائلته، وكان عمرُه آنذاكَ ثلاثَ سنواتٍ، ترعرع الشيخ في دِمَشق الشام، وتلقَّى تعليمَه أولَ الأمر في مدرسة «الإسعاف الخيري» بدِمَشق بعد دراسة سَنتينِ في مدرسة «الأدب الإسلامي» بدِمَشق. وبعد نهاية المرحلة الابتدائية تركَ العلم لغرض العمَلِ لحاجته للمال، فعمِلَ «ساعاتيًّا» في تصليح الساعات في محلة «المسكية» بدِمَشق، وكان يعمل في النهارِ، ويدرُس القرآنَ والفقهَ مساءً، وانضمَّ إلى حلقة الشيخ عبد الرزاق الحلبي، رغبةً في تعلُّم علوم الشرعِ واللغةِ والأدبِ، تقلَّد الخطابة، فكان خطيبًا في جامع «الدِّيوانية البَرَّانيَّة» بدِمَشق، ثم خطيبًا في جامع «عمر بن الخطاب»، ثم انتقَلَ إلى منطقة «الدحاديل» بدِمَشق، وكان خطيبًا في جامع «الإصلاح»، ثم انتقل إلى جامع «المُحمَّدي» بحيِّ الـمِـزَّة، لكنَّ الشيخَ بَقيَ يُلقي دروسَه في معهد الأمينية (وهي مدرسة قديمة للشافعية)، وبَقيَ يقوم بالتدريس والوعظ، ويُنبِّهُ الناس إلى السُّنة الصحيحة، ويَدْعوهم إلى ضرورة ترك البِدَع والمخالَفات في الشريعة، هذا مع انكبابه على التحقيق والتأليف وتدريسه العلمَ للناس، وإلقاء المحاضرات، كان الشيخ سَلَفيَّ العقيدة، لا يلتزم مذهبًا فقهيًّا مُعيَّنًا، وإنَّما يعمَل بالكتابِ والسُّنة على منهج السلَف الصالحِ -رِضوانُ الله عليهم- ومن كُتبه وتحقيقاته: إتمام تحقيق كتاب ((غاية المنتهى)) في الفقه الحنبلي، وتحقيق كتاب ((جامع الأصول)) لابن الأثير، وتحقيق كتاب ((زاد المعاد)) لابن القَيِّم، و((زاد المسير في علم التفسير)) لابن الجَوْزي، و((المبدع في شرح المقنع)) لابن مفلح، و((رَوْضة الطالبين)) للنووي، و((الشفا)) للقاضي عياض، و((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة))، وغيرها، تُوفيَ في دِمَشق فجرَ الجمُعة 13شوال 1425، ودُفن بمقبرة الحقلة، وكانت جنازته مشهودةً رحمه اللهُ.
هو الشيخُ المُحدِّثُ المعمَّر ظَهيرُ الدِّينِ بنُ عبدِ السبحان محمد بَهادُر الأثَريُّ الرَّحماني المُبارَكْفوريُّ، وُلد سنةَ 1920م الموافق لسنةِ 1338 تقريبًا، في حُسين آباد قُربَ مُبارَكْفُورَ بالهندِ. وبدأ دِراستَه الأولى في بَلدتِه، ثم انتقَلَ إلى جامعةِ "فَيض عام" في مدينةِ "مَو" القريبةِ، وانتقَلَ بعدها إلى دارِ العلومِ في ديوبند، ثم انتقَلَ إلى دارِ الحديثِ الرحمانيَّةِ الشهيرةِ في دِهْلي -دلهي-. قرَأَ على جماعةٍ من العُلماءِ، وأجازَ له منهم: المُحدِّثُ أحمَدُ اللهَ الدهلوي، وعُبيدُ اللهِ الرَّحمانيُّ، ولقي جماعةً، وأبرَزُهم المحدِّثُ عبدُ الرحمنِ المُبارَكْفوريُّ. ومن شُيوخِه الذين قرأَ عليهم: عبدُ الرحمنِ المَوِّي النَّحْويُّ، وعبدُ اللهِ شائق الموِّي، ونذير أحمد الأملوي، وأحمد حسام الدين الموِّي. وبعد تَخرُّجِه درَّسَ في دارِ التعليم سنةَ 1942، ثم تنقَّلَ في التدريسِ بين عِدَّةِ مدارسَ في مناطقَ مختلفةٍ، إلى أنِ استقرَّ سنةَ 1958 في جامعةِ دار السلام في عمر آباد، ودرَّس فيها، وكان وَقتَها وكيلًا للجامعةِ، إلى أنْ ترَكَ التدريسَ سنةَ 2005م، مع بقاءِ إفادتِه للأساتذةِ والواردين عليه، ومُشاركتِه في المناسباتِ، وخلالَ ذلك درَّس سُنَنَ أبي داودَ ودرَّس الصحيحَينِ، وتولَّى إمارةَ جمعيةِ أهلِ الحديثِ في ولايةِ تاميل نادو. ونظرًا لجُهدِه ومكانتِه في التدريسِ فقد قامت جمعيةُ أهلِ الحديثِ المَركزيةُ في عُمومِ الهندِ بتكريمِه ضِمنَ كبارِ رجالاتِ أهلِ الحديثِ على مستوى الهندِ، وذلك في مؤتمَرِ أهلِ الحديثِ الثامنِ والعشرينَ لعُمومِ الهندِ في مدينةِ باكورَ، في شهرِ مُحرَّمٍ عامَ 1425 الذي حضَرَه نحوُ مليونِ شخصٍ. وكان صاحبَ أعلى إسنادٍ لصحيحِ مُسلمٍ، بدَأَ ينتشِرُ خَبَرُه عند المهتمِّين بالروايةِ من العرَبِ، وارتحَلَ له جماعةٌ، وحدَّثَ في عدةِ أماكنَ، ومنها: المدينةُ، والرياضُ، والخُبرُ، والدوحةُ، وأمريكا، وغيرُها، وانتشَرَ سنَدُه. وكان الشيخُ على خُلقٍ رفيعٍ، جيِّدَ الحديثِ بالعربيةِ، بقيَ العلَّامةُ يُقرئُ ويُفيدُ في بيتِه وعَبرَ الهاتفِ إلى آخرِ أيامِه، ولا ينقَطِعُ إلا لمرضٍ أو سَفَرٍ، إلى أنِ اشتدَّ به المرَضُ وتوفَّاهُ اللهُ، وقد صُلِّيَ عليه -رحمه الله- في مسجِدِ الجامعةِ، ودُفِن في مقبرةِ عمر آباد.
وُلد عام ١٣٧٥هـ الموافق 1955م في بلدة أبو ديس بمحافظة القُدسِ عندما كانت تحتَ الإدارة الأردنيَّةِ.
تلقَّى تعليمَه المدرسيَّ في مدارس مدينة أريحا، وحصل على شهادةِ الدِّراسةِ الثانويَّةِ العامَّة عام ١٣٩٢هـ الموافق 1972م، وحصل على درجة البكالوريوس في عام ١٣٩٧هـ الموافق 1977م، وعلى درجة الماجستير في عام ١٣٩٨هـ الموافق 1978م من جامعة سان فرانسيسكو الحكومية بالولاياتِ المتَّحدةِ في تخصُّصِ العُلومِ السياسيَّةِ، وكان رئيسًا لاتحادِ الطَّلَبةِ العَرَبِ في الجامعةِ. ابتعثَتْه جامعة النجاح الوطنيَّة إلى جامعة برادفورد في المملكة المتَّحِدة، وحصل منها على درجةِ الدُّكتوراه في دراساتِ السَّلامِ عام ١٤١٤هـ الموافق 1983م.
عمل محاضرًا في جامعة النجاح الوطنيَّة بين عامَيْ ١٣٩٩هـ -1411هـ الموافق 1979م -1990م، وكان بين عامَيْ ١٤٠٣هـ - ١٤٠٧هـ الموافق 1982م و1986م مديرًا للعلاقاتِ العامَّةِ فيها، كما عَمِل مع جريدة القُدسِ في كتابةِ المقالاتِ الافتتاحيَّةِ والإخباريَّةِ بين عامَيْ ١٤٠٣هـ - ١٤١٥هـ الموافق 1982م و1994م.
كان نائبًا لرئيس الوَفدِ الفلسطينيِّ حيدر عبد الشافي إلى مؤتمَر مدريد عام ١٤١٢هـ الموافق 1991م وما تلاه من مُباحثاتٍ في واشنطن خِلالَ عامي ١٤١٣هـ - ١٤١٤هـ الموافق 1992 -1993، وعُيِّن رئيسًا للوفدِ الفلسطينيِّ المفاوض عام ١٤١٥هـ الموافق 1994م.
عُيِّن وزيرًا للحُكمِ المحلِّي في حكومةِ ياسر عرفات. وفي عام ١٤١٦هـ الموافق 1995م لُقِّب بـ «كبير المفاوِضِين الفلسطينيِّين»، وانتُخِبَ عُضوًا في المجلِسِ التشريعيِّ الفلسطيني. كان مُقَرَّبًا من ياسر عرفات إبَّان قمة كامب ديفيد عام ١٤٢١هـ الموافق 2000م والمفاوضات التي أعقبتها في طابا عام 1422ه الموافق 2001م.
عُين وزيرًا لشؤون المفاوضات في حكومةِ محمود عبَّاس، وعُيِّن رئيسًا لدائرة شؤون المفاوضات في منظمةِ التحريرِ الفلسطينية، ثم عضوًا في لجنة المفاوضات ضِمنَ اللَّجنةِ التنفيذيَّة لمنظَّمة التحرير الفلسطينية. ثم عضوًا في مجلس الأمِنِ القوميِّ الفلسطينيِّ بصفته رئيسًا لدائرة شؤون المفاوضات في منظَّمةِ التحريرِ الفلسطينيةِ.
توفي عن عمرٍ ناهز 65 عامًا، وكانت وفاتُه في مستشفى هداسا عين كارم، وذلك على إثْرِ إصابته بفيروس كورونا (كوفيد-19). وشُيِّع ودُفِن في مدينة أريحا.
لمَّا وَلِيَ عُمَرُ بن عبدِ العزيز الخِلافَةَ اسْتَعمَل على الأَندَلُس السَّمْحَ بن مالِك الخَوْلاني خَلَفًا للحُرِّ بن عبدِ الرَّحمن الثَّقَفي لِمَا رَأَى مِن أَمانَتِه ودِيانَتِه, وأَمَره أن يُمَيِّز أَرضَها، ويُخرِج منها ما كان عَنْوَةً ويَأخُذ منها الخُمُسَ، ويَكتُب إليه بِصِفَة الأَندَلُس. فقَدِمَها السَّمْحُ، وفَعَل ما أَمَره عُمَرُ، وعَهِدَ إليه بإجْلاءِ المسلمين مِن الأَندَلُس خَشيَةً مِنه على أَرواحِهم، إلَّا أنَّ السَّمْح حين نَزَل الأَندَلُس واطَّلَع على أَحوالِها، طَمْأَنَ الخَليفةَ إلى قُوَّةِ حالِ المسلمين في الأَندَلُس. أَصلَح السَّمْحُ قَنْطَرَةَ قُرْطُبة على نَهرِ الوادي الكَبير, ونَظَّمَ البِلادَ ثمَّ تَوَجَّه لِفَتْحِ ما وَراءَ جِبالِ البرانس، ودَخَل فَرنسا واسْتُشْهِدَ فيها بعدَ مَعركَة تولوز عام 102هـ.
لما طلب البيزنطيون المساعدةَ من العثمانيين ضِدَّ الصرب، أدرك بذلك العثمانيون ضَعفَ البيزنطيين، فرأى أورخان سلطانُ العثمانيين أن ينتَقِلَ إلى الضفة الغربية من مضيقِ الدردنيل ليتقَدَّمَ بعدها إلى أوروبا فيتمَكَّنَ من الإحاطة بالقسطنطينية والهجومِ عليها من الغرب؛ حيث عجز المسلمون عن فتحها من الشرقِ، فأرسل ابنه الكبير سليمان لدراسة هذه الخطة، وفي هذا العام اجتاز سليمانُ مضيق الدردنيل ليلًا مع أربعين رجلًا من أبطالِه، ولما وصلوا إلى الضفة الغربية استولوا على الزوارق الروميَّة الراسية هناك وعادوا بها إلى الضفة الشرقيَّة؛ إذ لم يكن للعثمانيين أسطول، ثم انتقلوا إلى الشاطئِ الأوربيِّ فاحتلوا قلعة تزنب وغاليبولي التي فيها قلعة جنا- القلعة المشهورة- وأبسالا ورودستو، وهذه كلها تقع على مضيق الدردنيل من الجنوب إلى الشمال حتى تصبح رودستو على بحر مرمرة.
لما أحسَّ محمد الشيخ الوطاسي حاكم آصيلا من نفسه القدرة على الاستيلاء على كرسي فاس وتنحية الشريف أبي عبد الله الحفيد الإدريسي عنه- لا سيما مع ما كان الناس فيه من افتراق الكلمة- فجمع جندًا صالَحَها وزحف إلى فاس فبرز إليه الشريف والتقوا بأحواز مكناسة، فوقعت بينهما حرب عظيمة كانت الكرَّة فيها على الوطاسي، ثم جمع عسكرًا آخر وزحف به إلى فاس وحاصرها نحو سنتين والشريف فيها مع أرباب دولته، وفي أثناء الحصار ورد عليه الخبر باستيلاء البرتغال على آصيلا وعلى بيت ماله الذي كان بها وعلى حظاياه وأولاده، فأفرج عن فاس ورجع مبادرًا إلى آصيلا فحاصرها، ولما امتنعت عليه عقد مع البرتغال هدنة وعاد سريعًا إلى فاس فحاصرها وضيق على الشريف بها حتى خرج فارًّا بنفسه وأسلمها إليه.
هو الخليفةُ الشهيد أمير المؤمنين المستعصِم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد بن المستضيء الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد: سنة 609, واستُخلِفَ سنة أربعينَ يومَ مَوتِ أبيه في عاشر جمادى الآخرة، وكان فاضلًا تاليًا لكتاب الله، كان مليحَ الخَطِّ، قرأ القرآن على الشيخ علي بن النيار الشافعي، ويوم خَتَمَه خلع على الشَّيخِ، وأعطي ستة آلاف دينار. ويوم خلافته بلغت الخِلَع ثلاثة عشر ألف خلعة وسبعمائة وخمسين خلعة, وكان كريمًا حليمًا، سليمَ الباطن، حَسَن الديانة. قال الشيخ قطب الدين: "كان المستعصمُ بالله متدينًا مُتمَسِّكًا بالسنَّة كأبيه وجَدِّه، ولكنه لم يكن على ما كان عليه أبوه المستنصر وجده الناصر من التيقُّظ والحزم وعلُوِّ الهمة؛ فإن المستنصر بالله كان ذا همة عالية، وشجاعةٍ وافرة، ونفسٍ أبيَّة، وعنده إقدامٌ عظيم, وكان له أخٌ يُعرَف بالخفاجي يزيدُ عليه في الشهامة والشجاعة، وكان يقول: إن ملَّكني الله الأمرَ لأعبُرَنَّ بالجيوش نهر جيحون وأنتزع البلاد من التتار واستأصلهم, فلما توفِّيَ المستنصر لم يَرَ الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمرَ، وخافوا منه، وآثروا المستعصِمَ لِمَا يعلمون من لينِه وانقياده وضَعفِ رأيه؛ ليكونَ الأمر إليهم. فأقاموا المستعصم، ثم ركَنَ إلى وزيره ابن العلقمي، فأهلك الحَرثَ والنَّسلَ، وحَسَّنَ له جمع الأموال، والاقتصارَ على بعض العساكر، وقطَعَ الأكثر, فوافقه على ذلك, وكان فيه شُحٌّ، وقلة معرفة، وعدم تدبيرٍ، وحُبٌّ للمال، وإهمالٌ للأمور. وكان يتَّكِلُ على غيره، ويُقدِمُ على ما لا يليق وعلى ما يُستقبَحُ". قال الذهبي: "كان يلعب بالحَمام، ويُهمِلُ أمر الإسلام، وابنُ العلقمي يلعَبُ به كيف أراد، ولا يُطلِعُه على الأخبار. وإذا جاءته نصيحةٌ في السر أطلع عليها ابنَ العلقمي؛ ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا. حكى جمال الدين سليمان بن عبد الله بن رطلين قال: "جاء هولاكو في نحو مائتي ألف، ثم طلب الخليفةَ، فطلع ومعه القُضاة والمدرِّسون والأعيان في نحو سبعمائة نفس، فلما وصلوا إلى الحربية جاء الأمرُ بحضور الخليفة ومعه سبعة عشر نفسًا، فاتفق أن أبي كان أحدهم، فحدثني أنهم ساقوا مع الخليفة، وأنزلوا مَن بَقِيَ عن خيلهم، وضَرَبوا رقابَهم. ووقع السيف في بغداد، فعَمِلَ القتل أربعين يومًا. وأنزلوا الخليفةَ في خيمةٍ صغيرة، والسبعة عشر في خيمة. قال أبي: فكان الخليفةُ يجيء إلى عندنا كل ليلة ويقول: ادعُوا لي. قال: فاتفَقَ أنَّه نزل على خيمته طائرٌ، فطلبه هولاكو وقال: أيش عَمَلُ هذا الطائر؟ وأيش قال لك؟ ثم جرت له محاوراتٌ معه ومع ابن الخليفةِ أبي بكر. ثم أمَرَ بهما فأُخرِجا، ورفسوهما في غرارة -كيس كبير من صوف أو شعر- حتى ماتا، وكانوا يسمُّونه: الأبْلَه. توفي الخليفةُ في أواخر المحرم، وما أظنه دُفِنَ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان الأمرُ أعظم من أن يوجَدَ مؤرخ لموته، أو موارٍ لجَسَدِه. وراح تحت السيف أممٌ لا يحصيهم أحَدٌ إلا الله، فيقال: إنَّهم أكثرُ من ألف ألف، واستغنت التتارُ إلى الأبد، وسَبَوا من النساء والولدان ما ضاق به الفَضاءُ. وقيل: إن الخليفة بقي أربعة أيام عند التتار، ثم دخل بغداد ومعه أمراء من المغول ونصير الطوسي، فأخرج إليهم من الأموال والجواهر والزركش والثياب والذخائر جملةً عظيمة، ورجَعَ ليَومِه، وقُتِلَ، وقُتِلَ ابناه أحمد وعبد الرحمن، وبَقِيَ ابنه الصغير مبارك، وأخواته فاطمة، وخديجة، ومريم، في أَسْرِ التتار"، وقُتِلَ عدد من أعمام الخليفة وأقاربه, وقيل كانت المغول بقيادة هولاكو قد أخذوه وكانوا أولًا يهابون قَتْلَه، ثم هون عليهم ابن العلقمي والطوسي قَتْلَه فقُتل, وكان عمره يومئذ ستًّا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر، به انتهت الخلافة العباسية وانقضت أيامُها، وبقي الناسُ بلا خليفة فكانت أيامُ الدولة العباسية جملةً خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة.
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامةُ أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي الحنبلي المعروفُ بابن قَيِّم الجوزيَّة، فهو إمامُ الجوزيَّة، وابنُ قَيِّمِها، ولِدَ بدمشق في سابع صفر سنة 691, وسَمِعَ الحديث واشتغل بالعلم، وبَرَع في العلوم المتعَدِّدة، لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين، ولَمَّا عاد الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في سنة 712 لازَمَه إلى أن مات الشيخُ، فأخذ عنه علمًا جَمًّا لازمه قرابة 16 عامًا وتأثَّر به, وسُجِنَ في قلعة دمشق في أيام سجنِ ابن تيمية، وخرج بعد أن توفِّيَ شيخه عام 728 ولم يخَلِّفِ الشيخُ العلَّامة تقي الدين ابن تيميَّة مِثلَه، ومع ما سَلَف له من الاشتغال، صار فريدًا في بابِه في فنونٍ كثيرة، مع كثرةِ الطَّلَب ليلًا ونهارًا، وكثرة الابتهال، وكان حَسَن القراءة والخُلُق، كثيرَ التودد لا يحسُد أحدًا ولا يؤذيه، ولا يستعيبُه ولا يحقِدُ على أحد؛ قال ابن رجب: "كان ذا عبادةٍ وتهَجُّد وطولِ صلاةٍ إلى الغاية القصوى، وتألُّه ولَهَج بالذكر، وشَغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله والانكسار له، والاطِّراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهِدْ مِثلَه في ذلك، ولا رأيتُ أوسَعَ منه علمًا، ولا أعرَفَ بمعاني القرآن والسنَّة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصومَ، ولكن لم أرَ في معناه مِثلَه، وقد امتُحِنَ وأوذيَ مَرَّات، وحُبِسَ مع الشيخ تقي الدين في المرَّة الأخيرة بالقلعة، منفرِدًا عنه، ولم يُفرَجْ عنه إلَّا بعد موت الشيخ, وكان في مُدَّة حبسه مشتغلًا بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر، ففُتِحَ عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانِبٌ عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسَلَّط بسبب ذلك على الكلام في علومِ أهل المعارف، والدُّخولِ في غوامِضِهم، وتصانيفه ممتلئةٌ بذلك، وحَجَّ مرات كثيرة، وجاور بمكَّةَ، وكان أهلُ مكة يذكرون عنه من شِدَّة العبادة، وكثرة الطواف أمرًا يُتعَجَّب منه. ولازمت مجالِسَه قبل موته أزيدَ مِن سنة، وسَمِعتُ عليه قصيدته النونية الطويلة في السنة، وأشياء من تصانيفه، وغيرها " وقال ابنُ كثير: " كنتُ مِن أصحَبِ النَّاسِ له وأحَبِّهم إليه، ولا أعرف في هذا العالَمِ في زماننا أكثَرَ عبادةً منه، وكانت له طريقةٌ في الصلاة يطيلها جِدًّا ويمُدُّ ركوعَها وسجودَها، ويلومه كثيرٌ من أصحابه في بعضِ الأحيانِ، فلا يرجِعُ ولا ينزِعُ عن ذلك- رحمه الله" وقال ابن حجر العسقلاني: " كان إذا صلَّى الصبح جلس مكانَه يذكُرُ الله حتى يتعالى النَّهارُ، ويقول: هذه غَدوتي لو لم أقعُدْها سَقَطَت قُوايَ، وكان يقولُ: بالصبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدين، وكان يقول: لا بد للسَّالك من همَّة تُسيِّرُه وترَقِّيه، وعلمٍ يُبَصِّرُه ويهديه. وكان مُغرًى بجمع الكتب فحصَّل منها ما لا يُحصَرُ حتى كان أولادُه يبيعون منها بعد موتِه دهرًا طويلًا سوى ما اصطَفَوه منها لأنفُسِهم" وله من التصانيف الكبار والصغار شيءٌ كثير، وهي أكثَرُ مِن أن تُحصَرَ هنا، ولكن من أشهرها: زاد المعاد في هَدْي خير العباد، وإعلام الموقعين عن ربِّ العالمين، ومدارج السالكين، وبدائع الفوائد، وطريق السعادتين، وشرح منازل السائرين، والقضاء والقدر، وجلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، ومصايد الشيطان، ومفتاح دار السعادة، والروح، وحادي الأرواح، ورفع اليدين، والصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، وتصانيف أخرى كثيرة؛ قال ابن حجر: "وكلُّ تصانيفه مرغوبٌ فيها بين الطوائف، وهو طويلُ النَّفَسِ فيها يتعانى الإيضاحَ جُهدَه، فيُسهِبُ جدًّا، ومعظمها من كلام شيخِه يتصَرَّفُ في ذلك، وله في ذلك مَلَكَة قويَّة، ولا يزال يدندِنُ حولَ مُفرداتِه ويَنصُرُها ويحتَجُّ لها" ومن نَظْمِه قصيدة تبلغ ستة آلاف بيت سمَّاها الكافية في الانتصار للفرقة الناجية. ومن تلاميذه ابنه برهان الدين إبراهيم، والإمام ابن رجب الحنبلي، والحافظ ابن كثير، والحافظ ابن عبد الهادي، والإمام الذهبي، والفيروزآبادي صاحب القاموس. توفِّيَ رحمه الله في دمشق ليلة الخميس ثالث عشر رجب وقتَ أذان العشاء وصُلِّيَ عليه بعد صلاة الظهر من الغد بالجامِعِ الأموي، ودفن عند والدته بمقابر الباب الصغير، وقد كانت جنازته حافلةً، شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة، وتزاحم الناسُ على حمل نعشه، وكَمُل له من العمر ستون سنةً.
تعتبر هذه الهجمة هي الحملة الصليبية الخامسة على المسلمين؛ حيث اجتمع رأي الفرنج على الرحيل من عكا إلى مصر، والاجتهاد في تملُّكِها، فأقلعوا في البحر، وأرسَوا على دمياط، في يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الأول سنة 515 على بر جيزة دمياط، وصار الفرنجُ في غربي النيل، فأحاطوا على معسكَرِهم خندقًا، وبنوا بدائره سورًا، وأخذوا في محاربة أهل دمياط، وعملوا آلات ومرمات، وأبراجًا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، حتى يتمكَّنوا من البلد، والملك العادل يجهِّز عساكر الشام شيئًا بعد شيء إلى دمياط، حتى صار عند الكامل من المقاتلة ما لا يكاد ينحصر عددُه، هذا والعادل بمرج الصفر، فبينا هو في الاهتمام بأمر الفرنج، إذ ورد عليه الخبر بأخذ الفرنج برج السلسلة بدمياط، فمَرِضَ من ساعته، فرحل من المرج إلى عالقين، وقد اشتد مرضه، فمات في سابع جمادى الآخرة يوم الخميس من هذه السنة، وكان الكاملُ قد بعث إلى الآفاق سبعين رسولًا، يستنجد أهل الإسلام على قتال الفرنج، فقَدِمَت النجدات من حماة وحلب، إلا أنه لما قدم على المعسكر موت العادل وقع الطمعُ في الملك الكامل، وثار العربُ بنواحي أرض مصر، وكثر خلافهم واشتد ضَرَرُهم، وصار من الخلاف ما حرض الفرنجَ على التحرك، فضعفت نفوس الناس لأنَّه السلطان حقيقة، وأولاده وإن كانوا ملوكًا إلا أنه يحكُمُهم، والأمر إليه، وهو ملك البلاد، فاتفق موته والحالُ هكذا من مقاتلة العدو، وكان من جملة الأمراء بمصر أميرٌ يقال له عماد الدين أحمد بن علي، ويعرف بابن المشطوب، وهو من الأكراد الهكارية، وهو أكبر أميرِ بمصر، وله لفيف كثير، وجميع الأمراء أرادوا أن يخلعوا الملكَ الكامل من المُلك ويملكوا أخاه الملك الفائز بن العادل ليصيرَ الحكم إليهم عليه وعلى البلاد، فبلغ الخبر إلى الكامل، ففارق المنزلة التي كان فيها ليلًا جريدة، وسار إلى قرية يقال لها أشموم طناح، فنزل عندها، وأصبح العسكَرُ وقد فقدوا سلطانهم، فركب كل إنسان منهم هواه، ولم يقف الأخ على أخيه، ولم يقدروا على أخذِ شَيءٍ من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم إلَّا اليسير الذي يخِفُّ حمله، وتركوا الباقيَ بحاله من ميرة، وسلاح، ودواب، وخيام وغير ذلك، ولحقوا بالكامِلِ، وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد، فلم يروا من المسلمين أحدًا على شاطئِ النيل كجاري عادتهم، فبقوا لا يدرون ما الخبر، حتى أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقته، فعبروا النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازعٍ ولا ممانع، فغَنِموا ما في معسكر المسلمين، فكان عظيمًا يُعجِز العادِّين. وكاد الملك الكامل يفارق الديار المصرية؛ لأنه لم يثق بأحد من عسكره، فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الملك المعظم عيسى وصل إلى أخيه الكامل بعد الهزيمة بيومين، والناسُ في أمر مريج، فقَوِيَ به قلبه، واشتد ظهرُه، وثبت جنانه، وأقام بمنزلته، وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشام، فاتصل بالملك الأشرف وصار من جندِه، قال ابن خلكان: "فلما عبر الفرنج إلى أرض دمياط اجتمعت العربُ على اختلاف قبائلها، ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط، وقطعوا الطريق، وأفسدوا، وبالغوا في الإفسادِ، فكانوا أشدَّ على المسلمين من الفرنج، وكان أضرَّ شيءٍ على أهل دمياط أنَّها لم يكن بها من العسكر أحدٌ؛ لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدُوَّ عنها، فأتتهم هذه الحركة بغتة، فلم يدخلها أحدٌ من العسكر، وكان ذلك من فِعلِ ابن المشطوب؛ لا جَرَم لم يمهِلْه الله، وأخذه أخذةً رابيةً"، أحاط الفرنج بدمياط، وقاتلوها برًّا وبحرًا، وعملوا عليهم خندقًا يمنعهم من يريدهم من المسلمين، وهذه كانت عادتهم، وأداموا القتال. اشتد قتالُ الفرنج، وعَظُمَت نكايتهم لأهل دمياط، كان فيها نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراضُ، وغلت عندهم الأسعار، وامتلأت الطرقاتُ من الأموات، وعدمت الأقوات، وسئموا القتالَ وملازمته؛ لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتِهم، وليس بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتالَ بينهم مناوبة، ومع هذا فقد صبروا صبرًا لم يُسمَع بمِثلِه، وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض، ودام الحصارُ عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة 616، فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلَّتِهم، وتعذر القوت عندهم، فسَلَّموا البلد إلى الفرنج في هذا التاريخ، بالأمان، فخرج منهم قوم وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة. وعندما أخذ الفرنج دمياط وضعوا السيَف في الناس، فلم يُعرَف عدد من قتل لكثرتهم، ورحل السلطانُ بعد ذلك بيومين، ونزل قبالة طلخا، على رأس بحر أكوم ورأس بحر دمياط، وخيَّم بالمنزلة التي عرفت بالمنصورة وحَصَّن الفرنج أسوار دمياط، وجعلوا جامِعَها كنيسةً.
لمَّا بَلَغَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثَمانيَ سنواتٍ توُفِّي جدُّه عبد المطلب. وكان عبدُ المُطَّلِب لمَّا حَضَرته الوفاةُ أوصى ابنَه أبا طالبٍ بحِفظِ رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحياطَتِه، والقيامِ عَليهِ، وأوصَى به إلى أبي طالِبٍ؛ لأنَّ عبدَ الله -والِدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأبا طالبٍ كانا لأُمٍّ واحدةٍ، فلمَّا مات عبدُ المطلب كان أبو طالِبٍ هو الذي يَلي أمْرَ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد جدِّه. ورَوَى ابنُ سعدٍ، وابنُ عساكِرَ عن ابن عبَّاسٍ رَضي اللهُ عنهما، وغَيرِه، قالوا: لمَّا توُفِّيَ عبدُ المطلب قَبَضَ أبو طالبٍ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكان يكونُ معه، وكان يُحِبُّه حبًّا شديدًا لا يُحِبُّ وَلَدَه مِثله، وكان لا يَنامُ إلَّا إلى جَنبِه، وكان يَخُصُّه بالطَّعامِ، وكان عيالُ أبي طالِبٍ إذا أكلوا جميعًا أو فُرادَى لم يَشبَعوا، وإذا أكَل معهم رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَبِعوا. وكان أبو طالِبٍ إذا أراد أن يُغدِّيَهم أو يُعشِّيَهم يقول: كما أنتُم حتى يَحضُرَ ابني. فيَأتي رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيأكُلُ معهم فيُفضِلون من طَعامِهم، وإن لم يَكُن معهم لم يُشبِعْهم، وإن كان لَبنًا شَرِبَ هو أوَّلَهم ثم يتناوَلُ العيالُ القَعْبَ -إناءٌ ضخمٌ كالقَصْعةِ- فيَشرَبون منه فيُروَون عن آخِرِهم من القَعبِ الواحِدِ، وإن كان أحدُهم لَيَشرَبُ قَعبًا وَحدَه، فيقول أبو طالبٍ: "إنَّكَ لَمُبارَكٌ!".