في هذا العام تكاملَ بناءُ بغداد، وكان السببُ الباعث للمنصور على بنائها أنَّ الراونديَّة لَمَّا وثبوا عليه بالكوفةِ ووقاه اللهُ شَرَّهم، بَقِيَت منهم بقيَّةٌ فخشيَ على جندِه منهم، فخرج من الكوفةِ يرتادُ لهم موضعًا لبناء مدينة، فسار في الأرض حتى بلغ الجزيرةَ، فلم يرَ موضعًا أحسنَ لوضعِ المدينة من موضعِ بغدادَ الذي هي فيه الآن؛ وذلك بأنه موضِعٌ يُغدى إليه ويُراحُ بخيراتِ ما حوله في البَرِّ والبحر، وهو مُحصَّنٌ بدجلة والفرات من هاهنا وهاهنا، لا يقدِرُ أحدٌ أن يتوصَّل إلى موضع الخليفة إلَّا على جسرٍ، وقد بات به المنصورُ قبل بنائِه لياليَ فرأى الرياحَ تهُبُّ به ليلًا ونهارًا من غير انجعارٍ ولا غبار، ورأى طِيبَ تلك البقعة وطِيبَ هوائها، وقد كان في موضِعها قُرًى ودُيور لعُبَّاد النصارى وغيرِهم، فحينئذ أمر المنصور باختطاطِها فرسموها له بالرَّمادِ، فمشى في طرقِها ومسالِكِها فأعجبه ذلك، ثم سلَّمَ كلَّ رَبعٍ منها لأميرٍ يقوم على بنائه، وأحضَرَ مِن كلِّ البلاد عمَّالًا وصنَّاعًا ومهندسين، فاجتمع عنده ألوفٌ منهم، ثم كان هو أوَّل من وضع لَبِنةً فيها بيده، وقال: بسمِ الله والحمد لله، والأرضُ لله يورثُها من يشاء من عبادِه، والعاقبة للمتَّقينَ. ثم قال: ابنُوا على بركةِ الله. وأمَرَ ببنائها مُدَوَّرةً سُمكُ سُورِها من أسفلِه خمسون ذراعًا، ومن أعلاه عشرونَ ذراعًا، وجعل لها ثمانيةَ أبواب في السُّور البرَّاني، ومثلها في الجُوَّاني، وليس كل واحد تجاهَ الآخر، ولكن جعَلَه أزْوَرَ عن الذي يليه، ولهذا سمِّيت بغداد الزَّوراء، لازوِرارِ أبوابِها بعضِها عن بعضٍ، وقيل: سمِّيت بذلك لانحرافِ دجلةَ عندها. وبنى قصرَ الإمارة في وسط البلد؛ ليكون الناسُ منه على حدٍّ سواءٍ، واختطَّ المسجِدَ الجامِعَ إلى جانب القصر، وكان الذي وضعَ قبلتَه الحجَّاجَ بن أرطأة.
هو ثابتُ بنُ سِنانِ بنِ ثابتِ بن قُرَّة بن مروان، أبو الحسن الحرَّانيُّ الأصلِ الصَّابئُ، ثم البغدادي الطبيبُ المؤرِّخُ. كان يلحَقُ بأبيه في صناعةِ الطِّبِّ، وجَدُّه هو ثابت بن قرة الصابئ فيلسوفُ عَصرِه, وكان صيرفيًّا، يتوقَّدُ ذَكاءً، فبرع في علمِ الأوائل وصار منجِّمَ المعتَضِد, وكان أخوه إبراهيمُ بنُ سنان من الأذكياءِ البارعين في صناعة الطب. صنف أبو الحسَنِ ثابت بن سنان تاريخًا كبيرًا على الحوادث والوقائع التي تَمَّت في زمانه من سنة 295 بداية عهد المُقتَدِر إلى حين وفاتِه، وقد أحسن فيه، وخدَمَ بالطِّبِّ الراضيَ بالله وجماعةً مِن الخلفاء قبله, وكان أبو الحسن ببغداد في أيَّامِ مُعِزِّ الدولة بنِ بُوَيه طبيبًا عالِمًا نبيلًا، يُقرأُ عليه كُتُب بقراط وجالينوس، وقد سلك مسلَك جَدِّه ثابت بن قرة في نَظَرِه في الطبِّ والفلسفةِ والهندسة وجميع الصناعات الرياضيَّة للقدماء. قال عن نفسه: "أنه كان وولدُه في خدمة الراضي بالله، وأنَّه خدم بصناعةِ الطِّبِّ المتَّقيَ بنَ المقتدر بالله، وخدم أيضًا المستكفيَ بالله والمطيعَ لله, وفي سنة 313 قلَّدَني الوزيرُ الخاقاني البيمارستانَ الذي اتخَذَه ابنُ الفُرات بدرب المفضل " وكان ثابت بن سنان خالَ هلالِ بنِ المحسن بن إبراهيم الصابئ الكاتِبِ البليغِ, قال الذهبي: "إن ثابت بن قُرَّة إليه المُنتَهى في علوم الأوائل، حَقِّها وباطِلِها. صنَّفَ تصانيفَ كثيرةً, وكان بارعًا في فن الهيئة والهندسة. وله عَقِبٌ ببغداد على دينِ الصابئة. فكان ابنُه إبراهيم بن ثابت رأسًا في الطب، وأمَّا حفيده صاحب التاريخ المشهور ثابت بن سنان فكان أيضًا علَّامة في الطبِّ تَركَنُ النفسُ إلى ما يؤرِّخُه. مات على كُفرِه".
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامةُ، البَحرُ المتفنِّنُ: أبو عبد الله محمَّدُ بنُ عليِّ بنِ عُمَرَ بن محمد التميمي المازري (نسبةً إلى مازرة بصقليَّةَ) المالكي، الحافِظُ المحَدِّث المشهور. وُلِدَ بالمهدية بإفريقيَّة. كان إمامًا حافِظًا مُتقِنًا أحدَ الأذكياءِ الموصوفين، والأئمَّة المتبحِّرينَ، عارفًا بعلوم الحديثِ، سَمِعَ وسافَرَ كثيرًا وكتب الكثير. قيل: "إنَّه مَرِضَ مَرضةً، فلم يجِدْ مَن يعالجُه إلَّا يهوديٌّ، فلمَّا عُوفِيَ على يَدِه، قال اليهودي: لولا التزامي بحِفظِ صِناعتي، لأعدَمتُك، فأثَّرَ هذا عند المازري، فأقبَلَ على تعَلُّمِ الطبِّ، حتى فاق فيه، وكان ممَّن يُفتي فيه، كما يُفتي في الفِقهِ". قال القاضي عياض: "هو آخِرُ المتكَلِّمينَ مِن شُيوخِ إفريقيَّة بتحقيقِ الفِقهِ، ورتبةِ الاجتهادِ، ودِقَّةِ النظر. درَسَ أصولَ الفِقهِ والدِّينَ، وتقَدَّمَ في ذلك، فجاء سابقًا، لم يكُنْ في عصره للمالكيَّةِ في أقطارِ الأرضِ أفقَهُ منه، ولا أقوَمُ بمَذهَبِهم، سَمِعَ الحديث، وطالَعَ معانيَه، واطَّلَعَ على علومٍ كثيرة من الطِّبِّ والحسابِ والآداب، وغير ذلك، فكان أحدَ رجالِ الكمال، وإليه كان يُفزَعُ في الفُتيا في الفِقه، وكان حسَنَ الخُلُقِ، مليحَ المُجالَسةِ، كثيرَ الحكايةِ والإنشاد، وكان قَلَمُه أبلَغَ مِن لسانه" من أشهَرِ تصانيفِه: شرحُ صحيح مسلم، سَمَّاه " كتاب المُعْلِم بفوائد كتابِ مُسلِم" وعليه بنى القاضي عِياضٌ كِتابَ الإكمالَ، وهو تَكمِلةٌ لهذا الكتاب، وله إيضاحُ المحصولِ في برهانِ الأصول, والكَشفُ والإنباءُ في الرَّدِّ على الإحياءِ، كتاب الغزالي، وله شَرحُ كتاب (التلقين) لعبد الوهاب المالكي في عشرةِ أسفار، وهو مِن أنفَسِ الكُتُب. وله كتُبٌ أخرى في الأدب. حَدَّثَ عنه القاضي عِياضٌ، وأبو جعفر بن يحيى القُرطبي الوزغي. مات وله ثلاث وثمانون سنة, ودفن بالمنستير.
هو محمد بن علي بن محمد بن عربي أبو عبد الله الطائي الأندلسي، ولد في مرسية بالأندلس سنة 560 ثم انتقل إلى إشبيلية، ودرس القرآن والفقه والحديث، ومال إلى المذهب الظاهري، ثم رحل إلى الحجاز وأقام بمكة مدة سنتين، ثم رحل مع الحجاج الأتراك إلى قونية، ثم قصد بغداد، ثم استقر في دمشق، وله مصنفاتٌ كثيرة جدًّا، أشهرها كتابه المسمى بـ "الفتوحات المكية وفصوص الحكم" وفيها أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح، وله كتاب "العبادلة وديوان شعر"، وله مصنفات أخر كثيرة جدًّا، كان يقول بوحدة الوجود على مذهب الحلاج الملحد، وهو أن اللاهوت أي الله قد حل وامتزج بالناسوت أي الناس، كما تمزج الخمر بالماء فلا يتميز واحد عن الآخر، وله كلمات ظاهرها الكفر الصريح، والصوفية ما زال دأبهم تأويل هذه العبارات بكل وجه بتعسف وإسفاف. رد عليه كثير من العلماء وبينوا انحرافه وزندقتَه، ونقلوا عنه أفعالًا تدل على تركه للشريعة كترك الصلاة، وزعمه أنه يصلِّيها حاضرًا في مكة وهو ساكن في دمشق، وغير ذلك مما تطفحُ به كتبه وشِعرُه من الكفر الصريح، توفي في دمشق ودفن في سفح قاسيون في دمشق بمسجد معروف باسمه، وفيه قبره وهو يزار ويرتكب عنده من الشركيات ما الله به عليم. قال أبو شامة: "له تصانيفُ كثيرة وعليه التصنيف سهل، وله شعر حسن وكلام طويل على طريق التصوف، وكانت له جنازة حسنة، ودُفِن بمقبرة القاضي محيي الدين بن الزكي بقاسيون، وكانت جنازته في الثاني والعشرين من ربيع الآخر"، وقال ابن السبط: "كان يقول إنه يحفظ الاسم الأعظم ويقول إنه يعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب ".
هو الشيخ العلَّامة أبو الطاهر مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الفيروزآبادي الشيرازي الشافعي اللغوي، وُلِدَ سنة 729 بمدينة كازرون وتفقه بها. قال جلال الدين السيوطي: "كان يرفع نسبَه إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي صاحب التنبيه، ويقول: إن جده فضل الله ولد الشيخ أبي إسحاق، ولا يبالي بما يشاع بين الناس أن الشيخ أبا إسحاق لم يتزوَّج فضلًا عن أن يُعقِبَ" وقال المقري التلمساني: "ثم ارتقى الشيخ مجد الدين درجة فادعى بعد أنْ ولي قضاء اليمن بمدة طويلة أنَّه من ذرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وزاد إلى أنْ رأيت بخطه لبعض نوابه في بعض كتبه: محمد الصديق, ولم يكن مدفوعًا عن معرفة إلَّا أنَّ النفس تأبى قبولَ ذلك". دخل بلاد الروم واتصل بخدمة السلطان بايزيد بن السلطان مراد، ونال عنده رتبة وجاهًا، وأعطاه السلطان مالًا جزيلًا، وأعطاه تيمورلنك خمسة آلاف دينار، ثم جال البلاد شرقًا وغربًا، وأخذ عن علمائها، حتى برع في العلوم كلها، لا سيما الحديث والتفسير والفقه. توفي بزَبيد من بلاد اليمن في ليلة العشرين من شوال، عن ثماني وثمانين سنة وأشهر، وَلِيَ قضاء الأقضية ببلاد اليمن نحو عشرين سنة حتى مات بعدما طاف البلاد، وأقام بالقاهرة زمانًا، وله مصنفات كثيرة تنيفُ على أربعين مصنفًا، أشهرها كتاب القاموس في اللغة المعروف بالقاموس المحيط، وكتاب تسهيل الأصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول، وله بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، وله فتح الباري في شرح صحيح البخاري، وله المرقاة الوفية في طبقات الحنفية، وله تاريخ أصبهان، وغيرها.
في يوم الثلاثاء سادس ربيع الأول تخبطت الأحوال بين السلطان وبين المماليك؛ فوقف طائفة من المماليك الجراكسة، وسألوا أن يقبض على الأمير تغري بردي، والأمير دمرداش، والأمير أرغون؛ من أجل أنهم من جنس الروم؛ وذلك أن السلطان اختص بهم، وتزوج ابنة تغري بردي، وأعرض عن الجراكسة، وقبض على إينال باي، فخاف الجراكسة من تقدُّم الروم عليهم، وأرادوا من السلطان إبعادهم، فأبى عليهم، فتحزبوا عليه واجتمعوا على الأمير الكبير بيبرس، وتأخروا عن الخدمة السلطانية، فتغيب في ليلة الأربعاء الأميران تغري بردي ودمرداش، وأصبح الناس يوم الأربعاء سابعه وقد ظهر الأمير يشبك الدوادار، والأمير تمراز، والأمير جركس المصارع، والأمير قانباي العلاي، وكانوا مختفين من حين الكسرة بعد وقعة السعيدية؛ وذلك أن الأمير بيبرس ركب سَحَرًا إلى السلطان وتلاحى معه طويلًا، وعرَّفه بمواضع الأمراء المذكورين، فاستقرَّ الأمر على مصالحة السلطان للجراكسة، وإحضار الأمراء المذكورين، والإفراج عن إينال باي وغيره، فانفضُّوا على ذلك، وصار العسكر حزبين، وأظهر الجراكسة الخلاف، ووقفوا تحت القلعة يمنعون من يقصد السلطان، وجلس الأمير الكبير بيبرس في جماعة من الأمراء بداره، وصار السلطان بالقلعة، وعنده عدة أمراء، وتمادى الحال يوم الخميس والجمعة والسبت، والناس في قلق، وبينهم قالةٌ وتشانيع وإرجافات، ونزل السلطان إلى باب السلسلة، واجتمع معه بعض الأمراء ليصلح الأمر، فلم يُفِدْ شيئًا، وكثرت الشناعة عليه، وباتوا على ما هم عليه، وأصبحوا يوم الأحد الخامس والعشرين وقد كثروا، فطلبوا من السلطان أن يبعث إليهم بالأمير تغري بردي والأمير أرغون، فلما بعثهما قبضوا عليهما، وأخرجوا تغري بردي منفيًّا في الترسيم إلى القدس، فلما كان عند الظهيرة فُقِدَ السلطان من القلعة، فلم يُعرَف له خبر، وسبب اختفائه أن النوروز كان في يوم السبت الرابع والعشرين ربيع الأول، فجلس السلطان مع عدة من خاصكيته لمعاقرة الخمر، ثم ألقى نفسه في بحرة ماء وقد ثَمِل، فتبعه جماعة وألقَوا أنفسهم معه في الماء، وسبح بهم في البحرة، وقد ألقى السلطان عنه جلباب الوقار، وساواهم في الدعابة والمجون، فتناوله من بينهم شخص، وغمه في الماء مرارًا، كأنه يمازِحُه ويلاعبه، وإنما يريدُ أن يأتيَ على نفسه، وما هو إلا أن فُطِن به فبادر إليه بعض الجماعة -وكان روميًّا- وخلصه من الماء، وقد أشرف على الموت، فلم يُبدِ السلطان شيئًا، وكتم في نفسِه، ثم باح بما أسرَّه؛ لأنه كان لا يستطيع كتمان سر، وأخذ يذم الجراكسة -وهم قوم أبيه، وشوكة دولته، وجُلُّ عسكره- ويمدح الروم، ويتعصَّبُ لهم، وينتمي إليهم، فإنَّ أمه شيرين كانت رومية، فشقَّ ذلك على القوم، وأخذوا حِذرَهم، وصاروا إلى الأمير الكبير بيبرس ابن أخت الظاهر واستمالوه، فخاف السلطان وهم أن يفرَّ، فبادره الأمير بيبرس وعنَّفه، وما زال به حتى أحضر الأمراء من الإسكندرية ودمياط، وأظهر الأمراء المختفين، فاجتمع الأضداد، واقترن العدي والأنداد، ثم عادوا إلى ما هم عليه من الخلاف بعد قليل، وأعانهم السلطان على نفسه بإخراج يشبك بن أزدمر، وأزبك، فأبدوا عند ذلك صفحات وجوههم، وأعلنوا بخلافه، وصاروا إلى إينال باي بن قجماس ليلة الجمعة، وسعوا فيما هم فيه، ثم دسُّوا إليه سعد الدين بن غراب كاتب السر، فخيَّله منهم، حتى امتلأ قلبه خوفًا، فلما علم ابن غراب بما هو فيه من الخوف، حسَّن له أن يفِرَّ، فمال إليه، وقام وقت الظهر من بين حرمه وأولاده، وخرج من ظهر القلعة من باب السر الذي يلي القرافة، ومعه الأمير بيغوت، فركبا فرسين قد أعدهما ابن غراب، وسارا مع بكتمر مملوك ابن غراب، ويوسف بن قطلوبك صهره أيضًا، إلى بركة الحبش، ونزلا وهما معهما في مركب، وتركوا الخيل نحو طرا وغيبوا نهارهم في النيل، حتى دخل الليل، فساروا بالمركب إلى بيت ابن غراب، وكان فيما بين الخليج وبركة الفيل، فلم يجدوه في داره، فمروا على أقدامهم حتى أووا في بيت بالقاهرة لبعض معارف بكتمر مملوك ابن غراب، ثم بعثوا إلى ابن غراب فحول السلطان إليه وأنزله عنده بداره، من غير أن يعلم بذلك أحد.
لمَّا بايَع النَّاسُ مَرْوانَ سار مِن الجابِيَة إلى مَرْج راهِط قريبا من دمشق وبها الضَّحَّاك بن قيسٍ ومعه ألفُ فارسٍ، وكان قد اسْتَمَدَّ الضَّحَّاكُ النُّعمانَ بن بَشيرٍ وهو على حِمْص فأَمَدَّهُ حَبيبَ بن ذي الكِلاعِ، واسْتَمَدَّ أيضًا زُفَرَ بن الحارثِ وهو على قِنَّسْرين فأَمَدَّهُ بأهلِ قِنَّسْرين، وأَمَدَّهُ ناتِل بأهلِ فِلَسْطين، فاجتمعوا عنده، واجتمع على مَرْوان كَلْبٌ وغَسَّانُ, والسَّكاسِك والسَّكون، وتَحارَب مَرْوانُ والضَّحَّاكُ بمَرْج راهِط عِشرين ليلةً، واقْتَتَلوا قِتالًا شَديدًا، فقُتِلَ الضَّحَّاكُ، قَتلَهُ دِحْيَةُ بن عبدِ الله، وقُتِلَ معه ثمانون رجلًا مِن أشرافِ أهلِ الشَّام، وقُتِلَ أهلُ الشَّام مَقتلَةً عَظيمةً، وقُتِلَت قَيسٌ مَقتلةً لم يُقْتَلُ مِثلُها في مَوطِن قَطُّ، وكان فيمَن قُتِلَ هانىءُ بن قَبيصةَ النُّمَيْريُّ سَيِّدُ قومِه، كان مع الضَّحَّاك، قَتلَهُ وازِعُ بن ذُؤالَة الكَلبيُّ، ولمَّا انْهزَم النَّاسُ مِن المَرْج لَحِقوا بأَجنادِهِم، فانتهى أهلُ حِمْص إليها وعليها النُّعمانُ بن بَشيرٍ، فلمَّا بَلغَهُ الخَبرُ خرَج هَربًا ليلًا ومعه امرأتُه نائِلةُ بنتُ عُمارةَ الكَلبيَّة وثَقَلُهُ وأوَّلادُه، فتَحَيَّرَ لَيلَتَهُ كُلَّها، وأصبَح أهلُ حِمْص فطلبوه، وكان الذي طَلبَهُ عَمرُو بن الجَلِيِّ الكَلاعيُّ، فقَتلَهُ ورَدَّ أهلَه والرَّأسَ معه، وجاءَت كَلْبٌ مِن أهلِ حِمْص فأخذوا نائِلةَ وولدَها معها، ولمَّا بَلغَت الهَزيمةُ زُفَرَ بن الحارثِ الكِلابيَّ بقِنَّسْرين هرَب منها فلَحِقَ بقَرْقِيسِيا وعليها عِياضٌ الحَرَشِيُّ، وكان يَزيدُ وَلَّاهُ إيَّاها، وهرَب ناتِلُ بن قيسٍ الجُذاميُّ عن فِلَسْطين فلَحِقَ بابنِ الزُّبيرِ بمكَّة، واسْتَعمَل مَرْوانُ بعده على فِلَسْطين رومَ بن زِنْباع، واسْتَوْثَق الشَّامُ لمَرْوان واسْتَعمَل عُمَّالَه عليها.
ظهر المقَنَّع بخراسان سنة 161 وقيل سنة 159 وكان رجلًا أعورَ قصيرًا، من أهل مرو، ويسمَّى حكيمًا، وكان اتخذَ وجهًا من ذهَبٍ فجعله على وجهِه لئلا يُرى، فسُمِّيَ المقَنَّع، وادعَّى الألوهيَّة، ولم يُظهِرْ ذلك إلى جميع أصحابه، وكان يقولُ: إن الله خلق آدم، فتحول في صورته، ثمَّ في صورة نوح، وهكذا هلُمَّ جرًّا إلى أن تحوَّلَ في صورة أبي مسلم الخراساني، ثم تحوَّل إلى هاشم، وهاشم- في دعواه- هو المقَنَّع، ويقول بالتناسخ، وتابعَه خلق من ضُلَّالِ الناسِ، وكانوا يسجدونَ له من أي النواحي كانوا، وكانوا يقولونَ في الحرب: يا هاشم أعنَّا، واجتمع إليه خلقٌ كثير، وتحصَّنوا في قلعة بسنام، وسنجردة، وهي من رساتيق كش، وظهرت المبيضة ببخارى والصغد معاونينَ له، وأعانه كفَّارُ الأتراك، وأغاروا على أموالِ المسلمين. وكان يعتقِدُ أن أبا مسلم أفضلُ من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان يُنكِرُ قتلَ يحيى بن زيد، وادَّعى أنه يقتُلُ قاتليه. واجتمعوا بكش، وغلَبوا على بعض قصورها، وعلى قلعةِ نواكث، وحاربَهم أبو النعمان، والجنيد، مرةً بعد مرة، وقتلوا حسانَ بن تميم بن نصر بن سيار، ومحمد بن نصر وغيرهما، وأنفذ إليهم جبرائيل بن يحيى وأخاه يزيد، فاشتغلوا بالمبيضة الذين كانوا ببخارى، فقاتلوهم أربعة أشهُر في مدينة بومجكث، ونقَبَها عليهم، فقتل منهم سبعَمائة، ولحق منهزموهم بالمقَنَّع، وتبعهم جبرائيل، وحاربهم؛ ثم سيَّرَ المهدي أبا عون لمحاربةِ المقَنَّع، فلم يبالِغْ في قتاله، واستعمَلَ معاذَ بن مسلم، ثم إنَّ المقَنَّع بعد أن طال حصاره بالقلعة وشعر بالغَلَبة احتسى السُّمَّ وانتحر هو وأهله، وذلك في سنة 163 وكان قد حاصره سعيد الحريثي وبالغ في حصارِه.
وقَعَت الفِتنةُ بدمشقَ بين صاحِبِها شِهابِ الدِّينِ محمود بن تاج الملوك بوري والجند. وسبَبُ ذلك أنَّ الحاجِبَ يوسف بن فيروز كان أكبَرَ حاجِبٍ عند أبي شِهابِ الدين وجَدِّه، ثمَّ إنَّه خاف أخاه شمسَ الملوك، وهرب ابنُ فيروز منه إلى تدمُر، فلمَّا كانت هذه السَّنةُ سأل أن يَحضُرَ إلى دمشق، وكان يخاف جماعةَ المماليك؛ لأنَّه كان أساء إليهم وعامَلَهم أقبَحَ مُعاملةٍ، فلما طلبَ الآن الحضورَ إلى دمشق أُجيبَ إلى ذلك، فأنكر جماعةُ الأمراء والمماليكِ قُربَه وخافوه أن يفعَلَ بهم مثلَ فِعلِه الأوَّلِ، فلم يزَل ابنُ فيروز يتوصَّلُ معهم حتى حلَف لهم واستحلَفَهم وشَرَط على نفسِه أنَّه لا يتولى من الأمورِ شَيئًا، ثمَّ إنَّه جعل يُدخِلُ نَفسَه في كثيرٍ مِن الأمور، فاتَّفَق أعداؤه على قَتلِه، فبينما هو يسيرُ مع شمس الملوك في الميدانِ وإلى جانِبِه أميرٌ اسمه بزاوش يحادِثُه، إذ ضرَبَه بزاوش بالسَّيفِ فقَتَله، فحُمِلَ ودُفِنَ عند تربة والده بالعقيبة، ثمَّ إنَّ بزاوش والمماليك خافوا شمسَ الملوك، فلم يدخُلوا البلد، ونزلوا بظاهِرِه، وأرسلوا يَطلُبونَ قواعِدَ استطالوا فيها، فأجابهم إلى البَعضِ، فلم يَقبَلوا منه، ثمَّ ساروا إلى بعلبك، وبها شمسُ الدولة محمد بن تاج الملوك صاحِبُها، فصاروا معه، فالتحق بهم كثيرٌ مِن التُّركمان وغيرِهم، وشَرَعوا في العَبَث والفَسادِ، واقتَضَت الحالُ مُراسَلتَهم وملاطَفتَهم وإجابتَهم إلى ما طلبوا، واستقَرَّت الحالُ على ذلك، وحَلَف كُلٌّ منهم لصاحبه. فعادوا إلى ظاهِرِ دمشق ليدخُلوا البلد، وخرج شهابُ الدين صاحِبُ دمشق إليهم، واجتمَعَ بهم وتجَدَّدَت الأيمانُ، وصار بزاوش مُقَدَّم العسكَرِ وإليه الحَلُّ والعَقدُ، وذلك في شعبان، وزال الخُلفُ، ودخلوا البلدَ.
كان الخليفةُ المستكفي بالله قد أوصى بالخلافةِ مِن بعده لابنه أحمد، لكِنَّ السلطانَ النَّاصِرَ لم يُمضِ للسلطان عهده, وكان قد بايع لإبراهيمَ بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بأمر الله ولَقَّبَه بالواثق بالله, وفي يوم الاثنين خامس عشر شعبان طلب الناصِرُ إبراهيمَ الواثق بالله، وأجلسه بجانِبِه وحادَثَه، ثم قام إبراهيم وخرج معه الحُجَّاب بين يديه، ثم طلع إلى السلطانِ في يوم الاثنين ثالث عشر رمضان، وقد اجتمع القضاةُ بدار العدل على العادة، فعَرَّفَهم السلطان بما أراد من إقامةِ إبراهيم في الخلافةِ وأمَرَهم بمبايعته، فأجابوا بعَدَمِ أهليَّتِه، وأنَّ المستكفيَ عَهِدَ إلى ولده أحمَدَ بشَهادةِ أربعين عدلًا وحاكِمِ قوص، ويحتاج إلى النَّظَرِ في عهده، فكتب السلطانُ بطلب أحمد وعائلةِ أبيه، وأقام الخُطَباء بديار مِصرَ والشام نحو أربعة أشهر لا يذكُرونَ في خُطَبِهم الخليفة، فلما قَدِمَ أحمد من قوص لم يُمضِ السُّلطانُ عَهْدَه، وطلب إبراهيمَ وعَرَّفَه قُبحَ سِيرتِه، فأظهَرَ التوبةَ منها والتزم بسلوكِ طَريقِ الخير، فاستدعى السلطانُ القضاةَ في يوم الاثنين وعَرَّفَهم أنه أقام إبراهيم في الخلافة، فأخذ قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة يُعَرِّفُه سوءَ أهليَّتِه للخلافة، فأجاب بأنه قد تاب، والتائِبُ من الذنبِ كَمَن لا ذَنبَ له، وقد ولَّيتُه فاشهَدوا عليَّ بولايتِه، ورتَّبَ له السلطانُ ما جرت به العادة، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة وستون درهمًا وتسعة عشر أردب شعير في كل شهر، فلم يعارِضْه أحَدٌ، وخُطِبَ له في يوم الجمعة سادس ذي القعدة، ولُقِّبَ بالواثق بالله أبي اسحاق، فكانت العامَّةُ تسميه المستعطي؛ فإنَّه كان يستعطي من النَّاسِ ما يُنفِقُه، وشُهِرَ بارتكابٍ أمورٍ غَيرِ مَرضِيَّة.
قام أهل بلبيس بالحضور إلى الشيخ وشكَوا إليه محمد بيك الألفي وظُلم أتباعه، فذهب الشيخ الشرقاوي للأزهر وجمع المشايخ وقفَّلوا أبواب الجامع، وذلك بعدما خطب مراد بيك وإبراهيم بيك، وفعلوا مثل ذلك اليوم الثاني، وأمروا الناسَ بغلق الأسواق والحوانيت، ثمَّ ركبوا مع جمعٍ كبير من العامَّةِ إلى بيت الشيخ السادات، وازدحم الناسُ فحضر الدفتردار أيوب بيك، فقالوا له إنَّ مرادهم هو رفعُ الظلم والجَور، وتطبيقُ العدل وإقامة الشرع وإبطال الحوادث والمكوس المبتدعة، فقال: الدفتردار: إن ذلك لا يمكِنُ لأنَّه يضيِّقُ على معيشة المماليك، فقيل له: هذا ليس بعذرٍ عند الله ولا عند الناسِ، ولا داعي للإكثارِ مِن النفقات وشراء المماليك، ثم عاد المشايخ إلى الأزهر ومعهم أهل الأطراف وباتوا في المسجد، وأرسل إبراهيم بيك يشجعهم وأرسل إلى أيوب بيك يخوِّفه عاقبة الأمر، فأجاب إلى جميع ما ذكروه إلَّا شيئين: ديوان بولاق، وطلب المنكسر من الجامكية، وما عدا ذلك من المكوس والحوادث والظلم فيُرفع، ثم اجتمع الأمراءُ وأرسلوا إلى المشايخ، فحضر الشيخ الشرقاوي والبكري والنقيب والسادات، ودار الكلام بينهم والتزموا بما شرطه العلماءُ عليهم وانعقد الصلحُ على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسًا موزعة وأن يرسِلوا غلال الحرمين ويَصرِفوا غلالَ الشون وأموال الرزق، ويُبطلوا المظالم المحدَثة والتفاريدَ والمكوس ما عدا بولاق، وأن يكفُّوا أتباعهم عن مدِّ أيديهم إلى أموالِ الناس وأن يسيروا في الناس سيرةً حسنة، وكتب حجَّةً بذلك وفرمن عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بيك وأيوب بيك، وانجَلَت الفتنة، ولكنَّ الحالَ لم يدُمْ أكثر من شهر حتى عاد ما كان على ما كان وزيادة.
خرج الإمامُ سعود للحَجَّة الثالثة في ذي القعدةِ، وكان قد سيَّرَ قبل خروجِه للحج في نهاية رمضان عبد الوهاب أبا نقطة برعاياه من عسير وألمع وفهاد بن سالم بن شكبان بأهل بيشة ونواحيها، وعثمان المضايفي بأهل الطائف, وأهل اليمن وأهل تهامة والحجاز وحجيلان بن حمد بشوكة أهل القصيم, ومحمد بن عبد المحسن بأهل الجبل ومن تبعه من أهل شمر وشوكة أهل الوشم, وواعدهم الإمامُ سعود المدينةَ النبوية واجتمع معهم مسعود بن مضيان وأتباعه من حرب، فاجتمع الجميع ونزلوا قرب المدينة, وكان الإمامُ سعود لَمَّا خرج من الدرعية أرسل إلى الأمراء المذكورين بمنع الحاجِّ من جهة الشام واستنبول ونواحيهما, فلما أقبل على المدينة الحاجُّ الشامي ومن تبعه وأميره عبد الله باشا العظم، أرسل إليه الأمراء أنْ لا يقدم إليهم ويرجع إلى أوطانه, وذلك أنَّ الإمام سعود خاف من غالب شريف مكة أن يحدث عليه حوادث عند دخول حاجِّ الشام وأتباعهم مكة, فرجع عبد الله العظم ومن تبعه من المدينة إلى أوطانهم, وكادت أن تقع اصطداماتٌ بين الجنود السعوديين وجنود عبد الله باشا العظم الذي لم يكُنْ في موقف عسكري يسمَحُ له بمقابلة السعوديين، وعلى إثرِ ذلك عزل السلطانُ سليم الثالث عبدَ الله باشا العظم عن منصبِه بناءً على تقاعسه عن مواجهةِ القوات السعودية ورجوعِه بالحُجَّاج, ثم رحل الأمراء وأتباعُهم من المدينة إلى مكة، فاجتمعوا بالإمام سعود فاعتَمَروا وحجُّوا على أحسَنِ حال، وبذل سعود في مكَّةَ العطاء والصدقات، وركب إليه الشريف غالب وبايعه، وأخرج سعودٌ الأتراك, وكسا الكعبةَ.
بعد أن احتَلَّت فرنسا الجزائِرَ سنة 1246هـ عَزَمت على احتلالِ تونس وقامت مقابِلَ ذلك بالتنازُلِ لإنكلترا عن مصرَ، فبدأت بالتدخُّل أولًا في أمورِ الدولة بحجَّة الديون، ثمَّ قامت باستغلالِ خلافٍ افتعلَتْه على الحدودِ مع الجزائِرِ، واتَّهَمت تونس بإيواء المجاهدين الجزائريين في أراضيها، وأنَّها لا بدَّ لها من التدخُّل لقمع هؤلاء المجاهدين وجيوبهم، فقامت بحملةٍ عسكرية، ودخلت الأراضيَ التونسية، ثمَّ لم تلبَثْ أن وصَلَت إلى قصرِ باردو الذي كان فيه حاكِمُ تونس الباي محمد الصادق، وفَرَضت عليه معاهدة الحماية، فاجتمع الباي بكبار رجالِ دولته، وعرض عليهم الأمرَ، وكان الحاضِرون يميلون إلى رَفضِ الحماية وإعلان المقاوَمةِ والجهادِ وتعبئة الأمَّة لذلك، لكِنَّ ذلك لم يجِدْ آذانًا مُصغية أمام تهديد الفرنسيين بخلعِ الباي محمد الصادق عن العَرشِ وتنصيب أخيه "الطيب باي" مكانَه إذا رفضَ التوقيعَ على المعاهدة، وكان ممثِّلو الاحتلال الفرنسي ينتَظِرون في غرفةٍ مجاورة للحجرةِ التي اجتمع فيها السلطانُ برجاله، وبعد ساعتين من الاجتماع خرج باي تونس حاملًا نسخَتَي المعاهدة وقد وقَّع عليهما! وبذلك انتهى الاستقلالُ الفعلي لتونس بعد توقيع المعاهدة التي عُرِفَت بمعاهدة "باردو" وتضَمَّنت هذه المعاهدة تقييدَ سلطة الباي، ووضْعَه تحت حماية فرنسا، وسلَبَت تونسَ كُلَّ مقومات الدولة المستقِلَّة. وغدا المقيم العام الفرنسي في تونس الحاكِمَ الحقيقيَّ للبلاد! ثم لم تلبث أن زادت القواتُ الفرنسيَّةُ، وأصبحت تفرِضُ نفسَها كالاحتلالِ العسكريِّ تمامًا، فأصبحت تونس تحت النفوذِ الفرنسي واحتلالِه، ثم بدأت بفَرْنَسةِ تُونسَ، بتنفيذِ عِدَّة إجراءاتٍ ثقافية واقتصادية واجتماعية، ثم عَدَّلت معاهدةَ الحماية السابقة قسرًا سنة 1300هـ فصارت بذلك تونس تحت يد المقيم العام الفرنسي والحماية العسكرية الفرنسية!!
بعد أن سيطر الحلفاء على استانبول وألقِيَ القبضُ على رئيس الوزراء، وحُلَّت جمعيةُ الاتحاد والترقي، واغتيلَ أكثَرُ أعضائها، وأُقيل مصطفى كمال من منصبِه، وأعلنت الحكومة تمرُّدَ مصطفى كمال الذي ظهر بمظهرِ البطل الثائر حتى لقَّب نفسه بالغازي، فتقدَّم إلى الغرب من الأناضول، وحاصر أسكي شهر فانسحب الإنجليزُ منها دون مقاومة، فدخلها بصورة الفاتح ودخل قونية، وأعلن إجراءَ انتخابات جديدة بحيث تكون أنقرة مقرًّا للمجلس الجديد، فنجح أنصاره، واجتمع المجلس وبدأ يعمل على تشكيل جيشٍ خاصٍّ، أما الحكومة فسيطرت على كافةِ المناطق وبَقِيَت أنقرة وحدها، وكادت تسقط، فأذاع الحلفاء في هذا الوقت شروطَ معاهدة سيفر التي وافق عليها الخليفةُ ورئيس الوزراء الداماد فريد باشا مرغَمَينِ، ولما فيها من إجحافٍ بحقِّ الدولة المهزومة فقد ثار الأهالي؛ إذ تنص المعاهدة على: إقامة دولة في استانبول، آخر الولايات العربية من الدولة، إعطاءُ الاستقلال لأرمينيا، إعطاء كردستان استقلالًا ذاتيًّا، تُعطى تراقيا وجزر بحر إيجة لليونان، توضع المضائق تحت إشراف دولي، يوجِّهُ الحلفاءُ الجيشَ ويحدَّدُ عدد أفراده، يحِقُّ للحلفاء السيطرة على المالية، فبدأت ثورة الأهالي على الحكومة لتوقيعها المعاهدة، وبدأ مصطفى كمال الهجومَ على الحكومة الذي أعلن أنها عميلة، وبدأت كِفَّتُه ترجح، ودعت إنجلترا لعقد مؤتمر في لندن لإعادة النظر في معاهدة سيفر، ثم قوِيَ أمر مصطفى كمال، واتفق مع الدول الأخرى؛ إذ اتفق مع اليونان على إعطاء أزمير استقلالًا ذاتيًّا تحت حكم نصراني، وتنازل لروسيا عن باطوم في جورجيا، وانسحبت فرنسا من كيليكيا جنوب الأناضول بتركيا، وانسحبت إيطاليا من أنطاكية، واستطاع أن يهزم اليونانَ واضطرَّهم للانسحاب من تركيا، فظهر مصطفى كمال بصورة البطل المغوار!!!
فَتَرَ الوحيُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَترةً مِنَ الزَّمنِ, حتَّى شَقَّ ذلك عَليهِ فأحزنهُ، فجاءهُ جبريلُ بسورةِ الضُّحى يُقسِمُ له رَبُّهُ -وهو الذي أكرمهُ بما أكرمهُ بهِ- ما وَدَعَهُ, فقد روى البخاري في صحيحه من حديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالتِ امْرَأَةٌ مِن قُرَيْشٍ -وهي أمُّ جميلٍ أَرْوى بنتُ حَرْبٍ أُخْتُ أبي سُفيانَ وزوجُ أبي لَهَبٍ-: أَبْطَأَ عليه شيطَانُهُ، فَنَزَلَتْ: {وَالضُّحَى واللَّيْلِ إذَا سَجَى، ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلَى}.