مع انهيار الاتِّحادِ السُّوفييتي السابق بدايةَ عام 1990م انتهزتِ المُنظَّمة الصُّهيونيَّة العالميَّة، والوكالة اليهودية الفُرصةَ لتحشيدِ قوافِلِ الهجرة الاستيطانيَّة التوسُّعيَّة اليهوديَّة الصُّهيونية إلى فلسطين. وبدأت أرقام هِجرة اليهود السُّوفييت تتراكَمُ باتجاه فلسطين المُحتلَّة، وقد وصَلَ خلال الفترة (1990-2000م) نحو مليون يهوديٍّ، وساهمت الهجرةُ بأكثر من (67%) من إجمالي الزيادة السُّكانيَّة اليهوديَّة على أرض فِلَسطينَ خلال الفترة المذكورة. إلا أن الهِجرة التَّهويديَّة إلى فلسطين بدأت تقلُّ تدريجيًّا، خاصَّة في ظِلِّ انطلاقةِ الانتفاضة الفلسطينية. فوصَلَ منهم 140 ألفًا حتى نهاية السبعينيات، ثم بعد سُقوط الاتحاد السُّوفييتي سنة 1991م فُتح فيضان الهجرة، فوصَلَ 700 ألف يهوديٍّ روسيٍّ، وهم يُشكِّلون أكبَرَ نِسبةٍ عِرقيةٍ.
خرج السلطان الملك الناصر فرج من دمشق بعساكره في يوم الاثنين سادس المحرم، ونزل برزة، ثم رحل منها يريد محاربة الأمراء الخارجين عليه: نوروز الحافظي، وشيخ المحمودي، ونزل حسيا بالقرب من حمص، فبلغه رحيل القوم من قارا إلى جهة بعلبك، فترك أثقاله بحسيا وساق على أثرهم إلى بعلبك، فوجدهم قد توجهوا إلى البقاع، فقصدهم، فمضوا نحو الصبيبة، فتبعهم حتى نزلوا باللجون، فساق السلطان خلفهم وهو سكران لا يعقِل، فما وصل إلى اللجون حتى تقطعت عساكره عنه من شدة السَّوق، ولم يبقَ معه غير من ثَبَت على سوقه، وهم أقل ممن تأخَّر، وكان قد وصل وقت العصر من يوم الاثنين ثالث عشر المحرم، فوجد الأمراء قد نزلوا باللجون وأراحوا، وفي ظنهم أنه يتمهَّلُ ليلته ويلقاهم من الغد، فإذا جنَّهم الليل ساروا بأجمعهم من وادي عارة إلى جهة الرملة، وسلكوا البرية عائدين إلى حلب، وليس في عزمهم أن يقاتلوه أبدًا، لا سيما الأمير شيخ المحمودي فإنه لا يريد ملاقاته بوجه من الوجوه، فحال وصول الملك الناصر إلى اللجون أشار عليه الأتابك دمرداش المحمدي أن يريح خيلَه وعساكره تلك الليلة، ويقاتلهم من الغد، فأجابه السلطان بأنهم يفرُّون الليلة، فقال له دمرداش: إلى أين بقُوا يتوجهون يا مولانا السلطان بعد وقوع العين في العين؟ يا مولانا السلطان مماليكك في جهد وتعب من السَّوق، والخيول كَلَّت، والعساكر منقطعة، فلم يلتفت إلى كلامِه، وحرَّك فرسه ودقَّ بزخمته على طبله، وسار نحو القوم، وحمل عليهم بنفسِه من فوره حال وصولِه، فارتضمت طائفة من مماليكه في وحلٍ كان هناك، ثم قبل اللقاء خرج الأمير قجق أحد أمراء الألوف بطلبه من مماليكه وعسكره، وذهب إلى الأمراء، وتداول ذلك مع المماليك الظاهرية واحدًا بعد واحد، والملك الناصر لا يلتفت إليهم، ويشجِّع من بقي معه حتى التقاهم وصدمهم صدمةً هائلة، وتقهقر عسكره مع قلتهم، فانهزم السلطان عند ذلك، بعد أن قاتل بنفسه، وساق يريد دمشق -وكان الرأي توجهه إلى مصر- وتبعه سودون الجلب، وقرقماس ابن أخي دمرداش، ففاتهما الملك الناصر ومضى إلى دمشق، وأحاط القوم بالخليفة المستعين بالله، وفتح الدين فتح الله كاتب السر، وناظر الجيش بدر الدين حسن بن نصر الله، وناظر الخاص ابن أبي شاكر، واستولوا على جميع أثقال الملك الناصر وأمرائه، وامتدت أيدي أصحاب الأمراء إلى النهب والأسر في أصحاب الملك الناصر، وما غربت الشمس حتى انتصر الأمراء وقَوِيَ أمرهم، وباتوا تلك الليلة بمخيماتهم، وهي ليلة الثلاثاء، وأصبح الأمراء وليس فيهم من يرجع إليه، بل كل واحد منهم يقول: أنا رئيس القوم وكبيرهم، وأما الملك الناصر فإنه لما انكسر سار نحو دمشق حتى دخلها ليلة الأربعاء في ثلاثة نفر، ونزل بالقلعة واستدعى القضاة والأعيان ووعدهم بكل خير، وحثَّهم على نصرته والقيام معه، فانقادوا له، فأخذ في تدبير أموره، وتلاحقت به عساكره شيئًا بعد شيء في العاشر من محرم، ثم أحضر السلطان الأموال وصبها وأتاه الناس من كل فج من التركمان والعربان والعشير وغيرهم، فكتب أسماءهم وأنفق عليهم وقوَّاهم بالسلاح، وأنزل كل طائفة منهم بموضع يحفظه، فكان عدة من استخدمه من المشاة زيادةً على ألف رجل، وحَصَّن القلعة بالمجانيق والمدافع الكبار، وأتقن تحصين القلعة؛ بحيث إنه لم يبق سبيلٌ للتوصل إليها بوجه من الوجوه واستمر ذلك إلى بكرة يوم السبت ثامن عشر المحرم، فنزل الأمراء على قبة يلبغا خارج دمشق، فندب السلطان عسكرًا فتوجهوا إلى القبيبات، فبرز لهم سودون المحمدي، وسودون الجلب، واقتتلوا حتى تقهقر السلطانية منهم مرتين، ثم انصرف الفريقان، وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم ارتحل الأمراء عن قبة يلبغا، ونزلوا غربي دمشق من جهة الميدان، ووقفوا من جهة القلعة إلى خارج البلد، فتراموا بالنشاب نهارهم وبالنفط، فاحترق ما عند باب الفراديس من الأسواق، فلما كان الغد من يوم الاثنين عشرين محرم اجتمع الأمراء للحصار، فوقفوا شرقي البلد وقبليه، ثم كروا راجعين ونزلوا ناحية القنوات إلى يوم الأربعاء الثاني والعشرين، ووقع القتال من شرقي البلد، ونزل الأمير نوروز بدار الطعم، وامتدت أصحابه إلى العقيبة، ونزل طائفة بالصالحية والمزة، ونزل الأمير شيخ بدار غرس الدين خليل تجاه جامع كريم الدين الذي بطرف القبيبات ومعه الخليفة وكاتب السر فتح الله، ونزل بكتمر جلق وقرقماس المدعو بسيدي الكبير في جماعة من جهة بساتين معين الدين ومنعوا الميرة عن الملك الناصر، وقطعوا نهر دمشق، ففُقد الماء من البلد، وتعطلت الحمَّامات، وغُلِّقت الأسواق، واشتدَّ الأمر على أهل دمشق، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وتراموا بالسهام والنفوط، فاحترق عدة حوانيت بدمشق، وكثرت الجراحات في أصحاب الأمراء من الشاميين، وأنكاهم السلطانية بالرمي من أعلى السور، وعَظُم الأمر، وكلُّوا من القتال، ثم بلغ الأمير شيخ المحمودي أن الملك الناصر عزم على إحراق ناحية قصر حجاج حتى يصير فضاءً ثم يركب بنفسه ويواقع القوم هناك بمن يأتيه من التركمان وبمن عنده، فبادر الأمير شيخ وركب بعد صلاة الجمعة بأمير المؤمنين ومعه العساكر، وسار من طريق القبيبات ونزل بأرض الثابتية، وقاتل الملك الناصر في ذلك اليوم أشد قتال إلى أن مضى من الليل جانب، وكثر من الشاميين الرمي بالنفط عليهم، فاحترق سوق خان السلطان وما حوله، وحملت السلطانية على الشيخية حملةً عظيمة هزموهم فيها، وتفرقوا فِرَقًا، وثبت الأمير شيخ في جماعة قليلة بعدما كان انهزم هو أيضًا إلى قريب الشويكة، ثم تكاثر الشيخية وانضم عليهم جماعة من الأمراء، فحمل الأمير شيخ بنفسه بهم حملة واحدة أخذ فيها القنوات، ففرَّ من كان هناك من التركمان والرماة وغيرهم، وكان الأتابك دمرداش المحمدي نازلًا عند باب الميدان تجاه القلعة، فلما بلغه ذلك ركب وتوجه إلى الملك الناصر وهو جالس تحت القبة فوق باب النصر، وسأله أن يندب معه طائفة كبيرة من المماليك السلطانية؛ ليتوجه بهم إلى قتال الأمير شيخ؛ فإنه قد وصل إلى طرف القنوات، وسهل أخذه على السلطان، فنادى الملك الناصر لمن هناك من المماليك وغيرهم بالتوجه مع دمرداش، فلم يجِبْه منهم أحد، ثم كرر السلطان عليهم الأمر غيرَ مرة حتى أجابه بعضهم جوابًا فيه جفاء وخشونة ألفاظ، معناه أنهم ملوا من طولِ القتال، وضَجِروا من شدة الحصار، وبينما هم في ذلك إذ اختبط العسكر السلطاني وكثر الصراخ فيهم بأن الأمير نوروزًا قد كبسهم، فسارعوا بأجمعهم وعبروا من باب النصر إلى داخل مدينة دمشق، وتفرَّقوا في خرائبها بحيث إنه لم يبقَ بين يدي السلطان أحد، فولى دمرداش عائدًا إلى موضعه، وقد ملك الأمير شيخ وأصحابه الميدان والإسطبل، فبعث دمرداش إلى السلطان مع بعض ثقاته بأن الأمر قد فات، وأن أمر العدو قوي، وأمر السلطان أخذ في إدبار، والرأي أن يلحق السلطان بحلب ما دام في الأمر سعة، فلما سمع الملك الناصر ذلك قام من مجلسه وترك الشمعة تتقد حتى لا يقع الطمع فيه بأنه ولى، ويوهم الناس أنه ثابت مقيم على القتال، ثم دخل إلى حَرَمِه وجهَّز ماله، وأطال في تعبئة ماله وقماشه، فلم يخرج حتى مضى أكثر الليل، والأتابك دمرداش واقف ينتظره، فلما رأى دمرداش أن الملك الناصر لا يوافقه على الخروج إلى حلب، خرج هو بخواصه ونجا بنفسه، وسار إلى حلب وترك السلطان، ثم خامر الأمير سنقر الرومي على الملك الناصر، وأتى أمير المؤمنين وبطل طبول السلطان والرماة، ثم خرج الملك الناصر من حرمه بماله، وأمر غلمانه فحُمِلت الأموال على البغال ليسير بهم إلى حلب، فعارضه الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير وغيره، ورغبوه في الإقامة بدمشق، وقالوا له: الجماعة مماليك أبيك لا يوصلون إليك سوءًا أبدًا، ولا زالوا به حتى طلع الفجر، فعند ذلك ركب الملك الناصر بهم، ودار على سور المدينة فلم يجد أحدًا ممن كان أعدَّه للرمي، فعاد ووقف على فرسه ساعة، ثم طلع إلى القلعة والتجأ بها بمن معه -وقد أشحنها- وترك مدينة دمشق، وبلغ أمير المؤمنين والأمراء ذلك، فركب الأمير شيخ بمن معه إلى باب النصر، وركب نوروز بمن معه إلى نحو باب توما، ونصب الأمير شيخ السلالم حتى طلع بعض أصحابه، ونزل إلى مدينة دمشق وفتح باب النصر، وأحرق باب الجابية، ودخل شيخ من باب النصر، وأخذ مدينة دمشق، ونزل بدار السعادة، وذلك في يوم السبت تاسع صفر، بعدما قاتل الملك الناصر نحو العشرين يومًا، قُتِل فيها من الطائفتين خلائق لا تُحصى، ووقع النهب في أموال السلطان وعساكره، وامتدت أيدي الشيخية وغيرهم إلى النهب، فما عفوا ولا كفُّوا، وركب أمير المؤمنين ونزل بدار في طرف ظواهر دمشق، وتحول الأمير شيخ إلى الإسطبل، وأنزل الأمير بكتمر جلق بدار السعادة، كونه قد ولي نيابة دمشق قبل تاريخه، هذا والسلطانية ترمي عليهم من أعلى القلعة بالسهام والنفوط يومهم كله، وباتوا ليلة الأحد على ذلك، فلما كان يوم الأحد عاشر صفر بعث الملك الناصر بالأمير أسندمر أمير آخور في الصلح، وتردد بينهم غير مرة حتى انعقد الصلح بينهم، وحلف الأمراء جميعهم وكُتِبت نسخة اليمين، ووضعوا خطوطهم في النسخة المذكورة، وكتب أمير المؤمنين أيضًا خطه فيها، وصعد بها أسندمر إلى القلعة ومعه الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازي أخو الخليفة المستعين بالله لأمه، ودخلا على الملك الناصر وكلماه في ذلك، وطال الكلام بينهم، فلم يعجب الملك الناصر ذلك، وترددت الرسل بينهم غير مرة بغير طائل، وأمر الملك الناصر أصحابه بالرمي عليهم، فعاد الرمي من أعلى القلعة بالمدافع والسهام، وركب الأمراء واحتاطوا بالقلعة، فأرسل الملك الناصر يسأل بالكف عنه، فضايقوا القلعة خشية أن يفر السلطان منها إلى جهة حلب، ومشت الرسل أيضًا بينهم ثانيًا، وأضر الملك الناصر التضييق والغلبة إلى أن أذعن إلى الصلح، وحلفوا له ألا يوصلوا إليه مكروهًا، ويؤمِّنوه على نفسه، وأن يستمِرَّ الخليفة سلطانًا، وقيل غير ذلك: وهو أنه ينزل إليهم، ويتشاور الأمراء فيمن يكون سلطانًا، فإن طلبه المماليك فهو سلطان على حاله، وإن لم يطلبوه فيكون الخليفة، ويكون هو مخلوعًا يسكن بعض الثغور محتفظًا به، ومحصول الحكاية أنه نزل إليهم في ليلة الاثنين حادي عشر صفر، ومعه أولاده يحملهم ويحملون معه، وهو ماشٍ من باب القلعة إلى الإسطبل والناس تنظُره، وكان الأمير شيخ نازلًا بالإسطبل، فعندما عاينه الأمير شيخ قام إليه وتلقَّاه وقبَّل الأرض بين يديه، وأجلسه بصدر المجلس، وجلس بالبعدِ عنه وسكَّن روعه، ثم تركه بعد ساعة وانصرف عنه، فأقام الملك الناصر بمكانه إلى يوم الثلاثاء ثاني صفر، فجمع الأمراء والفقهاء والعلماء المصريون والشاميون بدار السعادة بين يدي أمير المؤمنين وقد تحول إليها وسكنها، وتكلموا في أمر الملك الناصر والمحضر المكتب في حقه، فأفتوا بإراقة دمه شرعًا، فأخذ في ليلة الأربعاء من الإسطبل، وطلع به إلى قلعة دمشق، وحبسوه بها في موضع وحدَه، وقد ضُيِّق عليه وأُفرِدَ من خَدَمِه، فأقام على ذلك إلى أن قُتِلَ ليلة السبت سادس عشر صفر.
زاد النشاطُ الإسلاميُّ في تُركيا أيامَ حُكومة فخري ثابت كوروتورك، والذي أظهَرَه حِزب السلامة الوطني برئاسة نَجم الدِّين أرْبكان، وهذا ما أخاف الدوائرَ الاستعماريةَ، فكان لا بُد مِن إجراء عمل يحدُّ من نَشاط الإسلاميين، مع الخوف أيضًا من انتشارِ الشُّيوعية وسَيطرتها على الحُكْم، فتَحرَّك الجيش بقيادةِ رئيس الأركان كنعان إيفرين في 3 ذي القعدة 1400هـ / 12 أيلول بانقلابٍ عَسكري ضدَّ الحكومة المدنية المنتخَبةِ، وكان هذا الانقلابُ ثالثَ انقلابٍ عسكري بعد انقلاب 27 أيار / مايو 1960م على عَدنان مندريس، وانقلابِ المذكِّرة في 12 أذار / مارس 1971م، وكانت الفكرةُ التي قام عليها هذا الانقلابُ هي حِماية المبادئ العلمانيةِ التي وضَعها أتاتورك أساسًا للجمهورية التُّركية، فتخوَّف العسكرُ مِن الصعود الملحوظِ للتَّيار الإسلاميِّ في الانتخابات القادمةِ؛ لذلك حصَل هذا الانقلابُ بدعْمٍ من أمريكا بعْد أنْ فقَدَت حليفَها في المنطقة بعدَ الثَّورة الإيرانية 1979م، ومن أهمِّ أسباب الانقلابِ: فشَلُ حِزب الشعب الجمهوري (حزب أتاتورك العلماني) في إدارة البلادِ. شكَّل هذا الانقلابُ ملامحَ تُركيا لثلاثةِ عُقود قادمةٍ، كما يُعدُّ هذا الانقلابُ الأكثرَ دَمويةً؛ لذلك اتَّخذ مجلسُ الأمن القومي -الذي كان يَرأسه الجِنرال كنعان إيفرين، مع عددٍ من الضُّباط الكبار في الجيشِ والقوات المسلحة التُّركية- بعد الانقلاب في 12 أيلول 1980 قراراتٍ عديدةً تتعلَّق بسياسةِ تُركيا وقتها لغاية الانتخابات العامة التي تمَّت عام 1983، والتي أسفَرَت عن انتخابِ إيفرين رئيسًا لِتُركيا في نوفمبر 1982 بنسبةِ 90% من الأصواتِ، ثم قام بعرْضِ دُستور جديد على الاستفتاءِ، قام فيه بتَحصينِ نفْسه وجِنرالات الانقلاب مِن المحاكمة في المادة (15)، وعزَّز الدستورُ من دَور الجيش في الحياة المدنية بذَريعة حِماية الجُمهورية والعلمانية في المادتين (35) و(85) مِن الدُّستور التركي. كما أقدَمَ إيفرين على إغلاقِ كافَّة الأحزاب السياسية، وتمَّ اتخاذ قرارِ مُراقبة زُعماء الأحزاب بشكلٍ دقيقٍ، ومِن ثَم تمَّت مُحاكمتهم، وبالإضافةِ إلى ذلك قامت السُّلطات المَعْنية بأمرٍ من إيفرين كنعان بسحْب الجِنسية التركية من 14 ألفَ شخصٍ، وإعلانِ الأحكام العُرْفية التي استمرَّت 7 سنوات؛ حيث تمَّت مُحاكمة 230 ألف شخصٍ ضمن 210 دعوة قَضائية، وحُكِم على 517 شخصًا بالقتل، وأُعيد تَصميم السياسة التُّركية من جديدٍ بعد ذلك، ومِن بين الآثار السَّلبية لانقلابِ أيلول العسكري: طَرْدُ ما يُقارب 30 ألف شخصٍ من أعمالهم من دون وُجود مُبرِّرات قانونية تَستوجِب عَزْلَهم عن أعمالهم، وإغلاق عددٍ كبير مِن الجمعيات والمؤسسات الإنسانيةِ في البلادِ. أمَّا على الصَّعيد الإعلاميِّ فقد تمَّ منْعُ 937 فيلمًا سينمائيًّا من العرْض، ولم يَستطِعْ ما يقارب مِن 300 صحيفة ممارسةَ أعمال النشْر والطِّباعة، وبعد مُرور 30 عامًا على الانقلابِ، واستجابةً لمطالِب عددٍ كبير من متضرِّري الانقلاب؛ قرَّرت حُكومة رجب طيب أردوغان فتْحَ ملف تحقيقٍ بحقِّ مَسؤولين رَفيعِي المستوى الذين قادوا انقلابَ 12 أيلول، فتَمكَّن حِزب العدالة والتنمية الذي يَقوده أردوغان مِن تعديلِ عشَرات الموادِّ من ذلك الدستور، بما فيها حَصانة العسكرِ، الأمر الذي سمَحَ للمحاكم بمُتابعة الانقلابيينَ، وإصدار حُكم المؤبَّد في حقِّهم.
طلبت إنكلترا من الدولة العثمانية في الثامن من رجب عام 1242هـ أن تتوسَّطَ الدول الأوربية النصرانية بين الدولةِ العثمانية وبين ما يتبَعُها، فرفضت الدولةُ العثمانية ذلك؛ لأنَّ هذا تدخلٌ صريح في شؤونها الداخلية، فكان هذا الرَّفضُ حُجَّةً تذرعت به لإعلان الحربِ مَرَّةً أخرى بعد أن ضَعُفت الدولة سياسيًّا، فاتفقت روسيا وفرنسا وإنكلترا في الحادي عشر من ذي الحجة على إجبارِ الدولة العثمانية لإعطاء اليونان استقلالَها على أن تدفَعَ جِزيةً سنوية يتَّفِق عليها الطرفان، وأعطِيَ الخليفة شهرًا لإيقاف الأعمالِ ضِدَّ اليونان، وإذا عجز عن ذلك أو رفَضَ فإنَّ الدُّولَ النصرانيَّةَ تتَّخِذُ ما تراه مناسبًا، ولم يعمَلِ الخليفة أيَّ عمَلٍ، وبعد شهر أمرت الدولُ الثلاث روسيا وفرنسا وإنكلترا أساطيلَها بالتوجه إلى سواحل اليونان وطلَبَت من إبراهيم باشا التوقُّفَ عن القتال، فكان جوابه أنه يتلقَّى أوامِرَه من الخليفة أو من أبيه، ومع ذلك توقف عشرين يومًا عن القتال ريثما تَصِلُ إليه التعليمات، واجتمعت أساطيلُ الدول الأوربية في ميناءِ نافارين (خليج نافارين فيلوس شرقي بيلوبونز جنوب اليونان الحالية) ودمَّرَت الأسطولَ العثماني وأكثَرَ الأسطول المصري، وقُتِلَ ما يزيد على ثلاثين ألف جنديٍّ مصري، واحتج الخليفة فلم ينفَعْه احتجاجُه، فأعلن أن َّالقتالَ دينيٌّ لا سياسي في منشورٍ أصدره للمواطنين، ودعاهم فيه للدفاع عن عقيدتِهم، وخَصَّ بذلك روسيا التي تأثَّرَت من ذلك، وأعلنت الحربَ على الدولة العثمانية في شوال من هذا العامِ، وأمر محمد علي ابنَه بالانسحابِ، وكانت القوات الفرنسية تحلُّ محَلَّ المنسحبين، ثمَّ عَقَدت الدول الثلاث مؤتمرًا في لندن ودُعِيَت إليه الدولة العثمانية فرفضت الحضورَ، فقَرَّر المؤتمر إعلانَ استقلال اليونان وحُكْمها من قِبَلِ حاكم نصراني تنتخِبُه هذه الدول ويكون تحت حمايتها وتدفَعُ جِزيةً سنوية للدولة العثمانية مقدارها خمسمائة ألف قرش، ولكِنَّ الدولة العثمانية رفضت هذه القرارات التي تتعلَّقُ بالدولة ورعاياها، ولا يحِقُّ لأحدٍ التدخُّلُ وإصدار القرارات بشأنها، وانصرفت إلى قتال الروس الذين أعلنوا الحَربَ.
قِيلَ لِزيدِ بنِ أَرقمَ: " كم غَزا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن غَزوةٍ؟ قال: تِسعَ عشرةَ. قِيلَ: كم غَزوتَ أنت معه؟ قال: سبعَ عشرةَ. قِيلَ: فأَيُّهم كانت أوَّلَ؟ قال: الْعُسَيْرَةُ، أَوِ الْعُشَيْرُ.
وقعت غَزوةُ العُشَيْرَةِ قبلَ وَقعةِ بدرٍ، سَلَكَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على نَقْبِ بني دِينارٍ، ثمَّ على فَيْفاءِ الخَبارِ فنزل تحت شجرةٍ ببَطْحاءَ ابنِ أَزهرَ يُقالُ لها: ذاتُ السَّاقِ. فصَلَّى عندها... وصُنِعَ له عندها طعامٌ فأكل منه وأكل النَّاسُ معه... واسْتُقِيَ له مِن ماءٍ به يُقالُ له: المُشْتَرِبُ، ثمَّ ارْتَحل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائقَ بيَسارهِ وسلك شُعبةً يُقالُ لها: شُعبةُ عبدِ الله... ثمَّ صَبَّ لليَسارِ حتَّى هبَط يَلْيَلَ فنزل بِمُجتَمعِه ومُجتمعِ الضَّبُوعَةِ، واسْتَقى مِن بئرٍ بالضَّبُوعَةِ، ثمَّ سلك الفَرْشَ فَرْشَ مَلَلٍ حتَّى لَقِيَ الطَّريقَ بصحيرات بِصُخَيْراتِ اليَمامِ، ثمَّ اعتدل به الطَّريقُ حتَّى نزل العُشَيْرَةَ مِن بطنِ يَنْبُعَ فأقام بها جُمادى الأُولى ولياليَ مِن جُمادى الآخرةِ، وادَع فيها بني مُدْلِجٍ وحُلفاءَهُم مِن بني ضَمْرَةَ ثمَّ رجع إلى المدينةِ ولمْ يَلْقَ كَيْدًا.
انْتدَب ثلاثةٌ مِن الخَوارجِ، وهُم: عبدُ الرَّحمنِ بن مُلْجِمٍ المُراديُّ، والبَرْكُ بن عبدِ الله التَّميميُّ، وعَمرُو بن بكرٍ التَّميميُّ، فاجتمعوا بمكَّةَ، فتَعاهَدوا وتَعاقَدوا لَيَقْتُلَنَّ هؤلاء الثَّلاثةُ: عَلِيَّ بن أبي طالبٍ رضِي الله عنه، مُعاويةَ بن أبي سُفيانَ، وعَمرَو بن العاصِ، ويُريحوا العِبادَ منهم، فقال ابنُ مُلْجِمٍ: أنا لِعَلِيٍّ. وقال البَرْكُ: أنا لِمُعاويةَ، وقال الآخرُ: أنا أَكْفِيكُم عَمْرًا، فتَواثَقوا أن لا يَنكُصوا، واتَّعَدوا بينهم أن يَقَعَ ذلك ليلةَ سبعَ عشرةَ مِن رمضانَ، ثمَّ تَوجَّه كلُّ رجلٍ منهم إلى بلدٍ بها صاحِبُه، فقَدِمَ ابنُ مُلْجِمٍ الكوفةَ، وبَقِيَ ابنُ مُلْجِمٍ في اللَّيلةِ التي عزَم فيها على قَتْلِ عَلِيٍّ يُناجي الأشعثَ بن قيسٍ في مَسجدِه حتَّى طلَع الفجرُ، فقال له الأشعثُ: ضَحِكَ الصُّبحُ، فقام وشَبِيبٌ فأخَذا أَسْيافَهُما، ثمَّ جاءا حتَّى جلَسا مُقابِلَ السُّدَّةِ التي يَخرُج منها عَلِيٌّ، فضرَب عَلِيًّا بسَيْفِه المَسمومِ على رَأسِه، فلمَّا قُتِلَ أَخَذوا عبدَ الرَّحمنِ بن مُلْجِمٍ وعَذَّبوهُ فقَتَلوهُ. وكانت مُدَّةُ خِلافةِ عَلِيٍّ خمسَ سنين، فجَزاهُ الله عن المسلمين خيرًا، ورضِي عنه وأَرضاهُ، وهو أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ.
وَفَدَ لدمشق رجلٌ من بلاد التتار يقال له الشيخُ براق الرومي- كان في الأصل مريدًا لبعض الشيوخِ في البلاد الروميَّة- في تاسع جمادى الأولى، ومعه جماعةٌ من الفقراء نحو المائة لهم هيئةٌ عجيبةٌ، وعلى رؤوسِهم كلاوت لباد مقصَّصة بعمائِمَ فوقها، وفيها قرونٌ من لباد شبه قرون الجاموس فيها أجراسٌ، ولِحاهم مُحَلَّقة دون شواربهم خلافًا للسنَّة، ولُبسُهم لبابيدُ بيضاء، وقد تَقَلَّدوا بحبالٍ منظومة بكعاب البقر، وكلٌّ منهم مكسور الثنية العُليا، وشيخُهم من أبناء الأربعين سنة، وفيه إقدامٌ وجرأة وقوَّةُ نفس وله صولة، ومعه طبلخاناه- فرقة الطبول والأبواق- تدق له نوبة، وله محتَسِبٌ على جماعته يؤدِّبُ كُلَّ من ترك شيئًا من سُنَّتِه بضرب عشرينَ عصًا تحت رجلَيه، وهو ومن معه ملازِمونَ التعبُّدَ والصلاة، وأنه قيل له عن زِيِّه، فقال: أردتُ أن أكونَ مَسخرةَ الفُقراءِ، وذكر أن غازان لما بلغه خَبَرُه استدعاه وألقى عليه سَبُعًا ضاريًا، فزجره فهرب منه السَّبُع، فجَلَّ في عين غازان ونثر عليه عشرة آلاف دينار، وطلب دخولَ مصرَ لكِنَّه مُنِعَ من ذلك، فسار إلى القدسِ، ثم رجع إلى بلاده لأنَّه لم يلقَ قَبولًا في دمشق، وبراق هذا أصلُه من الروم.
أرسل السلطانُ الظاهر برقوق من يستجلي أخبارَ تيمورلنك، فجاءت الأخبار وورد البريد بأنَّ تيمورلنك كبس قرا محمد وكَسَره، ففَرَّ منه في نحو مائتي فارس، ونزل قريب ملطية، ونزل تيمورلنك على آمد، فاستدعى السلطانُ القضاة والفقهاء والأمراء وتحدث في أخذ الأوقافِ من الأراضي الخراجيَّة، فكَثُر النِّزاعُ، وآل الأمر إلى أنه يأخُذُ مُتحَصَّل الأوقاف لسنةٍ، ورسم السلطانُ بتجهيز أربعة من الأمراء الألوف، وهم الأميرُ ألطنبغا المعلم أمير سلاح، والأمير قردم الحسني، والأمير يونس الدوادار، والأمير سودن باق، وسبعة من أمراء الطبلخاناه، وخمسة من أمراء العشرات، فتجهزوا وعُيِّنَ معهم من أجناد الحلقة ثلاثمائة فارس، وخرجوا من القاهرة في أول رجب، فساروا إلى حلب، وبها يومئذٍ في نيابة السلطنة سودن المظفري، وقَدِمَ الخبَرُ بوقعة بين قرا محمد وولد تيمورلنك انكسَرَ فيها ابن تيمورلنك، وفي تاسع عشر رجب رُسِمَ للقاضي جمال الدين محمود محتَسِبِ القاهرة بطلبِ التجَّار وأرباب الأموال، وأخْذِ زكَوات أموالهم، وأن يتولى قاضي القضاة الحنفية شمس الدين محمد الطرابلسي تحليفَهم على ما يدَّعونَ أنَّه مِلكُهم، فعُمِلَ ذلك يومًا واحدًا، ثم رد عليهم ما أُخِذَ منهم وبَطَل، فإنَّ الخبَرَ ورد برجوع تيمورلنك إلى بلادِه.
هو الوزيرُ المؤرِّخُ خير الدين باشا التونسي، مِن رجال الإصلاحِ السياسيِّ الإسلامي، وهو شركسيُّ الأصل من القوقازي، ولِدَ سنة 1225هـ، قَدِمَ إلى تونس صغيرًا، وقضى بها مُعظَمَ حَياتِه، اتَّصَل بصاحبِها (الباي أحمد) وأثرى وتعلَّم بعض اللغات وتقلَّد مناصِبَ عديدةً عالية آخِرُها منصب رئيسِ الوزراء، وبسَعيِه أُعلِنَ دستور المملكة التونسية سنة 1284 هـ - 1867م، ولكنَّه ظَلَّ حِبرًا على ورق. وفي سنة1294 هـ - 1877م قام بعدة إصلاحاتٍ، وقاوم الحُكمَ الاستبداديَّ، وعَمِلَ على إقامة العدل، وساهم في وضعِ قوانين مجلس الشورى الذي أصبح رئيسًا له سنة 1861م، وأمام ازديادِ فسادِ الوضع السياسي في البلاد نتيجةَ سوءِ تصَرُّف المسؤولين وسَرِقاتهم قدَّم خير الدين استقالتَه من جميع وظائفِه سنة 1862، واستغرقت فترةُ انقطاعه سبع سنوات، انعزل فيها في بستانِه يتأمَّلُ ويكتب، ثم خرج إلى الأستانة وتقَرَّب من السلطان عبد الحميد العثماني، فولاه الصدارةَ العظمى سنة 1295 هـ فحاول إصلاحَ الأمورِ، فأعياه، فاستقال سنة 1296هـ ونُصِب (عضوًا) في مجلس الأعيان، فاستمَرَّ إلى أن توفي بالأستانة. له كتابٌ في سياسة الإصلاحِ مَعروفٌ باسم "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك".
وصل الحُجَّاج إلى منى، ولم يتمَّ الحجُّ لأكثر الناس؛ لصَدِّهم عن دخول مكة والطواف والسعي، فمن دخل يومَ النحر مكَّةَ وطاف وسعى كَمُل حجه، ومن تأخر عن ذلك مُنِعَ دخولَ مكَّةَ؛ لفتنةٍ جرت بين أمير الحاجِّ وأمير مكة، كان سببُها أن جماعة من عبيد مكَّةَ أفسدوا في الحاجِّ بمنى، فنفَرَ عليهم بعضُ أصحاب أمير الحاج، فقتلوا منهم جماعة، ورجعَ مَن سلم إلى مكة، وجمعوا جمعًا وأغاروا على جمالِ الحاجِّ، وأخذوا منها قريبًا من ألفِ جمل، فنادى أمير الحاج في جُندِه، فركبوا بسلاحِهم، ووقع القتالُ بينهم، فقُتِلَ جماعة، ونُهِبَ جماعةٌ من الحاجِّ وأهل مكة، فرجع أميرُ الحاج ولم يدخل مكة، ولم يُقِم بالزاهر غيرَ يوم واحد، وعاد كثيرٌ من الناس رجَّالة؛ لقلة الجمال، ولَقُوا شِدَّة.
كان شهابُ الدين إلياس بن إيلغازي بن أرتك، صاحب قلعة البيرة، قد سار في عسكره، وهو في مائتي فارس، إلى نور الدين وهو بعشترا، فلما وصل إلى قرية اللبوة، وهي من عمل بعلبك، رَكِبَ متصَيِّدًا، فصادف ثلاثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للإغارة على بلاد الإسلام سابع عشر شوال، فوقع بعضُهم على بعض، واقتتلوا واشتَدَّ القتال، وصبَرَ الفريقان لا سيما المسلمون، فإنَّ ألف فارس لا يصبرون لحملة ثلاثمائة فارس إفرنجية، وكَثُرَ القتلى بين الطائفتين، فانهزم الفرنجُ، وعَمَّهم القتلُ والأسر، فلم يُفلِتْ منهم إلَّا من لا يُعتَدُّ به، وسار شهاب الدين برؤوس القتلى والأسرى إلى نور الدين، فركب نور الدين والعسكر، فلقوهم، فرأى نور الدين في الرؤوس رأسَ مُقَدَّم الإسبتار، صاحب حصن الأكراد، وكان من الشجاعة بمحلٍّ كبير، وكان شَجًا في حلوقِ المسلمين.
كثُرَت الحرائقُ بالقاهرة ومِصرَ في مدَّة سفر السلطان الظاهر بيبرس، وأُشيعَ أنَّ ذلك من النصارى، ونزل بالناسِ مِن الحريق في كلِّ مكان شدَّةٌ عظيمة، ووُجِدَ في بعض المواضع التي احترقت نفطٌ وكبريت، فأمر السلطانُ بجمع النصارى واليهود، وأنكر عليهم هذه الأمورَ التي تفسَخُ عهدهم وأمَرَ بإحراقهم، فجُمِعَ منهم عالمٌ عظيم في القلعة، وأُحضِرَت الأحطاب والحلفاء، وأُمِرَ بإلقائهم في النار، فلاذُوا بعفوه وسألوا المنَّ عليهم، وتقَدَّم الأمير فارس الدين أقطاي أتابك العساكر فشَفَعَ فيهم، على أن يلتزموا بالأموالِ التي احتَرَقت، وأن يحملوا إلى بيتِ المال خمسين ألف دينار، فأفرج عنهم السلطانُ الظاهر، وتولى البطرك توزيعَ المال، والتزموا ألا يعودوا إلى شيءٍ مِن المنكرات، ولا يخرجوا عمَّا هو مرتب على أهلِ الذمَّة، وأُطلِقوا.
هو الإمامُ البليغُ النَّحوي بدرُ الدين أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ محمد بن الإمام العلامة الأوحد جمال الدين عبد الله بن مالك، الإمامُ البليغ النحوي بدر الدين ابن الإمام العلامة جمال الدين الطائي الجياني ثم الدمشقي شارح الألفية التي لأبيه، وهو من أحسَنِ الشروحِ وأكثَرِها فوائد، كان إمامًا ذكيًّا فَهِمًا حادَّ الخاطر، إمامًا في النحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والمنطق، جَيِّدَ المشارَكةِ في الفقهِ والأصولِ، أخذ عن والده وسكن بعلبَكَّ فقرأ عليه بها جماعةٌ منهم بدر الدين بن زيد، فلما مات والده طلب إلى دمشق ووَلِيَ وظيفةَ والِدِه وسكنها وتصدى للأشغالِ والتصنيفِ, وكان لطيفًا ظريفًا فاضلًا، كانت وفاته يومَ الأحدِ الَّثاِمَن من المحرم، ودفن من الغد بباب الصغير بدمشقَ.
لما انقضت مدة الصلح بين المسلمين بغرناطة وبين الطاغية صاحب قشتالة، أبى الطاغية الصلح، فبعث السلطان أبو سعيد عثمان صاحب ماس عشرين غرابًا أوسقها بالعدد والزاد، وجهز ثلاثة آلاف فارس، قدم عليهم القائد مارح، وجعل الشيخ عمر بن زيان الوساطي على ألف فارس أخرى، فنزلوا سبتة، وجهز أبو عبد الله محمد بن أبي الحجاج يوسف -صاحب غرناطة- أسطوله إلى جبل الفتح، فلقيهم أسطول الطاغية بالزقاق في يوم الجمعة السادس عشر، وقاتلهم، وقد اجتمع أهل فاس وأهل غرناطة، فكانت النصرة للفرنج، ولم ينجُ من المسلمين إلا القليل، وغنم الفرنج المراكبَ كلها بمن فيها وما فيها، فكانت مصيبة عظيمة، تكالب فيها الفرنج على المسلمين، وقوي طمعُهم فيهم.
في ليلة الجمعة السادس والعشرين جمادى الأولى وقع بمكة المشرفة مطر غزير، سالت منه الأودية، وحصل منه أمر مهول على مكة؛ بحيث صار الماء في المسجد الحرام مرتفعًا أربعة أذرع، فلما أصبح الناس يوم الجمعة ورأوا المسجد الحرام بحر ماء، أزالوا عتبة باب إبراهيم، حتى خرج الماء من المسفلة، وبقي بالمسجد طين في سائر أرضه قَدْر نصف ذراع في ارتفاعه، فانتدب عدة من التجار لإزالته، وتهدم في الليلة المذكورة دور كثيرة، يقول المكثِر: زيادة على ألف دار، ومات تحت الردم اثنا عشر إنسانًا، وغرق ثمانية أنفس، ودلف سقف الكعبة، فابتلَّت الكسوة التي بداخلها، وامتلأت القناديل التي بها ماء، حدث ذلك السيل بمكة وأوديتها، وبطرق اليمن.