فسدت طبيعةُ الانكشاريين وتغَيَّرت أخلاقهم، وتبدلَّت مهمَّتُهم، وأصبحوا مصدرًا للبلاءِ للدولة والشعوب التابعة لها، وصاروا يتدخَّلون في شؤونِ الدولة وتعَلَّقت أفئدتُهم بشهوةِ السلطة وانغمَسوا في الملذات والمحرمات، وشق عليهم أن ينفِروا في برودة الشتاءِ، وفرضوا العطايا السلطانية، ومالوا إلى النَّهبِ والسلب حين غَزوا البلاد، وتركوا الغاية التي من أجلِها وُجِدوا، وغَرَقوا في شرب الخمور، وأصبحت الهزائِمُ تأتي من قِبَلهم بسبب تَركِهم للشريعة والعقيدة والمبادئ، وبُعدِهم عن أسباب النصر الحقيقية، وقاموا بخَلعِ وقَتلِ السلاطين، فجمع السلطانُ مجموعة من أعيان الدولة وكبار ضبَّاط الانكشارية في بيتِ المفتي، ثم أفتى المفتي بجوازِ العمل للقضاء على المتمَرِّدين. وقد أعلن الموافقةَ كُلُّ من حضر من ضباط الانكشارية مِن حيث الظاهِرُ، وأبطنوا خلافَ ذلك، ولما شعروا بقُربِ ضياع امتيازاتهِم وبوضع حدٍّ لتصرُّفاتهم، أخذوا يستعدون للثورة، واستجاب لهم بعضُ العوام. وفي 8 ذي القعدة عام 1241هـ بدأ بعضُ الانكشاريين بالتحَرُّش بالجنود أثناء أدائِهم تدريباتهم، ثم بدؤوا في عصيانهم، فجمع السلطان العلماءَ وأخبرهم بنيَّةِ المتمردين فشَجَّعوه على استئصالهم، فأصدر الأوامر للمدفعية حتى تستعِدَّ لقتالهم ملوِّحًا باللين والتساهل في الوقتِ نفسِه؛ خوفًا من تزايُدِ لهيب شرورهم. وفي صباح 9 ذي القعدة تقَدَّم السلطان ووراءه جنودُ المدفعية وتَبِعَهم العلماء والطلبة إلى ساحة (آت ميداني) حيث اجتمع العصاةُ هناك يثيرون الشَّغبَ، وقيل: إن السلطانَ سار معه شيخ الإسلام قاضي زادة طاهر أفندي والصدر الأعظم سليم باشا أمام الجُموعِ التي كانت تزيد على 60.000 نفسٍ، ثم أحاطت المدفعية بالميدانِ واحتَلَّت المرتفعات ووجَّهت قذائِفَها على الانكشارية، فحاولوا الهجومَ على المدافع ولكِنَّها صَبَّت حمَمَها فوق رؤوسهم، فاحتَمَوا بثكناتهم هروبًا من الموت، فأحرقت وهدمت فوقَهم وكذلك تكايا البكتاشية، وبذلك انتصر عليهم. وفي اليوم التالي صدر مرسومٌ سلطاني قضى بإلغاء فِئَتِهم وملابسهم واصطلاحاتهم وأسمائهم من جميعِ بلاد الدولة، وقتل من بقي منهم هاربًا إلى الولاياتِ أو نفيه، ثم قلَّد حسين باشا الذي كانت له اليدُ الطولى في إبادتهم قائدًا عامًّا (سرعسكر) وبدأ بعدها نظامُ الجيش الجديد، ثم أصبح السلطان محمود بعد ذلك حرًّا في تطوير جيشه، فترَسَّم خطى الحضارة الغربية، فاستبدل الطربوش الرومي بالعمامة، وتزيَّا بالزيِّ الأوروبي، وأمر أن يكونَ هو الزيَّ الرسميَّ لكُلِّ موظَّفي الدولة؛ العسكريين منهم والمدنيين، وأسَّس وسامًا دعاه وسامَ الافتخارِ، فكان أوَّلَ من فعل ذلك من سلاطين آلِ عثمان، وما قام به السلطان محمود من استبدال الطربوش بالعِمامةِ وفرْض اللِّباس الأوروبي على كافَّةِ المجموعات العسكرية: يدُلُّ على شعورهِ العميق بالهزيمة النفسيَّة.
 			
								 هو الشَّيخ العلَّامةُ محمَّدُ الأمين بنُ محمَّد المختارِ بنِ عبد القادر الشِّنقيطي الجَكَني الحِمْيري، وُلِدَ سنةَ 1325هـ في شِنْقيط في كيفا شرق موريتانيا، ونشَأَ يتيمًا في بيوت أخوالِه، وحفِظ القرآنَ وهو ابنُ عشْرِ سِنينَ، وتعلَّم رسْمَ المصحفِ على يَدِ ابن خالِه، وأخَذ الأدَب وعُلوم اللُّغة على يَدِ زوجةِ خالِه، فكانت مَدرستُه الأولى بَيتَ خالتِه، تعلَّم الفِقْه المالكيَّ، وهو السائدُ في بِلاده، فدرَس مُختصَر خليلٍ على يَد الشيخِ محمَّد بنِ صالح إلى قسْم العبادات، ثم درَس عليه أيضًا ألفيةَ ابن مالكٍ، ثم تعلَّم عُلوم القرآنِ من التَّفسير والمعاني والقِراءاتِ. تعلَّم الشِّنقيطي على مَشايخَ مُتعدِّدين، وكلُّهم من الجَنَكيين، وهي القَبيلةُ التي ينْتمي إليها، وكانت مَعروفةً بالعِلم، برَع في العُلوم كلِّها حتى فاق أقرانَه، أراد مكَّة حاجًّا وزائرًا، وأرادَه اللهُ معلِّمًا ومفسِّرًا، إنْ تَحدَّث في التفسيرِ خِلْتَه الطبَريَّ، وإنْ أنشَأَ في الشِّعر حَسِبتَه المتنبِّي، وإنْ جال في الحديثِ وعُلومِه ظنَنتَه ابنَ حَجَرٍ العَسْقلاني، فكان رحِمه الله مفسِّرًا، ومحدِّثًا، وشاعرًا، وأديبًا. خرَج قاصدًا الحجَّ من بلادِه سنةَ 1367هـ، ثم استقرَّ في المدينةِ النَّبوية، ودرَّس في المسجدِ النَّبوي، وفي سَنةِ 1371هـ افتُتِح معهدٌ عِلْمي بالرياضِ، وكُلِّيةٌ للشَّريعة وأُخْرى للُّغة، واختِيرَ الشيخ للتَّدريس بالمعهد والكُلِّيتينِ؛ فتولَّى تدْريسَ التفسيرِ والأصول. مكَث الشَّيخ بالرِّياضِ عشْرَ سَنواتٍ، وكان يقضي الإجازةَ بالمدينةِ لِيُكمِلَ التفسيرَ، وكان يدرِّس في مسجدِ الشيخ محمَّد آلِ الشيخ في الأُصول، كما كان يخُصُّ بعْضَ الطلَّاب بدرْسٍ آخَرَ في بيتِه، وقد كان بيتُه أشبهَ بمدرسةٍ يَؤُمُّها الصغيرُ والكبيرُ، والقريبُ والبعيد، ثم عاد إلى المدينةِ لمَّا أُنشِئَت الجامعة الإسلاميَّةُ سنةَ 1381هـ، فكان الشيخُ عَلَمًا من أعلامِها، ووَتَدًا من أوتادِها، يَرجِعُ إليه طُلَّابها كما يَرجِع إليه شيوخُها، وفي سنةِ 1386هـ افتُتِح معهدُ القضاءِ العالي بالرِّياض، فكان الشيخُ يَذهبُ لإلْقاء المحاضراتِ المطلوبةِ في التفسير والأصولِ، ولمَّا شُكِّلت هَيئةُ كِبار العلماءِ عيٍّن عضوًا فيها، وكان رئيسًا لإحدى دَوراتها، كما كان عضوًا في رابطةِ العالَمِ الإسلامي.
 كان رحِمه الله بحْرًا لا ساحلَ له من العِلْم والحفْظ، والإتقانِ والضبْط، وتَدلُّ مَصنَّفاته على غَزيرِ عِلمه وكَمال ورَعِه؛ فمِن أشهرِها: ((أضواءُ البيانِ في إيضاح القرآنِ بالقرآن))، و ((منْعُ جَواز المجازِ في المنزَّل للتعبُّد والإعجازِ))، و ((دفعُ إيهامِ الاضطرابِ عن آيات الكتابِ))، و ((مُذكِّرة في أُصول الفِقه على رَوضة الناظِر))، و ((آدابُ البحثِ والمناظَرة))، و ((شرحٌ على مَراقي السُّعود في الأُصول))، وغيرها مِن المؤلَّفات التي أفاد بها العالَمَ الإسلاميَّ، وكانت وفاتُه رحمه الله في مكَّة وغُسِّل في بَيته في مكَّة في شارع المنصورِ، وصلَّى عليه الشيخ عبدُ العزيز بن بازٍ في المسجِدِ الحرام بعدَ صلاة الظُّهر، ودُفِن بمَقبرةِ المعلَّاة بريع الحَجونِ بمكَّة المكرَّمة. 			
ولد محمد علي في مدينة قَوَلة الساحلية في جنوب مقدونيا عام 1769م، وهو تركي عثماني لا يمتُّ للألبانيين ولا لصقالبة مقدونية ولا يونانها بسببٍ ولا نسب، لكنَّه حين قدم مصر جاء مع الفرقة الألبانية التي أرسلها السلطانُ العثماني إلى مصر؛ ممَّا أشكَلَ أمره على البعض، فحسِبَ أنَّ له أصلًا ألبانيًّا! وكان محمد علي قد اختاره المصريون ليكون واليًا على مصر، فبعد جلاء الفرنسيين عن مصرَ استطاع محمد علي أن يسيطرَ على الوضع، وأن يحوز رضا العلماء والتجَّار والأعيان، حتى نادَوا به واليًا على مصر، وبعثوا برسالة للسلطان العثماني يطالبونه بتعيين محمد علي واليًا علي مصر، فاستجاب لرغبتهم، فتمَّ إعلانه واليًا على مصر في 17 مايو 1805م, كما كان لثورة عمر مكرم الشعبية أثرٌ في إبعاد خورشيد باشا عن حكم مصر وتهيئتها لمحمد علي الذي استقرَّ على أريكة الحكم في مصر هذا العام، وظل يحكمُها نحو 43 سنة، فقضى على المماليك في مذبحة القلعة الشهيرة، وكانوا مراكِزَ القوى ومصدرَ القلاقل السياسية، ممَّا جعل البلد في فوضى. وقضى على الإنجليز في معركة رشيد، وأصبحت مصر تتسم بالاستقرار السياسي لأوَّلِ مرة تحت ظلالِ الخلافة العثمانية. وبدأ محمد علي بتكوين أولِ جيشٍ نظامي في مصر الحديثة. وكان بدايةً للعسكرية المصرية في العصر الحديثِ، تمكَّن محمد علي أن يبنيَ في مصر دولةً عصرية على النسَقِ الأوروبي، واستعان في مشروعاتِه الاقتصادية والعلمية بخُبراء أوروبيين، ومنهم بصفةٍ خاصة السان سيمونيون الفرنسيون، الذين أمضوا في مصر بضع سنوات في الثلاثينات من القرن التاسع عشر.
في هذه السَّنَةِ استَولَى الفِرنجُ على مَدينةِ طُليطِلة من بِلادِ الأندلس، وأَخذُوها من المسلمين، وهي من أَكبرِ البلادِ وأَحصَنِها. وسببُ ذلك أن الأذفونش، (ألفونسو السادس) مَلِكَ قشتالة، كان قد قَوِيَ شَأنُه، وعَظُمَ مُلكُه، وكَثُرت عَساكِرُه، مُذ تَفرَّقَت بِلادُ الأندلس، وصار كلُّ بَلدٍ بِيَدِ مَلِكٍ، كما دَبَّ النِّزاعُ بينهم واستَعانوا بالفِرنجَةِ على بَعضٍ، فحينئذٍ طَمِعَ الفِرنجُ فيهم، وأَخَذوا كَثيرًا من ثُغورِهم. وكان ألفونسو خَدَمَ صاحِبَ طُليطلة القادرَ بالله بنَ المأمونِ بن يحيى بن ذي النونِ، وعاش في طُليطلة سَنواتٍ، فعَرِفَ مِن أين يُؤتَى البلدُ، وكيف الطريقُ إلى مُلْكِها, ولم يكن أحدٌ من مُلوكِ الطَّوائفِ قادِرًا على نَجْدَتِها، حتى إنَّ المُعتَمِدَ بن عبَّاد صاحِبَ أشبيلية وهو أَقوَى مُلوكِ الطَّوائفِ لمَّا رَأى استِفحالَ أَمرِ ألفونسو وقُوَّتَه رَأى أن يَعقِدَ مُهادَنةً وصُلْحًا معه يَأمَن بها على أَراضِيه، فبَعَثَ وَزيرَهُ ابنَ عمَّارٍ لِيَتفاوَضَ مع ألفونسو، وتَمَّت المُعاهدَةُ والاتِّفاقُ على بُنودٍ منها: أن يُؤَدِّي المُعتَمِدُ الجِزيةَ سَنويًّا, ويُسمَح للمُعتَمِد بِغَزْوِ أراضي طُليطلة الجنوبية على أن يُسَلِّم منها إلى ألفونسو الأراضي الواقعةَ شمالي طليطلة, و لا يَعتَرِض المُعتَمِد على استِيلاءِ ألفونسو على طُليطلة, وفي شَوَّال سَنةَ 474هـ ضَربَ ألفونسو الحِصارَ على طُليطلة، وشَدَّدَ غاراتَه عليها، وظلَّ على ذلك أَربعَ سَنواتٍ كاملةً؛ يُخَرِّب في الزُّروعِ والأراضي والقُرى، وعاشَ الناسُ في ضِيقٍ وكَربٍ، وليس بين المسلمين مُجِيرٌ، قال ابنُ بسام: "دَخلَ على الأذفونش يومئذٍ جَماعةٌ فوَجَدوه يَمسَح الكرى من عَينيهِ، ثائرَ الرَّأسِ، خَبيثَ النَّفْسِ، فأَقبلَ عليهم بوَجهٍ كَريهٍ، وقال لهم: إلى متى تَتَخادَعون، وبأيِّ شَيءٍ تَطمعون؟ قالوا: بِنا بُغيَةٌ، ولنا في فُلانٍ وفُلانٍ أُمنِيَّةٌ، وسَمُّوا له بَعضَ مُلوكِ الطَّوائفِ، فصَفَّقَ بِيَديهِ، وتَهافَت حتى فَحَصَ برِجلَيهِ، ثم قال: أين رُسُلُ ابنِ عبَّادٍ؟ فجِيءَ بهم يَرفُلون في ثِيابِ الخَناعَةِ، وينبسون بأَلسِنَةِ السَّمعِ والطَّاعةِ. فقال لهم: مُذ كم تَحُومون عليَّ، وتَرومون الوصولَ إليَّ؟ ومتى عَهْدِكم بفُلانٍ؟ وأين ما جِئتُم به ولا كُنتم ولا كان؟ فجاءوا بجُملَةِ مِيرَةٍ، وأَحضَروها, ثم ما زادَ على أن رَكَلَ ذلك برِجلِه، وأَمَرَ بانتِهابِه كُلِّهِ؛ ولم يَبقَ مَلِكٌ من مُلوكِ الطَّوائفِ إلا أَحضرَ يَومئذٍ رُسُلَه، وكانت حالُه حالَ مَن كان قَبلَه. وجَعلَ أَعلاجَه يَدفَعون في ظُهورِهم، وأَهلُ طُليطلة يَعجَبون مِن ذُلِّ مَقامِهم ومَصيرِهم، فخَرجَ مَشيَختُها من عندِه وقد سُقِطَ في أَيدِيهم. وطَمِعَ كلُّ شيءٍ فيهم. وخَلُّوا بينه وبين البلدِ، ودَخلَ طُليطلة على حُكمِه، وأَثبَتَ في عَرصَتِها قَدَمَ ظُلمِه، حُكْمٌ مِن الله سَبَقَ به القَدَرُ، وخَرجَ ابنُ ذي النون خائبًا مما تَمَنَّاهُ، حدَّثنِي مَن رَآهُ يَومئذٍ بتلك الحالِ وبِيَدِه اصطرلاب يَرصُد فيه أيَّ وَقتٍ يَرحَل، وعلى أيِّ شَيءٍ يُعَوِّل، وأيَّ سَبيلٍ يَتَمَثَّل، وقد أَطافَ به النَّصارَى والمسلمون، أولئك يَضحَكون مِن فِعْلِه، وهؤلاء يَتَعجَّبون مِن جَهلِه. وعَتَا الطاغِيةُ الأذفونش -قَصَمَهُ الله- لحين استِقرارِه بطُليطلة واستَكبَر، وأَخَلَّ بمُلوكِ الطَّوائفِ في الجَزيرَةِ وقَصَّرَ، وأَخذَ يَتَجنَّى ويَتَعتَّب، وطَفِقَ يَتَشَوَّف إلى انتِزاعِ سُلطانِهم والفَراغِ مِن شانِهم" في الوقتِ الذي كانت قُوَّاتُ ألفونسو تُحاصِر فيه طُليطلة كان مُلوكُ الطَّوائفِ يُقَدِّمُون مِيثاقَ الوَلاءِ والمَحَبَّةِ له؛ مُمَثَّلَةً في الجِزيَةِ والإتاوَةِ، ولم يَجرُؤ أَحدٌ منهم على الاعتِراضِ عليه في ذلك إلاَّ المُتَوكِّل بن الأَفطَس الذي أُخْرِج من طُليطلة قُبيلَ دُخولِ الطَّاغيةِ، وفي الوقتِ نَفسِه الذي تُحَاصَر فيه طُليطلة كانت مَمالكُ الطَّوائفِ الأُخرى تَتَنازَع فيما بينها، أو تَرُدُّ غاراتِ النَّصارَى المُتواصِلَة عليها. ثم قام ألفونسو باتِّخاذِ طُليطلة عاصِمةً له وحَوَّلَ مَسجِدَها إلى كَنيسةً.
لَمَّا مَلَك الخطا بلادَ ما وراءَ النَّهرِ، خَرَجَ منها الغُزُّ الأتراكُ وهم طائفةٌ مِن مُسلِمي التُّركِ، كانوا بما وراء النَّهرِ، فقَصَدوا خراسان وكانوا خَلقًا كثيرًا، فأقاموا بنواحي بَلخٍ يَرْعَون في مراعيها، فأراد الأميرُ قماج وهو صاحِبُ بلخ، إبعادَهم، فصانعوه بشَيءٍ مِن المال بَذَلوه له، فعاد عنهم، فأقاموا على حالةٍ حَسَنةٍ لا يؤذونَ أحدًا، يُقيمونَ الصَّلاةَ, ويُؤتُونَ الزَّكاةَ, ثمَّ إنَّ قماج عاوَدَهم وأمَرَهم بالانتِقالِ عن بلَدِه، فامتَنَعوا، وانضَمَّ بَعضُهم إلى بعضٍ، واجتَمَعَ معهم غَيرُهم من طوائِفِ التُّركِ، فسار قماج إليهم في عَشرةِ آلافِ فارِسٍ، فجاء إليه أمراؤُهم وسألوه أن يَكُفَّ عنهم، ويَترُكَهم في مَراعيهم، ويُعطونَه مِن كلِّ بَيتٍ مِئَتي دِرهمٍ فِضَّة، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، وشَدَّدَ عليهم في الانتزاحِ عن بَلَدِه، فعادوا عنه، واجتَمَعوا وقاتلوه، فانضَمَّ إليه العسكَرُ الخُراساني, فلمَّا سَمِعوا بقُربِ الغز الأتراك منهم أجفَلوا مِن بينِ يَدَيه هاربين؛ لِما دخَلَ قُلوبَهم مِن خَوفِهم والرُّعبِ منهم؛ فلَمَّا فارقها السُّلطانُ سنجر والعَسكَر، دخَلَها الغز ونَهَبوها أفحَشَ نَهبٍ وأقبَحَه، وذلك في جمادى الأولى من هذه السَّنةِ، وقُتِلَ بها كثيرٌ مِن أهلِها وأعيانِها، ولَمَّا خرج سنجر مِن مَروٍ قَصَدَ إندرابة وأخَذَه الغزُّ أسيرًا، ثم عاودوا الغارةَ على مَروٍ في رَجَب مِن هذه السَّنةِ، فمَنَعَهم أهلُها، وقاتلوهم قِتالًا بَذَلوا فيه جُهدَهم وطاقَتَهم، ثمَّ إنَّهم عَجَزوا، فاستَسلَموا إليهم، فنَهَبوها أقبَحَ مِن النَّهبِ الأوَّلِ ولم يتركوا بها شَيئًا، وكان قد فارق سنجر جميعُ أمراءِ خُراسان ووزيرُه طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، ولم يَبْقَ عِندَه غيرُ نَفَرٍ يَسيرٍ مِن خواصِّه وخدَمِه، فلمَّا وصلوا إلى نيسابور أحضروا المَلِكَ سُليمان شاه بن السُّلطان محمد، فوصَلَ إلى نيسابور تاسِعَ عَشَرَ مِن جمادى الآخرة مِن هذه السَّنةِ، فاجتمعوا عليه، وخَطَبوا له بالسَّلطنةِ، وسار في هذا الشَّهرِ جَماعةٌ مِن العَسكَرِ السُّلطاني إلى طائفةٍ كَثيرةٍ مِن الغز، فأوقعوا بهم، وقَتَلوا منهم كثيرًا، وانهزم الباقونَ إلى أمرائِهم الغزيَّةِ فاجتَمَعوا معهم، ولَمَّا اجتَمَعَت العساكِرُ على المَلِك سُليمان شاه ساروا إلى مَرْوٍ يَطلُبونَ الغز، فبَرَز الغز إليهم، فساعةَ رآهم العَسكَرُ الخراساني انهزموا وولَّوا على أدبارِهم، وقَصَدوا نيسابور، وتَبِعَهم الغز، فمَرُّوا بطوس، فنَهَبوها، وسَبَوا نِساءَها، وقَتَلوا رجالَها، وخَرَّبوا مساجِدَها ومساكِنَ أهلِها، ولم يَسلَمْ مِن جَميعِ ولاية طوس إلَّا البلد الذي فيه مَشهَدُ عليِّ بنِ موسى الرضي، ومواضِعُ أُخَرُ لها أسوار، وساروا منها إلى نيسابور، فوَصَلوا إليها في شَوَّال سنة 549، ولم يَجِدوا دونها مانِعًا ولا مُدافعًا، فنهبوها نهبًا ذريعًا، وقَتَلوا أهلَها، فأكثَروا حتى ظنُّوا أنَّهم لم يُبقوا بها أحدًا، حتى إنَّه أُحصِيَ في مَحلَّتَينِ خَمسةَ عشَرَ ألفَ قَتيلٍ مِن الرجال دونَ النِّساءِ والصِّبيانِ، وسَبَوا نساءَها وأطفالها، وأخَذوا أموالهم، وبَقِيَ القتلى في الدُّروبِ كالتِّلالِ بَعضُهم فوقَ بَعضٍ، واجتَمَع أكثَرُ أهلِها بالجامِعِ المنيعي وتحصَّنوا به، فحصَرَهم الغز فعَجَزَ أهلُ نيسابور عن مَنْعِهم، فدخل الغزُّ إليهم فقَتَلوهم عن آخِرِهم، وكانوا يَطلُبونَ مِن الرَّجُلِ المال، فإذا أعطاهم الرجُلَ مالَه قَتَلوه، وقتلوا كثيرًا مِن أئمَّةِ العُلَماءِ والصَّالحينَ، وأحرقوا ما بها من خزائِنِ الكُتُبِ، ولم يَسلَمْ إلَّا بَعضُها. وحَصَروا شارستان، وهي منيعةٌ، فأحاطوا بها، وقاتَلَهم أهلُها مِن فوقِ سُورِها، وقصدوا جوين فنَهَبوها، وقاتَلَهم أهل بحراباذ من أعمالِ جوين، وبَذَلوا نفوسَهم لله تعالى، وحَمَوا بَيضَتَهم, والباقي أتى النَّهبُ والقتلُ عليه، ثمَّ قصدوا أسفرايين فنَهَبوها وخَرَّبوها، وقتلوا في أهلِها فأكثَروا، ولَمَّا فَرَغَ الغزُّ مِن جوين وأسفرايين عاودوا نيسابور، فنَهَبوا ما بَقِيَ فيها بعد النَّهبِ الأول، وكان قد لحِقَ بشَهرستان كثيرٌ مِن أهلها، فحَصَرَهم الغزُّ واستولوا عليها، ونَهَبوا ما كان فيها لأهلِها ولأهلِ نيسابور، ونهبوا الحرمَ والأطفال، وفَعَلوا ما لم يفعَلْه الكُفَّارُ مع المُسلِمينَ، وكان العَيَّارون أيضًا ينهَبونَ نيسابورَ أشَدَّ مِن نهبِ الغُز ويفعلونَ أقبَحَ مِن فِعْلِهم، ثمَّ إنَّ أمرَ الملكِ سُليمانَ شاه ضَعُفَ، وكان قبيحَ السِّيرةِ سَيِّئ التدبيرِ، وإنَّ وَزيرَه طاهِرَ بنَ فخر الملك بن نظام الملك توفِّيَ في شوال سنة 548 فضَعُفَ أمرُه، واستوزر سُلَيمان شاه بعده ابنَه نظم الملك أبا علي الحَسَن بن طاهر وانحَلَّ أمرُ دَولَتِه بالكليَّة، ففارق خراسان في صفر سنة 549 وعاد إلى جرجان، فاجتمَعَ الأُمَراءُ وراسلوا الخان محمود بن محمد بن بغراخان، وهو ابنُ أخت السُّلطان سنجر، وخَطَبوا له على منابِرِ خُراسان، واستدعَوه إليهم، فمَلَّكوه أمورهم، وانقادوا له في شوال سنة 549، وسارُوا معه إلى الغزِّ وهم يحاصِرونَ هراة، وجرت بينهم حروبٌ، كان الظَّفَرُ في أكثَرِها للغز، ورَحَلوا في جُمادى الأولى من سنة 550 مِن على هراة إلى مَرْوٍ، وعاودوا المُصادرةَ لأهلِها.
استولى أبو نصر أحمدُ بن إسماعيل السامانيُّ على سِجِستان، وسببُ ذلك أنَّه لَمَّا استقرَّ أمرُه، وثبت ملكُه في بلادِ ما وراءَ النهر، خرج في سنة 297 إلى الرَّيِّ، وكان يسكُنُ بُخارى، ثمَّ سار إلى هراة، فسيَّرَ منها جيشًا في المحرَّم سنة ثمان وتسعين إلى سِجِستان، وسيَّرَ جماعةً من أعيان قوَّاده وأمرائه، منهم أحمد بن سهل، ومحمَّد بن المظفَّر، وسيمجور الدواتي، وهو والدُ آل سيمجور ولاة خُراسان للسامانيَّة، واستعمَلَ أحمدُ على هذا الجيشِ الحسينَ بن علي المَروَروذيَّ، فساروا حتى أتوا سجستان، وبها المعدَّلُ بن علي بن الليث الصَّفَّار، وهو صاحبها، فلمَّا بلغ المعدَّلَ خَبَرُهم سيَّرَ أخاه أبا عليٍّ محمَّد بن عليِّ بن الليث إلى بُست والرخج؛ ليحمي أموالها، ويرسِل منها الميرةَ إلى سجستان، فسار الأميرُ أحمد بن إسماعيل إلى أبي عليٍّ ببُست، وجاذبه وأخذه أسيرًا، وعاد به إلى هَراة، وأمَّا الجيشُ الذي بسجستان فإنَّهم حصروا المُعدَّلَ وضايقوه، فلمَّا بلغه أنَّ أخاه أبا عليٍّ محمَّدًا قد أُخذَ أسيرًا، صالَحَ الحسينَ بنَ عليٍّ، واستأمن إليه، فاستولى الحسينُ على سجستان، فاستعمل عليها الأميرُ أحمدُ أبا صالحٍ منصورَ بن إسحاق، وهو ابنُ عمِّه، وانصرف الحسينُ عنها ومعه المعدَّلُ إلى بُخارى.
لمَّا فرَغ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن حُنينٍ بعَث أبا عامرٍ على جيشٍ إلى أَوْطاسٍ، فلَقِيَ دُرَيْدَ بنَ الصِّمَّةِ، فقُتِلَ دُريدٌ وهزَم الله أصحابَهُ، قال أبو موسى الأَشعريُّ: وبعَثني مع أبي عامرٍ عُبيدٍ الأَشعريِّ، فرُمِيَ أبو عامرٍ في رُكْبَتِهِ، رَماهُ جُشَمِيٌّ بِسَهمٍ فأَثْبَتَهُ في رُكبتِهِ، فانتَهيتُ إليه فقلتُ: يا عمِّ مَن رَماك؟ فأَشار إليه فقال: ذاك قاتِلي الذي رَماني. فقصدتُ له فلَحِقْتُهُ، فلمَّا رَآني وَلَّى، فاتَّبَعْتُه وجعلتُ أقولُ له: ألا تَسْتَحْيِي، ألا تَثْبُتُ، فكَفَّ، فاخْتلَفْنا ضَربتين بالسَّيفِ فقَتلتُه، ثمَّ قلتُ لأبي عامرٍ: قتَل الله صاحِبَك. قال: فانْزَعْ هذا السَّهمَ. فنَزعْتُه فنَزا منه الماءُ قال: يا ابنَ أخي أَقْرِئْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم السَّلامَ، وقُلْ له: اسْتَغْفِرْ لي. واسْتخلَفني أبو عامرٍ على النَّاسِ، فمكَث يَسيرًا ثمَّ مات، فرجعتُ فدخلتُ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في بيتِه على سَريرٍ مُرْمَلٍ وعليه فِراشٌ، قد أَثَّرَ رِمالُ السَّريرِ بِظَهْرِهِ وجَنْبَيْهِ، فأَخبرتُه بخَبرِنا وخَبرِ أبي عامرٍ، وقال: قُلْ له اسْتَغْفِرْ لي. فدَعا بماءٍ فتَوضَّأَ، ثمَّ رفَع يَديهِ فقال: «اللَّهمَّ اغْفِرْ لعُبيدٍ أبي عامرٍ». ورَأيتُ بَياضَ إِبْطَيْهِ، ثمَّ قال: «اللَّهمَّ اجْعَلْهُ يومَ القِيامةِ فوقَ كَثيرٍ مِن خَلقِك مِنَ النَّاسِ». فقلتُ: وَلِي فَاسْتَغْفِرْ. فقال: «اللَّهمَّ اغْفِرْ لعبدِ الله بنِ قَيسٍ ذَنْبَهُ، وأَدْخِلْهُ يومَ القِيامةِ مُدخَلًا كَريمًا» قال أبو بُردةَ: إحداهُما لأبي عامرٍ، والأُخرى لأبي موسى.
هو أبو الحسَنِ عليُّ بنُ بُوَيه، وهو أكبر أولاد بُوَيه، وأوَّلُ مَن تمَلَّك منهم، وكان عاقلًا حاذقًا حميد السيرة رئيسًا في نفسه. كان أولُ ظهورِه في سنة 322, فلما كان في هذا العام 338 قَوِيَت عليه الأسقامُ وتواترت عليه الآلامُ، فأحسَّ من نفسه بالهلاك، ولم يُفادِه ولا دفَعَ عنه أمرَ اللهِ ما هو فيه من الأموالِ والمُلك وكثرةِ الرِّجال والأموالِ، ولا رَدَّ عنه جيشُه من الديلم والأتراك والأعجام، مع كثرةِ العَدَد والعُدد، بل تخَلَّوا عنه أحوجَ ما كان إليهم، فسُبحانَ اللهِ المَلِك القادِرِ، القاهرِ العلَّام! ولم يكن له ولدٌ ذكَرٌ، فأرسل إلى أخيه ركن الدولةِ يستدعيه إليه ووَلَده عَضُد الدولة، ليجعَلَه وليَّ عَهدِه من بعده، فلمَّا قدم عليه فرِحَ به فرحًا شديدًا، وخرج بنفسِه في جميع جيشِه يتلقَّاه، فلمَّا دخل به إلى دار المملكة أجلسَه على السريرِ وقام بين يديه كأحدِ الأُمَراء؛ ليرفَعَ مِن شأنه عند أمرائِه ووزرائِه وأعوانه. وكان يومًا عظيمًا مشهودًا. ثم عقَدَ لعَضُد الدولة البيعةَ على ما يملِكُه من البلدان والأموال، وتدبيرِ المَملكة والرجال. وفيهم مِن بعضِ رُؤوسِ الأمراءِ كراهةٌ لذلك، فشَرَعَ في القبضِ عليهم، وقَتَلَ مَن شاء منهم وسَجَنَ آخرين، حتى تمهَّدَت الأمورُ لعضد الدولة. ثم كانت وفاةُ عماد الدولة بشيراز في هذه السنة، عن سبعٍ وخمسين سنةً، وكانت مُدَّةُ مُلكِه ست عشرة سنة، وكان من أقوى الملوك في زمانِه، وكان ممن حاز قَصَبَ السَّبقِ دون أقرانه، وكان هو أميرَ الأمراء، وبذلك كان يكاتِبُه الخلفاءُ، ولكِنَّ أخاه معز الدولة كان ينوبُ عنه في العراق والسواد.
لمَّا تَمَكَّنَ عبدُ الملك مِن الشَّام أراد أن يَضُمَّ لها العِراقَ، وقد قِيلَ: إن أَهلَها كاتَبوا عبدَ الملك لِيَسيرَ إليهم، وكانت العِراقُ مع ابنِ الزُّبير وواليها مُصعَبُ أَخوهُ، فسار إليه بِنَفسِه فلمَّا عَلِمَ مُصعبٌ بذلك سار إليه ومعه إبراهيمُ بن الأَشْتَرِ، وكان على المَوصِل والجزيرةِ، فلمَّا حضَر عنده جَعلَه على مُقدِّمَتِه وسار حتَّى نزل باجُمَيرَى، وهي قريبٌ مِن أَوانا، وهي مِن مَسْكِن، فعَسْكَرَ هناك، وسار عبدُ الملك وعلى مُقدِّمتِه أخوه محمَّدُ بن مَرْوان، وخالدُ بن عبدِ الله بن خالدِ بن أُسَيْدٍ، فلمَّا تَدانَى العَسْكرانِ أَرسَل عبدُ الملك إلى مُصعَبٍ رجلًا مِن كَلْبٍ وقال له: أَقْرِئْ ابنَ أُختِك السَّلامَ -وكانت أُمُّ مُصعَبٍ كَلبيَّةً- وقُلْ له يَدَعُ دُعاءَهُ إلى أَخيهِ، وأَدَعُ دُعائي إلى نَفْسي، ويَجْعَل الأمرَ شُورى. فقال له مُصعَبٌ: قُلْ له السَّيفَ بيننا. فقَدَّمَ عبدُ الملك أخاهُ محمَّدًا، وقَدَّمَ مُصعَبٌ إبراهيمَ بن الأشْتَرِ، فالْتَقيا فتَناوَش الفَريقانِ فقُتِلَ صاحِبُ لِواءِ محمَّدٍ، وجعَل مُصعَبٌ يَمُدُّ إبراهيمَ، فأزال محمَّدًا عن مَوقِفِه، فوَجَّهَ عبدُ الملك عبدَ الله بن يَزيدَ إلى أخيهِ محمَّدٍ، فاشْتَدَّ القِتالُ، فقُتِلَ مُسلِم بن عَمرٍو الباهليُّ والدُ قُتيبَة، وهو مِن أصحابِ مُصعَبٍ، وتَقَدَّمَ أهلُ الشَّام فقاتَلهم مُصعَبٌ ثمَّ عرَض عبدُ الملك الأمانَ على مُصعَبٍ فأَبَى وبَقِيَ يُقاتِلُهم، ثمَّ إنَّ كثيرًا خَذلوا مُصعبًا، وقِيلَ: لم يَبْقَ معه سِوى أربعةٍ، وكَثُرَت الجِراحاتُ بمُصْعَب فضَرَبهُ رجلٌ -يُقالُ له: عبيدُ الله بن زيادِ بن ظِبْيان التَّميميُّ- فقَتلَهُ وحمَل رَأسَهُ إلى عبدِ الملك.
الفَرَزدَق هو هَمَّام بن غالِب التَّميمِي أبو فِراس، له مَواقِف وأَشعار في الذَّبِّ عن آلِ البَيتِ، كان غالِبَ شِعْرِه الفَخْرُ، تُوفِّي وعُمُرُه يُقارِب المِائة. وجَدُّهُ صَعْصَعَة بن ناجِيَة صَحابِيٌّ، وَفَدَ إلى رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان يُحْيِي المَوْءُودَة في الجاهِلِيَّة. قال: الفَرَزدَق وَفَدْتُ مع أبي على عَلِيٍّ، فقال: مَن هذا؟ قال: ابني وهو شاعِرٌ. قال: عَلِّمْهُ القُرآنَ فهو خَيْرٌ له مِن الشِّعْرِ. قال الفَرَزدَق: نَظَر أبو هُريرةَ إلى قَدَمي فقال: يا فَرَزدَق إنِّي أَرَى قَدَمَيك صَغِيرتَين، فاطْلُب لَهُما مَوْضِعًا في الجَنَّة. فقلتُ: إنَّ ذُنوبي كَثيرَة. فقال: لا تَيْأَس. و لمَّا سُئِلَ عن قَيْدٍ في رِجْلِه قال: حَلَفْتُ أن لا أَنْزَعَه حتَّى أَحفَظَ القُرآنَ. قال له بَعضُهم: ألا تَخافُ مِن الله في قَذْفِ المُحْصَنات؟ فقال: واللهِ للهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن عَيْنَيَّ اللَّتَيْنِ أُبصِرُ بهما، فكيف يُعَذِّبُني؟. أمَّا جَرير فهو جَريرُ بن عَطِيَّة بن الخَطَفِيِّ، أبو حَزْرَةَ، الشَّاعِر البَصْرِي. اشْتَهَر جَريرٌ بِرِقَّةِ شُعورِه وحُسْنِ خُلُقِه. سَمَّتْهُ أُمُّهُ جَريرًا -وهو الحَبْلُ الغَليظُ- لأنَّ أُمَّهُ رَأتْ وهي حامِل به أنَّها وَلَدَتْ جَريرًا يعني الحَبْلَ، فسَمَّتْهُ بذلك، تُوفِّي وهو ابنُ اثنين وثمانين عامًا، وكان في عَصْرِه مِن الشُّعَراء الذين يُقارَنون به الفَرَزدَق، والأَخْطَل، وكان بين الثَّلاثة تَناظُر بالأَشْعار وتَساجُل، وكان جَريرٌ أَشْعَرَهُم وأَخْيَرَهُم. لمَّا مات الفَرَزدَق وبَلَغ خَبرُه جَريرًا بَكَى وقال: أمَّا والله إنِّي لأَعلَمُ أنِّي قَليلُ البَقاءِ بَعدَه، ولقد كان نَجْمًا واحِدًا وكُلُّ واحِد مِنَّا مَشغولٌ بِصاحِبِه، وقَلَّما مات ضِدٌّ أو صَديقٌ إلَّا وتَبِعَهُ صاحِبُه. وكذلك كان، مات جَريرٌ بَعدَه بِأَشهُر.
في أوائل ذي القعدة قُتِلَ مؤتمن الخلافة، وهو خصِيٌّ كان بقصرِ العاضد، إليه الحُكم فيه، والتقدُّم على جميع من يحويه، فاتَّفَق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى البلاد، والتقَوِّي بهم على صلاح الدين ومَن معه، وسَيَّروا الكتب مع إنسانٍ يثقون به، وأقاموا ينتَظِرون جوابه، وسار ذلك القاصدُ إلى البئر البيضاء، فلَقِيه إنسان تركماني، فرأى معه نعلين جديدين، فأخذهما منه وقال في نفسه: لو كانا مما يلبَسُه هذا الرجل لكانا خَلِقين؛ فإنه رث الهيئة، وارتاب به وبهما، فأتي بهما صلاح الدين ففتَقَهما، فرأى الكتابَ فيهما، فقرأه وسكت عليه، وكان مقصودُ مؤتمن الخلافة أن يتحَرَّك الفرنجُ إلى الديار المصرية، فإذا وصلوا إليها خرج صلاحُ الدين في العساكرِ إلى قتالهم، فيثور مؤتمنُ الخلافة بمن معه من المصريِّين على مخلفيهم فيقتلونَهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاحَ الدين، فيأتونه مِن وراء ظهره، والفرنجُ من بين يديه، فلا يبقى لهم باقية. فلما قرأ الكتابَ سأل عن كاتبه، فقيل: رجل يهودي، فأُحضِرَ، فأمَرَ بضَربِه وتقريره، فابتدأ وأسلم وأخبَرَه الخبر، وأخفى صلاح الدين الحال، واستشعر مؤتمنُ الخلافة، فلازم القصر ولم يخرج منه خوفًا، وإذا خرج لم يبعد صلاح الدين لا يظهرُ له شيئًا من الطلب، لئلا ينكرَ الحال ذلك، فلما طال الأمرُ خرج من القصر إلى قرية له تعرف بالحرقانية للتنزُّه، فلما علم به صلاح الدين أرسل إليه جماعة، فأخذوه وقتلوه وأتوه برأسِه، وعزل جميعَ الخدم الذين يتولَّون أمر الخلافة، واستعمل على الجميع بهاء الدين قراقوش، وهو خَصِيٌّ أبيض، وكان لا يجري في القَصرِ صغيرٌ ولا كبير إلا بأمره وحُكمِه، فغضب السودان الذين بمصر لقَتلِ مؤتمن الخلافة حَمِيَّة، ولأنه كان يتعصَّبُ لهم، فحشدوا وأجمعوا، فزادت عدتُهم على خمسين ألفًا، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحيَّة، فاجتمع العسكرُ أيضًا وقاتلوهم بين القصرين، وكثر القتلُ في الفريقين، فأرسل صلاح الدين إلى محلَّتِهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادِهم وحرَمِهم، فلما أتاهم الخبَرُ بذلك ولَّوا منهزمين، فركبهم السَّيفُ، وأُخِذَت عليهم أفواه السكك، فطلبوا الأمان بعد أن كثُرَ فيهم القتل، فأجيبوا إلى ذلك، فأُخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم وزيرُ الدولة توارن شاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر، فأبادهم بالسَّيفِ، ولم يبقَ منهم إلا القليلُ الشريد، وكفى الله تعالى شَرَّهم.
بعد أن انتهَت مدة الرئاسة المقَرَّرة بالدستور الإيراني للرئيس علي خامنئي، وكانت قد مُدِّدت ولايتُه شهرًا آخَرَ، وانتُخِب علي خامنئي مدةَ شَهرين ريثَما تنتهي مآتمُ عاشوراءَ، وتتم بعض التعديلات على الدستور، جرَت الانتخاباتُ النيابيةُ، وفاز بها علي أكبر رفسنجاني الذي أقسَمَ اليمينَ الدستورية في 15 محرم 1409هـ / 17 آب 1989م.
لمَّا خرَج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصطلِقِ لِغَزوِهِم أَقرعَ بين نِسائِه مَن يَخرُج معه، فكانت القُرعَةُ على عائشةَ الطَّاهرةِ رضي الله عنها وأَرضاها، وفي طريقِ العَودةِ كانت تُحمَلُ على هَودجٍ، فقدَّرَ الله في ذلك اليومِ أن تكونَ خارجَ هَودَجِها لِتبحثَ عن عِقْدٍ سقَط منها، فلمَّا أرادوا الرَّحيلَ لم يَشعُروا بعدمِ وُجودِها ورَحلوا؛ فقد كانت صَغيرةً خَفيفةَ الوَزنِ، فلمَّا رجعت لم تَرَهُم. قالت عائشةُ رضِي الله عنها: (فتَيَمَّمْتُ مَنزلي الذي كنتُ فيه، وظَننتُ أنَّ القومَ سَيفْقِدوني فيَرجِعون إليَّ، فبينا أنا جالسةٌ في مَنزلي غَلبتْني عَيني فنِمْتُ، وكان صَفوانُ بنُ المُعَطَّلِ السُّلميُّ ثمَّ الذَّكْوانيُّ قد عَرَّسَ مِن وَراءِ الجيشِ فأَدْلَجَ، فأصبحَ عند مَنزلي فرَأى سَوادَ إنسانٍ نائمٍ، فأتاني فعَرفَني حين رآني، وقد كان يَراني قبلَ أن يُضرَبَ الحِجابُ عَليَّ، فاسْتيقَظتُ بِاسْتِرجاعِه حين عَرفَني، فخَمَّرتُ وجهي بِجِلبابي، ووالله ما يُكلِّمُني كَلمةً، ولا سمِعتُ منه كَلمةً غيرَ اسْتِرجاعِه، حتَّى أناخ راحلتَه، فوَطِئَ على يَدِها فرَكِبتُها، فانطلق يَقود بي الرَّاحلةَ، حتَّى أَتينا الجيشَ، بعدما نزلوا مُوغِرين في نَحْرِ الظَّهيرةِ، فهلَك مَن هلَك في شأني، وكان الذي تَولَّى كِبْرَهُ عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ بن ابنُ سَلولَ،...) فاتَّهموها مع صَفوانَ وبدَأ هذا الإفكُ المُبينُ يَنتشِرُ في المدينةِ، وبَقِيتْ عائشةُ شهرًا لا تعلمُ شيئًا عن ذلك، حتَّى عَلِمتْ بذلك صَراحةً مِن أمِّ مِسْطَحٍ، وكُلُّ ذلك ولم تَتَبيَّنْ الحقيقةُ، ثمَّ نزلت آياتٌ تُتْلى إلى يومِ القيامةِ مِن قولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11] إلى قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] آياتٌ تُبرِّئُ الطَّاهرةَ المُطَهَّرةَ ممَّا افْتَراهُ المُفتَرون.
بعد وفاة صفي الدين الأرْدَبيلي مؤسِّس الطريقة الصفوية خلَفَه في مشيخة الطريقة ابنه صدر الدين موسى مدةً طويلة بلغت تسعًا وخمسين عامًا, وكانت السلاطين تعتقِدُ فيه وتزوره، وممن زاره والتمس بركته تيمورلنك، فسأله أن يطلبَ منه أي شيء، فقال له موسى: أطلب منك أن تطلِقَ كل من أخذته من بلاد الروم من التركِ، فأجابه إلى سؤاله فأطلقَ جميع أسرى الترك، فصار أهل الروم يعتقدون في الشيخ صدر الدين والمشايخ من ذريتِه، ولما توفي صدر الدين تولى ابنُه خواجة علي مشيخةَ الطريقة مدة 36 سنة، وكان الخواجة علي يميل للتشييع, ولما مات سنة 830 تولى بعده ابنُه إبراهيم الذي كان تشيُّعه واضحًا، فقد أدخل أتباعَه بصراعات مع أهل السنة في داغستان, ولَمَّا توفي سنة 851 خلفَه ابنه الأصغر جنيد، وكان شيعيًّا جَلْدًا متعصبًا للشيعة الإمامية, فلمَّا كثر مريدوه وأتباعه خافه السلطان جهانشاه التركماني صاحب أذربيجان، فأخرجهم من أردبيل فتوجَّه جنيد مع بعض مريديه إلى ديار بكر، وقُتِلَ جنيد في إحدى حروبه في مدينة شيروان سنة 861، وخلَفه ابنه حيدر الذي تزوَّج من بنت حسن أوزون الطويل, وكانت أمُّها كاترينا ابنة كارلو يوحنا ملك مملكة طرابزون اليونانية النصرانية, وحيدر هذا هو أوَّلُ من أمر أتباعَ الطريقة الصفوية أن يضعوا على رؤوسِهم قلنسوة مخروطية الشكل مصنوعة من الجوخ الأحمر، وسُمُّوا بقزلباش، وهي كلمة تركية تعني الرأس الأحمر, ولما قتل حيدر سنة 893 كان له ثلاثة أولاد: علي، إبراهيم، وإسماعيل، سجنهم الأمير يعقوب أمير آق قونيلو، ثم أُطلِقَ سراحهم بعد وفاة يعقوب، فذهب إسماعيل بن حيدر إلى مدينة كيلان على بحر قزوين، وحاول منذ صِغَره تجميع الصوفية والقزلباشية حوله؛ من أجل الانتقام مِن قتَلَة أبيه وجده، فتوجه إلى أمير دولة التركمان "آق قونيلو" سنة 907، وقتله وجلس على ملكِه بعد أن بايعته كلُّ قبائل التركمان، وأعلن دولته الصفويَّة.
هو الفيلسوفُ أبو عليٍّ محمَّدُ بنُ الحَسَن بن الهيثم البصري أصلُه بصري، سكن الديارَ المصريَّةَ إلى أن مات. كان من أذكياءِ بني آدم، عديمَ النظيرِ في عَصرِه في العلمِ الرياضي. وكان متزهِّدًا زُهدَ الفلاسفة. لخَّص كثيرًا من كتُبِ جالينوس، وكثيرًا مِن كتب أرسطوطاليس. وكان رأسًا في أصول الطبِّ وكليَّاتِه. وكان قد وَزَر في أوَّل أمرِه، ثمَّ تزهَّد وأظهر الجنونَ، وكان مليحَ الخطِّ يَنسَخُ في بعضِ السَّنةِ ما يكفيه لعامِه من إقليدس والمجسطي. قال عنه الذهبي: "صاحِبُ المصنَّفات الكثيرةِ في علوم الأوائِلِ، وكان مقيمًا بالجامِعِ الأزهر, وهو على اعتقادِ الأوائِلِ لا رَحِمَهم الله, وقد صَرَّحَ بذلك نسألُ اللهَ العافيةَ" وله مُصَنَّفات كثيرة مُعظَمُها في الرياضيَّات والهندسة، وباقيها في الإلهيَّات، وعامتها مقالاتٌ صغار. قال ابن خلدون: " أشهَرُ مَن ألَّف في عِلمِ المناظرةِ مِن فروعِ الهندسة ابنُ الهيثم, وهو عِلمٌ يتبيَّنُ به أسبابُ الغلَطِ في الإدراك البصريِّ بمعرفةِ كيفيَّة وقوعِها بناءً على أنَّ إدراكَ البصر يكون بمخروط شعاعيٍّ رأسُه نقطةُ الباصِرِ وقاعدتُه المرئيُّ. ثمَّ يقع الغلَطُ كثيرًا في رؤية القريبِ كبيرًا والبعيدِ صغيرًا. وكذا رؤية الأشباح الصَّغيرة تحت الماء ووراء الأجسامِ الشَّفَّافةِ كبيرةً، ورؤيةُ النُّقطة النَّازلة من المطَرِ خطًّا مستقيمًا والسّلقة دائرة وأمثال ذلك. فيتبيَّنُ في هذا العلم أسبابُ ذلك وكيفيَّاته بالبراهينِ الهندسيَّة، ويتبيَّن به أيضًا اختلافُ المنظَرِ في القمَرِ باختلاف العَروضِ الذي يُبنى عليه معرفةُ رؤية الأهِلَّة وحصول الكُسوفات.".