ظهر بالشامِ رجلٌ مِن القرامطة، وجمع جموعًا من الأعرابِ، وأتى دمشق، وأميرها طغج بن جف من قِبَل هارون بن خِمارَوَيه بن أحمد بن طولون، وكانت بينهما وقَعاتٌ، وكان ابتداءُ حال هذا القرمطيِّ أنَّ زكرَوَيه بن مهرَوَيه الداعية القرمطي الذي بدأ أمرُه في العراق هذا لَمَّا رأى أنَّ الجيوشَ مِن المعتَضِد متتابِعةٌ إلى مَن بسواد الكوفةِ مِن القرامطة، فإنَّ القتلَ قد أبادهم، سعى باستغواءِ مَن قَرُب من الكوفة من الأعرابِ: أسَد وطيئ وغيرهم، فلم يجِبْه منهم أحد، فأرسل أولادَه إلى كلب بن وبرة فاستغوَوهم، فلم يجِبْهم منهم إلَّا الفَخذُ المعروف ببني العليص بن ضمضَم بن عدِيِّ بن خباب ومواليهم خاصةً، فبايعوا في هذه السَّنة، بناحية السماوة، ابنَ زكرَوَيه، المسمَّى بيحيى، المُكنَّى أبا القاسم، فلقبوه الشيخ، وزعم أنَّه محمَّد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقيل: لم يكن لمحمَّد بنِ إسماعيل ولدٌ اسمه عبد الله، وزعم أنَّ له بالبلاد مائة ألفِ تابعٍ، وأنَّ ناقتَه التي يركَبُها مأمورةٌ، فإذا تبعوها في مسيرِها نُصِروا، وأظهَرَ عَضُدًا له ناقصة، وذكَرَ أنَّها آيتُه، وأتاه جماعةٌ من بني الأصبع، أخلصوا له وتَسَمَّوا بالفاطميين، ودانُوا بدينه، فقصدهم شبلٌ غلامُ المعتَضِد من ناحية الرصافة فاغتَرُّوه فقتلوه، وأحرقوا مسجِدَ الرصافة، واعتَرَضوا كلَّ قرية اجتازوا بها حتى بلغوا هارونَ بنَ خمارَوَيه التي قوطِعَ عليها طغج بن جف، فأكثَروا القتلَ بها والغارة، فقاتَلَهم طغج، فهزموه غيرَ مَرَّة.
عاث أبو طاهرٍ سُلَيمانُ بنُ أبي سعيد الجَنابي القرمطي في الأرضِ فسادًا، وحاصَرَ الرحبةَ فدخلها قهرًا وقتل مِن أهلِها خَلقًا، وطلب منه أهلُ قرقيسيا الأمانَ فأمَّنَهم، وبعث سراياه إلى ما حولَها من الأعرابِ، فقتل منهم خلقًا، حتى صار الناسُ إذا سمعوا بذِكرِه يَهربونَ مِن سماع اسمه، وقدَّرَ على الأعرابِ إمارة يحملونَها إلى هجَرَ في كل سنة، عن كل رأسٍ ديناران، وعاث في نواحي الموصِل فسادًا، وفي سنجار ونواحيها، وخَرَّب تلك الديار وقتَلَ وسَلَب ونهب، فقصَدَه مؤنِسٌ الخادم فلم يتواجَها بل رجع إلى بلده هجَرَ فابتنى بها دارًا سَمَّاها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي الذي ببلاد المغرب بمدينة المهدية، وتفاقم أمرُه وكثُرَ أتباعُه، فصاروا يكبِسونَ القرية من أرضِ السوادِ فيقتلون أهلَها وينهَبونَ أموالَها، ورام في نفسِه دخولَ الكوفة وأخْذَها فلم يُطِقْ ذلك، ولَمَّا رأى الوزيرُ عليُّ بن عيسى ما يفعَلُه هذا القرمطي في بلادِ الإسلام وليس له دافِعٌ، استعفى من الوزارةِ؛ لضَعفِ الخليفةِ وجَيشِه عنه، وعزل نفسَه منها، فسعى فيها عليُّ بن مقلة الكاتب المشهور، فوَلِيَها بسفارة نصر الحاجب، ثم جهَّزَ الخليفة جيشًا كثيفًا مع مؤنِسٍ الخادم فاقتتلوا مع القرامطةِ، فقتلوا من القرامطة خلقًا كثيرًا، وأسروا منهم طائفةً كثيرة من أشرافِهم، ودخل بهم مؤنِسٌ الخادم بغدادَ، ومعه أعلامٌ مِن أعلامهم مُنكَّسةٌ مكتوبٌ عليها (ونريدُ أن نمُنَّ على الذين استُضعِفوا في الأرض)، ففرح الناسُ بذلك فرحًا شديدًا، وطابت أنفُسُ البغداديَّة، وانكسر القرامطةُ الذين كانوا قد نشؤوا وفَشَوا بأرض العراق، وفوَّضَ القرامِطةُ أمرَهم إلى رجلٍ يقال له حريث بن مسعود، ودَعَوا إلى المهديِّ الذي ظهر ببلاد المغرب جَدِّ الفاطميين، وهم أدعياءُ كَذَبةٌ، كما قد ذكر ذلك غيرُ واحد من العُلَماء.
هو أبو بكر محمَّدُ بن الحسن بن دريد بن عتاهية الأزديُّ البصريُّ، عالِمٌ وشاعِرٌ وأديبٌ عربيٌّ، كان رأسًا في العربيَّةِ وأشعار العرَبِ, وله شعرٌ كثيرٌ وتصانيفُ مشهورة. ولِدَ سنة 223.كان يقالُ: "ابن دريد أشعَرُ العُلَماء وأعلَمُ الشُّعَراء", وكان أبوه وجيهًا من وجهاءِ البصرة، وقرأ ابنُ دريد على علمائِها وعلى عمه الحُسَين بن دريد، قال أحمد بن يوسف الأزرق: "ما رأيتُ أحفَظَ مِن ابنِ دُرَيد. وما رأيتُه قُرئ عليه ديوانٌ قَطُّ إلَّا وهو يسابِقُ إلى روايته؛ لحفظِه له". قال أبو حفصِ بنُ شاهين: "كنَّا ندخُلُ على ابن دُرَيد فنستحي ممَّا نرى من العيدانِ المُعَلَّقة والشَّراب. وقد جاوز التِّسعينَ". وقال أبو منصور الأزهري: "دخلتُ عليه فرأيتُه سكرانَ، فلم أعُدْ إليه". وعند ظهور الزِّنجِ في البصرة انتقل مع عمِّه إلى عُمان عام 257، وأقام فيها اثنتي عشرة سنةً، ثم رجع إلى البصرة وأقام فيها زمنًا، ثم خرج إلى الأحوازِ بعد أن لبَّى طلب عبد الله بن محمد بن ميكال، فلحق به لتأديبِ ابنِه أبي العباس إسماعيلَ، وهناك قَدَّمَ له كتابَه (جَمهرة اللُّغة) وتقَلَّد ابنُ دريد آنذاك ديوانَ فارِسَ، فكانت كتُبُ فارس لا تصدُرُ إلَّا عن رأيه، ولا ينفُذُ أمرٌ إلَّا بعد توقيعِه، وقد أقام هناك نحوًا من سِتِّ سنواتٍ. ولابن دريدٍ مِن الكتب "الجمهرة"، و"الأمالي"، و"اشتقاق أسماء القبائل"، و"المجتبى"، و"الخيل"، و"السلاح"، و"غريب القرآن" ولم يتِمَّ، و"أدب الكاتِب"، و"فعلتُ وأفعلتُ"، و"المطر"، وغيرها من الكتب. دُفِنَ ابن دريد وأبو هاشم الجُبَّائي في يومٍ واحد في مقبرةِ الخيزران لاثنتي عشرة ليلة بَقِيَت من شعبان، فقيل: مات الكلامُ واللُّغةُ جميعًا.
في هذه السنة كان ابتداءُ ملك تيموجين (جنكيز خان) ملك التتار، وهو صاحِبُ الياسق وَضَعَه ليتحاكَمَ إليه التتارُ ومن معهم من أمراء الترك, وهو والِدُ تولي، وجَدُّ هولاكو بن تولي. وُلِدَ تيموجين في غُرَّة محرم سنة 550 في منغوليا على الضفة اليمنى لنهر الأونون في مقاطعة دولون بولداق، وهذه المقاطعةُ توجَدُ اليوم في الأراضي الروسيَّة، وكان أبوه بسوكاي رئيسًا لقبيلة قيات المغولية الذي كان وقت ولادة ابنه غائبًا في قتال مع قبيلة أخرى، واستطاع أن يقتُلَ زَعيمَها واسمه تيموجين، وحينما عاد منتصرًا فَرِحَ بمولوده واستبشر به فسَمَّاه باسم القائد الذي صرعه؛ لأنَّه كان معجبًا به؛ لفرط شجاعتِه، ولما بلغ تيموجين من العمر حوالي ثلاثة عشر عامًا مات أبوه بسوكاي سنة 563 فحَلَّ محَلَّه في رئاسة القبيلة إلَّا أن رجال قبيلته استصغروا سِنَّه واستضعفوه فانفَضُّوا عنه وتفَرَّقوا ورفضوا طاعتَه. ولكن حينما بلغ السابعة عشرة من عمره استطاع بقُوَّةِ شَخصيَّتِه وحِدَّة ذكائه أن يعيدَ رِجالَ قبيلته إلى طاعتِه وأن يُخضِعَ المناوئين له، حتى تمت له السيطرةُ عليها, واصل تيموجين خطَّتَه في التوسُّعِ على حساب جيرانه، فبَسَط سيطرتَه على منطقة شاسعة من إقليم منغوليا، تمتَدُّ حتى صحراء جوبي، حيث مَضارِبُ عدد كبير من قبائل التتار، ثم دخل في صراع مع حليفِه رئيس قبيلة الكراييت، وكانت العلاقات قد ساءت بينهما بسبب الدسائس والوشايات، وتوجَّس "أونك خان" زعيمُ الكراييت من تَنامي قوَّة تيموجين وازديادِ نفوذِه؛ فانقلب حُلَفاءُ الأمس إلى أعداء وخصوم، واحتكما إلى السيف، وكان الظَّفَرُ في صالح تيموجين سنة 600, فاستولى على عاصمتِه "قره قورم" وجعَلَها قاعدةً لملكه، وأصبح تيموجين بعد انتصارِه أقوى شخصيَّة مغولية، فنودي به خاقانا، وعُرِفَ باسم "جنكيز خان" أي: إمبراطور العالم.
هو الغازي أرطغرل بك بن سليمان شاه القايوي التركماني كان مع والده سليمانَ شاه عندما انتقلَ من موطنهم الأصلي باتجاه الغربِ على أثر الاجتياحِ التتري إلى أن غَرِقَ والده سليمان في الفراتِ فرجع أخويه سنقور تكين وكون طوغدي إلى الشرق, ومكث أرطغرل في ذلك الموضِعِ يجاهِدُ الكُفَّار، ثم أرسل ابنَه صارو بالي إلى علاء الدين السلجوقي يستأذِنُه في الدخول إلى بلادِه، ويطلب منه موضعًا ينزِلُ فيه فأذِنَ له وعَيَّنَ له جبالَ طومالج وأرمنك وما بينهما، فأقبل أرطغرل مع أربعمائة خركاه- خيمة- من قومِه فتوطَّنوا في قرة جه طاغ، وكان أرطغرل شجاعًا فشَمَّرَ ساعد الجِدِّ في خدمة السلطانِ علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن طغرل السلجوقي، ولَمَّا قصد علاءُ الدين غزوَ الكُفَّارِ أقبل أرطغرل إليه نجدةً له، فازداد عند السلطان مكانةً وقربًا, فأقطعه جزءًا كبيرًا من الأرضِ مقابِلَ الروم مكافأةً له مِن جهةٍ، ومن جهة أخرى يكون ردءًا له من الروم، فاستقَرَّت هذه الأسَرُ التركمانيَّةُ في تلك الناحية قريبًا من بحر مرمرة التابع للبحر الأسود قريبًا من مدينة بورصة، فلما نازل السلطانُ علاء الدين سنة 685 قلعةَ كوتاهيه وقد كانت للكُفَّار، فلما قرب مِن أخذِ القلعة بلغه أنَّ التَّتارَ يَطرُقُ بعضَ بلاده، فنهض إلى طرَفِ العدو وفوَّضَ أمرَ القلعة إلى أرطغرل بك وتركه بها مع بعضِ العسكَرِ. ولم يزل حتى فتحها عَنوةً وغَنِمَ شيئًا كثيرًا، ولم يزَلْ بعد ذلك يجاهد، وفُتِحَت على يديه بلادٌ كثيرة من بلاد الكُفَّارِ حتى توفِّيَ في شهور هذه السنة، فلمَّا سمع علاء الدين بوفاتِه تأسَّفَ عليه, وكتب لعثمانَ بنِ أرطغرل بالسَّلطنةِ، وأرسل إليه خِلعةً وسَيفًا ونقارةً، وخَصَّه بالغزوِ على الكُفَّار.
هو أبو عبدِ الله محمَّدُ بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم الطنجي اللواتي المغربي من أسرة بطوطة، وُلِدَ بطنجة سنة 703 اشتُهِرَ برحلته التي دامت ثمانية وعشرين سنة على ثلاثة رحلات: الأولى بدأها من طنجة سنة 725 طاف فيها المغرب إلى مصر، ثم مكة ثم العراق وإيران والمشرق، ثم بلاد الأناضول، ثم إلى الحجاز ثم مكة ثم إلى اليمن وبلاد الخليج العربي، ثم مصر والشام، ثم القسطنطينية، ثم مكة ثم عاد إلى المغرب، كُلُّ ذلك يكتب ويُدَوِّن ما يراه ويَصِفُه، والرحلة الثانية: كانت إلى الأندلس وغرناطة، والثالثة: كانت إلى إفريقيا سنة 754، ودَوَّن رحلته في كتاب بعنوان: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار؛ قال ابن حجر: "رحل إلى المشرق في رجب سنة 25 فجال البلاد وتوغَّل في عراق العجم، ثم دخل الهند والسند والصين، ورجع على اليمن فحج سنة 26 ولقي من الملوك والمشايخ خلقًا كثيرًا وجاور، ثم رجع إلى الهند فولاه مَلِكُها القضاءَ، ثم خلص فرجع إلى المغرب فحكى بها أحوالَه وما اتفق له وما استفاد من أهلها، قال شيخنا أبو البركات ابن البلفيقي: حدثنا بغرائب مما رآه؛ فمن ذلك أنه زعم أنه دخل القسطنطينية فرأى في كنيستها اثني عشر ألف أسقف ثم انتقل إلى العدوة ودخل بلاد السودان ثم استدعاه صاحب فاس السلطان أبو عنان المريني وأمره بتدوين رحلته، وقرأت بخط ابن مرزوق وكان البلفيقي رماه بالكذب، فبرأه ابن مرزوق، وقال: إنه بقي إلى سنة سبعين ومات وهو متولي القضاء ببعض البلاد، قال ابن مرزوق: ولا أعلم أحدًا جال البلاد كرحلته، وكان مع ذلك جوادًا مُحسِنًا" كان ابن بطوطة يُملي ما يراه على السلطانِ أبي عنان، وكان له كاتب يكتب ذلك. توفي ابن بطوطة في فاس عن 76 عامًا.
هو السلطانُ أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي بن مخلوف بن زيدان، الملقَّب بالقائم بأمر الله، عميد الأسرة السعدية وسلطان المغرب. كان قد نشأ على عفافٍ وصلاحٍ وحجٍّ للبيت الحرام، وقيل: كان مجابَ الدعوةِ، من قرَّاءِ القرآن، ومن أهلِ العلمِ والدين، ولم يكن من بيت الرياسةِ، وكان له اطِّلاعٌ على تواريخ قُطره وعوائدِ جيله وأخلاقهم وطبائعهم، ورأى ما وصل إليه مُلكُ بني وطاس بالمغرب من الانحطاط والضعف، وتيقَّن أنَّه لا يصعب عليه تناولُه، فأعمل في ذلك فِكرَه وصار يحضُّ الناسَ على القيام بأمور دينهم والامتعاض لها، حتى ولي الأمرَ عندما بايعَتْه قبائل المغرب على حربِ البرتغال، وقدَّمت كلُّ قبيلة له عشرةَ رجال من أبنائها, فلما قضى الله ببيعته واجتماع الناس عليه، واطمأنت به في البلاد السوسية الدار وطاب له بها المقام والقرار؛ ندب الناس إلى بيعةِ أكبر ولديه، وهو الأمير أبو العباس أحمد المعروف بالأعرج، فبايعوه, ثم وفد على القائمِ بأمر الله أشياخُ حاحة والشياظمة لِما بلغهم من حسن سيرته ونصرة لوائه، فشَكَوا إليه أمر البرتغال ببلادهم, وشِدَّة شوكته واستطالته عليهم، وطلبوا منه أن ينتقل إليهم هو وولده ولي العهد، فأجابهم إلى ذلك ونهض معهم هو وابنه أبو العباس إلى الموضع المعروف بآفغال من بلاد حاحة، وترك ولده الأصغر أبا عبد الله محمد الشيخ بالسوس يرتِّب الأمور ويمهِّد المملكة ويباكر العدو بالقتال ويراوحه، واستمر الأمير أبو عبد الله القائم بمكانه من آفغال ببلاد حاحة مسموعَ الكلمة متبوعَ العقب إلى أن توفي بها وهو يجاهد النصارى الإسبان والبرتغال، ودفن بها ثم نقل إلى مراكش.
عندما وصل سعودٌ بجيوشِه إلى مشارف الشام وقراها واكتسح ما أمامه من القرى والعربان، وقبل ذلك غزا كربلاء وهدد العراق وهزم جميعَ الجيوش التي أرسلها ولاةُ الشام والعراق لمحاربته، حتى اضطرت الدولةُ العثمانية أن تطلُبَ من سعود المهادنةَ والمسابلة وتَبذُل له مقابِلَ ذلك كلَّ سنة ثلاثين ألف مثقال ذهبي، وأوفدت الدولة لهذ الغرض رجلًا يسمَّى عبد العزيز القديمي وأوفدت بعده رجلًا آخر يسمى عبد العزيز بيك، فرجع كما رجع الأول بعدم القبول وبرسالة طويلة من سعود، ومما ورد فيها: "وأما المهادنة والمسابلة على غير الإسلامِ، فهذا أمر محال بحولِ الله وقوَّتِه، وأنت تفهم أن هذا أمرٌ طلبتموه منا مرَّةً بعد مرة، أرسلتم لنا عبد العزيز القديمي ثم أرسلتم لنا عبد العزيز بيك، وطلبتم منا المهادنة والمسابلة، وبذلتم الجزيةَ على أنفُسِكم كلَّ سنة ثلاثين ألف مثقالٍ ذهبًا، فلم نقبل ذلك منكم ولم نُجِبْكم بالمهادنة، فإن قبلتم الإسلامَ فخيرتها لكم وهو مطلبنا، وإن توليتم فنقول كما قال الله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] فلما أصبحت الدولةُ العثمانيةُ عاجزةً عن مهادنة الإمام سعود بن عبد العزيز بن سعود فضلًا عن محاربته، طلب عندئذ السلطان العثماني من والي مصر محمد علي باشا القيامَ بمحاربة الإمام سعود وإخراجِه من الحجاز، فتردَّد محمد علي أولًا ثم أخيرًا لبَّى طلب السلطان وسيَّرَ ابنَه طوسون سنة 1226هـ ثم خرج هو بنفسِه إلى أن سقطت الدولة السعودية سنة 1233هـ على يد إبراهيم باشا، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
بعد فوزِ الاتحاديِّين بأغلبيةٍ كبيرةٍ وإعلان الدستور أرادوا أن يُتِمُّوا خطَطَهم الراميةَ إلى خلع الخليفة، فبدؤوا يثيرونَ الفوضى والقلاقِلَ في الدولة بطُرُق غير مباشرة، وادَّعى رجال الاتحاد أنَّ الدستورَ معرَّضٌ للإلغاء والحريةَ مهدَّدةٌ؛ لذا فقد تقَدَّم الجيشُ المرابط في سلانيك بإمرةِ محمود شوكت لحماية الدستورِ والمجلس النيابي، عِلماً أنه كان فيه عناصِرُ أجنبية ترتدي الزيَّ العسكري، ووصل الجيشُ إلى العاصمة، فألقى الحصارَ عليها، ثمَّ سار إلى مقر إسماعيل حقي رئيس الجيش النظامي فقتَلوه ومَن معه، ثم ساروا إلى قصر يلدز مقَرِّ السلطان، فقاموا فيه بمذبحة بلا سببٍ ونهبوا القصرَ، ثم شكَّل المجلِسُ النيابيُّ مجلِسًا أطلقوا عليه اسمَ المجلس الملكي، فاجتمع مع مجلسِ الحركة وقَرَّروا خَلْعَ السلطان عبد الحميد باستصدار فتوى من شيخِ الإسلام، واستدعى المجلِسُ الصدر الأعظم توفيق باشا لتكليفِه بإبلاغ القرار إلى الخليفة فرفَضَ، فكلف المجلسُ وفدًا من الفريق البحري عارف حكمت، وآرام الأرمني، وعمانوئيل قره صو اليهودي، وأسعد طوبطاني، وذهب الوفد إلى الخليفة، وقرأ الفتوى، فتقَبَّل السلطان ذلك مع إنكارِه إحضارَهم عمانوئيل اليهودي معهم، خاصَّةً أن عمانوئيل هذا سبق أن زار السلطانَ مع هرتزل في وفدٍ يهوديٍّ يستأذنونه في الهجرةِ إلى فلسطين، فرفض طلبهم وإغراءَهم له، وأمر بطردِهم، فتوعَّد عمانوئيل السلطانَ بأنَّ هذا الرفض سيكَلِّفُه كثيرًا. نُقِلَ السلطانُ إلى سلانيك مع أسرته ومرافقيه، وبقي تحت حراسةِ الاتحاديين حتى حرب البلقان، ثم نُقِلَ إلى قصر بكلربكي في استانبول، وبقي فيه إلى أن توفي عام 1336هـ وكانت مُدَّةُ خلافته أكثر من ثلاث وثلاثين سنة، وتسلَّم الحكمَ صوريًّا أخوه محمد رشاد.
هو محمد بن عبد الكريم الخطابي (بالأمازيغية موحند نعبد لكريم لخطابي) الذي اشتُهِر بين الريفيين بـ (عبد الكريم الخطابي)، وهو قائدُ الثورة المغربية في منطقة الريف شماليَّ المغرب. وُلِدَ سنة 1299هـ / 1882م في أجدير قرب الحسيمة، من ريف المغرب. وُلِدَ في بيت علمٍ وجهادٍ، من قبيلة "ورياغل" إحدى كبريات القبائل البربرية في جبال الريف. حَفِظ القرآن وبَعَثه والِدُه إلى القرويين بفاس، فتعَلَّم وعاد إلى الريفِ، وأقام في مدينة مليلة فوَلِيَ قضاءَها. وامتد احتلالُ الإسبان من مليلة وتطوان إلى (شفشاون)، فأظهر عبد الكريم والد محمد معارضتَه لهم، وكان من أعيان القوم، فانتقم الإسبانُ منه بعزل ابنه محمد من القضاء واعتقاله في سجن كبالرزا سنة 1920م، وأراد محمدٌ الفرار من المعتقل فسَقَط وكُسِرَت ساقه، فأُطلِق من سِجنِه، فجمع محمد الخطابي أنصارًا من ورياغل (قبيلته) وقد آلت إليه زعامتُها بعد أبيه، وقاتل الإسبانَ، فظَفِرَ في معركة (أنوال) من جبال الريف في يوليو 1921 / 1339 ه، وتتابعت معاركه معهم؛ فاستردَّ شفشاون -مدينة في شمال المغرب- 1925م وحاول استردادَ تطوان، وقُدِّر عددُ جيشه بمئة ألف. أنشأ جمهورية الريف، وخاف الفرنسيون امتداد الثورة إلى داخل المغرب، فتحالفوا مع الإسبان ضِدَّه. فأطبقت عليه الدولتان، فاستسلم مُضطرًّا إلى الفرنسيين في 25 مايو 1926م / 12 ذي القعدة 1344هـ بعد أن وعدوا بإطلاق سراحه، ولكنَّهم لم يَفُوا به. فنفوه إلى جزيرة (رينيون) في بحر الهند شرقيَّ إفريقية؛ حيث مكث 20 عامًا, فلما أردوا نَقْلَه إلى فرنسا سنة 1947 م، 1366 هـ وبلَغوا السويس تمكَّن الخطابي أن يهرب من الباخرة واستقَرَّ في القاهرة إلى أن توفِّيَ رحمه الله بها بسكتة قلبية.
تُوفيَ الداعيةُ الإسلاميُّ الشهيرُ أحمد ديدات، بعد أنْ قَضى سنواتٍ عديدةً على فراش المرضِ، في مدينة (ديربان)، وكان قد قدَّم خِدْماتٍ جليلةً للإسلام في مجال الدعوة إلى الله، واشتَهَر بمناظراتِه للنصارى، ومحاضراتِه حولَ تناقُض الإنجيل (الموجود حاليًّا بين أيدي النصارى)، ممَّا أدَّى إلى إسلام عدد كبيرٍ على يدَيْه، وأُصيب الشيخ ديدات بمرض عُضالٍ منذُ عام 1996م، أجبره على لزوم الفراش، وقد أحدث دويًّا هائلًا في الغرب بمناظراتِه الشهيرةِ التي ذاعت منذُ منتصف الثمانينيَّات مع القِسِّ جيمي سوكرت عامَ 1981م، وما زال صداها يتردَّدُ حتى اليوم، ممَّا دفع الكنيسةَ ومراكزَ الدراسات التابعة لها، والعديدَ من الجامعات في الغرب لتخصيص قسم خاصٍّ من مكتباتها لمناظرات ديدات، وكتبه، وإخضاعها للبحث والدراسة، ورغم إصابة الداعية الكبير بشلل تامٍّ في كلِّ جسدِه -عدا دماغه- ولزومه الفراش منذُ عام 1996م، فإنَّ ديدات واصَلَ دعوتَه من خلال الرسائل، والتي تتدفَّق عليه يوميًّا من جميع أنحاء العالمِ، ويصِلُ في المتوسط إلى 500 رسالةٍ يوميةٍ، سواءٌ بالهاتف، أو الفاكس، أو عبرَ الإنترنت، والبريد، وأسَّس الشيخُ المركزَ العالميَّ للدعوة الإسلامية في ديربان، ووزَّع من خلاله أكثرَ من 20 مليونِ نُسخةٍ من كتبه، وأشرطتِه السمعية مجانًا، وقد دخل في الإسلام المئات من أبناء بلده جنوب أفريقيا، بينهم عددٌ كبيرٌ من المُنَصِّرين بفضلِ اللهِ تعالى، ثم بفضلِ مجهوداته في مجال الدعوة، ومن أهمِّ كُتبِه: ((الاختيار بين الإسلام والمسيحية))، وكتاب ((هل الكتاب المقدَّس كلام الله؟))، و((القرآن معجزة المعجزات))، و((ماذا يقول الكتاب المقدَّس عن محمد؟))، و((مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء)).
تُوفِّي الشيخُ صالح بن عبد العزيز بن صالحٍ الراجحي، بسكتةٍ قلبيَّةٍ، في مستشفى الحبيبِ بمدينة الرِّياض عن عمرٍ ناهَزَ (88) عامًا، وصُلِّي عليه في جامِعِ الراجحي، وُلِد الشيخُ صالحٌ عامَ (1344هـ) في محافظة البكيرية بالقَصيم، وانتَقَل مع والِدِه إلى الرِّياض لطلبِ العلمِ والرِّزق، وكانت الرياضُ آنَذاك عامرةً بالحركةِ العِلميَّة والتُّجارية. وفي الرِّياض دَرَس على يدِ سَماحةِ الشيخِ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مُفتي المملكةِ آنذاك، والشَّيخِ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ؛ حيث كان يقرَأُ عليهما في منزلِهما، وكان مَحبوبًا بين مشايِخه وأقرانِه، وممَّن زامَلَهم الشيخُ عبد الله السديس، والشيخُ عبد الله الوابل. وقد بَدَأ أوَّلَ أعمالِهِ كتاجِرِ خردةٍ، ثم انتَقَل إلى الرياضِ وأصبَحَ مبدِّلًا للعُملةِ فيها، وعُرِف عن الشيخ الراجحيِّ ذَهابُه للمسجِدِ قبلَ رُبُعِ ساعةٍ من وَقتِ الصَّلاةِ منذ صِغَرِ سِنِّه وحتى أَقعَدَه المرض، وكان مع مُلازَمَتِه للعُلماءِ يُزاوِلُ التِّجارةَ منذ أن كان عمرُه (13) سنةً، وقد وَجَد نفسَه فيها حتى وَفَّقه الله عامَ (1366هـ) بافتِتاحِ أوَّلِ دُكَّان يُزاوِل فيه مهنةَ الصِّرافة التي نَمَت وتطوَّرت حتى أصبَحَت صَرحًا من صُروحِ الاقتِصادِ، وأصبح مَصرِفُ الراجحي أوَّلَ مصرِفٍ إسلاميٍّ في المملكة أسَّسَه مع إخوانِه. وتوسَّعَت أعمالَ الشيخ صالحٍ حتى لم يتركْ مجالًا من المجالاتِ التجاريَّة والعَقارية والزراعيَّة إلا وضَرَب فيه بسَهمٍ. وللرجلِ كثيرٌ من الأبناءِ والبناتِ، وفي آخِرِ سِنِي عمرِه عانَى من الهَرَم ورَقَد في مشفًى صغيرٍ في قصرِه في الرياض، ويُديرُ أموالَه مجلسُ وصايةٍ عيَّنَتْه المحكمةُ، ويُعرَف الرجلُ بأعمالِ الخير وكثرةِ عِمارتِه للمساجدِ وحِلَق القُرآنِ والوَقفِ الخيريِّ الكبيرِ الذي رَصَده لأعمال البِرِّ رحمه الله.
هو القاضي ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون التونسي الإشبيلي الحضرمي القاهري المالكي. وُلِدَ في تونس سنة 732. اشتغل في بلاده وسمع من الوادي آشي وابن عبد السلام وغيرهما، وأخذ القراءات عن محمد بن سعد بن براد، واعتنى بالأدب وأمور الكتابة والخط، حتى مهر في جميع ذلك. وولي كتابة العلامة عن صاحب تونس. ثم غادرها فارًّا من الطاعون متوجهًا إلى فاس في سنة ثلاث وخمسين، فعلا شأنه فيها حتى كِيدَ له فسُجِن فيها حتى أطلقه الوزير الحسن الفودوي، كان دخل في الأحوال السياسية ثم عافها بعد موت صديقه لسان الدين الخطيب، فاعتزل في قلعة بالجزائر في وهران، وألَّف فيها مقدمته المشهورة، ثم تنقل ابن خلدون بين تونس وغرناطة عند بني الأحمر وتلمسان وفاس، إلى أن استقر في مصر سنة أربع وثمانين. قال ابن حجر العسقلاني: "قدم الديار المصرية سنة 784 في ذي القعدة، وحجَّ ثمَّ رجع فلازم ألطنبغا الجوباني، فاعتنى به إلى أن قرَّره الملك الظاهر برقوق في قضاء المالكية بالديار المصرية، فباشرها مباشرةً صعبة، وقَلَب للناسِ ظَهرَ المجن، وصار يعزِّر بالصفع ويسِّميه الزج. فإذا غضب على إنسان، قال: زجوه، فيُصفَع حتى تحمَرَّ رقبته. قرأتُ بخط البشبيشي: كان فصيحًا مفوهًا جميل الصورة، وخصوصًا إذا كان معزولًا عن القضاء. أما إذا ولي فلا يُعاشَر، بل ينبغي ألَّا يُرى. وقد ذكره لسان الدين ابن الخطيب في تاريخ غرناطة ولم يصِفْه بعلم، وإنما ذكر له تصانيف في الأدب، وشيئًا من نظمه، ولم يكن بالماهر فيه. وكان يبالغ في كتمانه، مع أنه كان جيدًا لنقد الشعر من غير تقدم فيه، ولكن محاضرته إليها المنتهى، ولما دخل الديار المصرية تلقاه أهلها وأكرموه، وأكثروا ملازمته والتردد إليه، فلما ولي المنصب تنكَّر لهم، وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود. وقيل: إن أهل المغرب لما بلغهم أنه ولي القضاء عجبوا من ذلك، ونسبوا المصريين إلى قلة المعرفة، ولما دخل القضاة للسلام عليه، لم يقم لأحدٍ منهم، واعتذر لمن عاتبه على ذلك. وباشر ابن خلدون بطريقة لم يألفها أهل مصر، حتى حصل بينه وبين الركراكي تنافس، فعُقِد له مجلس، فأظهر ابن خلدون فتوى زعم أنها خط الركراكي، وهي تتضمن الحط على السلطان الظاهر برقوق. فتنصَّل الركراكي من ذلك، وتوسَّل بمن اطَّلع على الورقة فوُجِدت مُدلَّسة. فلما تحقق برقوق ذلك عزل ابن خلدون، وأعاد القاضي جمال الدين. وذلك في جمادى الأولى سنة سبع وثمانين. فكانت ولايته الأولى دون سنتين. واستمر معزولًا ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وحجَّ في سنة تسع وثمانين. ولازمه كثير من الناس في هذه العطلة وحَسُن خلقه فيها، ومازح الناس وباسطهم، وتردد إلى الأكابر وتواضع معهم. ومع ذلك لم يغيِّرْ زيه المغربي ولم يلبَس زي قضاة هذه البلاد. وكان يحب المخالفةَ في كل شيء. ولما مات ناصر الدين ابن التنسي، طلبه الملك الظاهر برقوق، ففوض إليه القضاء في خامس عشر شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة. فباشر على عادته من العسف والجنف. لكنه استكثر من النواب والشهود والعقاد، على عكس ما كان في الأول، فكثرت الشناعةُ عليه، إلى أن صرف ببعض نوابه، وهو نور الدين ابن الجلال صرفًا قبيحًا، وذلك في ثاني عشر المحرم سنة ثلاث وثمانمائة. وطلب ابن خلدون إلى الحاجب الكبير فأقامه للخصوم وأساء عليه بالقول. وادَّعوا عليه بأمور كثيرة أكثرها لا حقيقة له, وحصل له من الإهانة ما لا مزيد عليه وعُزل، فتحيَّل لما حاصر تيمورلنك دمشق إلى أن حضر مجلسه، وعرَّفه بنفسه فأكرمه وقرَّبه، وكان غرضه استفساره عن أخبار بلاد المغرب، فتمكَّن منه إلى أن أذن له في السفر وزوَّده وأكرمه. فلما وصل القاهرة أعيد إلى منصب القضاء، فباشره عشرة أشهر. ثم صرف بجمال الدين البساطي إلى آخر السنة. وأعيد ابن خلدون وسار على عادته، إلا أنه تبسَّط بالسكن على البحر، وأكثر من سماع المطربات، ومعاشرة الأحداث، فكثرت الشناعة عليه. قرأت بخط جمال الدين البشبيشي في كتابه (القضاة) قال: وكان -ابن خلدون- مع ذلك أكثر من الازدراء بالناس، حتى شهد عنده الأستادار الكبير بشهادة فلم تُقبَل شهادته، مع أنه كان من المتعصبين له. ولم يشتهر عنه في منصبه إلا الصيانة، إلى أن صُرِف في سابع شهر ربيع الأول سنة ست وثمانمائة. ثم أعيد في شعبان سنة سبع، فباشر في هذه المرة الأخيرة بلين مفرِطٍ وعجزٍ وخَورٍ. ولم يلبث أن عُزِل في أواخر ذي القعدة. وقرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي في وصف تاريخ ابن خلدون: (مقدمته لم يُعمَل مثالها، وإنه لعزيز أن ينال مجتهد منالها؛ إذ هي زبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة والفهوم، تُوقِف على كُنهِ الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبِّرُ عن حال الوجود، وتنبئُ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر النظيم، وألطف من الماء مر به النسيم). انتهى كلامه. وما وصفها به فيما يتعلق بالبلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية مُسلَمٌ له فيه، وأما ما أطراه به زيادة على ذلك فليس الأمر كما قال، إلَّا في بعض دون بعض، إلا أن البلاغة تُزين بزخرفها، حتى تري حسنًا ما ليس بالحسن. وقد كان شيخنا الحافظ أبو الحسن بن أبي بكر يبالغ في الغض منه. فلما سألته عن سبب ذلك، ذكر لي أنه بلغه أنه ذكر الحسين بن علي رضي الله عنهما في تاريخه، فقال: قُتل بسيف جدِّه. ولما نطق شيخنا بهذه اللفظة، أردفها بلعن ابن خلدون وسَبِّه، وهو يبكي. قلت (ابن حجر): ولم توجد هذه الكلمة في التاريخ الموجود الآن. وكأنه كان ذكرها في النسخة التي رجع عنها. والعجَبُ أن صاحبنا المقريزي كان يُفرِطُ في تعظيم ابن خلدون؛ لكونه كان يجزم بصحة نسب بني عبيد الذين كانوا خلفاء بمصر، وشهروا بالفاطميين إلى علي، ويخالف غيره في ذلك، ويدفع ما نُقِل عن الأئمة في الطعن في نسبهم ويقول: إنما كتبوا ذلك المحضر مراعاة للخليفة العباسي". ثم استعفى وانقطع للتدريس والتأليف وله مصنفات غير مقدمته المشهورة، ومنها: كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، وشرح البردة والحساب، ورسالة في المنطق، توفي في القاهرة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر رمضان فجأة عن 76 عامًا ودُفِن بمقابر الصوفية.
لمَّا رَأى المُشركون أنَّ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد تَجهَّزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذَّراريَّ والأطفالَ والأموالَ إلى الأوسِ والخزرجِ في يَثْرِبَ، أصابتهُم الكآبةُ والحزنُ، وساوَرهُم القلقُ والهَمُّ، فاجتمع طواغيتُ مكَّةَ في دارِ النَّدوَةِ لِيتَّخِذوا قرارًا حاسمًا في هذا الأمرِ. وكان اجتماعُهُم بعدَ شَهرينِ ونصفِ تقريبًا مِن بَيعةِ العَقبةِ، وتوافد إلى هذا الاجتماعِ جميعُ نُوَّابِ القبائلِ القُرشيَّةِ؛ لِيتَدارسوا خُطَّةً حاسِمةً, تَكفُلُ القضاءَ سريعًا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ودَعوتِهِ, ولمَّا جاءوا إلى دارِ النَّدوةِ حَسْبَ الميعادِ، اعترضهُم إبليسُ في هَيئةِ شيخٍ جليلٍ، ووقف على البابِ، فقالوا: مَن الشَّيخُ؟ قال: شيخٌ مِن أهلِ نجدٍ, سمِع بالذي اتَّعَدْتُم له فحضر معكم لِيسمعَ ما تقولون، وعسى ألَّا يُعْدِمَكُم منه رأيًا ونُصْحاً. قالوا: أجلْ، فادْخُلْ. فدخل معهم. وبعد أن تَكامل الاجتماعُ, ودار النِّقاشُ طويلًا. قال أبو الأَسودِ: نُخرِجُهُ مِن بين أَظْهُرِنا ونَنْفيهِ مِن بلادِنا، ولا نُبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أَصلَحنا أَمْرَنا, وأُلْفَتَنا كما كانت. قال الشيخُ النَّجديُّ: لا والله ما هذا لكم برأيٍ، ألم تَرَوْا حُسْنَ حَديثهِ، وحَلاوةَ مَنْطِقِهِ، وغَلَبَتْهُ على قلوبِ الرِّجالِ بما يأتي به، والله لو فعلتُم ذلك ما أَمِنْتُم أن يَحِلَّ على حَيٍّ مِن العربِ، ثمَّ يَسيرُ بهِم إليكم - بعد أن يَتَّبِعوهُ - حتَّى يَطأَكُم بهِم في بلادِكُم، ثمَّ يفعلُ بكم ما أراد، دَبِّروا فيه رأيًا غيرَ هذا. قال أبو البَخْتريِّ: احْبِسوه في الحديدِ وأَغلِقوا عليه بابًا، ثمَّ تَربَّصوا به ما أصاب أمثالَهُ مِن الشُّعراءِ الذين كانوا قبله - زُهيرًا والنَّابِغةَ - ومَن مضى منهم، مِن هذا الموتِ، حتَّى يُصيبَهُ ما أصابهم. قال الشَّيخُ النَّجديُّ: لا والله ما هذا لكم برأيٍ، والله لَئِن حَبَستُموه -كما تقولون- لَيَخرُجنَّ أَمرُهُ مِن وراءِ البابِ الذي أغلقتُم دونَه إلى أصحابهِ، فلأَوْشَكوا أن يَثِبوا عليكم، فيَنزِعوه مِن أَيديكُم، ثمَّ يُكاثِروكُم به حتَّى يَغلِبوكُم على أَمرِكُم، ما هذا لكم برأيٍ، فانظروا في غيرِهِ. بعد ذلك تَقدَّم كبيرُ مُجرِمي مكَّةَ أبو جهلِ بنِ هشامٍ بِاقتِراحٍ آثمٍ وافق عليه جميعُ مَن حضر, قال أبو جهلٍ: والله إنَّ لي فيه رأيًا ما أَراكُم وقعتُم عليه بعدُ. قالوا: وما هو يا أبا الحكمِ؟ قال: أَرى أن نَأخُذَ مِن كُلِّ قَبيلةٍ فَتًى شابًّا جَليدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينا، ثمَّ نُعطي كُلَّ فَتًى منهم سَيفًا صارمًا، ثمَّ يَعمِدوا إليه، فيَضرِبوه بها ضربةَ رجلٍ واحدٍ فيَقتُلوه، فنَستَريحَ منه، فإنَّهم إذا فعلوا ذلك تَفرَّق دَمُهُ في القبائلِ جميعًا، فلمْ يَقدِرْ بنو عبدِ منافٍ على حربِ قومِهم جميعًا، فَرَضوا مِنَّا بالعَقْلِ، فَعَقَلْناهُ لهم. قال الشَّيخُ النَّجديُّ: القولُ ما قال الرَّجلُ، هذا الرَّأيُ الذي لا رأيَ غيرُهُ. ووافقوا على هذا الاقتراحِ الآثمِ بالإجماعِ.
هو الزاهِدُ، صاحِبُ الكرامات والمقامات، شيخُ الحنابلة أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح موسى بن عبد الله بن يحيى الزاهد الهاشمي القرشي العلوي الجيلي الحنبلي. ولد بجيلان سنة 470 وقيل 471. دخل بغداد سنة ثمان وثمانين، وله ثماني عشرة سنة، فقرأ الفقهَ على: أبي الوفاء بن عقيل، وأبي الخطاب، وأبي سعد المخرمي، وأبي الحسين بن الفراء، حتى أحكم الأصولَ، والفروع، والخلاف, وسمع الحديث، ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد. بنى أبو سعد المخرمي مدرسة لطيفة بباب الأزج، ففوض إلى عبد القادر التدريسَ فيها, فتكلَّم على الناس بلسان الوعظ وظهر له صيتٌ, فضاقت مدرسته بالناس، فكان يجلس عند سور بغداد مستندًا إلى الرباط ويتوب عنده في المجلس خلقٌ كثير, وكان له سمتٌ حسنٌ، وصَمتٌ غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهدٌ كثير وله أحوال صالحة، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالًا وأفعالًا ومكاشَفات أكثَرُها مغالاة، وقد كان صالحًا وَرِعًا، وقد صنَّف كتاب الغنية، وفتوح الغيب، وفيهما أشياءُ حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ، قال ابن النجار في ترجمة عبد القادر: "قرأ الأدبَ على أبي زكريا التبريزي، واشتغل بالوعظ إلى أن برز فيه, ثم لازم الخَلوة، والرياضة، والسياحة، والمجاهدة، والسهر، والمقام في الخراب والصحراء. وصحب الشيخ حماد الدباس، وأخذ عنه علم الطريق، ثمَّ إن الله تعالى أظهره للخلق، وأوقع له القبول العظيم، فعَقد مجلس الوعظ سنة 521 وأظهر الله الحكمة على لسانه, ثم جلس في مدرسة شيخه أبي سعد للتدريس والفتوى سنة 528، صنف في الأصول والفروع، وله كلام على لسان أهل الطريقة". قال: عبد الرزاق ولد عبد القادر يقول: "كتب إلي عبد الله بن أبي الحسن الجبَّائي قال: كنت أسمع كتاب «الحلية» على ابن ناصر، فرَقَّ قلبي، وقلت في نفسي: اشتهيت أن أنقَطِعَ عن الخلق وأشتغل بالعبادة. ومضيت فصليتُ خلف الشيخ عبد القادر، فلما صلى جلسنا، فنظر إلي وقال: إذا أردت الانقطاع، فلا تنقطع حتى تتفقَّه، وتجالِسَ الشيوخ، وتتأدب، ولا تنقطِعْ وأنت فريخ ما ريَّشت؛ فإن أشكلَ عليك شيء من أمر دينك تخرجُ من زاويتك وتسأل الناس عن أمر دينك! ما يَحسُن صاحب الزاوية أن يخرُجَ من زاويته ويسأل الناس عن أمر دينه! ينبغي لصاحب الزاوية أن يكون كالشَّمعة يُستضاء بنوره". وقال عبد الرزاق: وُلِدَ لوالدي تسع وأربعون ولدًا، سبعة وعشرون ذكرًا، والباقي إناث". توفي وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة التي كانت له.