الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 735 ). زمن البحث بالثانية ( 0.017 )

العام الهجري : 310 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 923
تفاصيل الحدث:

هو أبو جعفرٍ محمَّدُ بنُ يزيدَ بنِ كثير بن غالب الطَّبَري، صاحبُ التَّفسيرِ الكبيرِ, والتاريخِ الشَّهيرِ، كان إمامًا في فنون كثيرةٍ، منها: التفسير والحديث، والفقه والتاريخ، وغير ذلك، وله مُصنَّفات مَليحة في فنونٍ عديدة تدلُّ على سَعةِ عِلمِه وغزارةِ فَضلِه، وكان من الأئمَّة المجتَهِدين، لم يقَلِّدْ أحدًا مِن المجتَهِدين. مولِدُه سنة 224 بآمل طبرستان. أكثَرَ مِن التَّرحالِ، ولقي نُبلاءَ الرِّجالِ، وكان من أفراد الدَّهرِ عِلمًا وذكاءً وكثرةَ تصانيفَ، قلَّ أن ترى العيونُ مِثلَه. قال الذهبي: "كان ثقةً صادِقًا حافِظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماعِ والاختلاف، علَّامةً في التاريخِ وأيَّامِ النَّاسِ، عارِفًا بالقراءات وباللُّغة، وغير ذلك" قال أبو بكرٍ الخطيبُ: "كان أحدَ أئمَّةِ العُلَماءِ، يُحكَمُ بقَولِه، ويُرجَعُ إلى رأيِه؛ لِمَعرفتِه وفَضلِه، وكان قد جمعَ مِن العلوم ما لم يشارِكْه فيه أحدٌ مِن أهل عصره، وكان حافِظًا لكتابِ الله، عارفًا بالقراءاتِ، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكامِ القرآن، عالِمًا بالسُّنَن وطُرُقِها؛ صحيحِها وسَقيمِها، ناسِخِها ومَنسوخِها، عارفًا بأقاويلِ الصَّحابةِ والتابعين ومَن بعدَهم في الأحكامِ ومسائل الحلالِ والحرام، خبيرًا بأيَّامِ الناس وأخبارِهم، وله الكتابُ المشهور في تاريخِ الأُمَم والملوك، والكتابُ الذي في التفسيرِ لم يصنَّفْ مِثلُه، وله في أصولِ الفِقهِ وفُروعِه كتبٌ كثيرةٌ، وأخبارٌ مِن أقاويل الفقهاء، وتفرَّد بمسائل حُفِظَت عنه"، كان من العبادةِ والزَّهادةِ والوَرَع والقيامِ في الحَقِّ لا تأخذُه في ذلك لومةُ لائم، وكان حسَنَ الصَّوتِ بالقراءة مع المعرفةِ التَّامَّة بالقراءات على أحسَنِ الصِّفات، وكان من كبارِ الصَّالحينَ، يتعَفَّفُ عن قَبولِ أموال السلاطين والوزراء، وكان صاحِبَ هِمَّة عالية في الكتابةِ, قال الخطيب: "سمعتُ عليَّ بنَ عبيد الله اللُّغوي يحكي أنَّ محمَّدَ بنَ جرير مكث أربعينَ سَنةً يكتبُ في كلِّ يومٍ منها أربعينَ ورقةً". قال أبو محمد الفرغاني: " تمَّ مِن كتُبِ مُحمَّد بن جريرٍ كتابُ "التفسير" الذي لو ادَّعى عالمٌ أن يُصنِّفَ منه عشرةَ كُتُب، كلُّ كتابٍ منها يحتوي على عِلمٍ مُفَردٍ مُستقصًى، لفَعَلَ". وتمَّ مِن كُتُبِه كتاب "التاريخ" إلى عصرِه، وكتاب "تاريخ الرجال" من الصحابة والتابعين، وإلى شيوخه الذين لقِيَهم، وكتاب "لطيفُ القول في أحكام شرائع الإسلام" وهو مذهبه الذي اختاره وجَوَّده واحتَجَّ له، وهو ثلاثة وثمانون كتابًا، وكتاب "القراءات والتنزيل والعدد"، وكتاب "اختلاف علماء الأمصار"، وكتاب "الخفيف في أحكام شرائع الإسلام" وهو مختصر لطيف، وكتاب "التبصير" وهو رسالةٌ إلى أهل طبرستان، يشرحُ فيها ما تقَلَّده من أصول الدين، وابتدأ بتصنيف كتاب "تهذيب الآثار" وهو من عجائِبِ كُتُبِه، ابتداءً بما أسنده الصِّدِّيقُ ممَّا صَحَّ عنده سنَدُه، وتكلَّمَ على كلِّ حديثٍ منه بعِلَلِه وطُرُقِه، ثمَّ فِقهِه، واختلافِ العُلَماءِ وحُجَجِهم، وما فيه من المعاني والغريبِ، والردِّ على المُلحِدينَ، فتَمَّ منه مُسنَدُ العَشَرةِ وأهلِ البيت والموالي، وبعضُ "مسند ابن عبَّاس"، فمات قبل تمامِه".وهو أحدُ المحَدِّثين الذي اجتَمَعوا في مصرَ في أيام ابنِ طولون، وهم محمَّد بنُ إسحاقَ بنِ خُزيمة إمامُ الأئمَّة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمَّد بن هارون الروياني، ومحمد بن جريرٍ الطَّبري هذا. توفِّيَ ببغداد ودُفِنَ ليلًا بداره؛ لأنَّ العامَّة اجتمعت ومَنَعَت من دفنِه نهارًا، وادَّعوا عليه الرَّفضَ، ثمَّ ادَّعوا عليه الإلحادَ، وكان عليٌّ بن عيسى يقول: واللهِ لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرَّفضِ والإلحادِ ما عَرَفوه، ولا فَهِموه"، وحُوشِيَ ذلك الإمامُ عن مثلِ هذه الأشياءِ، وأمَّا ما ذكره عن تعصُّبِ العامَّة، فليس الأمرُ كذلك، وإنَّما بعض الحنابلةِ تعصَّبوا عليه، ووقَعُوا فيه، فتَبِعَهم غيرُهم؛ ولذلك سبَبٌ، وهو أنَّ الطبريَّ جمع كتابًا ذكر فيه اختلافَ الفُقَهاءِ، لم يُصنَّفْ مِثلُه، ولم يَذكُرْ فيه أحمدَ بنَ حَنبَل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكُنْ فقيهًا، وإنَّما كان محدِّثًا، فاشتدَّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يُحصَونَ كثرةً ببغداد، فشَغَّبوا عليه- رحمه الله رحمةً واسعة.

العام الهجري : 500 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1106
تفاصيل الحدث:

هو سلطان المغرب أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن ترقنت الصنهاجي اللمتوني المغربي البربري، الملقَّب بأمير المسلمين، وبأمير المرابطين، وبأمير الملثمين. ولد سنة 430. كان أحدَ من ملك البلاد ودانت بطاعته العباد، واتسعت ممالكه، وطال عمره. وقلَّ أن عُمِّرَ أحد من ملوك الإسلام ما عمر. تولى إمارة البربر واستولى على المغرب ثم الأندلس والسودان، وكان يخطب لبني العباس، وهو أول من تسمى بأمير المسلمين من المرابطين، ولم يزل على حاله وعِزِّه وسلطانه إلى أن توفي سنة 500. قال ابن خلدون: "تسمَّى يوسف بن تاشفين بأمير المسلمين، وخاطَبَ الخليفة لعهده ببغداد، وهو أبو العباس أحمد المستظهر بالله العباسي، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العربي المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر بن العربي الإمام المشهور، فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ وطلبا من الخليفة أن يعقد لأمير المسلمين بالمغرب والأندلس؛ فعَقَدَ له وتضمن ذلك مكتوبًا من الخليفة منقولًا في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم، وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير". وإنما احتاج أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة المستظهر بالله مع أنه كان بعيدًا عنه وأقوى شوكةً منه؛ لتكون ولايته مستندة إلى الشرع، وهذا من ورعه، وإنما تسمى بأمير المسلمين دون أمير المؤمنين أدبًا مع الخليفة حتى لا يشارِكَه في لقبه؛ لأن لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة, وكان أمير المسلمين حين ورد عليه التقليد من الخليفة ضرب السكةَّ باسمه ونقش على الدينار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحت ذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين, وكتب على الصفحة الأخرى عبد الله أحمد أمير المؤمنين العباسي, وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغة من قاصية شرق الأندلس، وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من بحر الأندلس، وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يومًا طولًا، وفي العرض ما يقرب من ذلك، وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مذغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان, ولم يُرَ في بلد من بلاده ولا عَمَلٍ من أعماله على طول أيامه رسمُ مَكسٍ ولا خَراجٌ، لا في حاضرة ولا في بادية إلا ما أمر الله به، وأوجب حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم, وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يَجْبِه أحد قبله. يقال: إنه وُجِد في بيت ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الوَرِق، وخمسة آلاف وأربعون ربعًا من مطبوع الذهب, وكان زاهدًا في زينة الدنيا وزهرتها، وَرِعًا متقشِّفًا، لباسه الصوف لم يَلبَس قطُّ غيره، ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرًا على ذلك، لم يُنقَل عنه مدة عمره على ما منحه الله من سعة الملك وخوَّله من نعمة الدنيا، وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة، وكان محبًّا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرمًا لهم صادرًا عن رأيهم، يُجري عليهم أرزاقهم من بيت المال، وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعًا كثير الحياء جامعًا لخصال الخير. هو الذي بنى مدينة مراكش في سنة خمس وستين وأربعمائة، اشتراها يوسف بماله الذي خرج به من الصحراء. وكان في موضعها غابة من الشجر وقرية فيها جماعة من البربر، فاختطها وبنى بها القصور والمساكن الأنيقة, وهو الذي أخذ الأندلس من ملوك الطوائف وأسر المعتمد بن عباد في أغمات.. توفي في قصره بمراكش يوم الاثنين لثلاث خلون من المحرم, وعاش سبعين سنة مَلَكَ منها مدة خمسين سنة, وكان قد عهد بالإمرة من بعده لولده علي الذي بويع له ولُقِب بأمير المسلمين كذلك.

العام الهجري : 1014 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1605
تفاصيل الحدث:

هو السلطانُ المؤيَّد المظفَّر أبو الفتح جلال الدين محمد أكبر بن همايون بن بابر التيموري الكوركاني، أكبرُ ملوك الهند وأشهرُهم في الذِّكر، ولِدَ في قلعة أمركوث من أرض السِّند في ثاني ربيع الأول سنة 949هـ من "حميده بانو". حين انهزم والده همايون من شير شاه، ثم رجع بعد بضعة سنين فافتتح قندهار وكابل وأكثر بلاد الهند، فلما مات همايون جلس ولدُه جلال الدين على سريره تحت وصاية الوزير بيرم خان؛ لأن سنَّه حينئذ نحو ثلاث عشرة سنة، ولما بلغ أكبرُ أشُدَّه استقَلَّ بالملك، وسافر إلى الحرمين الشريفين، ثم افتتح أمره بالعدل والسخاء، وقرَّب إليه أهل العلم والصلاح، وكان يستمع الحديث، وبنى مساجد وزوايا له، وبنى مدينة بأرضه وجعلها عاصمة بلاد الهند، وبنى بها قصرًا وسماه (عبادت خانه) وقسَّمه على أربعة منازل وأمر أن يجتمع فيه علماء البراهمة والنصارى والمجوس وأهل الإسلام، فيجتمعون في ذلك القصر ويتباحثون في الخلافيات بحضرة السلطان، حتى دخل في مجلسه من أهل الشبهات والشهوات كأبي الفيض وصنوه أبي الفضل والحكيم أبي الفتح ومحمد اليزدي، فجعلهم فريقًا لأهل الصلاح فدسُّوا في قلبه أشياء ورغَّبوه عن أهل الصلاح وقالوا: لا ينبغي للسلطان أن يقلِّدَ أحدًا من الفقهاء المجتهدين، فانشرح صدر السلطان، وفتح أبواب الاجتهاد، فجوَّز متعة النساء، ونكاحَ المسلم بالوثنية، حتى اجترأ على الطعن والتشنيع على السلف الصالح، لا سيما الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وأمر بإخراج المشائخ والعلماء من الهند، واجتمع لديه شِرذمة من علماء الوثنيين والنصارى والمجوس ومن أحبار الهنود ومن الشيعة، وكان كل واحد منهم يجتهد أن يرغِّبَه إلى مذهبه، وكانت تحته طائفة من الأميرات الوثنيات بنات ملوك الهند، وصار حوله من يزيِّن له عبادة الأصنام، وتعظيم النار والشمس، فتدرج في الاجتهاد وترقى من الفروع إلى الأصول، وقال بخلق القرآن، واستحالة الوحي، والتشكيك في النبوات، وأنكر الجن، والمَلَك، والحشر والنشر، وسائر المغيبات، وأنكر المعجزات، وجوز التناسُخ، وحرَّم ذبح البقرة، وحطَّ الجزية عن أهل الذمة، وأحلَّ الخمر والميسِر والمحرَّمات الأُخر، وأمر بإيقاد النار في حَرَمِه على طريق المجوس، وأن يعظِّم الشمس وقت طلوعه على طريق مشركي الهند، وقرَّر أن الحق دائر بين الأديان كلها، فينبغي أن يُقتَبَس من كلها أشياء، وكان يسجد للشمس والنار في كل سنة يوم النيروز بالإعلان، وشرع ذلك من سنة خمس وعشرين الجلوسية، ورسم القشقة على جبينه يوم العيد الثامن من شهر سنبله، وربط سلكًا من الجواهر عن أيدي البراهمة تبركًا، وكذلك كان يفعل كلَّ ما يفعله كفار الهند، ويستحسنه ويحرِّض أصحابه على ما فعله، ويحثهم على ترك التقليد، يعني به دين الإسلام، ويهجِّنه ويقول: إن واضِعَه فقراء الأعراب، وأمر أن لا يقرأ من العلوم العربية غير النجوم والحساب والطب والفلسفة، فكان هذا الدين الذي اخترعه مصدرَ كراهيةٍ شديدة له في نفوس أهل الإسلام، حتى انتهى الأمر بهم مرَّةً إلى شق عصا الطاعة علنًا، بل قيل: إن ابنه الأمير جهانكير ثار عليه وأخذ يدبِّر له المكائدَ خُفْية، فحشد جهانكير جيشًا من ثلاثين ألف فارس، وقتل "أبا الفضل" مؤرِّخَ القصر وأحبَّ الأصدقاء إلى نفس أبيه، فحَطَّمت قوَّته النفسيَّة وتنكَّر له أبناؤه في أواخر أيامه، ومات الملك أكبر في سكندر آباد قريب آكره، بعد أن حكم أربعين سنة، مات بمرض الديسنتاريا، وقيل: مات مسمومًا بتدبير ابنه جهانكير، ولم يجد من يصلِّي عليه من أنصار أيَّةِ عقيدة أو مذهب ممَّن جمعهم حوله. وفي مطلع القرن العشرين الميلادي عملت إنجلترا على تشجيع مرزا غلام أحمد القادياني في الهند على إحياء ما دعا إليه الملك المغولي جلال الدين محمد أكبر!!

العام الهجري : 1413 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1992
تفاصيل الحدث:

إنَّ المسجد البابري الواقعَ بمدينة "إيودهيا " في شمال الهندِ، يعودُ تاريخُه إلى القرن السادسَ عَشَرَ الميلاديِّ، عندما بناه "بابرُ" أولُ إمبراطورٍ مغوليٌّ حكَمَ الهندَ، وفي أوائل الثمانينيات من القرن العشرين زعَم المتطرِّفون الهندوسُ أنه بُنيَ على أنقاض معبدٍ بمكان مَولِد "راما" الأسطوري المقدَّس لدى الهندوس، ولذا وجب نسفُه، والتخلصُ منه .. وجعلوها قضيةً شَعبيَّةً، وقضيَّةً عامَّةً للهندوس، وبدؤوا ينظُرون إلى هذا المسجدِ كأنَّه علامةً وشعارًا للغزوِ المسلِمِ لهذه البلاد، وكانت أحداثُه بالفعل بدايةَ مرحلة تصاعديَّةٍ جديدةٍ من تطرُّف الهندوس وعدائهم للمسلِمين، وكانت إيذانًا بحملة هندوسيَّةٍ دعائيَّةٍ، زعمَت أنَّ كلَّ مساجد المسلِمين العتيقةِ قد بُنيت على أنقاضِ معابِدِ الهندوس، وهي الحملةُ التي برَّرت هدمَ المسجد البابري في السادس من ديسمبر عام 1992/ 1413هـ، وما أعقبَه من صداماتٍ داميةٍ أوْدَت بحياة ألفَيْ مُسلمٍ، وتعود بدايةُ العُدوان على المسجد البابري إلى ما يَزيدُ عن نصفِ قرنٍ، ففي ليلة 22 ديسمبر 1949 هجمت عصابةٌ مكوَّنة من 50 -60 هندوسيًّا على المسجد البابري، ووضَعوا فيه أصنامًا لذاك الممجَّد لديهم المسمَّى "راما"، وادَّعَوْا أنَّ الأصنام ظهرَت بنفسِها في مكان ولادتِه! وقد سَمَح رئيس وزراء الهند "راجيف غاندي" للهندوس بوضع حَجَر أساس لمعبد هندوسي في ساحة المسجد، وتَبِع هذا حُكمٌ صادرٌ بمحكمة فايزباد بتاريخ 1 فبراير 1986 من طرف القاضي "ر.ك. باندي" -الذي أصبح عضوًا في الحزب الحاكم المسؤول عن هدم مسجد بابري- سمَحَ فيه بفتح أبواب المسجد للهندوس، وإقامة شعائرهم التعبديَّة فيه، وحذَّر السُّلطات المحليَّة من التدخل في هذا الشَّأنِ، وفي بداية الثمانينيَّات قام الهندوسي المتطرِّف "محنت راغوبير" برفع قضيةٍ أمام المحكمة بشأن كون المسجدِ البابري قد بُنيَ فوقَ معبدِ "راما" الأسطوري، إلَّا أنَّ هذه المزاعمَ تمَّ دَحْضُها بحكم القضاء في إبريل 1985 لفِقْدان أي دليلٍ تاريخيٍّ أو قانونيٍّ، ولكنَّ التَّحرُّكات الصادرة عن الحكومة العِلمانيَّة هناك قد شجَّعت المتطرِّفين الهندوس على ترتيب هدم المسجد بالكامل بتاريخ 6 ديسمبر 1992م، فقد قام عَشَرات الآلاف من الهندوس في مدينة أبوديا بالهند -يوم الأحد الحاديَ عَشَرَ من جمادي الآخرة 1413هـ- 6 ديسمبر 1992م، بتدميرِ مسجد بابري بالمدينة، بل ومَسحِه من الوجود، وهم يُرَدِّدونَ أهازيج الانتصار مُعلِنين العزمَ على البدء في بناء معبدٍ هندوسيٍّ مكانَ المسجدِ الذي يبلُغُ عمرُه ما يُناهزُ الأربعة قرونٍ ونصفَ قرنٍ، مُنادين في الوقت نفسِه بأنه قد آن الأوانُ لخروج المسلِمين من الهندِ.. وفي أعقاب هذه الجريمة النَّكْراء عمَّت حوادث الشغَب أنحاءَ الهند، وقُتِلَ فيها أكثرُ من ثلاثة آلافِ شخصٍ، وبعد وقوع جريمة الهدمِ بدأ الصراعُ على أرض المسجدِ، إلَّا أنَّ ستارًا من الصَّمْت قد أُسدل على هذه المأساة من الجانبَيْنِ معًا، فالجانبُ الهنديُّ يحرِصُ على التزام الصَّمْتِ حولَ قضية اعتداءٍ وحشيٍّ على المسلمين يكشِفُ ضراوةَ التيار الهندوسيِّ الذي نجحَ في الوصول برموزِه وقياداته إلى سُدَّة السلطة الاتِّحادية في نيودلهي، أما الجانب الإسلامي فثمَّةَ فريقٌ فيه يَدْعو إلى ابتلاع المسألة برُمَّتها، والتزام الصمت بشأنها؛ لأنَّ إثارتها لن تؤديَ إلا إلى مزيد من المشكلات للمسلِمين في الهند، ثم أعلنَ المجلس الهندوسيُّ العالميُّ الذي ينتمي إليه حزب رئيس الوزراء الهنديِّ "أتال بيهاري فاجابايي" في 20/5/2001 بأنه سيبدَأ قريبًا في بناء معبدٍ بالقرب من موقع المسجدِ البابري، واعتُبر هذا الإعلانُ بمثابة تَحَدٍّ للحكومة الهندية التي تعارِضُ بناءَ هذا المعبد، حيث صرَّح وزير الداخليَّة "لال كيرشنا أدفاني" بعدها بأنَّه لن يسمَحْ ببناء ذلك المعبد، والمعروف أن الحكوماتِ الهنديَّة المتعاقِبة وعدَت المسلمين بإعادة بناء المسجد المهدَّمِ، إلَّا أنها تقاعَسَت عن تنفيذ وعودها.

العام الهجري : 812 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1409
تفاصيل الحدث:

أفرج الأمير شيخ المحمودي نائب الشام عن الأمير سودن تلي الحمدي، والأمير طوخ، والأمير سودن اليوسفي، وهم الذين طلبهم السلطان، فامتنع من إرسالهم إليه حتى غضب، وسار من مصر إلى دمشق ليأخُذَ الأمير شيخ، ثم أظهر شيخ ما في نفسه، وصرح بالخروج عن طاعة السلطان، وأخذ في الاستعداد، وطلب الأمراء الذين أفرج عنهم إليه بالمرج، في ليلة الثامن والعشرين من المحرم واستدعى قضاة دمشق وفقهاءها، وتحدث معهم بحضرة الأمراء بجواز محاربة السلطان، فأفتاه شهاب الدين أحمد بن الحسباني بما وافق غرَضَه، ثم في شهر صفر أوله السبت في ليلة السبت نزل السلطان باللجون، فشاع بين العسكر تنكُّر قلوب المماليك الظاهرية على السلطان، وتحدثوا بإثارة فتنة لتقديمه مماليكه الجلب -هكذا يُعرَفون- عليهم، واختصاصه بهم، وكثرة عطائه لهم، فلما أصبح السلطان رحل ونزل بيسان من آخره، فما هو إلا أن غربت الشمس، واشتد اضطراب الناس، وكثر قلق السلطان وخوفُه طول الليل إلى أن طلع الفجر، فرحل إلى جهة دمشق، وفي ليلة الخميس سادسه نزل السلطان الكسوة، ففر الأمير علان وجماعة من المماليك إلى جهة الأمير شيخ، فركب السلطان بكرة يوم الخميس ودخل دمشق، وفي ثاني ربيع الأول سارت أطلاب السلطان والأمراء من دمشق إلى الكسوة، وتبعهم السلطان بعساكره، وعليهم آلة الحرب، فبات بالكسوة، وأصبح راحلًا إلى جهة الأمير شيخ، وسار بكرة يوم الثلاثاء، فمر بالصنمين، ونزل من آخره برأس الماء على بريد من الصنمين، وبات فقَدِمَ الخبر بالتقاء كشافة السلطان بكشافة الأمير شيخ، وأسْرِهم رجلًا من الشيخية، وسار السلطان بكرةَ يوم الأربعاء إلى قرية الحراك، فنزل نصف النهار ثم رحل رحيلًا مزعجًا، ظنَّ الناس أن العدو قد طرقهم، فجدَّ في مسيره ونزل عند الغروب بكرك البثنية من حوران، وفي يوم الخميس سار السلطان إلى أن نزل ظاهر مدينة بصرى، فتحقق هناك خبر الأمير شيخ، وأنه في عصر يوم الأربعاء الماضي بلغه أن السلطان قد سار في إثره، فرحل فَزِعًا يريد صرخد، فأقام السلطان على بصرى إلى بكرة السبت، وقَدِمَ عليه ببصرى من الشيخية الأمير برسباي والأمير سودن اليوسفي، فكتب بذلك إلى دمشق، ثم سار ونزل بقرية عيون -تجاه صرخد- فكانت حرب بين أصحابه وبين الشيخية، قُتِل فيها فارسان من الشيخية، وجرح من السلطانية جماعة، ففرَّ منهم جماعة إلى الأمير شيخ، فلَحِقوا به، وكثر تخوُّف السلطان من أمرائه ومماليكه، وبلغه أنهم عوَّلوا على أنه إذا وقع مصاف الحرب، تركوه ومضوا إلى الأمير شيخ، فبات ليلته مستعدًّا لأن يُؤخَذ، ودبَّر أمرًا كان فيه نجاتُه، وسار بهم فلم يفجأ القوم إلا وقد طلع عليهم من ثنية هناك، وقد عبأ الأمير شيخ أصحابه، فأوقف المصريين ناحية، وقدم عليهم الأمير تمراز الناصري نائب السلطة، ووقف في ثقاته -وهم نحو الخمسمائة فارس- وحطم عليهم السلطان بنفسه ومن معه، فانهزم تمراز بمن معه من أول وهلة، وثبت الأميرُ شيخ فيمن معه، فكانت بينهم معارك صدرًا من النهار، وأصحاب الأمير شيخ تنسَلُّ منه، وهو يتأخر إلى جهة القلعة، وكانت الحرب بين جدران مدينة صرخد، فولى السلطان وطاق الشيخية، وانتهب أصحابه جميع ما كان فيه من خيل وجِمال، وثياب وأثاث، وخيام وآلات، وغيرها، فحازوا شيئًا كثيرًا، واستولى السلطان على جامع صرخد، وأصعده أصحابَه، فرَمَوا من أعلى المنارة بمكاحل النفط والأسهم الخطالية على الأمير شيخ، وحمل السلطان عليه حملة واحدة منكرة، فانهزم أصحاب شيخ، والتجأ في نحو العشرين إلى قلعة صرخد، وكانت خلف ظهره، وقد أعدها لذلك، فتسارع إليه عدة من أصحابه، وتمزَّق باقيهم، فأحاط السلطان بالمدينة، ونزل على القلعة، فأتاه الأمراء فهَنَّؤوه بالظفر، وامتدت الأيدي إلى صرخد، فما تركوا بها لأهلها جليلًا ولا حقيرًا، حتى أخذوه نهبًا وغصبًا، فامتلأت الأيدي مما لا يدخل تحت حصر، ولم يزل السلطان على قلعة صرخد يرميها بالمدافع والسهام، ويقاتل من بها ثلاثة أيام بلياليها، حتى أحرق جسر القلعة، فامتنع الأمير شيخ ومن معه بداخلها، وركبوا أسوارها، فأنزل السلطان الأمراء حول القلعة، وألزم كل أمير بقتال جهة من جهاتها، واستدعى المدافع ومكاحل النفط من الصبيبة وصفد ودمشق، ونَصَبها حول القلعة، وتمادى الحصر ليلًا ونهارًا، حتى قدم المنجنيق من دمشق على مائتي جمل، فلما تكامل نَصبُه ولم يبقَ إلا أن يرمي بحجره ترامى الأمير شيخ ومن معه من الأمراء على الأمير الكبير تغري بردي الأتابك، وألقوا إليه ورقة في سهم من القلعة، يسألونه فيها الوساطة بينهم وبين السلطان، فما زال حتى بعثه السلطان إليهم، فصعد إلى القلعة ومعه الخليفة وكاتب السر فتح الله، وجماعة من ثقات السلطان، في يوم السبت الثامن والعشرين، فجلسوا على شفير الخندق، وخرج الأمير شيخ، وجلس بداخل باب القلعة، ووقف أصحابه على رأسه، وفوق سور القلعة، وتولى كاتب السر محادثة الأمير شيخ، فطال الخطب بينهما، واتسع مجال الكلام؛ فتارة يعظه، وأخرى يؤنِّبه ويوبِّخُه، وآونة يعدِّدُ بالله على السلطان من جميل الأيادي وعوائد النصر على أعدائه، ويخوِّفه عاقبة البغي، وفي كل ذلك يعتذر الأمير شيخ، ثم انصرفوا على أن الأمير شيخ لا يقابل السلطان أبدًا خوفًا من سوء ما اجترمه، وقبيح ما فعله، فأبى السلطان إلا أن ينزل إليه، وأعاد الأمير تغري بردي وفتح الله فقط، بعدما ألح تغري بردي على السلطان في سؤاله العفو، فأحلف الأمير شيخ، وأخذ منه الأمير كمشبغا الجمالي وأسنبغا، بعدما خلع عليهما، وأدلاهما بحبال من سور القلعة، ثم أرخى أيضًا ابنه ليبعث به إلى السلطان، فصاح الصغير وبكى من شدة خوفِه، فرحمه من حضر، وما زالوا به حتى نشله، وتصايح الفريقان من أعلى القلعة، وفي جميع خيم العسكر، فرحًا وسرورًا بوقوع الصلح، وذلك أن أهل القلعة كانوا قد أشفَوا على الأخذ لقلة زادهم ومائهم، وخوفًا من حجارة المنجنيق، فإنها كانت تدمرهم تدميرًا، لو رمى بها عليهم، وأما العسكر فإنهم كانوا طول إقامتهم يسرحون كل يوم، فينهبون القرى نهبًا قبيحًا، ويأخذون ما يجدونه من الغلال والأغنام وآلات النساء، ويعاقبون من ظفروا به حتى يُطلِعَهم على ما عنده من علف الدواب وغيره، وفيهم من يتعرَّض للحريم فيأتون من القبائح بما يشنع ذكره، وهذا وهم في خصاصة من العيشِ، وقلة من المأكل، وكادت بركة صرخد أن يُنزح ماؤها، ومع ذلك فإن أصحاب السلطان معظمهم غير مناصِح له، لا يريدون أن يظفر بالأمير شيخ خشية أن يتفرغ منه لهم؛ فلهذا حسن موقع الصلح من الطائفتين، وبات العسكر على رحيل، وأصبحوا يوم الأحد، فركب الأمير تغري بردي، وكاتب السر فتح الله، والأمير جمال الدين، ومعظم الأمراء، فصعدوا إلى قلعة صرخد، وجلسوا على شفير خندقها فخرج الأمير شيخ وجلس بداخل باب القلعة، ووقف من معه على رأسه، ومن فوق السور، وأحلف فتح الله من بقي مع الأمير شيخ المحمودي من الأمراء للسلطان، وهم: جانم نائب حماة، وقرقماس ابن أخي دمرداش نائب صفد، وتمراز الأعور، وأفرج الأمير شيخ عن يحيي بن لاقي وتجار دمشق، وغيرهم ممن كان مسجونًا معه، وبعث للسلطان تقدمة فيها عدة مماليك، وتقرر الحال على مسير الأمير شيخ نائبًا بطرابلس، وأن يلبس التشريف السلطاني إذا رحل السلطان، فلما عادوا إلى السلطان رحل من صرخد، وقد رحل أكثر المماليك من الليل، فسار في قليل من ثقاته، وترك عدة من الأمراء على صرخد، وأنفق فيهم خمسة وعشرين ألف دينار وستين ألف درهم فضة، خارجًا عن الغنم والشعير، ونزل زرع فبات بها، ثم في شهر جمادى الأولى في ثالثه: قرئ بدمشق كتاب السلطان بأنه قد ولى الأمير شيخ نيابة طرابلس، فإن قصد دمشق فدافعوه عنها وقاتلوه، وكان الأمير شيخ قد قصد دمشق، وكتب إلى الأمير بكتمر جلق بأنه يريد دخول دمشق، ليقضيَ بها أشغاله ويرحل إلى طرابلس، فكثر تخيُّل السلطان من دخوله إليها، وفي ليلة الجمعة عاشره نزل الأمير شيخ على شقحب، وكان الأمير بكتمر قد خرج إلى لقائه بعسكر دمشق، ونزل قبة يلبغا، ثم ركب ليلًا يريد كبس الأمير شيخ، فلقي كشافته عند خان ابن ذي النون، فواقعه فبلغ ذلك الخبر شيخًا، فركب وأتاه، فلم يثبت بكتمر، وانهزم وأتى الأمير شيخ فنزل بمن معه قبة يلبغا، ودخل بكرة يوم الجمعة إلى دمشق، ونزل بدار السعادة من غير ممانع، ثم تغلب على دمشق بدل نائبها نوروز الحافظي الذي لم يستطع دخول دمشق؛ لمكان شيخ فيها، بل ظل محصورًا في حماة مع نائبها.

العام الهجري : 465 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1072
تفاصيل الحدث:

هو سُلطانُ العالَم عَضُدُ الدَّولةِ أبو شُجاعٍ، المُلَقَّبُ بالعادِل محمد، ألب أرسلان بن جغريبك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق بن سلجوق التُّركيُّ, واسمُه بالعربي محمدُ بنُ داودَ وألب أرسلان اسمٌ تُركيٌّ مَعناهُ شُجاع أَسَد، فألب: شُجاع، وأرسلان: أَسَد. وهو ابنُ أخي السُّلطانِ طغرلبك، أَصلُه من قَريةٍ يُقال لها: النور. وُلِدَ سَنةَ 424هـ, وَجَدُّهُ دقاق، هو أَوَّلُ مَن دَخلَ في الإسلامِ, وألب أرسلان أَوَّلُ مَن ذُكِرَ بالسُّلطانِ على مَنابِرِ بغداد, وكان مَلِكًا عادِلًا، مَهِيبًا، مُطاعًا، مُعَظَّمًا. وَلِيَ السَّلْطَنَةَ بعدَ وَفاةِ عَمِّهِ طغرلبك بن سلجوق في سَنةِ 457هـ. لمَّا ماتَ السُّلطانُ طُغرلبك نَصَّ على تَوْلِيَةِ الأَمرِ لسُليمانَ بنِ داودَ أخي ألب أرسلان، ولم يَنُصَّ على ألب أرسلان؛ لأنَّ أُمَّ سُليمانَ كانت عنده فتَبِعَ هَواها في وَلَدِها، فقام سُليمانُ بالأَمرِ وثارَ عليه أَخوهُ ألب أرسلان، وجَرَت بينهم خُطوبٌ فلم يَتِمَّ لِسُليمانَ الأَمرُ، وكانت النُّصرةُ لألب أرسلان. فاستَولَى على المَمالِكِ، وعَظُمَت مَملكَتُه ورُهِبَت سَطوتُه، وفَتحَ من البِلادِ ما لم يكُن لِعَمِّهِ طُغرلبك مع سِعَةِ مُلْكِ عَمِّهِ، وقَصدَ بِلادَ الشامِ فانتَهَى إلى مَدينةِ حَلَب، وهو أَوَّلُ مَن عَبَرَ الفُراتَ من مُلوكِ التُّركِ. وكاد أن يَتَمَلَّكَ مصر. أَعزَّ الله بهِ الإسلامَ وأَذَلَّ الشِّرْكَ. كان ألب أرسلان مِن أَعدَلِ الناسِ، وأَحسَنِهم سِيرَةً، وأَرغَبِهِم في الجِهادِ وفي نَصرِ الدِّينِ. وعَظُمَ أَمرُ السُّلطانِ ألب آرسلان، وخُطِبَ له على مَنابرِ العِراقِ والعَجَمِ وخُراسان، ودانَت له الأُمَمُ، وأَحَبَّتْهُ الرَّعايا، ولا سيما لمَّا هَزَمَ العَدُوَّ، طاغِيةَ الرُّومِ أرمانوس في مَعركةِ ملازكرد سَنةَ 463هـ, وقَنعَ من الرَّعِيَّةِ بالخَراجِ في قِسطَينِ، رِفْقًا بهم, وكان كَثيرَ الصَّدَقاتِ، يَتَفقَّد الفُقراءَ في كلِّ رَمضانَ بأَربعةِ آلافِ دِينارٍ ببَلخ، ومَرو، وهراة، ونيسابور، ويَتَصدَّق بحَضرَتِه بعشرةِ آلافِ دِينارٍ. كَتبَ إليه بَعضُ السُّعاةِ في نِظامِ المُلْكِ وَزيرِهِ، وذَكَرَ مالَه في مَمالِكِه فاستَدعاهُ فقال له: خُذْ إن كان هذا صَحيحًا فهَذِّبْ أَخلاقَك وأَصلِح أَحوالَك، وإن كَذَبَ فاغْفِر له زَلَّتَهُ. وكان شديدَ الحِرصِ على حِفْظِ مالِ الرَّعايا، بَلَغَهُ أنَّ غُلامًا من غِلمانِه أَخذَ إِزارًا لبَعضِ أَصحابِه فصَلَبَهُ فارتَدعَ سائرُ المَماليكِ به خَوفًا من سَطوتِه. في أَوَّلِ سَنةِ 465هـ قَصدَ السُّلطانُ ألب أرسلان، ما وَراءَ النَّهرِ، وصاحبُه شَمسُ المُلْكِ تكين، فعَقدَ على جيحون جِسْرًا وعَبرَ عليه في نَيِّفٍ وعِشرينَ يومًا، وعَسكرُه يَزيدُ على مائتي ألف فارسٍ، فأَتاهُ أَصحابُه بمُسْتَحْفِظِ قَلعَةٍ يُعرفُ بيُوسُف الخوارزمي، في سادس شهرِ رَبيعٍ الأوَّل، وحُمِلَ إلى قُرْبِ سَريرِه مع غُلامَينِ، فقال له يُوسفُ: يا مُخَنَّث! مِثلي يُقتَل هذه القِتلَة؟ فغَضِبَ السُّلطانُ ألب أرسلان، وأَخذَ القَوْسَ والنِّشابَ، وقال للغُلامَينِ: خَلِّيَاهُ! ورَماهُ بِسَهمٍ فأَخطَأهُ، ولم يكُن يُخطِئ سَهمَه، فوَثبَ يُوسفُ يُريدُه، والسُّلطانُ على سُدَّةٍ، فلمَّا رأى يُوسفَ يَقصِدُه قام عن السُّدَّةِ ونَزلَ عنها، فعَثَرَ، فوَقعَ على وَجهِه، فبَرَكَ عليه يُوسفُ وضَربَهُ بسِكِّينٍ كانت معه في خاصِرَتِه، وكان سعدُ الدَّولةِ واقِفًا، فجَرَحَهُ يُوسفُ أيضًا جِراحاتٍ، ونَهضَ ألب أرسلان فدَخَل إلى خَيمةٍ أُخرَى، وضَرَبَ بَعضُ الفَرَّاشِين يُوسفَ بِمِرْزَبَّةٍ على رَأسِه، فقَتَلَه وقَطَّعَهُ الأتراكُ، ولمَّا جُرِحَ السُّلطانُ قال: ما مِن وَجهٍ قَصدتُه، وعَدُوٍّ أَردتُه، إلَّا استَعنتُ بالله عليه، ولمَّا كان أَمسُ صَعدتُ على تَلٍّ، فارتَجَّت الأرضُ تحتي مِن عِظَمِ الجَيشِ وكَثرَةِ العَسكرِ، فقلتُ في نفسي: أنا أَملِكُ الدُّنيا، وما يَقدِر أَحَدٌ عَلَيَّ، فعَجَّزَني الله تعالى بأَضعفِ خَلْقِه، وأنا أَستَغفِرُ الله تعالى، وأَستَقيلُه من ذلك الخاطرِ. فتُوفِّي عاشرَ رَبيعٍ الأوَّلِ من السَّنَةِ، فحُمِلَ إلى مَرو ودُفِنَ عند أَبيهِ. تُوفِّي عن إحدى وأربعين سَنَةً، وكانت مُدَّةُ مُلكِه منذ خُطِبَ له بالسَّلْطَنَةِ إلى أن قُتِلَ تِسعَ سِنينَ وسِتَّةَ أَشهُر وأيامًا، ولمَّا وَصلَ خَبرُ مَوتِه إلى بغداد جَلسَ الوَزيرُ فَخرُ الدَّولةِ بن جهير للعَزاءِ به في صَحنِ السَّلامِ. تَركَ ألب أرسلان من الأولادِ ملكشاه، وإياز، ونكشر, وبوري برس, وأرسلان، وأرغو، وسارة، وعائشة، وبِنتًا أُخرى, وتَولَّى بعده ابنُه ملكشاه.

العام الهجري : 534 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1139
تفاصيل الحدث:

حصَرَ أتابك زنكي دمشقَ مَرَّتين؛ فأمَّا المرَّة الأولى فإنَّه سار إليها في ربيعٍ الأوَّل مِن بعلبَكَّ بعد الفراغِ مِن أمرِها، وتقريرِ قواعِدِها وإصلاحِ ما تَشَعَّثَ منها، ليَحصُرَها، فنزل في البقاعِ، وأرسل إلى جمالِ الدِّينِ صاحِبِها يبذُلُ له بلدًا يقتَرِحُه ليُسَلِّمَ إليه دمشق، فلم يجِبْه إلى ذلك، فرحل وقصَدَ دمشق، فنزل على داريا ثالثَ عَشَرَ ربيع الأول فالتفَّت الطلائِعُ واقتَتَلوا، وكان الظَّفَرُ لعَسكرِ زنكي، وعاد الدِّمشقيُّونَ مُنهَزمِينَ، فقُتِلَ كثيرٌ منهم، ثم تقَدَّمَ زنكي إلى دمشق، فنزل هناك، ولَقِيَه جمعٌ كثيرٌ مِن جُندِ دِمشقَ وأحداثِها ورجَّالةِ الغوطة، فقاتلوه، فانهزم الدمشقيُّونَ، وأخَذَهم السَّيفُ، فقَتَلَ فيهم وأكثَرَ، وأسَرَ كذلك، ومن سَلِمَ عاد جريحًا. وأشرف البلدُ ذلك اليومَ على أن يُملَكَ، لكِنْ عاد زنكي عن القِتالِ وأمسك عنه عِدَّةَ أيام، وتابع الرُّسُلَ إلى صاحب دمشق، وبذل له بعلبَكَّ وحمص وغيرهما ممَّا يختاره من البلاد، فمال إلى التَّسليم، وامتنع غيرُه من أصحابِه مِن ذلك، وخَوَّفوه عاقِبةَ فِعلِه، وأن يَغدِرَ به كما غدَرَ بأهلِ بعلبك، فلمَّا لم يُسَلِّموا إليه عاود القتالَ والزَّحفَ، ثم إنَّ جمالَ الدين صاحب دمشق مَرِضَ ومات ثامِنَ شعبان، وطَمِعَ زنكي حينئذ في البلدِ، وزحف إليه زحفًا شديدًا؛ ظنًّا منه أنَّه ربَّما يقَعُ بين المُقَدَّمينَ والأمراء خلافٌ فيَبلُغُ غَرَضَه، وكان ما أمَّلَه بعيدًا، فلما مات جمالُ الدين ولي بعده مجيرُ الدين أبق وَلَدُه، وتولى تدبيرَ دَولَتِه مُعينُ الدين أنر فلم يَظهَرْ لِمَوتِ أبيه أثرٌ مع أنَّ عَدُوَّهم على باب المدينة، فلما رأى معين الدين أنَّ زنكي لا يفارِقُهم، ولا يزول عن حَصرِهم، راسَلَ الفِرنجَ، واستدعاهم إلى نُصرتِه، وأنْ يتَّفِقوا على مَنعِ زنكي عن دِمشقَ، وبذل لهم بُذولًا من جُملَتِها أن يَحصُرَ بانياس ويأخُذَها ويُسَلِّمَها إليهم، وخوَّفَهم مِن زنكي إنْ مَلَك دمشق، فعَلِموا صِحَّةَ قَولِه إنَّه إن مَلَكَها لم يَبقَ لهم معه بالشَّامِ مَقامٌ، فاجتَمَعَت الفِرنجُ وعَزَموا على السَّيرِ إلى دمشق ليَجتَمِعوا مع صاحِبِها وعَسكَرِها على قتالِ زنكي، فحين عَلِمَ زنكي بذلك سار إلى حوران خامِسَ رمضان، عازمًا على قتالِ الفِرنجِ قبل أن يجتَمِعوا بالدِّمشقيِّينَ، فلمَّا سَمِعَ الفرنجُ خَبَرَه لم يفارقوا بلادَهم، فلما رآهم كذلك عاد إلى حَصرِ دمشقَ ونزل بعذرا شماليَّها سادس شوال، فأحرَقَ عِدَّةَ قُرًى من المرج والغوطة، ورحل عائدًا إلى بلادِه، ووصل الفِرنجُ إلى دِمشقَ واجتمعوا بصاحِبِها وقد رحل زنكي، فعادوا، فسار مُعين الدين أنر إلى بانياس في عَسكرِ دِمشقَ، وهي في طاعةِ زنكي، لِيَحصُرَها ويُسَلِّمَها إلى الفرنج؛ وكان واليها قد سار قبل ذلك منها في جَمعٍ مِن جَمْعِه إلى مدينة صور للإغارةِ على بلادها، فصادفه صاحِبُ أنطاكيةَ وهو قاصِدٌ إلى دمشق نجدةً لصاحِبِها على زنكي، فاقتتلا، فانهزم المُسلِمونَ وأخَذوا واليَ بانياس فقُتِلَ، ونجا مَن سَلِمَ منهم إلى بانياس، وجمعوا معهم كثيرًا من البِقاعِ وغيرِها، وحَفِظوا القلعة، فنازلها مُعين الدين، فقاتلهم، وضَيَّقَ عليهم، ومعه طائفةٌ مِن الفِرنجِ، فأخذها وسَلَّمَها إلى الفرنج، وأمَّا الحَصرُ الثاني لدمشق، فإنَّ زنكي لَمَّا سَمِعَ الخبَرَ بحِصارِ بانياس عاد إلى بعلبك ليدفَعَ عنها مَن يحصُرُها، فأقام هناك، فلمَّا عاد عسكر دمشق، بعد أن مَلَكوها وسَلَّموها إلى الفرنج، فَرَّق أتابك زنكي عَسكَرَه على الإغارة على حوران وأعمالِ دمشق، وسار هو جريدة مع خواصِّه، فنازل دمشقَ سَحَرًا ولم يعلَمْ به أحَدٌ مِن أهلِها، فلمَّا أصبح النَّاسُ ورأوا عَسكَرَه خافوا، وارتَجَّ البَلَدُ، واجتمع العسكَرُ والعامَّةُ على السورِ وفُتِحَت الأبوابُ وخَرَج الجندُ، والرجَّالة فقاتلوه، فلم يتمَكَّن عسكرُ زنكي من الإقدامِ في القِتالِ؛ لأنَّ عامَّةَ عَسكَرِه تفَرَّقوا في البلاد للنَّهِب والتَّخريب، وإنَّما قصد دمشقَ لِئلَّا يَخرُجَ منها عَسكَرُه إلى عَسكَرِهم وهم متفَرِّقون، فلما اقتتلوا ذلك اليومَ قُتِلَ بينهم جماعةٌ ثم أحجم زنكي عنهم وعاد إلى خيامِه، ورحل إلى مرج راهط، وأقام ينتَظِرُ عودةَ عَسكَرِه، فعادوا إليه وقد ملؤوا أيديَهم من الغنائِم؛ لأنَّهم طرقوا البلادَ وأهلُها غافلونَ، فلَمَّا اجتمعوا عنده رحَلَ بهم عائدًا إلى بلادِهم.

العام الهجري : 636 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1239
تفاصيل الحدث:

جهز الملك العادِلُ بن الملك الكامل جماعة من الأمراء، وعدة من العساكر بديار مصر لتأخذ دمشق، وقدَّم الملك العادل إلى الملك الجواد نائبِه على دمشق رسولًا بكتابٍ فيه أنَّه يعطيه قلعةَ الشوبك وبلادها، وثغرَ الإسكندرية، وأعمال البحيرة وقليوب، وعشر قرى من بلاد الجيزة بديار مصر، لينزِلَ عن نيابة السلطة بدمشق، ويحضُرَ إلى قلعة الجبل، ليعمَلَ برأيه في أمور الدولة، فلما وفى ذلك أوهمه نائبُه عماد الدين قلج من أنه متى دخل مصر قبض عليه الملك العادل، فامتنع من تسليم دمشق، فبَرَز الملك العادل من القاهرة يريد دمشق، آخر ذي الحجة، ونزل بلبيس، فخاف الملك الجواد، وعَلِمَ عَجْزَه عن مقاومة العادل، فبعث إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل صاحب حصن كيفا وديار بكر يطلبُ منه أن يتسَلَّمَ دمشق، ويعوِّضَه عنها سنجار والرقة وعانة، فوقع ذلك من الملك الصالح أحسَنَ مَوقِعٍ، وأجابه إليه، وزاده الجديدة، وحلف له على الوفاء، ورتَّب الملك الصالح ابنَه الملك المعظَّم توران شاه على بلاد الشرق، وألزمه بحصنِ كيفا، وأقام نوابًا بآمد وديار بكر، وسَلَّم حران والرها وجميع البلاد للخوارزمية الذين في خدمته، وطلب نجدةً من الأمير بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكان قد صالحه فبعث إليه بدر الدين نجدةً، وسار الملك الصالح من الشرق يريد دمشقَ، فقطع الملك الجواد اسم الملك العادل من الخطبة، وخطب للملك الصالحِ نجم الدين أيوب، وضرب السكَّةَ باسمه، ودخل الصالحُ إلى دمشق في مستهَلِّ جمادى الأولى، ومعه الجواد بين يديه بالناشية، وقد نَدِمَ الجواد على ما كان منه، وأراد أن يستدرِكَ الفائت فلم يقدِرْ، وبعث الصالح إليه بردِّ أموال الناس إليهم، فأبى وسار، وكان قد وصل مع الصالح أيضًا الملك المظفَّر صاحب حماة، وقد تلقَّاه الجواد، فكان دخوله يومًا مشهودًا، فاستقَرَّ في قلعة دمشق، وخرج الجوادُ إلى بلاده، فكانت مدةُ نيابته دمشق عشرة أشهر وستة عشر يومًا، فلما استقَرَّ الملك الصالح بدمشق سار المظفر إلى حماة، وقدمت الخوارزمية، فنازلوا مدينةَ حمص وهو معهم مدةً ثَّم فارقوها بغير طائلٍ، وعادوا إلى بلادهم بالشَّرقِ، وفي أثناء ذلك تواترت رسلُ المظفَّر صاحب حماة إلى الملك الصالحِ يستحِثُّه على قصد حمص، وكتب الأمر من مصر يستدعيه إلى القاهرة، وتعِدُه بالقيام بتصَرُّفه، فبرز الملك الصالح من دمشق إلى البثنية، وكانت الخوارزميَّة، وصاحب حماة، على حصار حمص، فأرسل المجاهدُ أسد الدين شيركوه مالًا كثيرًا فرَّقه في الخوارزمية، فرحلوا عنه إلى الشرق، ورحل صاحِبُ حماة إلى حماة، وعاد الملك الصالحُ إلى دمشق طالبًا مصر، وخرج منها إلى الخربة وعيَّدَ بها عيدَ الفطر، وعسكَرَ تحت ثنية العقاب، وقد تحيَّرَ فلا يدري أيذهب إلى حمص أم إلى مصر، وما زال بمعسكره إلى أول شهر رمضان، فعاد إلى دمشق وتقَدَّمَ إلى الأمير حسام الدين أبي علي بن محمد بن أبي علي الهذباني، أن يرحَلَ بطائفة من العسكر إلى جينين، فرحل، ولم يزل هو تحت عقبة الكرسي، على بحيرة طبرية، إلى آخرِ رمضان، فلما وردت الأخبارُ بحركة الملك الصالح إلى القاهرة، خرج من أمراء مصرَ سبعة عشر أميرًا في عِدَّة كبيرة من أتباعهم وأجنادهم، وخلقٌ مِن مُقَدَّمي الحلقة والمماليك السلطانية، وساروا يريدون الملك الصالح بدمشق، واضطربت مصر اضطرابًا زائدًا، وخرج فخر القضاة بن بصاقة في الرِّسالة إلى الملك الصالح من الكرك عن الناصر داود بأنَّه في نصرة الملك الصالح ومعاونته، ويسألُه دمشق وجميعَ ما كان لأبيه، فلم تقَعْ موافقة على ذلك، فسار الناصر إلى الملك العادل، ونزل بدار الوزارة من القاهرة، ليعينَه على محاربة أخيه الملك الصالح، فقَدِمَ في ذي الحجة الصاحبُ محيي الدين بن الجوزي برسالة الخليفةِ إلى الملك الصالح، ليصالِح أخاه الملك العادل فأجلَّ الملك الصالح قدومه إجلالًا كثيرًا، ومع ذلك فإنَّ كُتُب الأمراء وغيرهم تَرِدُ في كل قليل على الملك الصالح من مصر، تعِدُه بالقيام معه، وأنَّ البلاد في يده، لاتفاق الكلمةِ على سلطنتِه.

العام الهجري : 643 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1245
تفاصيل الحدث:

هو الإمامُ مفتي الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الإمام البارع أبي القاسم صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الكردي، الشهرزوري، الشافعي. المعروف بابن الصلاح، مفتي الشام ومحدِّثُها، سمع الحديثَ ببلادِ الشَّرقِ وتفَقَّه بالموصِلِ وحلب وغيرها، وُلِدَ سنة 577 بشرخان – وهي قريةٌ من أعمال إربل قريبةٌ مِن شهرزور- تفقَّه على والِدِه صلاح الدين بشهرزور، وكان والدُه شيخَ تلك الناحية، ومدرِّسًا بالأسديَّة التي بحَلَب، وواقفها أسد الدين شيركوه بن شادي. قال ابن خلكان: "كان ابنُ الصَّلاحِ أحدَ فُضَلاء عصرِه في التفسير والحديثِ والفقه وأسماء الرجالِ وما يتعلق بعلم الحديثِ ونَقلِ اللغة، وكانت له مشاركةٌ في فنون عديدةٍ، وكانت فتاويه مسدَّدةً، وهو أحد أشياخي الذين انتفعتُ بهم. قرأ الفقه أولًا على والده الصلاح، وكان من جلَّة مشايخ الأكراد المشارِ إليهم، ثم نقله والدُه إلى الموصل واشتغل بها مدَّة، وبلغني أنه كرر على جميع كتاب " المهذَّب " ولم يطر شاربُه، بالموصل, ثم سافر إلى خراسان فأقام بها زمانًا وحصَّل علمَ الحديث هناك" قدم ابنُ الصلاح الشام وهو في عدادِ الفُضَلاء الكِبار، وأقام بالقُدسِ مُدَّة ودرس بالصلاحيَّة، ثم تحوَّل منه إلى دمشق، ودرس بالرواحيَّة ثم بدار الحديث الأشرفيَّة، وهو أول من وَلِيَها من شيوخ الحديثِ، وهو الذي صنَّف كتاب وقفِها، ثمَّ بالشامية الجوانيَّة، وقد صنف كتبًا كثيرةً مفيدةً في علوم الحديث- أشهرُها معرفةُ أنواع علوم الحديث المعروف بمقدِّمة ابن الصلاح، وله كتاب أدبُ المفتي والمستفتي- وفي الفقهِ، وله تعاليق حسنة على الوسيط وغيره من الفوائد التي يرحل إليها. كان ابن الصلاح إمامًا بارعًا، حجة، متبحرًا في العلوم الدينية، بصيرًا بالمذهب ووجوهه، خبيرًا بأصولِه، عارفًا بالمذاهبِ، جيدَ المادَّة من اللغة والعربية، حافظًا للحديث متفننًا فيه، حَسَن الضبطِ، كبيرَ القَدرِ، وافرَ الحُرمة، فكان عديمَ النظيرِ في زمانِه مع ما هو فيه من الدين والعبادة والنسك والصيانة، والورع والتقوى على طريق السَّلف الصالح، كما هو طريقة متأخري أكثر المحدِّثين، مع الفضيلة التامَّة في فنون كثيرة. قال ابن الحاجب في معجمه: " ابن الصلاح إمامٌ وَرِع، وافِرُ العقل، حسَنُ السَّمت، متبحِّرٌ في الأصول والفروع، بالغٌ في الطلب حتى صار يُضرَبُ به المثل، وأجهد نفسَه في الطاعة والعبادة. – قلت (الذهبي): وكان حسَنَ الاعتقاد على مذهَبِ السَّلف، يرى الكف عن التأويل، ويؤمِنُ بما جاء عن الله ورسوله على مرادِهما. ولا يخوض ولا يتعمَّق- وفي فتاويه: سئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة؟ فأجاب: الفلسفة أسُّ السَّفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة. ومن تفلسف عَمِيَت بصيرته عن محاسِنِ الشريعة المؤيَّدة بالبراهين. ومن تلبَّسَ بها قارنه الخِذلانُ والحِرمانُ، واستحوذ عليه الشَّيطانُ، وأظلم قلبُه عن نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى أن قال(ابن الحاجب): واستعمال الاصطلاحات المنطقيَّة في مباحث الأحكام الشرعيَّة من المُنكَرات المستبشَعة، والرَّقاعات المستحدَثة، وليس بالأحكامِ الشرعيَّة- ولله الحمد- افتقارٌ إلى المنطق أصلًا، وهو قعاقِعُ قد أغنى الله عنها كلَّ صحيح الذهن؛ فالواجِبُ على السلطان أعَزَّه الله أن يدفَعَ عن المسلمينَ شَرَّ هؤلاء المشائيم، ويخرِجَهم من المدارس ويُبعِدَهم, ولابن الصلاح فتاوى مسددة, وكان معظَّمًا في النفوس، حَسَن البِزَّة، كثيرَ الهيبةَ، يتأدَّبُ معه السلطانُ فمَن دونه. تفقَّه عليه خلقٌ كثير، منهم: الإمام شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي، والإمامُ شِهابُ الدين عبدُ الرحمن بن إسماعيل أبو شامة، والإمام كمال الدين سلار، والإمام كمال الدين إسحاق، والإمامُ تقيُّ الدين بن رزين قاضي الديار المصرية، والعلَّامة شمس الدين بن خَلِّكان قاضي الشام وغيرهم "ولم يزل على طريقةٍ جيِّدة حتى كانت وفاتُه بمنزلِه في دار الحديث الأشرفيَّة في سَحَر الأربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر، وحُمِل على الرؤوس، وازدحم عليه الخلقُ، وكانت على جنازته هيبةٌ وخشوع، فصُلِّيَ عليه بالجامع، وشيعوه إلى عند باب الفرَج، فصُلِّيَ عليه بداخله ثانيًا، ورجع الناس لأجل حصار البلد بالخوارزميَّة، وما صَحِبَه إلى جبانة الصوفية إلا نحوُ العشرة.

العام الهجري : 656 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1258
تفاصيل الحدث:

هو الخليفةُ الشهيد أمير المؤمنين المستعصِم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد بن المستضيء الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد: سنة 609, واستُخلِفَ سنة أربعينَ يومَ مَوتِ أبيه في عاشر جمادى الآخرة، وكان فاضلًا تاليًا لكتاب الله، كان مليحَ الخَطِّ، قرأ القرآن على الشيخ علي بن النيار الشافعي، ويوم خَتَمَه خلع على الشَّيخِ، وأعطي ستة آلاف دينار. ويوم خلافته بلغت الخِلَع ثلاثة عشر ألف خلعة وسبعمائة وخمسين خلعة, وكان كريمًا حليمًا، سليمَ الباطن، حَسَن الديانة. قال الشيخ قطب الدين: "كان المستعصمُ بالله متدينًا مُتمَسِّكًا بالسنَّة كأبيه وجَدِّه، ولكنه لم يكن على ما كان عليه أبوه المستنصر وجده الناصر من التيقُّظ والحزم وعلُوِّ الهمة؛ فإن المستنصر بالله كان ذا همة عالية، وشجاعةٍ وافرة، ونفسٍ أبيَّة، وعنده إقدامٌ عظيم, وكان له أخٌ يُعرَف بالخفاجي يزيدُ عليه في الشهامة والشجاعة، وكان يقول: إن ملَّكني الله الأمرَ لأعبُرَنَّ بالجيوش نهر جيحون وأنتزع البلاد من التتار واستأصلهم, فلما توفِّيَ المستنصر لم يَرَ الدويدار والشرابي والكبار تقليد الخفاجي الأمرَ، وخافوا منه، وآثروا المستعصِمَ لِمَا يعلمون من لينِه وانقياده وضَعفِ رأيه؛ ليكونَ الأمر إليهم. فأقاموا المستعصم، ثم ركَنَ إلى وزيره ابن العلقمي، فأهلك الحَرثَ والنَّسلَ، وحَسَّنَ له جمع الأموال، والاقتصارَ على بعض العساكر، وقطَعَ الأكثر, فوافقه على ذلك, وكان فيه شُحٌّ، وقلة معرفة، وعدم تدبيرٍ، وحُبٌّ للمال، وإهمالٌ للأمور. وكان يتَّكِلُ على غيره، ويُقدِمُ على ما لا يليق وعلى ما يُستقبَحُ". قال الذهبي: "كان يلعب بالحَمام، ويُهمِلُ أمر الإسلام، وابنُ العلقمي يلعَبُ به كيف أراد، ولا يُطلِعُه على الأخبار. وإذا جاءته نصيحةٌ في السر أطلع عليها ابنَ العلقمي؛ ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا. حكى جمال الدين سليمان بن عبد الله بن رطلين قال: "جاء هولاكو في نحو مائتي ألف، ثم طلب الخليفةَ، فطلع ومعه القُضاة والمدرِّسون والأعيان في نحو سبعمائة نفس، فلما وصلوا إلى الحربية جاء الأمرُ بحضور الخليفة ومعه سبعة عشر نفسًا، فاتفق أن أبي كان أحدهم، فحدثني أنهم ساقوا مع الخليفة، وأنزلوا مَن بَقِيَ عن خيلهم، وضَرَبوا رقابَهم. ووقع السيف في بغداد، فعَمِلَ القتل أربعين يومًا. وأنزلوا الخليفةَ في خيمةٍ صغيرة، والسبعة عشر في خيمة. قال أبي: فكان الخليفةُ يجيء إلى عندنا كل ليلة ويقول: ادعُوا لي. قال: فاتفَقَ أنَّه نزل على خيمته طائرٌ، فطلبه هولاكو وقال: أيش عَمَلُ هذا الطائر؟ وأيش قال لك؟ ثم جرت له محاوراتٌ معه ومع ابن الخليفةِ أبي بكر. ثم أمَرَ بهما فأُخرِجا، ورفسوهما في غرارة -كيس كبير من صوف أو شعر- حتى ماتا، وكانوا يسمُّونه: الأبْلَه. توفي الخليفةُ في أواخر المحرم، وما أظنه دُفِنَ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان الأمرُ أعظم من أن يوجَدَ مؤرخ لموته، أو موارٍ لجَسَدِه. وراح تحت السيف أممٌ لا يحصيهم أحَدٌ إلا الله، فيقال: إنَّهم أكثرُ من ألف ألف، واستغنت التتارُ إلى الأبد، وسَبَوا من النساء والولدان ما ضاق به الفَضاءُ. وقيل: إن الخليفة بقي أربعة أيام عند التتار، ثم دخل بغداد ومعه أمراء من المغول ونصير الطوسي، فأخرج إليهم من الأموال والجواهر والزركش والثياب والذخائر جملةً عظيمة، ورجَعَ ليَومِه، وقُتِلَ، وقُتِلَ ابناه أحمد وعبد الرحمن، وبَقِيَ ابنه الصغير مبارك، وأخواته فاطمة، وخديجة، ومريم، في أَسْرِ التتار"، وقُتِلَ عدد من أعمام الخليفة وأقاربه, وقيل كانت المغول بقيادة هولاكو قد أخذوه وكانوا أولًا يهابون قَتْلَه، ثم هون عليهم ابن العلقمي والطوسي قَتْلَه فقُتل, وكان عمره يومئذ ستًّا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر، به انتهت الخلافة العباسية وانقضت أيامُها، وبقي الناسُ بلا خليفة فكانت أيامُ الدولة العباسية جملةً خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة. 

العام الهجري : 664 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1266
تفاصيل الحدث:

اهتم السلطانُ الظاهر بيبرس بأمر صفد، وأحضر العساكِرَ المجردة، ورحَّل الأمير بكتاش الفخري أميرَ سلاح بالدهليز السلطاني ونزل على صفد، وتبعه الأميرُ البندقدار والأميرُ عز الدين أوغان في جماعة، وحاصروها، هذا والسلطانُ مقيم على عكا حتى وافته العساكرُ، وعمل عدةَ مجانيقَ، ثم رحل والعساكِرُ لابسة، وساق إلى قربِ باب عكا، ووقفَ على تل الفضول، ثم سار إلى عين جالوت، ونزل على صفد يوم الاثنين ثامن شهر رمضان وحاصرها، فقدم عليه رسول متملك صور ورسل الفداوية، ورسول صاحب بيروت ورسول صاحب يافا، ورسل صاحب صهيون، وصار السلطان يباشر الحصارَ بنَفسِه، وقَدِمَت المجانيق من دمشق إلى جسر يعقوب وهو منزلة من صفد ثم نصبت المجانيقُ فرمي بها في السادس عشر، وصار السلطان يلازم الوقوف عندها وهي ترمي، وأتت العساكِرُ من مصر والشام، فنزلوا على منازلهم وفي ثاني يوم عيد الفطر: وقع الزحفُ على صفد، ودفع الزراقون النفطَ، ووعد السلطان الحجَّارين أنه من أخذ أول حجر كان له مائة دينار، وكذلك الثاني والثالث إلى العشرة، وأمر حاشيته بألا يشتغلوا بخدمته، فكان بين الفريقين قتال عظيم استُشهِدَ فيه جماعة، وكان الواحد من المسلمين إذا قُتِلَ جَرَّه رفيقه ووقف موضِعَه، وتكاثرت النقوبُ ودخل النقَّابون إليها، ودخل السلطانُ معهم، وبذل السلطانُ في هذا اليوم من المال والخِلَع كثيرًا، ونصب خيمةً فيها حكماء وجرائحية وأشربة ومآكل، فصار من يُجرَحُ من العُربان والفقهاء والفقراء وغيرهم يُحضَرُ إليها، وفي ثامنه: كانت بين الفريقين أيضًا مَقاتِلُ، وفي ليلة الرابع عشر: اشتد الزحف من الليل إلى وقت القائلة، فتفرق الناس من شدة التعب، فغضب السلطانُ من ذلك وأمر خواصَّه بالسَّوقِ إلى الصاواوين وإقامة الأمراء والأجداد بالدبابيس، وقال المسلمون على هذه الصورة، وأنتم تستريحون!! فأقيموا، وقبَضَ السلطان على نيف وأربعين أميرًا، وقيَّدَهم وسجَنَهم بالزردخاناه-خزانة السلاح-، ثم شفع فيهم فأطلَقَهم وأمرهم بملازمةِ مواضِعِهم، وضُرِبَت الطبلخاناه- الطبول والأبواق- واشتد الأمر إلى أن طلب الفرنجُ الأمان، فأمَّنَهم السلطان على ألا يخرجوا بسلاحٍ ولا لَأْمةِ حَربٍ ولا شيءٍ مِن الفضيات، ولا يُتلِفوا شيئًا من ذخائر القلعة بنارٍ ولا هدم، وأن يُفتَّشوا عند خروجهم، فإن وُجِدَ مع أحد منهم شيء من ذلك انتقَضَ العهد، ولم تزل الرسُلُ تتردد بينهم إلى يوم الجمعة الثامن عشر، ثم طلعت السناجق –رماح- الإسلاميَّة، وكان لطلوعها ساعةٌ مشهودة، هذا والسلطان راكِبٌ على باب صفد حتى نزل الفرنجُ كُلُّهم، ووقفوا بين يديه فرسم بتفتيشِهم، فوجد معهم ما يناقض الأمانَ من السلاح والفضيات، ووجد معهم عِدَّةً من أسرى مسلمين أخرجوهم على أنهم نصارى، فأخذ ما وجد معهم وأُنزِلوا عن خيولهم، وجُعِلوا في خيمةٍ ومعهم من يحفظهم، وتسَلَّمَ المسلمون صفد، وولى السلطانُ قلعَتَها الأميرَ مجد الدين الطوري، وجعل الأميرَ عز الدين العلائي نائب صفد، فلما أصبح حضر إليه النَّاسُ، فشكر اجتهادَهم واعتذر إليهم مما كان منه إلى بعضِهم، وإنه ما قصَدَ إلَّا حَثَّهم على هذا الفتح العظيم، وقال: من هذا الوقتِ نتحالَلُ، وأمَرَهم فركبوا، وأُحضِرَت خيالة الفرنج وجمعٌ من صفد، فضُرِبَت أعناقهم على تل قرب صفد حتى لم يبق منهم سوى نفرينِ، أحدهما الرسول، فإنه اختار أن يقيمَ عند السلطان ويُسلِم، فأسلم وأقطَعَه السلطانُ إقطاعًا وقَرَّبَه، والآخَرُ تُرِكَ حتى يخبِرَ الفرنج ممَّا شاهده، وصَعِدَ السلطانُ إلى قلعة صفد، وفَرَّق على الأمراء العُدَد الفرنجية والجواري والمماليك، ونَقَل إليها زردخاناه من عنده، وحمل السلطانُ على كتفه من السلاح إلى داخل القلعة، فتشَبَّه به الناس ونقلوا الزردخاناه في ساعةٍ واحدة، واستدعى السلطانُ الرجال من دمشق للإقامةِ بصفد، وقرر نفقةَ رجال القلعة في الشهرِ مبلغ ثمانين ألف درهم نقرةً واستخدم على سائر بلاد صفد، وعَمِلَ بها جامعًا في القلعة وجامعًا بالربض ووقفَ على المجنون نصف وربع الحباب، وللربع الآخر على الشيخ إلياس، ووقف قريةً منها على قبر خالد بن الوليد بحمص، وفي السابع عشر: رحل السلطان من صفد إلى دمشق.

العام الهجري : 813 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1410
تفاصيل الحدث:

لما أوقع الطاغية صاحب قشتالة بالمسلمين في الزقاق، كثرت غاراته في بلاد المسلمين بالأندلس، وكثرت غاراتهم أيضًا على بلاد قشتالة، وكان ألفونسو قد قام بأمر أخيه دون، وكان عارفًا بالحروب والمكايد، شجاعًا، دَربًا، شديد البأس، فجمع لحرب المسلمين، ونزل على أشقيرة -تجاه مالقة - أول ذي الحجة، فلم يستنجد أبو الحجاج يوسف بن يوسف بن محمد بن إسماعيل بن نصر ابن الأحمر -صاحب غرناطة- عساكر فاس كما هي العادة، بل رأى أن في عسكره كفاية، وجهَّز أخويه محمدًا وعليًّا على عسكر الأندلس، وقد جمع أهل القرى بأسرها، وخرجوا من غرناطة في ثامن عشر ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، ونزلوا على حصن أرشذونة -وهو على ستة أميال من أشقيرة- حتى تكاملت الجموع في الثامن والعشرين، ثم ساروا في ليلة التاسع والعشرين وعسكروا تجاه العدو، بسفح جبل المدرج، فما استقَرَّت، وقد أعجبتهم أنفسهم بهذه الدار حتى زحف العدو لحربهم، فثاروا لقتاله، وقد أعجبتهم أنفسهم، واغتروا بكثرتهم، وتباهوا بزينتهم، ولم يراقبوا الله في أمرهم، فما أحد إلا ومعه نوع من المعاصي كالخمر والأحداث، فلما اشتد القتالُ في الليل، انهزم العدو بعد ما قتل من المسلمين عشرة فرسان، ولما كان أول يوم من محرم سنة ثلاث عشر، نادى أخو السلطان في العسكر بالنفقة، وكانت نفقة السفر قد أُخِّرت عن وقتها؛ لئلا يأخذها العسكر ولا يشهدوا الحرب، وجُعِلت عند حضور الجهاد، فهَمَّ في أخذ النفقة، وإذا بالعدو وقد أقبل عند طلوع الشمس، فخرجت المطوعة وقاتلتهم، وأقام العسكر بأجمعهم لأخذ النفقة، وعلم العدو بذلك فرجعوا كأنهم منهزمين، والمطوعة تتبعُهم، وتنادي في العسكر: يا أكالين الحرامِ، العامةُ هزمت النصارى، وأنتم في خيامكم جلوس، فلما وصل العدو إلى معسكرهم وقفوا للحرب، وقد اجتمع جميع رجالة المسلمين طمعًا في الغنيمة، فإذا العدو وقد خندق على معسكره ورتَّب عليه الرماة، فسُقِط في أيديهم، ووقفوا إلى الظهر في حيرة، فخرج أمراء الطاغية عند ذلك من جوانب الخندق، وحملوا على المسلمين، فقتَلوا من قاتلهم، وأسروا من ألقى منهم سلاحه، حتى وصلوا مخيَّم المسلمين، فركب طائفة من بني مرين وبني عبد الواد، وقاتلوا على أطراف خيمهم قليلًا، وانهزموا هم وجميع أهل الأندلس، بحيث خرج أخوا السلطان بمن معهما مشاة إلى الجبل على أقدامهم، فأحاط العدو بجميع ما كان معهم، وأكثروا من القتل فيهم، وكانت عدة من قُتل من المعروفين من أهل غرناطة خاصة مائة ألف إنسان، سوى من لم يُعرَف، وسوى أهل أقطار الأندلس؛ بحرِها وبَرِّها، سهلها وجبلها؛ فإنهم عالم لا يحصيه إلا الله تعالى، وأقام النصارى ثلاثة أيام يتتبعون المسلمين، فيقتلون ويأسرون، وبعث الطاغية إلى أعماله يخبرهم بنصرته، فلما بلغ ذلك أهل أبدة وسبتة، وأهل حيان، خرجوا إلى وادي أش -وهو بيد المسلمين- ونزلوا قريبًا من حصن أرتنة، فاستغاث أهل الحصن بأهل غرناطة، فأمدوهم بعسكر، فصار النصارى إلى حصن مشافر، وقاتلوا أهله حتى أخذوا الربض، وشرعوا في تعليق الحصن، وإذا بعسكر غرناطة قد جاءهم في سابع المحرم، فأوقعوا بهم وقيعة شنعاء، أفنَوهم فيها، وأسروا منهم زيادة على ألف وخمسمائة، وعادوا إلى غرناطة بهم، فدخلوا في تاسعه، وبلغ ذلك الطاغية -وهو على حصار أشقيرة- فكف أصحابه عن الدخول بعدها إلى بلاد المسلمين، وأقام على الحصار ستة أشهر حتى ضَعُفت أحوال المسلمين بأشقيرة، ورفعوا كرائم أموالهم إلى حصنها، وتعلقوا به، فملك الطاغية المدينة بما فيها من الأزواد والأمتعة، ووقع مع هذا في المسلمين الوخم، فمات منهم جماعة كثيرة، فاضطرهم الحال إلى طلب الأمان؛ ليلحقوا ببلاد المسلمين بأموالهم فأمَّنهم ألفونسو على أن يخرجوا بما يطيقون حمله، فخرجوا بأجمعهم إلى معسكره، فوفى لهم، وجهز جميع المسلمين، وبعث من أوصلهم إلى غرناطة، فلم يفقد أحد منهم، ولا شراك نعل وأقام بأشقيرة من يثق به، وعاد عنها قافلًا إلى بلاده في أوائل جمادى الآخرة، فكانت هذه الحادثة من أشنع ما أصاب المسلمين بالأندلس!

العام الهجري : 841 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1438
تفاصيل الحدث:

هو السلطانُ الملك الأشرف سيف الدين أبي النصر برسباي الدقماقي الظاهري، سلطان الديار المصرية، جركسي الأصل، اشتراه الأمير دقماق المحمدي الظاهري نائب ملطية، وأقام عنده مدة، ثم قدَّمه إلى الملك الظاهر برقوق, وهو السلطان الثاني والثلاثون من ملوك دولة الترك المماليك، والثامن من الجراكسة بالديار المصرية، وقد تولى السلطنة بمصر سنة 825 وفتح مدينة قبرص وأنشأ بمصر مدرسة وجامعًا بسرياقوس, كان سلطانًا جليلًا سياسيًّا مدبِّرًا، عاقلًا شهمًا متجمِّلًا في مماليكه وخيوله، وكانت صفتُه أشقر طوالًا نحيفًا رشيقًا منوَّر الشيبة بهيَّ الشكل، غير سبَّاب ولا فحَّاش في لفظه، حَسنَ الخُلقِ، ليِّنَ الجانب، حريصًا على إقامة ناموس الملك، يميل إلى الخير، يحب سماع تلاوة القرآن العزيز، حتى إنه رتب عدة أجواق تُقرأُ عنده في ليالي المواكب بالقصر السلطاني دوامًا. وكان يكرم أرباب الصلاح ويُجِلُّ مقامهم، وكان يكثر من الصوم صيفًا وشتاء؛ فإنه كان يصوم في الغالب يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر، يديم على ذلك. وكان يصوم أيضًا أول يوم في الشهر وآخر يوم فيه، مع المواظبة على صيام يومي الاثنين والخميس في الجمعة، حتى إنه كان يتوجه في أيام صومه إلى الصيد ويجلس على السماط وهو صائم، ويُطعِمُ الأمراء والخاصكية بيده، ثم يَغسِلُ يديه بعد رفع السِّماط كأنه واكل القوم. وكان عبدًا صالحًا ديِّنًا خيِّرًا لا يتعاطى المُسكِرات، ولا يحب من يفعل ذلك من مماليكه وحواشيه. وكان يحب الاستكثار من المماليك، حتى إنه زادت عدة مماليكه المشتروات على ألفي مملوك، لولا ما أفناهم طاعون سنة ثلاث وثلاثين، ثم طاعون سنة إحدى وأربعين هذا، فمات فيهما من مماليكه خلائق. وكان يميل إلى جنس الجراكسة على غيرهم في الباطن، يَظهَرُ ذلك منه في بعض الأحيان، وكان لا يحبُّ أن يشهر عنه ذلك؛ لئلا تنفر الخواطر منه؛ فإن ذلك مما يُعاب به على الملوك، وكانت مماليكه أشبه الناس بمماليك الملك الظاهر برقوق في كثرتهم، وأيضًا في تحصيل فنون الفروسية، ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال الأبوبكري. لَمَّا تولى الأشرف برسباي نيابةَ حلب لم يقطع يدَ أحد بحلب، ولا قَتَل أحدًا، وحماها وبلادها بالحال, وفي يوم الثلاثاء رابعه عَهِدَ السلطان الأشرف برسباي إلى ولده المقام الجمالي يوسف، ثم جلس الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح داود، وقضاة القضاة الأربعة على مراتبهم، والأمير الكبير جقمق العلائي أتابك العساكر، ومن تأخَّر من أمراء الألوف، والمباشرون، ما عدا كاتب السر فإنه شديد المرض، ثم قام القاضي زين الدين عبد الباسط وفتح باب الكلام في عهد السلطان من بعد وفاته لابنه المقام الجمالي بالسلطنة، وقد حضر أيضًا مع أبيه، فاستحسن الخليفة ذلك وأشار به، فتقدَّم القاضي شرف الدين الأشقر بالعهد إلى بين يدي السلطان، فأشهد السلطان على نفسه بأنه عهد إلى ولده الملك العزيز جمال الدين أبي المحاسن يوسف من بعد وفاته بالسلطة، فأمضى الخليفة العهد، وشهد بذلك القضاة، ثم ظل المرض يتزايد بالسلطان إلى أن خارت قواه وأصبح يهذي أحيانًا حتى لما كان شهر ذي الحجة مات عصر يوم السبت ثالث عشر، وفي الحال حضر الخليفة والقضاة الأربعة والأمير الكبير جقمق العلائي وسائر أمراء الدولة، وسلطَنوا المقام الجمالي يوسف، ولقبوه بالملك العزيز يوسف جمال الدين أبي المحاسن وعمره يومئذ أربع عشرة سنة وسبعة أشهر، ثم أخذ الأمراء في تجهيز السلطان، فجُهِّز وغُسِّل وكُفِّن بحضرة الأمير إينال الأحمدي الفقيه الظاهري برقوق أحد أمراء العشرات بوصية السلطان له، وهو الذي أخرج عليه كلفة تجهيزه وخرجته من مال، كان الأشرف دفعه إليه في حياته، وأوصاه أن يحضر غسله وتكفينه ودفنه، ولما انتهى أمْرُ تجهيز الملك الأشرف حُمِل من الدور السلطانية إلى أن صُلِّي عليه بباب القلعة من قلعة الجبل، وتقدم للصلاة عليه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر، ثم حُمِل من المصلى على أعناق الخاصكية والأمراء الأصاغر، إلى أن دفن بتربته التي أنشأها بالصحراء خارج القاهرة، وكانت جنازته مشهودة بخلاف جنائز الملوك، ولم يقع في يوم موته اضطراب ولا حركة ولا فتنة، ونزل إلى قبره قُبَيل المغرب، وكانت مدة سلطنته بمصر سبع عشرة سنة تَنقُص أربعة وتسعين يومًا.

العام الهجري : 836 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1433
تفاصيل الحدث:

كان السلطان الأشرف برسباي قد تجهز للسفر إلى جهة آمد من هذه السنة، وسبب ذلك أن قرا يلك مَلِك آمد أظهر أولًا أنه يريد الطاعة لَمَّا كان ابنه هابيل في قبضة السلطان من أيام تملُّك الرها، ثم لما مات هابيل بالطاعون لم يعُدْ قرا يلك يُلقي بالًا للسلطان، بل عدا على ملطية وغيرها من البلاد، وأحرق وأفسد، وكان السلطان في السنوات الماضية يُشيعُ أنه يريد السفر لقتاله؛ لعل قرا يلك يُرعَب منه فيطلب الصلح، ولكنه لم يفعَلْ، فعزم في هذه السنة على السفر فسافر إلى آمد، ثم وصل كتاب السلطان من الرها، مؤرخًا بالثامن عشر ذي القعدة، يتضمَّنُ أنه رحل عن آمد بعدما أقام على حصارها خمسة وثلاثين يومًا، حتى طلب قرا يلك الصلح، فصُولحَ، ورحل العسكر في الثالث عشر ذي القعدة، وكان من خبرهم أن سار السلطان بعساكره من الرها وعليهم الأسلحة وآلة الحرب، إلى أن نزل إلى آمد في يوم الخميس ثامن شوال، وقبل نزول السلطان عليها صَفَّ عساكره عدة صفوف، ووراءهم الثقل والخدم، حتى ملؤوا الفضاء طولًا وعرضًا، وقد هال أهل آمد ما رأوه من كثرة العساكر وتلك الهيئة المزعجة؛ لكثرة ما اجتمع على السلطان من العساكر المصرية والنواب بالبلاد الشامية وأمراء التركمان والعربان، وكان قرا يلك قبل أن يخرج من مدينة آمد أمر أن يُطلَق الماءُ على أراضي آمد من خارج البلد من دجلة، ففعلوا ذلك فارتطمت خيول كثير من العسكر بالماء والطين، فلم يكترث أحد بذلك، ومشى العسكر صفًّا واحدًا، ولم يكن لآمد قلعة بل سور المدينة لا غير، إلا أنه في غاية الحسن من إحكام بنيانه؛ فلهذا يصعب حصارها ويبعد أخذها عَنوةً، فوقف العسكر حول آمد ساعة، ثم مال السلطان بفرسه إلى جهة بالقرب من مدينة آمد، ونزل به في مخيمه، وأمر الناس بالنزول في منازلهم، وأمرهم بعدم قتال أهل آمد، ونزل الجميعُ بالقرب من آمد، كالحلقة عليها، غير أنهم على بعد منها، بحيث إنه لا يلحقهم الرمي من السور، ونزل السلطان بمخيمه وقد ثبت عنده رحيل قرا يلك من آمد، وأنه ترك أحد أولاده بها، فأقام بمخيَّمه إلى صبيحة يوم السبت عاشر شوال، فركب وزحف بعساكره على مدينة آمد بعد أن كلَّمهم السلطان في تسليمها قبل ذلك، وتردَّدت الرسل بينه وبينهم، فأبى من بها من الإذعان لطاعة السلطان وتسليم المدينة إلا بإذن قرا يلك، ولما زحف السلطان على المدينة اقتحمت عساكر السلطان خندق آمد، وقاتلوا من بها قتالًا شديدًا، حتى أشرف القوم على الظفر وأخْذ المدينة، ورُدِم غالب خندق مدينة آمد بالحجارة والأخشاب، وبينما الناس في أشدِّ ما هم فيه من القتال، أخذ السلطانُ في مقت المماليك وتوبيخهم، وصار كلما جُرِحَ واحد من عساكره وأُتي له به يزدريه ويهزأُ به، وينسب القوم للتراخي في القتال، ثم لبس هو سلاحه بالكامل، وأراد أن يقتحم المدينة بنفسه حتى أعاقه عن ذلك أعيان أمرائه، وهو يتكلم بكلام معناه أن عساكره تتهاون في قتال أهل آمد، فلا زالت الأمراء به، حتى خلع عن رأسه خوذته ولبس تخفيفة على العادة، واستمرَّ القرقل عليه، إلى أن ترضَّاه الأمراء، وخلع قرقله، وسَئِمَت الناس من القتال، هذا مع ما بلغهم من غضب السلطان، بعد أن لم يُبقوا ممكِنًا في القتال، وقد أثخنت جراحات الأمراء والمماليك من عِظَم القتال، كل ذلك والسلطان ساخِطٌ عليهم بغير حق، فعند ذلك فتر عزم القوم عن القتال من يومئذ، ولما انقضى القتال وتوجه كل واحد إلى مخيمه، وهو غير راض في الباطن، وجد أهل آمد راحة كبيرة بعودة القوم عنهم، وأخذوا في تقوية أبراج المدينة وسورها، بعد أن كان أمرهم قد تلاشى؛ مما دهمهم من شدة قتال مَن لا قِبَلَ لهم بقتاله، ونزل السلطان بمخيمه، وندب الأمراء والعساكر للزحف، على هيئة ركوبهم يوم السبت، في يوم الثلاثاء، وهو أيضًا في حال غضبه، وقد اجتهد مماليك السلطان وأمراؤه في القتال، وجُرِح الغالب منهم، فكان آخر كلام السلطان للأمراء: إن العساكر تركب صحبة الأمراء في يوم الثلاثاء، وتزحف على المدينة، ويكون الذي يركب مع الأمراء للزحف المماليك القرانيص، وأنا ومماليكي الأجلاب نكون خلفهم، وقامت قيامةُ القوم، وتنكَّرت القلوب على السلطان في الباطن، وتطاولت أعناقُ أمرائه إلى الوثوب عليه، وبلغ السلطان عن الأمراء والمماليك نوع من الممالأة على الفتك به، فاضطرب أمره وصار يحاور المدينة، وهو في الحقيقة محصور من احتراسه من أمرائه ومماليكه، وأخذ في الندم على سفره، وفتر عزمه عن أخذ المدينة في الباطن، وضَعُف عن تدبير القتال، هذا والقتال مستمر في كل يوم، بل في كل ساعة، بين العسكر السلطاني وبين أهل آمد، وقُتِلَ خلائق من الطائفتين كثيرة، وصار السلطان يضايق أهل آمد بكل ما وصلت قدرتُه إليه، هذا وقد قَوِيَ أمرهم واشتد بأسهم لما بلغهم من اختلاف عساكر السلطان، وبينما السلطان فيما هو فيه قَدِمَ عليه الأمير دولات شاه الكردي صاحب أكل من ديار بكر، فأكرمه السلطان وخلع عليه، ثم لما بلغ الأشرف أحمد ابن الملك العادل سليمان صاحب حصن كيفا قدوم السلطان الملك الأشرف إلى آمد، خرج من الحصن في قليل من عسكره في أوائل ذي القعدة يريد القدوم على السلطان، فاعترضه في مسيره جماعة من أعوان قرا يلك على حين غفلة، وقاتلوه إلى أن قُتِلَ الملك الأشرف من سهم أصابه، وانهزم بقيةُ من كان معه وانتهبوا، فقدم جماعةٌ منهم على السلطان الأشرف، وعَرَّفوه بقتل الملك الأشرف صاحب الحصن، فعَظُم عليه ذلك إلى الغاية، ومن هذا اليوم أخذ السلطان في أسباب الرحيل عن آمد، غيرَ أنه صار يترقب حركة يرحل بها؛ لتكونَ لرحيله مندوحةٌ، ثم ندب السلطان جماعة كبيرة من التركمان والعربان من عسكره لتتبع قتلة الملك الأشرف صاحب الحصن، ولما ندب السلطان الجماعة المذكورة لتتبُّع قتلة الملك الأشرف وغيره، خرجوا إلى جهة من الجهات فوافوا جماعة كبيرة من أمراء قرا يلك وقاتلوهم حتى هزموهم، وأسَروا منهم جماعة كبيرة من أمراء قرا يلك وفرسانه، وأتوا بهم إلى السلطان، وهم نيِّف على عشرين نفسًا، فأمر السلطان بقيدهم فقُيِّدوا، ثم توجهوا ثانيًا فوافقوا جماعة أخرى فقاتلوهم أيضًا وأسروا منهم نحو الثلاثين، ومن جملتهم قرا محمد أحد أعيان أمراء قرا يلك، فأحضر السلطان قرا محمد وهدده بالتوسيط إن لم يُسَلِّم له آمد، فأخذوا قرا محمد ومرُّوا إلى تحت سور المدينة، فكلَّمهم قرا محمد في تسليم المدينة، فلم يلتفتوا إليه، فأخذوه وعادوا، وأصبح السلطان فوسَطَ منهم تحت سور آمد عشرين رجلًا، من جملتهم قرا محمد، ثم بلغ السلطان أن قرا يلك نزل من قلعة أرقنين بجماعة من عساكره يريد أن يكبس على السلطان في الليل، أو يتوجه بهم إلى حلب، فندب السلطانُ جماعة من الأمراء والمماليك في عمل اليزك بالنوبة، في كل ليلة لحفظ العساكر، ثم رسم السلطان للأمير جارقطلو نائب الشام بالتوجُّه لقرا يلك بقلعة أرقنين، وندب معه جماعة من النواب والأمراء والعساكر المصرية، فخرجوا من الوطاق السلطاني في الليل بجموع كثيرة، وجدُّوا في السير حتى وافوا قرا يلك وهو بمخيمه تحت قلعة أرقنين بين الظهر والعصر، وكان غالب العسكر قد تخلَّف، فتقدم بعض العسكر السلطاني من التركمان والعربان، واقتتلوا مع القرا يلكية قتالًا جيدًا إلى أن كانت الكسرة في العسكر السلطاني، وقُتِل جماعة كثيرة من التركمان والعربان وأمراء دمشق وغيرهم، كل ذلك وسنجق السلطان إلى الآن لم يَصِل، وأما جارقطلو فإنه لما قَوِيَ الحر عليه نزل على نهر بالقرب من أرقنين ليروي خيوله منه، وصار الرائد يرد عليه بأن القوم قد التقوا مع عساكر قرا يلك، وهم في قلة وقد عزموا على القتال، فلم يلتفت إلى ذلك وسار على هيئته، فتركه بعض عساكره وساروا حتى لحقوا بمن تقدَّمهم وقاتلوا القرا يلكية، ثم تراجع القومُ وكرُّوا على القرا يلكية وهزموهم أقبح هزيمة، وتعلَّق قرا يلك بقلعة أرقنين وتحصَّن بها، ونُهِبت عساكره وتمزقوا كل ممزق، هذا والسلطان مجتهد في عماره قلعة من الخشب تجاه أبراج، ومكاحل النفط ترمي في كل يوم بالمدافع، والمجانيق منصوبة يُرمى بها، وأيضًا على الأبراج، وأهل آمد في أسوأ ما يكون من الحال، هذا مع عدم التفات السلطان لحصار آمد الالتفات الكلي؛ لشغل خاطره من جهة اختلاف عساكره، وهو بتلك البلاد بين يدي عدوِّه، وقد تورط في الإقامة على حصار آمد، والشروع ملزم، وطالت إقامته على آمد بعساكره نحو خمسة وثلاثين يومًا، وقد ضاق الحالُ أيضًا على أهل آمد، فعند ذلك ترددت الرسل بين السلطان وبين قرا يلك في الصلح، وكان قرا يلك هو البادئ في ذلك، حتى تم وانتظم الصلح بينهما على أن قرا يلك يُقَبِّل الأرض للسلطان، ويَخطُب باسمه في بلاده ويَضرِبَ السكةَ على الدينار والدرهم باسمه، فأجاب إلى ذلك، فأرسل إليه السلطان القاضيَ شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر، فتوجَّه إليه القاضي شرف الدين بالخِلَع والفرس الذي جهزه السلطان إليه بقُماش ذهب، ونحو ثلاثين قطعة من القماش السكندري، ولما بلغ قرا يلك مجيءُ القاضي شرف الدين نزل من قلعة أرقنين بمخيمه، ولقي القاضي شرف الدين وسَلَّم عليه، ثمَّ قام وقَبَّل الأرض، فألبسه القاضي شرف الدين الخِلعة، ثم قُدِّمَ له الفرس صحبة الأوجاقي، فقام إليه، فأمره القاضي شرف الدين بتقبيل حافرِ الفرس، فامتنع من ذلك قليلًا، ثم أجاب بعد أن قال: واللهِ، إن هذه عادة تعيسة، أو معنى ذلك, ثم أخذ في الكلام مع القاضي شرف الدين، فأخذ القاضي شرف الدين يعظه ويحذره مخالفة السلطان وسوء عاقبة ذلك، وعاد القاضي شرف الدين إلى السلطان، وفي الحال أخَذَ السلطان في أسباب الرحيل، ورحل في ليلة الخميس ثالث عشر ذي القعدة في النصف الثاني من الليل من غير ترتيب ولا تطليب، ولا تعبية، ورحلت العساكر من آمد كالمنهزمين، لا يلوي أحد على أحد، بل صار كل واحد يسير على رأيه، وعند رحيل القوم أطلق الغلمان النيران في الزروع المحصودة برسم عليق خيول الأجناد، فإنه كان كل جندي من الأجناد صار أمام خيمته جرن كبير مما يحصُدُه غلامه، ويأتيه به من زروع آمد، فلما انطلق النار في هذه الأجران، انطبق الوطاق بالدخان إلى الجو، حتى صار الرجل لا ينظر إلى الرجل الذي بجانبه، ورحل الناس على هذه الهيئة مسرعين، مخافة أن يسير السلطان ويتركهم غنيمةً لأهل آمد!

العام الهجري : 6 ق هـ العام الميلادي : 616
تفاصيل الحدث:

 كانت قُريشٌ تُحذِّر منَ الاستِماعِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا قَدِم الطُّفَيلُ بن عمرٍو مكةَ مَشَى إليه رجالٍ من قُرَيشٍ، وكان الطُّفَيلُ رجلًا شَريفًا شاعِرًا لَبيبًا، فقالوا له: "يا طُفَيلُ، إنَّك قَدِمتَ بلادَنا، وهذا الرجلُ الذي بين أظهُرِنا قد أعضَلَ -اشتَدَّ أمرُه- بنا، وقد فرَّق جماعَتَنا، وشتَّت أمْرَنا، وإنَّما قَولُه كالسِّحرِ يُفرِّق بين الرَّجلِ وبين أبيه، وبين الرَّجُلِ وبين أخيه، وبين الرَّجُلِ وبين زَوجَتِه، وإنَّا نَخشَى عليك وعلى قَومِك ما قد دَخلَ علينا، فلا تُكلِّمَنَّه ولا تَسمَعَنَّ منه شيئًا". قال: فَواللهِ ما زالوا بي حتَّى أجمعتُ ألَّا أسمَعَ منه شيئًا ولا أُكلِّمه، حتى حَشَوتُ في أُذُنَيَّ حين غَدَوتُ إلى المسجِدِ كُرسُفًا -قُطنًا- خوفًا مِن أن يَبلُغَني شيءٌ مِن قَولِه، وأنا لا أُريدُ أن أسمَعَه. فغَدَوتُ إلى المسجدِ فإذا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائمٌ يصلِّي عند الكَعبةِ. قال: فقُمتُ منه قريبًا، فأبى الله إلَّا أنْ يُسمِعَني بعضَ قولِه. قال: فسَمِعتُ كَلامًا حَسَنًا. فقُلتُ في نَفسي: وا ثُكْلَ أُمِّي، واللهِ إنِّي لرَجلٌ لَبيبٌ شاعِرٌ ما يَخفَى علَيَّ الحَسنُ من القَبيحِ، فما يَمنَعُني أن أسمَعَ من هذا الرَّجلِ ما يقولُ؟ فإنْ كان الذي يَأتي به حَسنًا قَبِلتُه، وإن كان قَبيحًا تَرَكتُه. فمَكَثتُ حتى انصَرَف رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بيتِه فاتَّبَعتُه، حتى إذا دخل بَيتَه دَخَلتُ عليه، فقلتُ: يا مُحمَّدُ، إنَّ قومَك قد قالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا؛ فوالله ما بَرِحوا يُخوِّفونَني أمْرَك حتى سَدَدتُ أُذُنَيَّ بكُرسُفٍ لِئَلَّا أسمَعَ قولَك، ثمَّ أبَى الله إلا أن يُسمِعَني قَولَك، فسَمِعتُه قَولًا حَسَنًا، فاعرِضْ علَيَّ أمْرَك. قال: فعَرَضَ علَيَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإسلامَ، وتلا علَيَّ القُرآنَ، فلا والله ما سَمعتُ قولًا قطُّ أحسنَ منه، ولا أمرًا أعدَلَ منه. فأسلمتُ وشَهِدتُ شهادةَ الحقِّ، وقلتُ: يا نبيَّ الله، إنِّي امرُؤٌ مُطاعٌ في قومي، وأنا راجِعٌ إليهم، وداعيهِم إلى الإسلامِ، فادعُ الله أن يجعلَ لي آيةً تَكون لي عَونًا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: "اللَّهمَّ اجعَل له آيةً".
قال: فخَرَجتُ إلى قومي، حتى إذا كنتُ بثَنيَّةٍ -الفُرجةُ بين الجَبَلَين- تُطلِعُني على الحاضِرِ -أي: القوم النَّازِلين على الماء- وقع نورٌ بين عينَيَّ مِثلُ المِصباحِ، فقُلتُ: اللَّهمَّ في غيرِ وجهي، إنِّي أخشى أن يَظُنُّوا أنَّها مُثلةٌ وَقَعت في وَجهي لفِراقي دينَهم. قال: فتَحَوَّل فوَقَع في رأسِ سوطي. قال: فجَعَل الحاضِرُ يَتراءَون ذلك النُّورَ في سَوطي كالقِنديلِ المُعلَّقِ، وأنا أهبِطُ إليهم من الثَّنيَّةِ، قال: حتى جِئتُهم فأصبَحتُ فيهم. فلمَّا نزلتُ أتاني أبي، وكان شيخًا كبيرًا، قال: فقلتُ: إليك عنِّي يا أبتِ، فلستُ منك ولستَ منِّي. قال: ولِمَ يا بُنَيَّ؟ قال: قلتُ: أسلمتُ وتابَعتُ دينَ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: أيْ بنيَّ، فديني دينُك. قال: فقلتُ: فاذهَبْ فاغتَسِلْ وطهِّرْ ثيابَك، ثم تعالَ حتى أُعَلِّمَك ما عَلِمتُ. فذَهَب فاغتَسَلَ، وطهَّرَ ثيابَه، ثم جاء فعَرَضتُ عليه الإسلامَ، فأسلمَ.
ثم أتَتْني صاحِبَتي -زَوجَتي- فقلتُ: إليكِ عنِّي، فلستُ منكِ ولستِ منِّي. قالت: لِمَ؟ بأبي أنت وأمي. قلتُ: قد فرَّق بيني وبينكِ الإسلامُ، وتابَعتُ دينَ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قالت: فديني دينُكَ. قلتُ: فاذهَبي فتطهَّري، فذَهَبَت فاغتسَلَت، ثم جاءت فعَرَضتُ عليها الإسلامَ، فأسلَمَت.
ثم دعوتُ دَوسًا إلى الإسلامِ فأبطَؤوا علَيَّ، ثم جئتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمكةَ، فقلتُ له: يا نبيَّ الله، إنَّه قد غَلَبني على دوسٍ الزِّنا -لَهوٌ مع شُغُلِ القَلبِ والبَصرِ-، فادعُ الله عليهم، فقال: "اللَّهمَّ اهدِ دَوسًا، ارجِعْ إلى قومِكَ فادعُهم وارفُقْ بِهِم". قال: فلَم أزَلْ بأرضِ دَوسٍ أدعوهم إلى الإسلامِ، حتى هاجَرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المدينةِ، ومَضَى بدرٌ وأُحُدٌ والخَندَقُ، ثم قَدِمتُ على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِمَن أسلم معي من قومي، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَيبَرَ، حتى نزلتُ المدينةَ بسبعين أو ثمانين بَيتًا من دوسٍ، ثم لَحِقْنا برسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَيبَرَ، فأسهَمَ لنا مع المسلمين".
ثم لم يَزَل رَضي اللهُ عنه مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى فتح الله عليه مكَّةَ، وكان معه بالمدينةِ حتى قَبَض الله رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا ارتدَّتِ العربُ خرج مع المسلمين، فسار معهم حتى فَرَغوا من طُلَيحةَ، ومن أرضِ نجدٍ كلِّها. ثم سار مع المسلمين إلى اليَمامةِ، واستشهد فيها.