تجدَّدت الفِتنةُ الطائفية في بلاد الشامِ؛ إذ اعتدى الموارنة على الدروز عام 1276هـ، فقام الدروز يأخُذونَ بالثأرِ، وامتَدَّ اللهيبُ مِن جبل لبنان إلى طرابلس وصيدا وزحلة ودير القمر واللاذقية ودمشق، وأسرعت الدولةُ فأرسلت فؤاد باشا وقضى على الفتنةِ، وعاقب المسؤولين عنها كلًّا بما يستحِقُّ، واحتَجَّت الدُّولُ الأوربية وهدَّدت بالتدخُّلِ، وكانت متفرقةَ الرأي ثم اجتمعت أو اتَّفَقت على أن ترسِلَ فرنسا ستة آلاف جندي لمساعدة الدولةِ فيما إذا عجزت عن إطفاءِ الفتنةِ -حسب زعمهم- وأنزلت فرنسا قوتَها في بيروت في الثاني والعشرين من محرَّم من عام 1277هـ، وهذا يُعَدُّ تدخلًا في شؤون الدولة العثمانية التي أحسَنَت القيامَ بمهمتها، لكن كان القصدُ تقوية النصارى وإظهارُهم بمظهرِ القوة، وأن أوربا كُلَّها من خَلْفِهم لتزدادَ قُوَّتُهم ويخشى خصومُهم بأسَهم، وجرى الاتفاقُ مع فؤاد باشا على أن يعوَّضَ النصارى على ما خسروه، ويُمنَحَ أهلُ الجبل حكومةً مُستقلَّةً تحت سيادة الدولةِ، وأن يرأس هذه الحكومةَ رجل نصراني لمدة ثلاث سنوات، ولا يحِقُّ عزلُه إلَّا برأي الدول الأوروبية، وتقترحه الدولةُ وتوافِقُ عليه أوروبا، وقد اختير أوَّلُ حاكم وهو داود الأرمني، ويذكَرُ أن هذا التساهل ألزم فرنسا بالانسحابِ مِن الشام إذ أخلَت المناطِقَ التي دخلَتْها في السابع والعشرين من ذي القعدة عام 1277هـ أي: بعد عشرة أشهر وخمسة أيام من دخولِها.
عبَرَت جحافِلُ القوات الروسية ﺍلأﺭاضي العثمانية باتِّفاقٍ ومباركةٍ مِن فرنسا وبريطانيا، انضَمَّ إلى الروس قواتٌ رومانية وصربية وبلغارية، وعَبَروا نهر الدانوب، واستولوا علي بعض المدُنِ التابعة للعثمانيين، والمعابر المؤدية إلى البلقان، فقام السلطان عبد الحميد الثاني بتعيين عثمان باشا قائدًا للجيشِ العثماني لصَدِّ الغزو الروسي الذي حاول الاستيلاءَ على مدينة بلافنا، التي تقع في بلغاريا، وهي من أهم المعابر في البلقان، ولكنَّ القائد العثماني عثمان باشا أظهر مع قوَّاتِه بسالةً مُنقَطِعةَ النظير في الدفاع عن مدينة بلافنا، رغم أن جيشه الصغير لا يتعدى 50 ألف مقاتلٍ، فتحرَّك سريعًا ووصل المدينةَ قبل الروس الذين يُقَدَّرُ عددُهم بمئات الألوف، وفرض الحصارَ على ثلاثة خطوط، ومع ذلك فإن العثمانيين المحاصرين بقيادة عثمان باشا صَمَدوا صمودَ الأبطال ولم يكتفوا بالصمودِ, بل أعدُّوا خطة للهجومِ على خطوط العدو المحاصِرِ لهم، طالبين بذلك إما النصر وفكَّ الحصار، أو الشهادةَ، فقاد عثمان باشا قواتِه التي انحدرت على الأعداء وهم يُهلِّلون ويكَبِّرون, فقُتِلَ أعدادٌ منهم، ومع ذلك تمكنوا من تكبيدِ الأعداء خسائِرَ في الأرواح وغَنِموا عددًا من المدافعِ، وأصيب عثمان باشا ببعض الجِراحِ، فسَرَت إشاعةٌ قويَّةٌ بين جنده بقتلِه، ففَتَّ ذلك في عضدهم، وحاولوا الرجوعَ إلى مدينة, لكِنَّ الروس أصبحوا بداخلها, فاستسلموا للقواتِ الروسية. وقد سَلَّم عثمان باشا نفسه وهو جريحٌ إلى الروس الذين كانوا معجَبين به وبشجاعتِه.
أقامت حكومةُ العراق بدعمٍ من الإنجليز مخفرًا على ماء بُصية في الحدود النجدية العراقية، وأعلنت رسميًّا عَزْمَها بناء حصون أخرى، ورأى الملك عبد العزيز في ذلك مخالفةً للمادة الثالثة من معاهدة العقير عام 1915م التي تنصُّ على عدم استخدام أيٍّ من الطرفين الآبار الموجودة على أطراف الحدود لأيِّ غرض حربي، كوضع قلاع عليها، أو تعبئتها بالجند، فاحتجَّ الملك عبد العزيز على هذا الخَرقِ الصريح للاتفاقيات المبرمة، ولكنَّه لم يتلقَّ بعد شهرٍ إلا إجابة فيها مراوغةٌ من المندوب البريطاني في العراق؛ لذلك بدأ فيصل الدويش بالهجومِ على المخفر فقد رأى أنَّ بناءَ حكومة العراق مخفر بُصَية ووعْدَها ببناء غيره على الحدود العراقية النجدية أمرًا يهَدِّدُ حياتَهم وأمْنَهم، ويحرِمُهم من آبار المياه التي لا غنى لهم عنها والتي يعتمدون عليها اعتمادًا كليًّا، فاتخذ قرارًا دون الرجوع إلى الإمام؛ لقناعته أن المفاوضات السلمية مع الإنجليز لن تأتيَ بنتيجة، فأرسل قوةً صغيرة هاجمت المخفر وقتَلَت من فيه من العمَّال والجنود الذين كانوا مكَلَّفين بحمايتهم، وبعد ثلاثة أشهر من حادثة البصية قام سِربُ طيران إنجليزي بقصف شمال نجد فألقت طائراتٌ إنجليزية قنابِلَ على هجرة اللصافة التابعة لقبيلة مطير، فدمرت مسجِدَها وبعض بيوتها، وأثار حالةً من الفزع بين بدوِ قبائل مطير، ولقي رجال وأطفال ونساء وحيوانات مصرعَهم من دون تمييزٍ.
استولى الأمير جكم الجركسي الظاهري على حلب، وقد كان سابقًا خرج عن الطاعة وتمالأ مع التركمان والعربان وأحدث عدة فتن، وأنعم على الأمير علان نائب حماة بموجود دمرداش النائب السابق لحلب، وأحسن جكم السيرة في حلب، وولَّى في القلاع نوابًا من جهته، فاجتمعت له حلب وحماة وطرابلس، وأما الأمير شيخ المحمودي نائب الشام فإنه خرج لأخذ صفد وعمل ثلاثين مدفعًا، وعدة مكاحل للنفط ومنجنيقين، وجمع الحجَّارين والنقَّابين وآلات الحرب، وخرج من دمشق ومعه جميع من عنده من عسكر مصر والشام، وقرا يوسف بجماعته، وجماعة السلطان أحمد بن أويس متملك بغداد، والتركمان الجشارية، وأحمد بن بشارة بعشرانه، وعيسى بن الكابولي بعشيره، بعدما نادى بدمشق من أراد النهب والكسب فعليه بصفد، فاجتمع له خلائق، وسار ومعه مائة جمل تحمل المدافع والمكاحل والمجانيق، والزحَّافات، والبارود، ونحو ذلك من آلات الحصار، وولي الأمير ألطنبغا العثماني نيابة صفد، فكتب يستدعي عشران صفد وعربانها وتركمانها، فقدم الأمير شيخ بمن معه إلى صفد وبعث أمامه تقي الدين يحيى بن الكرماني، وقد ولَّاه العسكر، ومعه قطلوبغا رأس نوبة بكتابه إلى الأمير بكتمر شلق يدعوه إلى موافقته، ويحذِّره من مخالفته، ويُعلِمه أن الأمير جكم قد أخذ حلب من الأمير دمرداش بالقهر، وأنه قادم إليه ومعه الأمير علان نائب حماة، فلم يُذعِن له بكتمر، وأبى إلا قتاله، فأحاط الأمير شيخ بقلعة صفد وحصرها من جميع جهاتها، وقد حصَّنها الأمير بكتمر وشحنها بالرجال والآلات، فاستمرَّت الحرب بينهم أيامًا، جرح فيها من الشيخية نحو ثلاثمائة رجل، وقتل ما ينيف على خمسين فارسًا، ثم إن الأمير جكم خرج من حلب يريد دمشق، وقد حضر إليه شاهين دوادار الأمير شيخ يستدعيه، وكان جكم قد سلم القلعة إلى شرف الدين موسى بن يلدق، وعمل حجابًا وأرباب وظائف، وعزم على أن يتسلطن ويتلقب بالملك العادل، ثم أخر ذلك وقدم دمشق ومعه الأمير قانباي، والأمير تغري بردي القجقاري وجماعة، وقد خرج الأمير شيخ والأمراء إلى لقائه، وأنزله في الميدان، فترفع على الأمراء ترفعًا زائدًا أوجب تنكُّرَهم عليه في الباطن، إلا أن الضرورة قادتهم إلى الإغضاء، فأكرموه، وأنزلوه، وحلفوه على القيام معهم على السلطان وموافقتهم، وأخذ في إظهار شعار السلطنة، فشَقَّ عليهم ذلك، وما زالوا به حتى تركه، وأقام معهم بدمشق ثم توجَّه منها مخفًّا إلى طرابلس، وترك أثقاله بدمشق، ليجمع عساكر طرابلس وغيرها ممن انضم إليه، وأما الأمير شيخ فإنه وقع الصلح بينه وبين الأمير بكتمر نائب صفد، وتحالفوا جميعًا على الاتفاق، ثم سار جكم من طرابلس في عشرينه، وخيَّم ظاهرها، فبعث شيخ السلماني يستدعي علان، فبعث إليه نائب شيزر على عسكر، ففرَّ ابن أمير أسد بمن معه وترك أثقاله، فأخذها السليماني، ورتب أمر قلعة صهيون، وجعل بيازير بها، وتوجه إلى علان - -وقد نزل على بارين - فتلقاه وبالغ في كرامته، وأنزله بمخيمه، فأخذ شيخ عند ذلك في مكاتبة أمراء طرابلس وتركمانها يدعوهم إلى طاعته، فأجابوه بالسمع والطاعة، ووعدوه بالقيام معه، فاضطرب أمر جكم، وانسلَّ عنه من معه، طائفة بعد أخرى، فمضى إلى الناعم وقد كثر جمع السليماني، فمشى ومعه علان يريدان جكم فتركهم، ومضى إلى دمشق، فأدركه في طريقه إليها الأمير سعد الدين إبراهيم بن غراب، ويشبك العثماني، وأقبغا دوادار الأمير يشبك الدوادار، يحثُّونه على القدوم، وقد سار من دمشق فسار معهم، وأركب السليماني تركمان طرابلس في أثر جكم، فأخذوا بعض أطرافه، وقدم السليماني طرابلس وأعاد الخطبة للسلطان، ومهَّد أمورها، وكتب يُعلِم السلطان بذلك، ثم خرج منها بعد يومين يستنفر الناس، فاجتمع عليه خلائق من التركمان، والعربان، والعشران، وعسكر طرابلس وكثير من عسكر حلب، وطائفة من المماليك السلطانية، وكان العجل بن نعير قد استولى على معاملة الحصن والمناصف، واستولى فارس بن صاحب الباز -وأخوه حسين- على سواحل اللاذقية، وجبلة، وصهيون، وبلاطنس، واستولى علم الدين على حصن الأكراد، وعصى بها، واستولى رجب بن أمير أسد على قلعة المرقب، فطرد السليماني العجل من المعاملة، ونزل على حصن الأكراد وحصرها حتى أخذها، وأعاد بها الدعاء للسلطان، وأخذ في استرجاع الساحل، فقدم عليه الخبر بولاية الأمير قانباي طرابلس، ووصول متسلمه سيف الدين بوري -ومعه شهاب الدين أحمد الملطي- على ظهر البحر من ديار مصر، ففتَّ ذلك في عضده، وصار إلى علان نائب حماة، فأشار عليه ألَّا يسلم طرابلس حتى يراجع السلطان بما يترتب على عزله من الفساد بتبدُّد كل العساكر، فكتب بذلك، ودخل بوري والملطي إلى طرابلس، وتسلماها، وحلَّفا الأمراء وغيرهم للسلطان، ثم خرج الأمير شيخ المحمودي نائب الشام ومعه الأمير يشبك وبقية الأمراء إلى لقاء الأمير جكم، فعندما رأوه ترجل له يشبك، ونزل الأرض وسلم عليه، فلم يعبأ به، ولا التفت إليه، وجرى على عادته في الترفع والتكبر، فشقَّ ذلك على الأمير شيخ، ولام يشبك على ترجُّله، وعِيبَ جكم على ما كان منه، ودخلوا معه إلى دمشق والطبول تُضرَب وهو في مركب مهول، فنزل الميدان، وجرى على عادته في التكبر والترفع، فتنكرت القلوب، واختلفت الآراء، فكان جكم أمة وحدة يرى أنه السلطان، ويريد إظهار ذلك، والأمراء تَسوسُه برفق، حتى لا يتظاهر بالسلطنة، ورأيه التوجه إلى بلاد الشمال، ورأي بقية الأمراء المسير إلى مصر، فكانوا ينادون يومًا بالمسير إلى مصر، وينادون يومًا بالمسير إلى حماة وحلب، وينادون يومًا من أراد النهب والكسب فعليه بالتوجه إلى صفد، ثم قوي عزمهم جميعًا على قصد مصر، وبعثوا لرمي الإقامات بالرملة وغزة، وبرزوا بالخيام إلى قبة يلبغا في الرابع عشر، وخرج الأمير شيخ والأمير يشبك وقرا يوسف من دمشق، وندبوا الأمير يشبك وقرا يوسف إلى صفد، فسارا من الخربة في عسكر، ومضى الأمير شيخ إلى قلعة الصبيبة فاستعد الأمير بكتمر شلق نائب صفد، وأخرج كشافته بين يديه، ونزل بجسر يعقوب، فالتقى أصحابه بكشافة يشبك وقرا يوسف، واقتتلوا، فكثرت الجراحات بينهما، وغنم الصفديون منهم عشرة أفراس، فرجع يشبك وقرا يوسف إلى طبرية، ونزلا على البحيرة حتى عاد الأمير شيخ من الصبيبة، وقد حصَّن قلعتها، ثم ساروا جميعًا إلى غزة، وقد تقدَّمهم الأمير جكم، ونزل بالرملة والتقت مقدمة السلطان ومقدمة الأمراء واقتتلوا، فرحل السلطان من بلبيس بكرة نهار الأربعاء، ونزل السعيدية فأتاه كتاب الأمراء الثلاثة: شيخ، وجكم، ويشبك، بأن سبب حركتهم ما جرى بين الأمير يشبك والأمير إينال باي ابن الأمير قجماس من حظ الأنفس، حتى توجه يشبك بمن معه إلى الشام، فكان بها من خراب البلاد، وهلاك الرعية ما كان، وطلبوا منه أن يخرج أينال باي ودمرداش نائب حلب من مصر إلى الشام، وأن يُعطى لكل من يشبك وشيخ وجكم، ومن معهم بمصر والشام ما يليق به؛ لتخمد هذه الفتنة باستمرارهم على الطاعة، وتحقن الدماء، ويعمر ملك السلطان، وإن لم يكن ذلك تَلِفَت أرواح كثيرة، وخربت بيوت عديدة وقد كان عزمهم المكاتبة بهذا من الشام، لكن خشوا أن يُظَنَّ بهم العجز، فإنَّه ما منهم إلا من جعل الموت نصب عينيه، ثم بيت أمراء السلطان، وهم في نحو الثلاثة آلاف فارس وأربعمائة تركماني من أصحاب قرا يوسف، فاقتتل الفريقان قتالًا شديدًا، من بعد عشاء الآخرة إلى بعد نصف الليل، جُرِح فيه جماعة، وقُتِل الأمير صرق صبرًا بين يدي الأمير شيخ؛ لأنه ولي نيابة الشام من السلطان، وركب السلطان ومعه الأمير سودن الطيار، وسودن الأشقر هجنا، وساقوا على البر تحت غلس الصبح يريدون القلعة، وتفرقت العساكر وتركوا أثقالهم وسائر أموالهم، فغنمها الشاميون، ووقع في قبضتهم الخليفة وقضاة مصر، ونحو من ثلاثمائة مملوك، والأمير شاهين الأفرم، والأمير خير بك نائب غزة، وقدم المنهزمون إلى القاهرة، ولم يحضر السلطان ولا الأمراء الكبار، فكثر الإرجاف، وأقيم العزاء في بعض الدور وماج الناس، وكثُر النهب، حتى وصل السلطان قريب العصر ومعه الأمراء، إلى الأمير أقباي، وقد قاسى من العطش والتعب ما لا يوصف، فاستعدَّ وجمع إليه عساكره، وزحفت عساكر الشاميين من الريدانية، وقد نزلوا بها من أمسه وكثر اضطراب الناس بالقاهرة، وغلقت أبوابها ودروبها، وتعطلت الأسواق، وعزَّ وجود الماء، ووصلت العساكر قريبًا من دار الضيافة تحت القلعة، فقاتلهم السلطانية من بكرة النهار إلى بعد الظهر، فأقبل عدة من الأمراء إلى جهة السلطان طائعين له، منهم: أسن بيه أمير ميسرة الشام، والأمير يلبغا الناصري، والأمير سودن اليوسفي، وإينال حطب، وجمق، ففت ذلك في أعضاد من بقي، وعاد طائفة منهم، وحملوا خفهم وأفرجوا عن الخليفة والقضاة وغيرهم، وتسلل الأمير قطلوبغا الكركي، والأمير يشبك الدوادار، والأمير تمراز الناصري، وجركس المصارع في جماعة، واختفوا بالقاهرة وظواهرها، فوَلِيَ حينئذ الأمير شيخ المحمودي نائب الشام، والأمير جكم، وقرا يوسف، وطولو، في طائفة يسيرة، وقصدوا الشام، فلم يتبعهم أحد من عسكر السلطان، ونادى السلطان بالأمان، وأصبح فقَيَّد من استأمن إليه من الأمراء، وبعثهم إلى الإسكندرية، فاعتُقِلوا بها، وانجلت هذه الفتنة عن تلف مال العسكريين، فذهب فيها من الخيل والبغال والجمال والسلاح والثياب والآلات ما لا يدخل تحت حصر، وأما حلب فإن الأمير جكم لما سار عنها ثار بها عدة من أمرائها، ورفعوا سنجق السلطان بباب القلعة، فاجتمع إليهم العسكر، وحلفوا للسلطان، فقدم ابنا شهري الحاجب، ونائب القلعة من عند التركمان البياضية إلى حلب، وقام بتدبير الأمور يونس الحافظي، وامتدت أيدي عرب العجل بن نعير وتراكمين ابن صاحب الباز إلى معاملة حلب، فقسموها، ولم يَدَعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئًا.
اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحَصْرِها، فساروا إليها مع الملك بغدوين، صاحب القدس، وحشدوا وجمعوا ونازلوها وحصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وعملوا عليها ثلاثة أبراج خشب، عُلوُّ البرج سبعون ذراعًا، وفي كل برج ألف رجل، ونصبوا عليها المجانيق، وألصقوا أحدها إلى سور البلد، وأخلَوه من الرجال، وكانت صور للآمر بأحكام الله الفاطمي ونائبه بها عز الملك الأعز، فأحضر أهل البلد واستشارهم في حيلةٍ يدفعون بها شرَّ الأبراج عنهم، فقام شيخ من أهل طرابلس وضَمِنَ على نفسه إحراقها، وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام، ومع كل رجل منهم حِزمةُ حطب، فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا إلى البرج الملتصق بالمدينة، فألقى الحطبَ من جهاته، وألقى فيه النار، ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء النار، ويتخلَّصوا، فرماهم بجربٍ كان قد أعدها مملوءة من العَذِرة، فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث، فتمكَّنت النار منه، فهلك كلُّ من به إلا القليلَ، وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه بالكلاليب، ثم أخذ سلال العنب الكبار، وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط والزفت والكتان والكبريت، ورماهم بسبعين سلة، وأحرق البرجين الآخرين، ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقُطَ فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم، ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم، فاستأمن نفرٌ من المسلمين إلى الفرنج، وأعلموهم بما عملوه، فحذروا منها، وأرسل أهل البلد إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يستنجدونه ويطلبونه ليسلِّموا البلد إليه، فسار في عساكره إلى نواحي بانياس، وسَيَّرَ إليهم نجدة مائتي فارس، فدخلوا البلد فامتنع من فيه بهم، واشتد قتالُ الفرنج خوفًا من اتصال النجدات، ففني نشاب الأتراك، فقاتلوا بالخشب، وفني النفط، فظفروا بسرب تحت الأرض فيه نفط لا يُعلَم من خزنه، ثم إن عز الملك، صاحب صور، أرسل الأموالَ إلى طغتكين لِيُكثِرَ من الرجال ويقصدهم ليملك البلد، فأرسل طغتكين طائرًا فيه رقعةٌ لِيُعلِمَه وصول المال، ويأمره أن يقيم مركبًا بمكان ذكره لتجيءَ الرجال إليه، فسقط الطائر على مركب الفرنج، فأخذه رجلان: مسلم وفرنجي، فقال الفرنجي: نطلقه لعلَّ فيه فرجًا لهم، فلم يمكِّنْه المسلم، وحمله إلى الملك بغدوين، فلما وقف عليه سَيَّر مركبًا إلى المكان الذي ذكره طغتكين، وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من صور، فوصل إليهم العسكر، فكلموهم بالعربية، فلم ينكروهم، وركبوا معهم، فأخذوهم أسرى، وحملوهم إلى الفرنج، فقتلوهم وطمعوا في أهل صور، فكان طغتكين يُغير على أعمال الفرنج من جميع جهاتها، وقصَدَ حصن الحبيس في السواد من أعمال دمشق، وهو للفرنج، فحصره وملكه بالسيف، وقتل كل من فيه، وعاد إلى الفرنج الذين على صور، وكان يَقطَع الميرةَ عنهم في البر، فأحضروها في البحر، وخندقوا عليهم ولم يخرجوا إليه، فسار إلى صيدا وأغار على ظاهرها، فقتل جماعة من البحرية، وأحرق نحو عشرين مركبًا على الساحل، وهو مع ذلك يواصِلُ أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر، والفرنج يلازمون قتالهم، وقاتل أهل صور قتالَ من أيس من الحياة، فدام القتالُ إلى أوان إدراك الغلَّات، فخاف الفرنج أن طغتكين يستولي على غلات بلادهم، فساروا عن البلد عاشر شوال إلى عكا، وعاد عسكر طغتكين إليه، وأعطاهم أهل صور الأموال وغيرها، ثم أصلحوا ما تشعَّث من سورها وخندقها، وكان الفرنج قد طَمُّوه.
بعد أن رحل تيمورلنك من بغداد كتب إلى بايزيد الأول صاحب الروم أن يخرجَ السلطان أحمد بن أويس وقرا يوسف من ممالك الروم وإلا قصده وأنزل به ما نزل بغيره، فردَّ بايزيد جوابه بلفظ خَشِنٍ إلى الغاية، فسار تيمور إلى نحوه، فجمع بايزيد الأولُ عساكرَه من المسلمين والنصارى وطوائف التتر، فلما تكامل جيشُه سار لحربه، فأرسل تيمور قبل وصوله إلى التتار الذين مع بايزيد الأول يقول لهم: نحن جنسٌ واحد، وهؤلاء تركمان ندفعُهم من بيننا، ويكون لكم الرومُ عِوَضَهم، فانخدعوا له وواعدوه أنهم عند اللقاء يكونون معه، وسار بايزيد الأول بعساكِرِه على أنه يلقى تيمور خارج سيواس، ويردُّه عن عبور أرض الروم، فسلك تيمور غير طريق بايزيد واختار الطريق الأطول، ومشى في أرض غير مسلوكة، ودخل بلاد بايزيد، ونزل بمعسكر بايزيد الأول بالقرب من أنقرة وضرب الحصار حولها, فلم يشعر بايزيد إلا وقد نُهِبت بلاده، فقامت قيامته وكرَّ راجعًا، وقد بلغ منه ومن عسكره التعبُ مبلغًا أوهَنَ قواهم، وكلَّت خيولهم، ونزل على غير ماء، فكادت عساكره أن تهلك، فلما تدانوا للحرب كان أول بلاء نزل ببايزيد مخامرة التتار بأسْرِها عليه، فضَعُفَ بذلك عسكره؛ لأنهم كانوا معظمَ عسكره، ثم تلاهم ولدُه سليمان ورجع عن أبيه عائدًا إلى مدينة بورصا بباقي عسكرِه، فلم يبقَ مع بايزيد إلا نحو خمسة آلاف فارس، فثبت بهم حتى أحاطت به عساكر تيمورلنك فالتَقَوا في معركة عُرِفت بمعركة أنقرة في ذي الحجة 804 (1402م) واستمر القتال بينهم من ضحى يوم الأربعاء إلى العصر، فصدمهم جيش بايزيد صدمة هائلة بالسيوف والأطبار حتى أفنوا من التمرية أضعافهم، فكفَّت عساكر بايزيد، وتكاثر التمرية عليهم يضربونهم بالسيوف لقلَّتهم وكثرة التمرية، فكان الواحد من العثمانية يقاتله العشرة من التمرية، إلى أن صُرِعَ منهم أكثرُ أبطالهم، وأُخِذَ بايزيد الأول أسيرًا قبضًا باليدِ على نحو ميل من مدينة أنقرة، في يوم الأربعاء سابع عشرين ذي الحجة بعد أن قُتِل غالب عسكره بالعطش، وصار تيمور يوقَف بين يديه في كل يوم السلطان بايزيد ويسخر منه ويُنكيه بالكلام، وجلس تيمور مرةً لمعاقرة الخمر مع أصحابه وطلب بايزيد طلبًا مزعجًا، فحضر وهو يرسُفُ في قيوده وهو يرجف، فأجلسه بين يديه وأخذ يحادثه، ثم وقف تيمور وسقاه من يد جواريه اللاتي أسرهن تيمور، ثم أعاده إلى محبسه، وأما أمر سليمان بن السلطان بايزيد الأول، فإنه جمع المال الذي كان بمدينة بورصا، وجميع ما كان فيها ورحل إلى أدرنة وتلاحق به الناس، وصالح أهل استانبول، فبعث تيمورلنك فرقةً كبيرة من عساكره صحبة الأمير شيخ نور الدين إلى بورصا فأخذوا ما وجدوا بها، ثم تبعهم هو أيضًا بعساكره، ثم أفرج تيمور عن محمد وعلي أولاد ابن قرمان من حبس السلطان بايزيد، وخلع عليهما وولَّاهما بلادهما، وألزم كلَّ واحد منهما بإقامة الخطبة، وضَرْب السكة باسمه واسم السلطان محمود خان المدعو صرغتمش، ثم شتا في معاملة منتشا وعمل الحيلة في قتل التتار الذين أتوه من عسكر بايزيد حتى أفناهم عن آخرِهم، وأما السلطان بايزيد فإنه استمر في أسر تيمورلنك من ذي الحجة سنة أربع إلى أن مات بكربته وقيوده في أيام من ذي القعدة سنة 805.
لمَّا انصرف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الطَّائفِ راجعًا إلى مكَّة، حتَّى إذا كان بِنَخْلَةَ، قام من جوفِ اللَّيلِ يُصلِّي، فمَرَّ بهِ النَّفرُ مِنَ الجِنِّ الذين ذكَرهُم الله تعالى، وكانوا سَبعةَ نَفَرٍ من جِنِّ أهلِ نَصِيبِينَ، فاستمعوا لِتِلاوةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا فرغ من صلاتهِ، وَلَّوْا إلى قَومهِم مُنذِرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمِعوا، وفيهِم نزل قولُه تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (32)) [الأحقاف] وبعدَ عِدَّةِ أَشهُرٍ من لِقاءِ الوفدِ الأوَّلِ مِنَ الجِنِّ بِرسولِ الله صلى الله عليه وسلم, جاء الوفدُ الثَّاني مُتشوِّقاً لِرُؤيةِ الحبيبِ المصطفى صلى الله عليه وسلم, والاستماعِ إلى كلامِ رَبِّ العالمين.
أقبل المأمونُ من خراسان قاصدًا العراق، وذلك أنَّ علي بن موسى الرضا أخبر المأمونَ بما النَّاسُ فيه من الفِتَن والاختلافِ بأرض العراق، وبأنَّ الهاشميِّينَ قد أنهَوا إلى الناس بأنَّ المأمونَ مَسحورٌ ومَسجونٌ، وأنَّهم قد نَقَموا عليك ببيعتِك لعليِّ بن موسى، وأنَّ الحرب قائمة بين الحسَنِ بنِ سَهلٍ وبين إبراهيم بن المهدي. فاستدعى المأمونُ جماعةً مِن أمرائه وأقربائه فسألهم عن ذلك فصدَّقوا عليًّا فيما قال، بعد أخذِهم الأمانَ منه، وقالوا له: إنَّ الفضلَ بنَ سَهلٍ حسَّنَ لك قتلَ هَرثَمة بن أعين، وقد كان ناصحًا لك. فعاجله بقَتلِه، وإنَّ طاهِرَ بن الحسين مهَّدَ لك الأمورَ حتى قاد إليك الخلافةَ بزِمامِها فطَرَدتَه إلى الرقَّة، فقعد لا عملَ له ولا تستنهِضُه في أمرٍ، وإنَّ الأرض تفتَّقَت بالشرور والفِتَن من أقطارها، فلما تحقَّقَ ذلك المأمونُ أمر بالرحيلِ إلى بغداد، وقد فطِنَ الفضلُ بن سهل بما تمالأَ عليه أولئك الناصحون، فضرب قومًا ونتَفَ لحى بعضِهم. وسار المأمونُ فلمَّا كان بسرخس عدا قومٌ على الفضلِ بنِ سَهلٍ وزير المأمون (ذو الرياستين ) وهو في الحمَّام، فقتلوه بالسيوف، وله ستون سنةً، فبعث المأمونُ في آثارهم فجيءَ بهم وهم أربعةٌ من المماليك فقتَلَهم وكتب إلى أخيه الحسَنِ بنِ سهل يعزِّيه فيه، وولَّاه الوَزارةَ مكانَه، وارتحل المأمونُ من سرخس يومَ عيد الفطر نحو العراق، وإبراهيم بن المهدي بالمدائن، وفي مقابلتِه جيشٌ يقاتلونه من جهةِ المأمون.
كان عبد الله السجزي ينازِعُ يعقوبَ بن الليث الصفَّار الرئاسةَ بسجستان، فقهره يعقوبُ، فهرب منه عبد الله إلى نيسابور، فلما سار يعقوبُ إلى نيسابور، هرب عبد الله إلى الحسن بن زيد العَلَوي بطبرستان، فسار يعقوبُ في أثَرِه، فلقيه الحسنُ بن زيد بقرية سارية، وكان يعقوبُ قد أرسل إلى الحسن يسألُه أن يبعثَ إليه عبد الله ويرجِعَ عنه، فإنَّه إنما جاء لذلك لا لحَربِه، فلم يُسلِّمْه الحسن، فحاربه يعقوبُ، فانهزم الحسَنُ، ومضى نحو السِّرِّ وأرض الديلم، ودخل يعقوب ساريةً، وآمل، وجبى أهلَها خراجَ سَنةٍ، ثم سار في طلَبِ الحسن، فسار إلى بعضِ جبال طبرستان، وتتابعت على يعقوبَ الأمطارُ نحوًا من أربعين يومًا، فلم يتخلَّصْ إلا بمشقَّة شديدة، وهلك عامَّةُ ما معه من الظهر، ثم أراد الدخولَ خلف الحسن، لكنَّه توقَّف على الطريق الذي يريدُ أن يَسلُكَه، وأمر أصحابَه بالوقوف، ثم تقدَّم وحده، وتأمَّل الطريق، ثم رجع إليهم فأمَرَهم بالانصراف، وقال لهم: إنَّه لم يكنْ طريقٌ غيرُ هذا وإلَّا لا طريق إليه، وكان نساءُ أهل تلك الناحية قُلْنَ للرجال: دعوه يدخُل؛ فإنَّه إن دخل كفيناكم أمْرَه، وعلينا أسْرَه لكم. فلمَّا خرج من طبرستان عرضَ رجالَه، ففقد منهم أربعون ألفًا، وذهب أكثَرُ ما كان معه من الخيل والإبل والبغال والأثقال، وكتب إلى الخليفة بما فعله مع الحسَنِ من الهزيمة.
هو أبو إسحاقَ محمَّد - وقيل: أحمد – الراضي بالله بن المقتَدِر بالله جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق بن المتوكل الهاشمي، العباسي. ولد: سنة 297. وأمُّه رومية. كان أسمَرَ قصيرًا نحيفًا، في وَجهِه طول. استخلف بعد عَمِّه القاهر عندما سمَلوا عينيه سنة 322. له فضائِلُ؛ منها: أنه آخر خليفة خطب يومَ الجمعة، وآخِرُ خليفةٍ جالسَ النُّدَماء، وآخِرُ خليفة له شِعرٌ مُدَوَّن، وآخر خليفة انفرد بتدبيرِ الجيوش. وكانت جوائِزُه وأموره على ترتيبِ المتقدمين منهم، وكان سمحًا جوادًا، أديبًا فصيحًا محبًّا للعُلَماءِ، سَمِعَ من البَغَوي. حاول الإصلاحَ لكنَّه فشَلَ، وفي عهده تفكَّكَت الدولة حتى صارت كلُّ ناحية بيدِ رجلٍ، توفي في بغداد ودُفِنَ بالرصافة، توفي وله اثنتان وثلاثون سنة سوى أشهرٍ. وكانت مدة خلافتِه سِتَّ سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام. اجتمع القضاةُ والأعيان بدار بجكم وتشاوروا فيمن يولُّونَ عليهم، فاتَّفَق رأيُهم كلِّهم على المتَّقي، فأحضروه في دارِ الخلافة وأرادوا بيعتَه فصلى ركعتينِ صلاةَ الاستخارةِ وهو على الأرضِ، ثم صعِدَ إلى الكرسيِّ بعد الصلاة، ثم صَعِدَ إلى السرير وبايعه الناسُ يوم الأربعاء لعشرٍ بَقِينَ مِن ربيع الأول منها، فلم يغيِّرْ على أحد شيئًا، ولا غدر بأحدٍ، ولما استقَرَّ المتقي لله في الخلافة أنفذ الرسُلَ والخِلَعَ إلى بجكم وهو بواسط، ونفذت المكاتبات إلى الآفاقِ بولايته.
كان السلطانُ محمود بن محمد بن ملكشاه قد أرسل إلى عماد الدين بواسط يأمره أن يَحضُر هو بنفسِه ومعه المقاتِلة في السفن، وعلى الدوابِّ في البر، فجمع كلَّ سفينة في البصرة إلى بغداد، وشحَنَها بالرجال المقاتِلة، وأكثَرَ من السلاح، وأصعد، فلما قارب بغداد أمرَ كُلَّ من معه في السفن وفي البر بلُبس السلاح، وإظهار ما عندهم من الجَلدِ والنهضة، فسارت السفنُ في الماء، والعسكرُ في البر على شاطئ دجلة قد انتشروا وملؤوا الأرض برًّا وبحرًا، فرأى الناس منظرًا عجيبًا، كَبُر في أعينهم، وملأ صدورَهم، وركب السلطانُ والعسكر إلى لقائِهم، فنظروا إلى ما لم يروا مثله، وعَظُم عماد الدين في أعينهم، وعزم السلطانُ على قتال بغداد حينئذ، والجِدُّ في ذلك في البر والماء. فلما رأى الخليفة المسترشد بالله الأمرَ على هذه الصورة، وخروج الأمير أبي الهيجاء من عنده، أجاب إلى الصلحِ، وترددت الرسل بينهما، فاصطلحا، واعتذر السلطانُ مما جرى، وكان حليمًا يسمَعُ سَبَّه بأذنه فلا يعاقِبُ عليه، وعفا عن أهل بغداد جميعِهم، وكان أعداءُ الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداد، فلم يفعل، وقال: لا تساوي الدنيا فِعْلَ مِثلِ هذا. وأقام ببغداد إلى رابع شهر ربيع الآخر سنة 521، وحمل الخليفةُ من المال إليه كما استقرت القاعدةُ عليه، وأهدى له سلاحًا وخيلًا وغير ذلك، فمرض السلطان ببغداد، فأشار عليه الأطباء بمفارقتها، فرحل إلى همذان، فلما وصلها عوفيَ.
لما استولى النصارى الأسبان على العرائش، طمحت نفوسُهم إلى الاستيلاء على غيرها وتعزيزِها بأختها، فرأوا أنَّ المهديةَ أقربُ إليها، فبعث إليها الطاغية فيليبس الثالث من جزيرة قادس تسعين مركبًا حربية، فانتهوا إليها واستولوا عليها من غير قتال؛ لفرار المسلمين الذين كانوا بها عنها، وبعدها كتب أهل سلا إلى السلطان زيدان، فبعث إليهم أبا عبد الله العياشي الذي كان مقدمًا بوكالته على الجهاد بدكالة، وأمر أبو عبد الله أهلَ سلا بالتهيؤ للغزو واتخاذ العُدة، فلم يجد عندهم إلَّا نحوَ المائتين منها، وكانت السنون والفِتَن قد أضعَفَتها، فحضَّهم على الزيادة والاستكثار منها، فكان مبلغُ عِدَّتهم بما زادوه زهاءَ أربعمائة، ثم نهض بهم إلى المعمورة فصادف بها من النصارى غِرَّةً، فكانت بينه وبينهم حربٌ قُربُها إلى أن غربت الشمس، فقُتِل من النصارى زهاءُ أربعمائة، ومن المسلمين مائتان وسبعون، وهذه أول غزوة أوقعها في أرض الغرب بعد صدوره من ثغر آزمور، ومنها أقصرت النصارى عن الخروج إلى الغابة، وضاق بهم الحالُ، ثم إن السلطان زيدان لما بلغه اجتماعُ الناس على سيدي محمد العياشي بسلا وسلامته من غدرةِ قائدِه السنوسي، بعث إلى قائده على عسكر الأندلس بقصبة سلا المعروف بالزعروري وأمره باغتيالِه والقبض عليه، ففاوض الزعروري أشياخَ الأندلس في ذلك، فاتفق رأيُهم على أن يكون مع العياشي جماعةٌ منهم عينًا عليه وطليعةً على نيَّتِه واستخبارًا لِما هو عازم عليه وما هو طالبٌ له، فلازمه بعضُهم وشعر العياشي بذلك فانقبض عن الجهادِ ولَزِم بيته.
تعرض الجيش العثماني لهزيمة قاسية في معركة "ألمان داغي" أثناء حصاره لفيينا للمرة الثالثة، فعندما تداعت الدول الأوروبية بأقصى سرعة لنجدة فيينا من السقوط، وأعلن بابا روما الحرب الصليبية على العثمانيين، وأمر ملك بولندا سوبيسكي بنقض عهده مع العثمانيين، وأمر أيضًا أمراء ساكسونيا وبافاريا الألمان، وهم أقرب أمراء أوربا بالتوجه إلى فيينا بأقصى سرعة ممكنة، وكان قرة مصطفى قد وضع قوة عثمانية كبيرة يقودها أمير القرم مراد كراي عند جسر الدونة, وهنا حدث ما لم يكن في حسبان أحد لا من العثمانيين ولا من الأوربيين؛ إذ قام مراد كراي بخيانة عظمى للإسلام والمسلمين، وذلك بأنه سمح للأوربيين بالعبور من الجسر دون قتال، ثم حدثت خيانة عظمى أخرى من جانب أوغلو إبراهيم قائد ميمنة الجيش العثماني؛ إذ انسحب من القتال الذي اندلع بمنتهى العنف في 20 رمضان من هذه السنة، وكان لهذا الانسحاب الأثر الأكبر في هزيمة العثمانيين، وقد استطاع قرة مصطفى أن ينسحب بصورة منظمة من أرض المعركة بعد قتل 10 آلاف عثماني، وفي طريق العودة قام قرة مصطفى بإعدام كل من مراد كراي وأوغلو إبراهيم، ولكن لم يشفع ذلك له عند السلطان محمد الرابع الذي أمر بقتله, وتعدُّ هذه الهزيمة عند أسوار فيينا نقطةَ تحول فاصلة في التاريخ العثماني والأوروبي غيَّرَت مجرى التاريخ العالمي، واشتدت الحروب الصليبية على العثمانيين، وفقدت الجيوش العثمانية هيبتَها!!
اندلعت نارُ الحرب العالمية الثانية في 17 رجب 1358هـ، ودخلت إيطاليا إلى جانب ألمانيا واليابان مقابِلَ إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، ومعنى ذلك أن أرضَ ليبيا ستكون ساحةَ صراع بين الأطراف المتخاصِمة؛ فأرضُها مُحتلَّة من قِبَل إيطاليا، بينما إنجلترا محتَّلةٌ الأراضي التي تحدُّها من الشَّرقِ، وهي مصر. وفرنسا تحتَلُّ الأراضي التي تحدُّها من الغرب والجنوب، وهي: تونس والجزائر وتشاد والنيجر، وكان الأسطول الإنجليزي له قوَّتُه في البحر المتوسط، ثم يأتي بعده الأسطول الفرنسي، وإيطاليا لها سواحِلُ ممتدة في وسط البحر، فلما انتصر الألمانُ على فرنسا واستطاعوا احتلالَها وسيطروا على معظَمِ أوربا حاولوا النزول إلى إنجلترا ففشلوا، فأرادوا نقلَ المعركة إلى البحر المتوسط لضرب مواقع الإنجليز المهمَّة واحتلالها، وهي: جبل طارق ومالطة وقبرص والإسكندرية، فالتقى هتلر الألماني مع موسوليني الإيطالي في برينير في رمضان 1359هـ / أكتوبر 1940م وأعلمه بنقلِ المعركة إلى البحر المتوسط، فبدأ الطليان الهجومَ على مصرَ مِن ليبيا، واستطاعوا دخولها ولم يمضِ أكثَرُ من شهرين حتى وصلوا إلى موقع سيدي براني، وبعد شهرين آخرين قام الإنجليز ومعهم الأستراليون بهجوم كاسح والتقوا بالإيطاليين حتى بنغازي غيرَ أن الألمان والطليان بقيادة رومل قاموا بهجومٍ معاكِسٍ أجبروا فيه الإنجليزَ على الرجوع إلى حدود مصر في عام 1360هـ / حزيران 1941م ثم تابع سيرَه إلى الإسكندرية غيرَ أنه توقف في موقع العلمين، وبذلك وصل الألمان والطليان إلى ذِروةِ تفوُّقِهم.
هو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي الهاشمي العباسي, وأمه: سلامة البربريَّة. وُلِدَ سنة 95, وكان أسمرَ, طويلًا, نحيفًا, مَهيبًا, خفيفَ العارِضَينِ, مُعرق الوجه, رحْبَ الجبهة, كأنَّ عينيه لسانان ناطقان, تخالِطُه أبَّهة المُلك بِزِيِّ النسَّاك, تَقبَلُه القلوبُ، وتَتبَعُه العيون, وكان فحْلَ بني العباس؛ هيبةً وشجاعةً، ورأيًا وحزمًا، ودهاءً وجبروتًا، وكان جمَّاعًا للمال, حريصًا تاركا للَّهوِ واللَّعب, كامِلَ العقلِ بعيدَ الغَورِ، حسَن المشاركةِ في الفقهِ والأدب والعِلم. أباد جماعةً كبارًا حتى توطَّدَ له المُلك، ودانت له الأمَمُ على ظُلمٍ فيه، وقُوَّةِ نَفسٍ، ولكنَّه يرجِعُ إلى صِحَّة إسلامٍ وتديُّنٍ في الجُملة، وتَصَوُّنٍ وصلاةٍ وخيرٍ، مع فصاحةٍ وبلاغةٍ وجَلالةٍ، وعظَ المنصور عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة فأبكاه، وكان المنصورُ يهابُ عَمرًا ويُكرِمُه، وقد كان المنصورُ يُصغي إلى أقوال المنجِّمين، وهذا من هناتِه مع فضيلتِه. كان حاكمًا على ممالك الإسلام بأسرِها, سوى جزيرة الأندلس، وكان ينظُرُ في حقيرِ المال، ويثَمِّرُه، ويجتهد بحيث إنَّه خلَّفَ في بيوت الأموالِ مِن النقدين أربعة عشر ألف ألف دينار، وستمئة ألف ألف درهم، وكان كثيرًا ما يتشبَّه بالثلاثة في سياسته وحَزمِه، وهم: معاوية، وعبد المَلِك، وهشام. لَمَّا رأى المنصورُ ما يدلُّ على قُربِ مَوتِه سار للحَجِّ، فلمَّا وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحَرِ قبل أن يصِلَ مكة، ولم يحضُرْه عند وفاتِه إلَّا خَدَمُه، والربيعُ مولاه، فكتم الربيعُ مَوتَه، واشتغلوا بتجهيزِ المنصور، ففرغوا منه العصرَ، وكُفِّنَ، وغطِّيَ وجهُه وبدَنُه، وجُعِلَ رأسُه مكشوفًا لأجل إحرامِه، وصلَّى عليه عيسى بن موسى، وقيل: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ودُفِنَ في مقبرة المُعَلَّاة، وحَفَروا له مائة قبرٍ ليغُمُّوا على النَّاسِ، ودُفِنَ في غيرها، عاش أربعًا وستِّينَ سنة، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلَّا أربعة وعشرين يومًا.