كانَ الطاهريُّون مشايخَ مَحلِّيينَ مِن منطقةِ رَداعَ حيث كانت لهمُ الرياسةُ فيها، وتابِعينَ لِبَني رَسولٍ، وقد توَطَّدتِ العَلاقةُ بينَ بَني طاهرٍ ودولةِ بَني رَسولٍ في أواخِرِ الدولةِ الرَّسوليةِ بمُصاهرةٍ تمت عامَ 836هـ بينَ المَلكِ الظاهرِ الرَّسوليِّ وابنةِ كَبيرِ آلِ طاهرٍ، الشَّيخِ طاهرِ بنِ معوضةَ، ثم صارَ آلُ طاهرٍ وُلاةً لآلِ رَسولٍ في جِهاتِهم، بل وامتَدَّ حُكمُهم إلى عَدَنٍ في فَتراتٍ لاحِقةٍ. وعندَما أيقنَ آلُ طاهرٍ مِن أنَّ أمرَ الرَّسوليِّينَ إلى زَوالٍ لا مَحالةَ، أعَدَّ الشيخُ علِيُّ بنُ طاهِرِ بنِ معوضةَ، الملقَّبُ بالمُجاهدِ مع أخيه المُلقَّبِ بالظافرِ، حَملةً لِحَربِ المَلكِ الرَّسوليِّ المَسعودِ في عَدَنٍ، ولكِنَّه عادَ مِن حَملتِه خائِبًا ولم يَتمَكَّنْ مِنَ القَضاءِ على خَصمِه المَسعودِ، ثم أعَدَّ نَفسَه إعدادًا أفضَلَ، فكَرَّرَ حَملَتَه على عَدَنٍ في عامِ 858هـ وتمكَّنَ هذه المرَّةَ مِن طَردِ المَسعودِ، ثم في شَهرِ رَجَبٍ مِنَ العامِ نَفسِه تمكَّنوا مِن دُخولِ عَدَنٍ وأسْرِ المؤيَّدِ هناك، آخرِ مُلوكِ دولةِ بَني رَسولٍ، وابتدأتِ الدولةُ الطاهريةُ بحُكم الأخوَيْنِ المُجاهدِ والظافرِ مِن آلِ طاهرٍ سنةَ 855هـ يَحكمان معًا، فبَسَطا سيطرتَهما على مناطقِ اليَمنِ، وأصبحا في حالةِ صِراعٍ مع الأئمةِ الزَّيديِّينَ، وفي حَربِ السيطرةِ على صَنعاءَ قُتِلَ المَلكُ الظافرُ، فتراجَعَ أخوه عنِ احتلالِها وترَكَها تحتَ سَيطرةِ الزَّيديِّينَ، بعدَ المَلكِ المُجاهدِ تولَّى ابنُ أخيه عبدُ الوهَّابِ بنُ داودَ الطاهريُّ، ولُقِّب بالمَنصورِ، وفي عهدِه انتقلت عاصمةُ الطاهريِّينَ مِن جُبَنَ إلى عَدَنٍ ثم تَعِزَّ، تولَّى بعدَه ابنُه عامرُ بنُ عبدِ الوهَّابِ، ولُقِّب بالظافرِ، وواجَه تمَرُّداتٍ وأخمَدَها، واستولى على ذِمارَ ثم دَخَل صَنعاءَ، حاول الإمامُ شَرَفُ الدِّينِ مُواجهةَ تَوسُّعِ الطاهريِّينَ، واتَّصلَ بالمماليكِ الشركسيةِ لِيُعينوه، وكانَ القائدُ المملوكيُّ حُسينٌ الكُرديُّ قد طلب مِنَ الطاهريِّينَ أنْ يُمدُّوه بقوةٍ في مُحاربةِ البُرتُغاليِّينَ، ولكنهم رَفضوا، فنزلَ إلى السَّواحلِ اليَمنيةِ وحارَبَهم، وكانت آخِرَ المَعارِكِ بَينَهم قُربَ صَنعاءَ، ولَقيَ المَلكُ الظافرُ عامِرُ بنُ عبدِ الوهَّابِ حَتفَه، وذلك عامَ 923هـ، وانتَهتْ بمَوتِه الدولةُ الطاهريةُ بعدَ 65 عامًا مِن قيامِها، ولم يَبقَ منها إلا جَيبُ عَدَنَ الذي تمكَّنَ الأميرُ عامرُ بنُ داودَ الطاهريُّ مِنَ الاحتِفاظِ به حتى قَضى عليه الأتراكُ.
الروانديَّةُ أو الروانديَّة أصلُهم من خراسان، وهم على رأي أبي مسلمٍ الخراساني، كانوا يقولونَ بالتناسُخِ، ويزعمونَ أنَّ روح آدم انتقَلَت إلى عثمان بن نهيك، وأنَّ رَبَّهم الذي يُطعِمُهم ويسقيهم أبو جعفرٍ المنصور. وأنَّ الهيثم بن معاوية جبريل- قبَّحَهم الله- فأتَوا يومًا قصر المنصور فجعلوا يطوفونَ به، ويقولون: هذا قصر ربنا، فأرسل المنصورُ إلى رؤسائهم، فحبس منهم مئتين، فغَضِبوا من ذلك ودخَلوا السجن قهرًا، وأخرجوهم فخرج المنصور إليهم، وخرج الناس وكان منهم معن بن زائدة، الذي قال للمنصور: نحن نكفيكَهم فأبى، وقام أهل الأسواق إليهم فقاتَلوهم، وجاءت الجيوشُ فالتفُّوا عليهم من كل ناحية فحصدوهم عن آخِرِهم، ولم يَبقَ منهم بقيَّة.
قَدِمَت رسلُ بركة خان إلى السلطانِ الظاهرِ بيبرس يقول له: قد عَلِمتَ محبَّتي للإسلام، وعَلِمتَ ما فعَلَ هولاكو بالمسلمين، فاركَبْ أنت من ناحيةٍ حتى آتيَه أنا من ناحيةٍ حتى نصطَلِمَه أو نخرِجَه من البلاد. فالتقى بركة خان وهولاكو ومع كلِّ واحدٍ جيوشٌ كثيرة فاقتتلوا فهزم اللهُ هولاكو هزيمةً فظيعةً وقُتِلَ أكثر أصحابه وغَرِقَ أكثر من بقي، وهرب هو في شرذمةٍ يسيرةٍ، ولله الحمد، ولما نظَرَ بَركة خان كثرة القتلى قال: يعِزُّ علي أن يقتل المغولُ بعضُهم بعضًا، ولكن كيف الحيلةُ فيمن غيَّرَ سُنَّة جنكيز خان، ثم أغار بركة خان على بلادِ القسطنطينية فصانعه صاحِبُها وأرسل الظاهِرُ هدايا عظيمةً إلى بركه خان.
هو الإمام العالم المصَنِّف الفقيه الحنفي أبو الفضل عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي، ولد بالموصل سنة 599هـ (1203م) له أصحاب وحلقة أشغال، ومن مصنفاته: "المختار في الفتوى" و"الاختيار لتعليل المختار" و"الوقاية" و"شرح الجامع الكبير للشيباني"، تولى قضاء الكوفة فترة، ثم استقَرَّ في بغداد يفتي ويدرس في مسجد الإمامِ أبي حنيفة. قال ابن الفوطي: "كان عالمًا بالفقه والخلاف والأصول، سمع الكثيرَ في صباه وألحق الأحفاد بالأجداد، وكان صبورًا على السماع، ولي قضاء الكوفة، ثم فوض إليه تدريس مشهد الإمام أبي حنيفة، فكان على ذلك إلى أن توفي في العشرين من محرم" مات ببغداد ودفن بمشهد أبي حنيفة، وكان يومًا مشهودًا.
هو الشيخ عبد الجبَّار بن عبد الله المعتزلي الحنفي الخوارزمي عالم الدشت، صاحب تيمورلنك وإمامه وعالمه وترجمانه. ولد في حدود سنة 770، وكان إمامًا عالِمًا بارعًا، متقِنًا للفقه، والأصلين، والمعاني، والبيان، والعربية، واللغة، انتهت إليه الرئاسة في أصحاب تيمور، وكان هو عظيم دولته، ولما قدم تيمور البلاد الحلبية والشامية كان عبد الجبَّار هذا معه، وباحَثَ وناظر علماء البلدين، وكان فصيحًا باللغات الثلاث: العربية، والعجمية، والتركية، وكانت له ثروة ووجاهة وعَظَمة وحرمة زائدة إلى الغاية؛ قال أبو الفلاح العكري الحنبلي: "كان عبدالجبار ينفع المسلمين في غالب الأحيان عند تيمور، وكان يتبرَّمُ من صحبة تيمور ولا يسعُه إلا موافقته، ولم يزل عنده حتى مات في ذي القعدة".
هو السُّلطانُ المَلِكُ المظَفَّر سيف الدين حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون، تولَّى السلطنةَ بعد قَتْلِ أخيه السلطان الكامل شعبان، وعُمُرُه خمس عشرة سنة، وقد حلف للأمراءِ ألَّا يؤذيَهم وحَلَفوا له على الطاعةِ، لكِنْ لَمَّا كَثُرَ اشتِغالُه في اللَّعِبِ بالحَمامِ وتقريب الأوباش واللعَّابين وغيرِهم من أرباب الملاهي والفساد، أنكر عليه الأمراءُ أكثَرَ مِن مَرَّة، حتى حصل بينه وبينهم جفاءٌ, وعمل السلطان على التدبيرِ لقَتلِ بَعضِهم، وهم كذلك عَمِلوا على تدبير قَتْلِه، فتحادث الأمراءُ فيما بينهم واتفقوا وتواكدوا جميعًا في يوم الخميس تاسِعَ رمضان على الركوبِ في يوم الأحد ثاني عشر، فما ارتفع النهار حتى وقفوا بأجمَعِهم لابسين آلةَ الحرب، عند قُبَّة النصر ومعهم النائِبُ أرقطاي، فأرسل السلطان المظفَّر الرَّسولَ إليهم يستخبِرُه عمَّا يريدونَه منه حتى يفعَلَه لهم، فأعادوا جوابَه أنَّهم لا بُدَّ أن يُسلطِنوا غيره، فقال: ما أموتُ إلَّا على ظَهرِ فَرسي، فقَبَضوا على رسولِه، وهمُّوا بالزحف إليه، فمنعهم الأميرُ أرقطاي النائب، فبادر السلطانُ بالركوب إليهم، وأقام أرغون الكاملي وشيخو في الميسرة، وأقام عِدَّةَ أمراء في الميمنة، وسار بمماليكِه حتى وصل إلى قريبِ قُبَّة النصر، فكان أوَّلَ من تركه الأمير أرغون الكاملي والأمير ملكتمر السعيدي، ثمَّ الأمير شيخو، وأتوا الأمير أرقطاي النائب والأمراء، وبقي السلطانُ في نحو عشرين فارسًا، فبَرَز له الأميرُ بيبغا روس والأمير ألجيبغا، فولى فرَسَه وانهزم عنهم، فأدركوه وأحاطوا به، فتقَدَّمَ إليه بيبغا روس، فضربه السلطانُ بطير، فأخذ الضربةَ بتُرسِه، وحمل عليه بيبغا بالرمح، وتكاثروا عليه حتى قَلَعوه مِن سَرجِه، فكان بيبغا روس هو الذي أرداه، وضرَبَه طنيرق فجرح وجهَه وأصابِعَه، وساروا به على فَرَسٍ إلى تربة آقسنقر الرومي تحت الجبل، وذبَحوه من ساعته قبل العَصرِ، وكانوا لَمَّا أنزلوه وأرادوا ذبحه توسَّل إلى الأمراء، وهو يقول: بالله لا تستعجِلوا على قتلي، وخَلُّوني ساعة، فقالوا: فكيف استعجَلْتَ على قتل الناس، لو صَبَرْتَ عليهم صبَرْنا عليك، وصَعِدَ الأمراء إلى القلعة في يومِهم، ونادوا في القاهرة بالأمانِ والاطمئنان، وباتوا بها ليلةَ الاثنين، وقد اتفقوا على مكاتبةِ الأمير أرغون شاه نائب الشام بما وقع، وأن يأخذوا رأيَه فيمن يقيمونَه سلطانًا، فأصبحوا وقد اجتمع المماليكُ على إقامة حسن بن الناصر محمد بن قلاوون في السلطة، ووقعت بينه وبينهم مُراسَلات، فقَبَض الأمراء على عِدَّةٍ مِن المماليك، ووكلوا الأميرَ طاز بباب حسن، حتى لا يجتَمِعَ به أحد، وغَلَّقوا باب القلعة، وهم بآلة الحرب يومَهم وليلة الثلاثاء، وقَصَد المماليك إقامةَ الفتنة، فخاف الأمراء تأخير السلطة حتى يستشيروا نائِبَ الشام أن يقَعَ مِن المماليك ما لا يُدرَكُ فارِطُه، فوقع اتفاقُهم عند ذلك على حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، فتَمَّ أمره، فكانت مُدَّةُ المظَفَّر حاجي سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يومًا، وعُمُره نحو عشرينَ سنة، فقام الأمراءُ بسلطنة حسن هذا، وأركبوه بشعار السلطنة في يوم الثلاثاء رابع عشر رمضان، سنة 748، وأجلسوه على تخت الملك بالإيوان، ولَقَّبوه بالملك الناصر سيفِ الدين قمارى، فقال السلطان للأمير أرقطاى نائب السلطة: يا بة! ما اسمي قمارى، إنَّما اسمي حسن، فقال أرقطاى: يا خوند- يا سيد- واللهِ، إن هذا اسم حَسَنٌ على خيرة الله، فاستقرت سلطنتُه، وحلف له الأمراء على العادة، وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة.
هو كتبغانوين نائب هولاكو على بلاد الشَّامِ- لعنه الله، ومعنى نوين يعني أمير عشرة آلاف، وكان هذا الخبيث قد فتح لأستاذه هولاكو من أقصى بلاد العَجَمِ إلى الشام، وقد أدرك جنكيزخان جد هولاكو، وكان كتبغا هذا يعتمد في حروبه للمسلمين أشياءَ لم يسبِقْه أحد إليها، فكان إذا فتح بلدًا ساق مقاتِلةَ هذا البلد إلى البلد الآخر الذي يليه، ويطلب من أهل ذلك البلد أن يُؤوا هؤلاء إليهم، فإن فعلوا حصل مقصودُه في تضييقِ الأطعمةِ والأشربةِ عليهم، فتقصُر مدَّة الحصارِ عليه لِما ضاق على أهلِ البلد أقواتُهم، وإن امتنعوا من إيوائِهم عندهم قاتَلَهم بأولئك المقاتِلة الذين هم أهلُ البلد الذي فتحه قبل ذلك، فإن حصل الفتحُ وإلَّا كان قد أضعَفَ أولئك بهؤلاء حتى يفني تلك المقاتِلةَ، فإن حصل الفتحُ وإلَّا قاتَلَهم بجُندِه وأصحابِه مع راحةِ أصحابِه وتَعَبِ أهلِ البلد المحاصَرِ وضَعفِهم فيفتَحُها سريعًا. كان شيخًا كبيرًا قد أسَنَّ وكان يميل إلى دين النصارى ولكن لا يمكِنُه الخروجُ مِن حكم جنكيزخان في الياسق. قال الشيخ قطب الدين اليونيني: وقد رأيتُه ببعلبك حين حاصر قلعتَها، وكان شيخًا حسنًا له لحية طويلة مسترسلة قد ضفَرَها مثل الدبوقة، وتارة يعلِّقُها من خَلفِه بأُذنِه، وكان مَهيبًا شديد السَّطوة، قال: وقد دخل الجامِعَ فصَعِدَ المنارة ليتأمَّل القلعة منها، ثم خرج من الباب الغربي فدخل دكانًا خرابًا فقضى حاجتَه والنَّاسُ ينظرون إليه وهو مكشوفُ العورة، فلما فرغ من حاجته مسحه بعضُ أصحابه بقطن ملبدٍ مَسحةً واحدة, وكان قاِئَد التتار في عين جالوت, فقُتِلَ في المعركة وأُسِرَ ابنُه، وكان شابًّا حسنًا، فأُحضِرَ بين يدي المظفَّر قطز فقال له أهَرَب أبوك؟ قال: إنَّه لا يهرب، فطلبوه فوجَدوه بين القتلى، فلما رآه ابنُه صرخ وبكى، فلما تحقَّقَه المظفر سجَدَ لله تعالى، ثم قال: أنامُ طَيِّبًا. كان هذا سعادةَ التتارِ وبقَتلِه ذهب سَعدُهم، وهكذا كان كما قال، ولم يفلحوا بعده أبدًا، وكان قتلُه يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، وكان الذي قتله الأميرُ جمال الدين آقوش الشمسي.
خرج الوليدُ بن طريف التغلبي بالجزيرة، ففَتَك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم قَوِيَت شوكةُ الوليد، فدخل إلى أرمينيَّة، وحصر خلاط عشرينَ يومًا، فافتدوا منه أنفُسَهم بثلاثين ألفًا. ثم سار إلى أذربيجان، ثمَّ إلى حلوان وأرض السواد، ثم عبَرَ إلى غرب دجلة، وقصد مدينة بلد، فافتدوا منه بمائةِ ألف، وعاث في أرضِ الجزيرة، فسَيَّرَ إليه الرشيد يزيدَ بن مزيد بن زائدة الشيباني, فجعل يزيدُ يختالُه ويُماكِرُه، وكانت البرامِكةُ مُنحَرِفةً عن يزيد، فقالوا للرشيد: إنَّما يتجافى يزيدُ عن الوليد للرَّحِم؛ لأنَّهما كلاهما من وائل، فكتب إليه الرشيدُ كتابَ مُغضَب، وقال له: لو وَجَّهتُ أحدَ الخدم لقام بأكثَرَ ممَّا تقوم به، ولكِنَّك مُداهِنٌ متعَصِّبٌ، وأُقسِمُ بالله إن أخَّرْتَ مناجَزتَه لأُوجِّهنَّ إليك من يحمِلُ رأسَك. فقال يزيدُ لأصحابه: فِداكم أبي وأمِّي، إنَّما هي الخوارِجُ ولهم حَملةٌ، فاثبُتوا، فإذا انقضت حملتُهم فاحملوا عليهم؛ فإنهم إذا انهزموا لم يرجِعوا، فكان كما قال، حَمَلوا عليهم حَملةً، فثَبَت يزيدُ ومن معه مِن عشيرته، ثم حَمَل عليهم فانكشفوا واتَّبَع يزيدُ الوليدَ بن طريف، فلَحِقَه واحتَزَّ رأسَه.
هو الإمامُ الثِّقةُ العلَّامة، شيخُ الإسلامِ: أبو نُعَيم، أحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أحمد بن إسحاقَ بنِ موسى بن مهران، الأصبهاني الحافظ المشهور، الصوفيُّ، الأحول، سبطُ الزاهد محمد بن يوسف البنَّاء، وصاحب "الحِلْية". وُلِدَ سنة ست وثلاثين وثلاثمِئَة. كان أبوه من عُلَماءِ الحديثِ والرحَّالين، من أعلامِ المحدِّثين وأكابِرِ الثقاتِ الحُفَّاظ، رحلَ إلى العراقِ والحجاز وأصفهان، قال أحمدُ بنُ محمد بن مردويه: "كان أبو نُعَيم في وقته مرحولًا إليه، ولم يكُنْ في أفُقْ مِن الآفاقِ أسنَدُ ولا أحفَظُ منه، كان حُفَّاظُ الدنيا قد اجتمعوا عنده، فكان كلَّ يومٍ نَوبةُ واحد منهم يقرأُ ما يريده إلى قُريبِ الظَّهر، فإذا قام إلى داره، ربما كان يُقرأُ عليه في الطريق جزءٌ، وكان لا يضجَرُ، لم يكن له غداءٌ سوى التصنيف والتسميع". وقال حمزةُ بنُ العباس العلوي: "كان أصحابُ الحديثِ يقولون: بقيَ أبو نُعَيم أربعَ عشرةَ سنةً بلا نظيرٍ، لا يوجَدُ شَرقًا ولا غربًا أعلى منه إسنادًا، ولا أحفَظَ منه". أشهَرُ مُصنَّفاته (حِليةُ الأولياء) وله (مُعجم الصحابة) وغيرها من الكتب، توفِّي في أصبهان عن 96 عامًا.
استدعى السلطانُ حسام الدين لاجين قاضيَ القضاة زينَ الدين علي بن مخلوف المالكي، وصِيَّ المَلِك الناصرِ محمد بن قلاوون، وقال له: الملِكُ الناصر ابنُ أستاذي، وأنا قائِمٌ في السلطنة كالنائِبِ عنه إلى أن يُحسِنَ القيامَ بأمرها، والرأيُ أن يتوجَّهَ إلى الكرك وأمَرَه بتجهيزِه، ثم قال السلطانُ للملك الناصر محمد بن قلاوون: لو عَلِمتُ أنَّهم يخلونَك سلطانًا واللهِ ترَكْتُ المُلكَ لك، لكِنَّهم لا يخلونه لك وأنا مملوكُك ومملوكُ والدِك، أحفَظُ لك المُلكَ، وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرعَ وترتجِلَ وتتحَرَّج وتجرِّبَ الأمور وتعود إلى مُلكِك، بشرط أنك تعطيني دمشقَ وأكونَ بها مثل صاحِبِ حماة فيها، فقال له الناصر: فاحلِفْ لي أن تبقيَ على نفسي وأنا أروحُ، فحَلَفَ كلٌّ منهما على ما أراده الآخَرُ، فخرج الناصِرُ في أواخر صفر، ومعه الأميرُ سيف الدين سلار أمير مجلس، والأمير سيف الدين بهادر الحموي، والأمير أرغون الدوادار، وطيدمر جوباش رأس نوبة الجمدارية، فوصل إلى الكرك في رابع ربيع الأول، فقام لخدمته الأميرُ جمال الدين أقوش الأشرف نائب الكرك.
في يوم الجمعة الثالث والعشرين جمادى الآخرة وصل رسول صاحب قبرص جاك، وأخبر أنه أخذ مدينة الماغوصة وقلعتها من يد الفرنج، وأنَّه سلمها للأمير جانبك الأبلق المقيم بجزيرة قبرص بمن بقيَ معه من المماليك السلطانية، فأساء جانبك السيرةَ في أهل الماغوصة، ومدَّ يده لأخذ الصبيان الحِسان من آبائهم وهم أعيانُ أهل الماغوصة، فشق ذلك عليهم، وقالوا: نحن سلَّمناكم البلد بالأمان، وقد حلفتم لنا أنَّكم لا تفعلوا معنا بعد أخذكم المدينة إلا كل خير، وأنتم مسلمون، فما هذا الحال؟ فلم يلتفت جانبك الأبلق إلى كلامِهم، واستمرَّ على ما هو عليه، فأرسل أهل الماغوصة إلى جاك عرفوه الخبر، فأرسل جاك إلى جانبك ينهاه عن هذه الفعلة، فضرب جانبك القاصِدَ بعد أن أوسعه سبًّا، فأرسل إليه قاصدًا آخر، فضربه جانبك بالنشَّاب، فركب جاك إليه من الأفقسية مدينة قبرص، وجاء إليه وكلَّمه، فلم يلتفت إليه، وخشَّن عليه الكلام، فكلمه جاك ثانيًا، فضربه بشيءٍ كان في يده، فسقط جاك مغشيًّا عليه، فلما رأت الفرنج ذلك مدَّت أيديها إلى جانبك ومن معه من المسلمين بالسيوفِ، فقُتِلَ جانبك وقُتِل معه خمسة وعشرون مملوكًا من المماليك السلطانية، واستولى جاك على الماغوصة على أنَّه نائب بها عن السلطان، فعيَّن السلطان سودون المنصوري الساقي وتوجَّه لقبرص مع يعقوب قاصد جاك.
هو الإمامُ العلَّامة الشيخُ عبد العزيز بن الشيخ الإمام حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر من آل معمر أهل العُيَينة، وهم من بين سعد بن زيد مناة بن تميم، وُلِدَ في الدرعية مركزِ الحركة العلمية في ذلك الحين سنة 1203هـ ونشأ في وسط العلماء العاملين الذين كانت تزخَرُ بهم الدرعيةُ ونجد في ذلك الزمنِ، فكان من شيوخِه والِدُه الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ الإمام عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، والشيخ العلامة المؤرخ أبو بكر حسين بن غنام، والشيخ أحمد بن حسين بن رشيد بن عفالق الحنبلي نزيل الدرعية، وغيرهم من العلماء، فمَهَر في جميعِ العلوم والفنون فصار عالِمًا محَقِّقًا وفقيهًا متبحرًا، له اليد الطولى والباع الواسع في التصنيف والتأليف ونشْر العلم وتخريجِ الكثير من الطلاب، والرَّد على المعارضين، وله عِدَّةُ مصَنَّفات وفتاوى ورسائل وأشعار، ومن أشهر مصنَّفاتِه وأجَلِّها الكتابُ المسمى: منحة القريب العجيب في الرد على عُبَّاد الصليب، ومن مصنَّفاته أيضًا: اختصار نظم ابن عبد القوي للمُقنِع. أخذ عنه العلم وانتفع به كثيرٌ من العلماء، وفي زمَنِه جرى على الديار النجدية والدولةِ السعودية ما جرى من التقتيل والتخريبِ، فدُمِّرَت الدرعية وتشَتَّت علماؤها وقادةُ الدعوة الذين كانوا بها؛ أخرجهم إبراهيم باشا من أوطانِهم ونفاهم إلى مِصرَ، وفر الشيخُ عبد العزيز بن معمر من الدرعية إلى البحرين، وكان لا يزال شابًّا في العقد الثالث من عمرِه، فأقام بها ولم تنقَطِعْ صلته بآل الشيخ الذين نُقِلوا إلى مصرَ، فكان يكاتب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بأشعارٍ يتوجَّعُ فيها على ما حَلَّ بنجدٍ مِن الدمار والخراب. أرسل شيخُ البحرين عبد الله بن خليفة عليه شُبهةً كتَبَها قسيس نصراني إنجليزي عجز عن الردِّ عليها علماءُ البحرين والأحساء، فتناوله الشيخ عبد العزيز وأمعن النظرَ فيه وقال: تأخذونَ مني دحض هذه الشبهةِ بعد شهر إن شاء الله تعالى، فلبث شهرًا وأتمَّ الردَّ وبعث به إلى الأميرِ وفَرحَ به أشَدَّ الفَرَحِ، ودُعِيَ القسيس الإنكليزي وأعطاه الردَّ، فلما طالعه عَجِبَ له واندهش جدًّا لِما كان يظنه من عجز ِعلماء البحرين، وقال: هذا الرد لا يكونُ مِن هنا وإنما يكون من البحر النجدي، فقال له الأمير: نعم، إنه أحَدُ طلبة العلم النجديين. أقام الشيخ عبد العزيز في البحرين حتى توفِّيَ فيها.
هو السُّلطانُ الملك الأفضل علي بن يوسف بن أيوب بن شاذي. ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين، ولد يوم عيد الفطر سنة 565 بالقاهرة، وقيل: سنة ست وستين. وسمع من عبد الله بن بري النحوي، وأبي الطاهر إسماعيل بن عوف الزهري، وأجاز له جماعة. وله شِعر حسن، وترسُّل، وخط مليح. وكان أسنَّ إخوانه، وإليه كانت ولاية عهد أبيه. ولما مات أبوه، كان معه بدمشق، فاستقل بسلطنتها، واستقل أخوه الملك العزيز بمصر، وأخوهما الظاهر بحلب. ثم جرت للأفضل والعزيز فتن وحروب، ثم اتفق العزيز وعمه الملك العادل على الأفضل، وقصدا دمشق، وحاصراه، وأخذاها منه، فالتجأ إلى صرخد، وأقام بها قليلًا، فمات العزيز بمصر، وقام ولده المنصور محمد وهو صبي، فطلبوا له الملك الأفضل ليكون أتابكه، فقدم مصر، ومشى في ركاب الصبي. ثم إن العادل عَمِلَ على الأفضل، وقَدِمَ مصر وأخذها، ودفع إلى الأفضل ثلاثة مدائن بالشرق، فسار إليها، فلم يحصل له سوى سميساط، فأقام بها ولم يزَلْ بها إلى أن توفي بها، وكان خيرًا، وما أحسن ما قال القاضي الفاضل: "أمَّا هذا البيت، فإن الآباء منه اتَّفقوا فمَلَكوا، والأبناء منه اختلفوا فهلكوا". قال الذهبي: "كان فيه تشيُّع". وقد قال ابن الأثير " إنَّه ما ملك الأفضل شيئًا من البلاد إلا وأخذه عمُّه منه، بل ذكر أنه رأى عمودًا من الرخام الفاخر في بيت المقدس فقيل له إنه كان للأفضل، ثم أخذه منه عمه العادل"، ولما مات الأفضل اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى، ولم يقوَ أحد منهم على الباقين ليستبدَّ بالأمر.
هو الإمام العلامة الحافظ المحقِّق شيخ الإسلام: أبو محمد زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد المنذري، الشامي الأصل، المصري، الشافعي. أصلُه من الشام وولد بمصر، وكان شيخَ الحديث بها مدةً طويلة، إليه الوِفادةُ والرحلة من سنين متطاولة، وقيل: إنه وُلِدَ بالشام في غرة شعبان، سنة 581. كان متينَ الديانة، ذا نسُك وورع وسَمت وجلالة, وسمِعَ الكثير ورحل وطلَب وعُني بهذا الشأن، حتى فاق أهلَ زَمانه فيه، قال الحافظُ الشريف عز الدين الحسيني: "درَّس شيخُنا الحافظ المنذري بالجامع الظافري، ثم وليَ مشيخةَ الدار الكامليَّة، وانقطع بها عاكفًا على العلم، وكان عديمَ النظير في علم الحديث على اختلافِ فنونه. كان ثقةً حُجَّةً متحرِّيًا زاهدًا, ثَبتًا إمامًا ورِعًا عالِمًا بصحيحِ الحديث وسقيمِه، ومعلوله وطرقه، متبحرًا في معرفة أحكامه ومعانيه ومُشكِله، قيمًا بمعرفة غريبه وإعرابه واختلافِ ألفاظه، قرأتُ عليه قطعة حسنة من حديثه، وانتفعتُ به كثيرًا". قال: الذهبي قال: شيخنا الدمياطي: "الحافظُ المنذر هو شيخي ومخرجي، أتيته مبتدئًا، وفارقته معيدًا له في الحديث" صنَّفَ وخرج، واختصر (صحيح مسلم)، و(سنن أبي داود وشرحه)، وله (كتاب الترغيب والترهيب) المشهور، وله كتاب (الجمع بين الصحيحين)، وله اليد الطولى في اللغة والفقه والتاريخ، توفي يوم السبت رابعَ ذي القعدة من هذه السنة بدار الحديث الكامليَّة بمصر، ودُفِن بالقرافة.
اجتمَع المسلمون في القادِسيَّة ثلاثون ألفًا بقِيادةِ سعدِ بن أبي وقَّاص بعدَ أن أَمَّرَهُ عُمَر بن الخطَّاب بَدَلَ خالدِ بن الوَليد، مكَث سعدٌ في القادِسيَّة شهرًا يَبُثُّ السَّرايا في كلِّ الجِهاتِ، ويأتي بالغَنائِم، فأَمَّر يزدجردُ رُسْتُمَ على جيشٍ كثيفٍ مِن مائةٍ وعشرين ألفًا، ومِثلِها مِن المَدَدَ، فبعَث سعدٌ إليه مَن يَدعوه للإسلامِ وحاوَل الفُرْسُ أن يغروا المسلمين، فطلبوا إرسالَ أكثرِ مِن رجلٍ فأتاهُم رِبْعِيٌّ، ثمَّ حُذيفةُ بن مِحْصَنٍ، وأخيرًا أتاهُم المُغِيرةُ ولم تنفع في شيءٍ، فبدأ القِتالُ بعدَ الظَّهيرةِ وبَقِيَت المعركةُ ثلاثةَ أيَّام، وفي اليومِ الرَّابع اشْتدَّ أَثَرُ الفِيَلَةِ على المسلمين، ثمَّ في هذا اليومِ هَبَّتْ رِيحٌ شديدةٌ على الفُرْسِ أزالت خِيامَهم فهربوا وقُتِلَ رُستمُ قائدُهم، وتَمَّتْ الهزيمةُ على الفُرْسِ، وقُتِلَ منهم ما لا يُحْصى، ثمَّ ارتحلَ سعدٌ ونزَل غَربيَّ دِجْلة، على نهرِ شير، قُبالةَ مَدائنِ كِسرى، ودِيوانِه المشهورِ، ولمَّا شاهَد المسلمون إيوانَ كِسرى كَبَّروا وقالوا: هذا أبيضُ كِسرى، هذا ما وَعَدَ الله ورسولُه. واسْتُشْهِدَ مِن المسلمين ألفٌ وخمسمائةٍ، وقُتِلَ مِن الفُرْسِ عشرون ألفًا، وغَنِمَ المسلمون الكثيرَ، وقِيلَ: إنَّها كانت في سَنَةِ خمسةَ عشرَ.