هو الحافِظُ المؤَرِّخ عَلَم الدين القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد البرزالي الأشبيلي الشافعي، وُلِدَ بدمشق سنة 665, من أُسرةٍ عِلميَّة جاءت من المغرب، وكانت أسرتُه قد نزلت إشبيليَّةَ، ثم رَحَلت إلى الشام وبرزالة: قبيلة قليلة جدًّا، كان البرزالي محدِّثًا حافظًا فاضلًا، سَمِعَ الكثير ورحل إلى البلاد وحصَّل ودأب وسَمِعَ خلائِقَ كثيرةً تزيد عِدَّتُهم على ألفي شيخ، وحَدَّث وخرَّج وأفاد وأفتى وصَنَّف تاريخًا على السنين، رحل إلى بعلبك وحلب ومصر، تولى مشيخة دار الحديث بدمشق ومعها المدرسة النورية، قال ابن كثير: "قرأ شيئًا كثيرًا، وأسمع شيئًا كثيرًا، وكان له خَطٌّ حَسَن، وخُلُق حسن، وهو مشكورٌ عند القضاة ومشايخه أهل العلم. سمعت العلامة ابن تيمية يقول: نَقْلُ البرزالي نَقْرٌ في حَجَر, وكان أصحابُه من كل الطوائف يحبُّونه ويكرمونه، وكان له أولادٌ ماتوا قبله، وكَتَبَت ابنته فاطمة البخاريَّ في ثلاثة عشر مجلَّدًا فقابله لها، وكان يقرأُ فيه على الحافظ المِزِّي تحت القبة، حتى صارت نسختُها أصلًا مُعتَمَدًا يكتب منها الناس، وكان شيخَ حديث بالنورية، وفيها وَقَف كُتُبَه بدار الحديث السنية، وبدار الحديث القوصية وفي الجامع وغيره، وعلى كراسي الحديث، وكان متواضِعًا مُحَبَّبًا إلى الناس، متودِّدًا إليهم، له مُصَنَّف المعجم الكبير في الحديث. وكتاب "المقتفى على كتاب الروضتين"، توفي بخليص وهو مُحرِم في رابع ذي الحجة عن أربع وسبعين سنة, فغُسِّلَ وكُفِّنَ ولم يُستَرْ رأسُه، وحمله الناسُ على نعشِه وهم يبكون حولَه، وكان يومًا مشهودًا.
هو السلطانُ المؤيَّد المظفَّر أبو الفتح جلال الدين محمد أكبر بن همايون بن بابر التيموري الكوركاني، أكبرُ ملوك الهند وأشهرُهم في الذِّكر، ولِدَ في قلعة أمركوث من أرض السِّند في ثاني ربيع الأول سنة 949هـ من "حميده بانو". حين انهزم والده همايون من شير شاه، ثم رجع بعد بضعة سنين فافتتح قندهار وكابل وأكثر بلاد الهند، فلما مات همايون جلس ولدُه جلال الدين على سريره تحت وصاية الوزير بيرم خان؛ لأن سنَّه حينئذ نحو ثلاث عشرة سنة، ولما بلغ أكبرُ أشُدَّه استقَلَّ بالملك، وسافر إلى الحرمين الشريفين، ثم افتتح أمره بالعدل والسخاء، وقرَّب إليه أهل العلم والصلاح، وكان يستمع الحديث، وبنى مساجد وزوايا له، وبنى مدينة بأرضه وجعلها عاصمة بلاد الهند، وبنى بها قصرًا وسماه (عبادت خانه) وقسَّمه على أربعة منازل وأمر أن يجتمع فيه علماء البراهمة والنصارى والمجوس وأهل الإسلام، فيجتمعون في ذلك القصر ويتباحثون في الخلافيات بحضرة السلطان، حتى دخل في مجلسه من أهل الشبهات والشهوات كأبي الفيض وصنوه أبي الفضل والحكيم أبي الفتح ومحمد اليزدي، فجعلهم فريقًا لأهل الصلاح فدسُّوا في قلبه أشياء ورغَّبوه عن أهل الصلاح وقالوا: لا ينبغي للسلطان أن يقلِّدَ أحدًا من الفقهاء المجتهدين، فانشرح صدر السلطان، وفتح أبواب الاجتهاد، فجوَّز متعة النساء، ونكاحَ المسلم بالوثنية، حتى اجترأ على الطعن والتشنيع على السلف الصالح، لا سيما الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وأمر بإخراج المشائخ والعلماء من الهند، واجتمع لديه شِرذمة من علماء الوثنيين والنصارى والمجوس ومن أحبار الهنود ومن الشيعة، وكان كل واحد منهم يجتهد أن يرغِّبَه إلى مذهبه، وكانت تحته طائفة من الأميرات الوثنيات بنات ملوك الهند، وصار حوله من يزيِّن له عبادة الأصنام، وتعظيم النار والشمس، فتدرج في الاجتهاد وترقى من الفروع إلى الأصول، وقال بخلق القرآن، واستحالة الوحي، والتشكيك في النبوات، وأنكر الجن، والمَلَك، والحشر والنشر، وسائر المغيبات، وأنكر المعجزات، وجوز التناسُخ، وحرَّم ذبح البقرة، وحطَّ الجزية عن أهل الذمة، وأحلَّ الخمر والميسِر والمحرَّمات الأُخر، وأمر بإيقاد النار في حَرَمِه على طريق المجوس، وأن يعظِّم الشمس وقت طلوعه على طريق مشركي الهند، وقرَّر أن الحق دائر بين الأديان كلها، فينبغي أن يُقتَبَس من كلها أشياء، وكان يسجد للشمس والنار في كل سنة يوم النيروز بالإعلان، وشرع ذلك من سنة خمس وعشرين الجلوسية، ورسم القشقة على جبينه يوم العيد الثامن من شهر سنبله، وربط سلكًا من الجواهر عن أيدي البراهمة تبركًا، وكذلك كان يفعل كلَّ ما يفعله كفار الهند، ويستحسنه ويحرِّض أصحابه على ما فعله، ويحثهم على ترك التقليد، يعني به دين الإسلام، ويهجِّنه ويقول: إن واضِعَه فقراء الأعراب، وأمر أن لا يقرأ من العلوم العربية غير النجوم والحساب والطب والفلسفة، فكان هذا الدين الذي اخترعه مصدرَ كراهيةٍ شديدة له في نفوس أهل الإسلام، حتى انتهى الأمر بهم مرَّةً إلى شق عصا الطاعة علنًا، بل قيل: إن ابنه الأمير جهانكير ثار عليه وأخذ يدبِّر له المكائدَ خُفْية، فحشد جهانكير جيشًا من ثلاثين ألف فارس، وقتل "أبا الفضل" مؤرِّخَ القصر وأحبَّ الأصدقاء إلى نفس أبيه، فحَطَّمت قوَّته النفسيَّة وتنكَّر له أبناؤه في أواخر أيامه، ومات الملك أكبر في سكندر آباد قريب آكره، بعد أن حكم أربعين سنة، مات بمرض الديسنتاريا، وقيل: مات مسمومًا بتدبير ابنه جهانكير، ولم يجد من يصلِّي عليه من أنصار أيَّةِ عقيدة أو مذهب ممَّن جمعهم حوله. وفي مطلع القرن العشرين الميلادي عملت إنجلترا على تشجيع مرزا غلام أحمد القادياني في الهند على إحياء ما دعا إليه الملك المغولي جلال الدين محمد أكبر!!
هو الإمام العارف، سيد الزهاد، أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن أدهم بن منصور التميمي البلْخي ويقال له العجلي. أحد مشاهير العباد وأكابر الزهاد. كانت له همة عالية في ذلك. أصله من بلْخ، ولد سنة 99،كان من الأشراف وكان أبوه كثيرَ المال والخَدَم, ثم ترَكَ ابنُ أدهم الدُّنيا وأقبل على آخِرتِه، سكن الشام وروى الحديثَ، قال النسائي: "إبراهيم بن أدهم ثقة مأمون أحد الزهاد". اشتهر بالزُّهد والورع، فلا يُذكَرُ الزُّهدُ إلَّا ويُذكَرُ إبراهيمُ، كان لا يأكُلُ إلَّا مِن عمَلِ يديه، وقِصَصُه في الزهدِ مَشهورةٌ جدًّا. عن سفيان الثوري قال: لو كان إبراهيم بن أدهم في الصحابة لكان رجلا فاضلا له سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا ولا أكل مع أحد طعاما إلا كان آخر من يرفع يديه, وقال عبد الله بن المبارك: كان إبراهيم رجلا فاضلا له سرائر ومعاملات بينه وبين الله عز وجل. قال ابن أدهم: الزهد ثلاثة، واجب، ومستحب، وزهد سلامة، فأما الواجب فالزهد في الحرام، والزهد عن الشهوات الحلال مستحب، والزهد عن الشبهات سلامة. وقال: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الغم والجزع.
هو أبو محمد عبدالملك بن هشام بن أيوبَ المعافري، العلَّامةُ النَّحويُّ الأَخباريُّ، أبو محمد الذهلي السَّدوسي، وقيل: الِحمْيري المعافري البصري، نزيلُ مصر، هذَّبَ السيرةَ النبويَّةَ لابنِ إسحاقَ مُصَنِّفِها. سمعها مِن زياد البكائي صاحِبِ ابنِ إسحاق, وإنما نُسِبَت إليه، فيقال سيرةُ ابن هشام؛ لأنه هذَّبَها وزاد فيها ونقَصَ منها، وحَرَّر أماكِنَ، واستدرك أشياءَ، وكان إمامًا في اللغة والنحو، وقد كان مقيمًا بمصرَ، واجتمع به الشافعيُّ حين وردها، وتناشدَا من أشعارِ العرب شيئًا كثيرًا. كانت وفاتُه بمصر.
سار سَيفُ الدولة بن حمدان في جيوشٍ إلى بلاد الروم وغزاها، حتى بلغ خرشنة، وصارخة، وفتح عِدَّةَ حُصونٍ وسَبى وأسر، وأحرقَ وخرَّب، وأكثَرَ القتلَ فيهم، ورجع إلى أذنة فأقام بها حتى جاءه رئيسُ طرسوس، فخلع عليه وأعطاه شيئًا كثيرًا، وعاد إلى حَلَب، فلمَّا سَمِعَ الروم بما فعل جمعوا وساروا إلى ميافارقين، وأحرقوا سوادَها ونهبوه، وخربوا وسَبَوا أهلَها، ونهبوا أموالهم وعادوا، وفي جمادى الآخرة سار الرومُ في البحر، فأوقعوا بأهلِ طرسوس، وقتلوا منهم ألفًا وثمانِمائة رجل، وأحرقوا القُرى التي حولها.
سار الحُجَّاجُ من بغداد، فقَدِموا الكُوفةَ، ورَحَلوا منها، فخَرَجت عليهم خَفاجَةٌ، وقد طَمِعوا بمَوتِ السُّلطانِ وبُعْدِ العَسكرِ، فأَوقَعوا بهم، وقَتَلوا أَكثرَ الجُندِ الذين معهم، وانهَزمَ باقيهم، ونَهَبوا الحُجَّاجَ، وقَصَدوا الكوفةَ فدَخَلوها، وأغاروا عليها، وقَتَلوا في أَهلِها، فرَماهُم الناسُ بالنُّشَّابِ، فخَرَجوا بعدَ أن نَهَبوا، وأَخَذوا ثِيابَ مَن لَقوهُ من الرِّجالِ والنِّساءِ، وَصَلَ الخَبرُ إلى بغداد، فسُيِّرَت العَساكرُ منها، فلمَّا سَمِعَ بَنُو خَفاجَةَ انهَزَموا، فأَدرَكَهم العَسكرُ، فقُتِلَ منهم خَلْقٌ كَثيرٌ، ونُهِبَت أَموالُهم، وضَعُفَت خَفاجَةُ بعدَ هذه الوَقعَةِ.
هو الشَّيخُ الإمام العالم المقرئُ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن بردس بن نصر بن بردس بن رسلان البعلبكي الحنبلي. ولِدَ ببعلبك سنة720، ودرس على والده، وأبي الفتح اليونيني، وسَمِعَ جمعًا من مُسنِدِي عصره، وحَدَّث عنهم، واشتهر باختصارِه لجملة من الكتب ونَظْمها. له بُغية الأريب في اختصار التهذيب، أكمل مسودته في المحرم سنة 779 وهو اختصار ليس فيه إضافات تُذكَر، ولم يحذف من رجال التهذيب أحدًا، لكنه حذف بعض أنساب المشهورين، وذكر الجرح والتعديل مختصرًا، كما حذف الأسانيدَ.
دخل أهلُ طرسوس بلادَ الروم غازين، ودخلها أيضًا نجا غلامُ سيفِ الدولة بن حمدان من دربٍ آخر، ولم يكن سَيفُ الدولة معهم لِمَرضِه؛ فإنَّه كان قد لَحِقَه قبل ذلك بسنتين فالجٌ، فأقام على رأس دربٍ من تلك الدروب، فأوغل أهلُ طرسوس في غزوتِهم حتى وصلوا إلى قونية وعادوا.
لما استولى السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ على مراكش وصَفَت له أعمالها، طَمِحت نفسُه للاستيلاء على بقيةِ بلاد المغرب وأمصاره، وقَطْعِ الوطاسيين من سائر أقطاره، فجمع الجموعَ وتقدَّم بها إلى أعمال فاس، وكان أوَّلُ ما ملك منها مكناسة الزيتون؛ فإنه افتتحها بعد حصارٍ وقتال كبير.
عزل الشيخُ محمد بن عبد الوهاب والأميرُ ابنُ سعود مباركَ بنَ عدوان عن إمارةِ حريملاء؛ وذلك لأنهما تخوَّفا على أهل حريملاء منه لأمورٍ صدرت ونُسِبت إليه وأمَّرا مكانه أحمد بن ناصر, فاستأذن ابن عدوان من الشيخ ومن الأمير أن يذهَبَ إلى عُيينة ثم يعود اليهما في الدرعية، فأذنا له فلما خرج متظاهِرًا بالذهاب إلى العيينة التقى في الطريق بأناسٍ من أهل حريملاء فأغراهم بالرجوعِ عن طاعة الشيخ والأمير، فأطاعه فريقٌ منهم، ثم سار يريد الاستيلاءَ على حريملاء، فاستولى على قصرِ الإمارة، ثم دعا أهل البلد لنصرتِه ومعونته فلم يجِبْه أحدٌ فولى هاربًا.
بعَث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً في ثلاثةِ آلافِ مُقاتلٍ على الجيشِ زيدُ بنُ حارثةَ، فإن أُصيبَ فجَعفرُ بنُ أبي طالبٍ، فإنْ أُصيبَ فعبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ، وشَيَّعهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ووَدَّعهُم، ثمَّ انْصرَف ونهَضوا، فلمَّا بلغوا مَعانَ مِن أرضِ الشَّامِ، أَتاهُم الخبرُ: أنَّ هِرقلَ مَلِكَ الرُّومِ قد نزل أرضَ بني مآبٍ، -أرضَ البَلقاءِ- في مائةِ ألفٍ مِنَ الرُّومِ، ومائةِ ألفٍ أُخرى مِن نَصارى أهلِ الشَّامِ، فأقام المسلمون في مَعانَ لَيلتينِ، يتَشاوَرون في أمرِ اللِّقاءِ بِعَدُوِّهِم البالغِ مِائتي ألفٍ فقالوا: نَكتُب إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نُخبِرُهُ بعَددِ عَدُوِّنا، فيَأمُرنا بأَمرِهِ أو يُمِدُّنا. فقال عبدُ الله بنُ رَواحةَ: يا قومُ، إنَّ الذي تَكرَهون لَلَّتِي خَرجتُم تَطلُبون -يعني الشَّهادةَ- وما نُقاتِلُ النَّاسَ بِعدَدٍ ولا قُوَّةٍ، وما نُقاتِلُهُم إلَّا بهذا الذي أَكرَمَنا الله به، فانْطَلِقوا فهي إحدى الحُسْنَيينِ: إمَّا ظُهورٌ، وإمَّا شَهادةٌ. فَوافقَهُ الجيشُ على هذا الرَّأيِ ونهَضوا، حتَّى إذا كانوا بتُخومِ البَلقاءِ لَقوا بعضَ الجُموعِ التي مع هِرقلَ بالقُربِ مِن قريةٍ يُقالُ لها: مُؤْتَةُ. فاقتَتَلوا، فقُتِلَ زيدُ بنُ حارثةَ، فأخَذ الرَّايةَ جعفرُ بنُ أبي طالبٍ، فقاتَل حتَّى قُطِعَتْ يَمينُه، فأخَذ الرَّايةَ بِيُسْراهُ فقُطِعَتْ، فاحْتضَنَها فقُتِلَ كذلك، فأخَذ عبدُ الله بنُ رَواحةَ الرَّايةَ، وتَرَدَّدَ عنِ النُّزولِ بعضَ التَّرَدُّدِ، ثمَّ صَمَّمَ، فقاتَل حتَّى قُتِلَ، فأخَذ الرَّايةَ ثابتُ بنُ أَقرمَ، وقال: يا مَعشرَ المسلمين، اصْطَلِحوا على رجلٍ منكم. فقالوا: أنت. قال: لا. فاصطَلَح النَّاسُ على خالدِ بنِ الوليدِ، فلمَّا أخَذ الرَّايةَ دافَع القَومَ وحاشى بهِم، ثمَّ انْحازَ وانْحِيزَ عنه، حتَّى انْصرَف بالنَّاسِ، فتَمَكَّنَ مِنَ الانْسِحابِ بمَن معه مِنَ المسلمين، قال خالدُ بنُ الوليدِ: لقد انقْطَعَتْ في يَدي يومَ مُؤْتَةَ تِسعةُ أَسيافٍ فما بَقِيَ في يَدي إلَّا صَفيحةٌ يَمانِيَّةٌ». وهذا يقتضي أنَّهم أثْخَنوا فيهم قَتْلًا، ولو لم يكن كذلك لَما قَدَروا على التَّخَلُّصِ منهم، ولهذا السَّببِ ولِغيرِهِ ذهَب بعضُ المُحقِّقين إلى أنَّ المسلمين قد انتصروا في هذه المعركةِ ولم يُهزَموا. عن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، نَعَى زيدًا، وجعفرًا، وابنَ رَواحةَ للنَّاسِ، قبلَ أن يَأتِيَهُم خَبرُهُم، فقال: «أخَذ الرَّايةَ زيدٌ فأُصيبَ، ثمَّ أخَذ جعفرٌ فأُصيبَ، ثمَّ أخَذ ابنُ رَواحةَ فأُصيبَ، وعَيناهُ تَذْرِفانِ حتَّى أخَذ سيفٌ مِن سُيوفِ الله حتَّى فتَح الله عليهم».
كانت الموصِل جزءًا من الدولة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما احتلَّتْها بريطانيا، وبعد حرب الاستقلال التركية، اعتبرت تركيا الموصل من القضايا الحاسمة المحدَّدة في الميثاق الوطني التركي. وعلى الرغم من المقاومة المستمرة تمكَّنت بريطانيا من طرح هذه القضية في الساحة الدولية، كمشكلة حدود بين تركيا والعراق. فقرَّر مجلسُ عصبة الأمم في جلسته المنعقدة في الثالث من ربيع الأول عام 1343هـ / الأول من تشرين الأول 1924م أن يتولى بنفسِه تعيينَ الحدود بين تركيا والعراق، وإنهاء الخلاف بين الحكومتين على ولاية الموصل، وأرسل مجلِسُ عصبة الأمم لجنةً مؤلفة من ثلاثة أعضاء وصلت إلى بغداد في العشرين من جمادى الآخرة 1343هـ / 15 كانون الثاني 1925م، وكانت إنجلترا ترى أن المنطقةَ المتنازَعَ عليها تضُمُّ مجموعاتٍ نصرانيةً وأخرى يهودية، وكذلك مجموعة يزيدية، وبما أنهم سيوطَّنون تحت دولة مسلمة فلا بد من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحمايتهم تمامًا، وخاصة أنهم رغم بقائهم بكلِّ أمن وسلام فترة عيشهم في ظل الدولة العثمانية إلا أنهم عند اندلاع الحرب العالمية الأولى أظهروا ما تُخفي صدورهم من الحقد الصليبي، فكانوا شرًّا وبيلًا على المسلمين من قَتلٍ وترويع ونهب؛ فلذا رفض الأتراك أن يكون الآشوريون على الحدود، فقامت إنجلترا ومن خلال جمع التبرعات لهم بإسكانِهم في مناطق أخرى في الوسَط، وطُلِب من الحكومة العراقية منحُهم أراضيَ مقابل التي تركوها في الموصل، وإعفاؤهم من الضرائب، واعترفت الحكومةُ بالبطريك مار شمعون بطريقًا لهم، أمَّا الأكراد الذين كانوا جيرانًا للآشوريين فلم يَسلَموا أيضا من أذاهم أيامَ اندلاع الحرب بحكم أن الأكراد يخالفونهم في العقيدة، فهو مسلمون، وزاد أذاهم لهم لَمَّا احتل الإنجليز العراق، وبعد رفع الأمر لمحكمة لاهاي وإرسال اللجان التي درست المنطقة قرَّر مجلس عصبة الأمم أن تكون الحدودُ بين العراق وتركيا كما في قرار الأول من ربيع الثاني 1343هـ ولم توافق تركيا طبعًا فعرض الإنجليز على تركيا اتفاقًا تتعهَّدُ فيه المحافظة على سلامة أملاكها مقابِلَ بقاء الموصل للعراق وأن تُجرَّدَ الموصِلُ من وسائل الدفاع وتُعَدُّ حيادية، وتعطى تركيا قرضًا بقيمة عشرة ملايين جنيه وتتنازل عن جزء من السليمانية، ورفضت أيضًا تركيا ذلك، ثمَّ عُقِدَ مؤتمر ثلاثي عراقي تركي إنجليزي وُقِّعَت فيه معاهدة شَمِلَت رسم الحدود وجنسية سكان المناطق التي كانت موضِعَ خلافٍ، وموضوعَ استثمارِ النِّفطِ، وتعهدت إنجلترا بدفع عشرة بالمائة من عائدات النفط لمدة خمسة وعشرين سنة.
سار يمينُ الدَّولةِ إلى الهندِ غازيًا، واحتَشَد وجَمَع، واستَعَدَّ وأعَدَّ، وسبَبُ هذا أنَّ بيدا أكبَرَ مُلوكِ الهند قَوِيَ أمْرُه واستمال إليه كُلَّ مَن كان يمينُ الدَّولةِ قد هَزَمَهم ووعَدَهم بإعادةِ مُلكِهم لهم، فتجَهَّزَ يمينُ الدَّولة للغَزوِ، وقصَدَ بيدا، وابتدأ في طريقِه بالأفغانيَّةِ، وهم كُفَّارٌ، فغَنِمَ المُسلِمونَ مِن أموالِهم الكثيرُ، ثمَّ واصَلَ المَسيرَ، وبلَغَ إلى مكانٍ لم يَبلُغْه فيما تقَدَّمَ مِن غَزَواتِه، وعَبَرَ نَهرَ كنك، ولم يَعبُرْه قَبلَها، فأتاه في الطَّريقِ خَبَرُ مَلِكٍ مِن مُلوكِ الهِندِ يقال له تروجنبال قد سار مِن بينِ يديه مُلتَجِئًا إلى بيدا ليحتَمِيَ به عليه، فطوى المَراحِلَ، فلَحِقَ تروجنبال ومَن معه، رابِعَ عَشَرَ من شَعبان، فاقتتلوا وانهزم تروجنبال ومَن معه، وكَثُر فيه القَتلُ والأسْرُ، وأسلَموا أموالَهم وأهلِيهم، فغَنِمَها المسلمون، وانهزم مَلِكُهم جريحًا، وتحيَّرَ في أمْرِه، وأرسل إلى يمينِ الدَّولة يطلُبُ الأمانَ فلم يُؤَمِّنْه، ولم يقنَعْ منه إلَّا الإسلام، وقتَلَ مِن عساكِرِه ما لا يُحصى، وسار تروجنبال ليلحَقَ ببيدا، فانفَرَدَ به بعضُ الهنودِ فقَتَلَه. فلما رأى ملوكُ الهند ذلك تابعوا رسُلَهم إلى يمينِ الدَّولةِ يَبذُلونَ له الطاعةَ والإتاوةَ. وسار يمينُ الدَّولة بعد الوقعةِ إلى مدينة باري، وهي من أحصَنِ القِلاعِ والبِلادِ وأقواها، فرآها مِن سُكَّانِها خاليةً، وعلى عُروشِها خاويةً، فأمَرَ بهَدمِها وتخريبِها وعَشْر قِلاعٍ معها مُتَناهية الحَصانة، وقتَلَ مِن أهلِها خلقًا كثيرًا، وسار يطلُبُ بيدا المَلِك، فلَحِقَه وقد نزل إلى جانبِ نهرٍ، وأجرى الماءَ مِن بين يديه فصار وحْلًا، وتَرَك عن يمينِه وشماله طريقًا يَبسًا يقاتِلُ منه إذا أراد القِتالَ، وكان عِدَّةُ مَن معه ستَّةَ وخمسينَ ألف فارس، ومِئَةَ ألفٍ وأربعةً وثمانينَ ألفَ راجلٍ، وسبعَمئة وستةً وأربعين فيلًا، فأرسل يمينُ الدَّولة طائفةً من عَسكَرِه للقِتالِ، فأخرج إليهم بيدا مِثلَهم، ولم يزَلْ كُلُّ عَسكرٍ يَمُدُّ أصحابَه، حتى كثُرَ الجمعان، واشتَدَّ الضَّربُ والطعان، فأدرَكَهم اللَّيلُ وحجز بينهم، فلمَّا كان الغَدُ بكَّرَ يمينُ الدَّولة إليهم، فرأى الدِّيارَ منهم بلاقِعَ، ورَكِبَ كُلُّ فرقةٍ منهم طريقًا مخالِفًا لطريق الأخرى. ووجد خزائِنَ الأموالِ والسِّلاحِ بحالها، فغَنِموا الجميعَ، واقتفى آثارَ المُنهَزِمين، فلَحِقوهم في الغِياضِ والآجامِ، وأكثَروا فيهم القَتلَ والأسْرَ، ونجا بيدا فريدًا وحيدًا، وعاد يمينُ الدَّولة إلى غزنةَ مَنصورًا.
لَمَّا وصَلَ صَلاحُ الدين إلى دمشقَ مِن مصر أقام بها أيامًا يريحُ ويَستريح هو وجندُه، ثم سار إلى بلاد الفرنج في ربيع الأول، فقصد طبريَّةَ، فنزل بالقرب منها، وخيَّمَ في الأقحوانة من الأردن، وجاءت الفرنجُ بجموعِها فنزلت في طبريَّة، فسيَّرَ صلاح الدين فرخشاه إلى بيسان، فدخَلَها قهرًا، وغَنِمَ ما فيها، وقتل وسبى، وجحف الغورَ غارةً شعواءَ، فعَمَّ أهلَه قتلًا وأسرًا، وجاءت العرب فأغارت على جنين واللجون وتلك الولاية، حتى قاربوا مرج عكا، وسار الفرنجُ مِن طبرية، فنزلوا تحت جبل كوكب، فتقدم صلاحُ الدين إليهم، وأرسل العساكرَ عليهم يرمونهم بالنشاب، فلم يَبرَحوا، ولم يتحَرَّكوا للقتال، فأمَرَ ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه، فحملا على الفرنجِ فيمن معهما، فقاتلوا قتالًا شديدًا، ثم إنَّ الفرنج انحازوا على حاميتهم، فنزلوا غفربلا، فلما رأى صلاح الدين ما قد أثخَنَ فيهم وفي بلادهم عاد عنهم إلى دمشق.
هو الشيخُ الإمام أبو العباس أحمد بن عبد المنعم بن يوسف بن صيام الدمنهوري، شيخ جامع الأزهر، وأحد عُلماء مصر المُكثرين من التصنيف، ولِدَ بدمنهور سنة 1101هـ - 1589م. تعلَّم في الأزهر حتى تولى مشيخَتَه. فقد اشتغل بالعلمِ، وجدَّ في تحصيلِه، واجتهد في تكميلِه، وأجازَه علماء المذاهب الأربعة، وسمحوا له بتدريسِ الفِقهِ على المذاهب الأربعة, حتى سُمِّي بالمَذهبي. كانت له حافظةٌ وذاكرةٌ عجيبة, قيل عنه إنه: "أعلمُ أهل عصره بالديار المصريةِ في جميع الفنون النَّقلية والعقلية, وإنه بحرٌ لا ساحِلَ له" كان مُهابًا لدى الأمراء؛ لكونه قوَّالًا للحق، أمَّارًا بالمعروف، سمحًا بما عنده من الدنيا، وقَصَده الملوك والولاة من كلِّ حَدبٍ مِن طَرفِ الدولة, وله مصنَّفات كثيرة، منها: النفع العزيز في صلاح السلطان والوزير، ونهاية التعريف بأقسام الحديث الضعيف، والفيض العميم في معنى القرآن العظيم، ومنهج السلوك في نصيحة الملوك، ومشاركات في الطب والكيمياء. توفي في القاهرة.