هو الملك أبو يوسف يعقوب بن الليث الصفَّار الخارجي- خرج على سلطانِ الخلافةِ- التُّركمانيُّ، من سجستان، أصلُه فارسي ينحدِرُ من جبال شرق فارس، أسَّسَ السُّلالةَ الصفَّاريَّة التي حكَمَت فارس وبلاد ما وراء النهر. وقد أكثَرَ أهلُ التاريخ مِن ذِكرِ هذا الرجل وذِكرِ أخيه عمرو وما ملكا من البلادِ وقتلا من العبادِ، وما جرى للخلفاءِ معهما من الوقائع، كان رجلًا عاقلًا حازمًا, وكان أوَّلَ أمْرِه أنه وأخاه عَمرًا صفَّارانِ في حداثتِهما، يعملان في النُّحاس، وكانا يُظهِران الزهد، فجاهدا مع صالح المُطَّوِّعِي المحاربِ للخوارج، فصَحِبَه إلى أن مات، فتولَّى مكان صالح المطوعي درهمُ بن الحسين المطوعي، فجعل درهمُ يعقوبَ بن الليث قائدًا لعسكره، ثمَّ رأى أصحاب درهم عجْزَه، فملَّكوا يعقوبَ لحُسنِ سياستِه، فأذعَنَ لهم دِرهَم، واشتَهَرت صولةُ يعقوب، فغَلَب على هراة وبوشنج، وحارب الترك، وظفِرَ بِرُتْبِي، فقتله، وقتل ثلاثةَ ملوك ورجع معه ألوفٌ من الرؤوس، فهابته الملوك, وكان بوجهِه ضربةُ سيف مُخَيَّطَة. أظهر يعقوبُ حرصه على تدعيم مُلكِه؛ حيث اهتمَّ بتدبير أمور مملكتِه وتحصينِها وعمارة أرضه، فكثرت أموالُه وعَمَرت خزائنُه, ثم أعلن نفسَه حاكمًا على موطِنِه في سجستان (بلوشستان). ثم ضمَّ إليه المناطِقَ التي حكمها الطاهريون: هراة، وفارس، وشيراز، وبلخ, ثم طخرستان, حتى انتهى الأمرُ بأن قام بإجلائهم عن خراسان وأفغانستان. فعيَّنَه الخليفةُ المعتزُّ واليًا على المناطق التي سيطر عليها, فأخذ يعقوبُ يبعث هداياه إلى المعتز لمُداراته، ثم صار يرسِلُ للمعتَمِد في العام خمسةَ آلاف ألف درهم، ثمَّ أخذ بلخَ ثم نيسابور، وقصَدَ جرجان، فهزم المُتغلِّبَ عليها الحسن بن زيد العلوي، ثم دخل جرجان، فظَلَم وعَسَف، فاستغاث جماعةٌ جرجانيون ببغداد من يعقوب، فعزم المعتَمِد على حربه، ونفَّذَ كتبًا إلى أعيان خراسان بذمِّ يعقوب، وأن يهتمُّوا لاستئصاله، فكاتبَ يعقوبُ المعتَمِد يخضَعُ ويُراوغ، ويطلُبُ التقليدَ بتوليته المَشرِق، ففعل المعتمِدُ ذاك وأخوه الموفِّقُ؛ لاشتغالهم بحرب الزَّنْج. كان يعقوبُ قد افتتح الرخج، وقتَلَ مَلِكَها وأسلم أهلُها على يده، وافتتح الخلجية وزابل وغيرهما. بعد أن غلب يعقوبُ الصفَّار على سجستان ونيسابور والديلم وفارس، طَمِعَ في بغداد فأقبل عليها غازيًا، فقابلَه جيشُ الموفَّق بدير العاقول، وكشفَ الموفَّق الخوذة وحَمَل، وقال: أنا الغلامُ الهاشميُّ. وكَثُرت القتلى، فانهزم يعقوبُ، وجُرِحَ أمراؤه، وذهبت خزائِنُه، وغَرِق منهم خلقٌ في النهر. مات يعقوبُ بجند يسابور من كور الأهواز، وكانت عِلَّتُه القولنج، فأمره الأطبَّاءُ بالاحتقان بالدواء، فلم يفعل، واختار الموت. وكان المعتمِد قد أنفذ إليه رسولًا وكتابًا يستميلُه ويترضَّاه، ويقَلِّده أعمال فارس، فوصل الرسولُ ويعقوب مريضٌ، فجلس له وجعل عنده سيفًا ورغيفًا من الخبز، ومعه بصَلٌ، وأحضر الرَّسول، فأدَّى الرسالة، فقال له: قُل للخليفة إنَّني عليل، فإن مِتُّ فقد استرحتُ منك واسترحْتَ مني، وإن عوفِيتُ فليس بيني وبينك إلَّا هذا السَّيفُ، حتى آخُذَ بثأري، أو تكسِرَني وتعقِرَني، وأعودَ إلى هذا الخبز والبصل، وأعاد الرسولُ، فلم يلبَثْ يعقوبُ أن هلك. فقام بالأمرِ بعده أخوه عمرو بن الليث، وكتب إلى الخليفةِ بطاعته، فولَّاه الموفَّق خراسان، وفارس، وأصبهان، وسجستان، والسند، وكرمان، والشرطة ببغداد.
قَدِمَ خالدٌ العِراقَ لِمُساندَةِ المُثَنَّى بأَمْرٍ مِن أبي بكرٍ ومعه عشرةُ آلافِ مُقاتِل، ومع المُثَنَّى وأصحابِه ثَمانيةُ آلافٍ، وجعل على مُقَدِّمَتِه المُثَنَّى وبَعدَهُ عَدِيَّ بن حاتم، وجاء خالدٌ بَعدهُما، وواعدهما الحَفِيرَ ليُصادِموا عَدُوَّهُم، وكان ذلك الفَرْجُ أعظمَ فُروجِ فارِسَ وأشدَّها شَوْكةً، وكان صاحبُهُ هُرْمَزَ، وهو سيِّئُ المُجاورةِ للعربِ، فكلُّهم عليه حنق، وكانوا يَضرِبونه مثلًا فيقولون: أَكْفر مِن هُرمُزَ, فلمَّا سمِع أنَّهم تواعدوا الحَفِيرَ، سبَقهُم إليه ونزَل به، وجعَل على مُقدِّمتِه قُباذُ وأَنُوشَجَان، وكانا مِن أولادِ أَرْدَشِير الأكبر، واقترنوا في السَّلاسِل، لذلك سُمِّيَت بذلك، فسمِع بهم خالدٌ، فَمالَ بالنَّاس إلى كاظمةٍ، فسبَقهُ هُرمُزُ إليها، وقَدِم خالدٌ فنزَل على غيرِ ماءٍ فقال له أصحابُه في ذلك: ما تفعل؟ فقال لهم: لعَمْري ليَصيرَنَّ الماءُ لأَصْبَرِ الفريقين. فحطّوا أثقالَهُم، وتَقدَّم خالدٌ إلى الفُرْس فلاقاهُم، وأرسل الله سحابةً فأغدَرَت وراءَ صَفِّ المسلمين، فقَوِيَت قلوبُهم، وخرَج هُرمُز ودعا خالدًا إلى البِرازِ، وأَوْطأ أصحابُه على الغَدْرِ بخالدٍ، فبرَز إليه خالدٌ ومَشى نحوه راجلًا، ونزَل هُرمُز أيضًا وتَضارَبا، فاحتَضنَهُ خالدٌ، وحمَل أصحابُ هُرمُز، فما شَغَلهُ ذلك عن قتلِه، وحمَل القَعْقاعُ بن عَمرٍو فأَزاحَهُم، وانهزم أهلُ فارس ورَكِبَهم المسلمون، وسُمِّيَت الوقعة ذات السَّلاسِل، ونجا قُباذُ وأَنُوشَجَان، وأخَذ خالدٌ سَلَبَ هُرمُز، وكانت قَلنسوتُه بمائة ألف. كان أهلُ فارس يجعلون قَلانِسهم على قدر أحسابِهم فمَن تمَّ شَرفُه فقيمةُ قَلنسوتِه مائةُ ألفٍ، فكان هُرمُز ممَّن تمَّ شَرفُه، وبعَث خالدٌ بالفَتح والأخماسِ إلى أبي بكرٍ.
عندما وصل سعودٌ بجيوشِه إلى مشارف الشام وقراها واكتسح ما أمامه من القرى والعربان، وقبل ذلك غزا كربلاء وهدد العراق وهزم جميعَ الجيوش التي أرسلها ولاةُ الشام والعراق لمحاربته، حتى اضطرت الدولةُ العثمانية أن تطلُبَ من سعود المهادنةَ والمسابلة وتَبذُل له مقابِلَ ذلك كلَّ سنة ثلاثين ألف مثقال ذهبي، وأوفدت الدولة لهذ الغرض رجلًا يسمَّى عبد العزيز القديمي وأوفدت بعده رجلًا آخر يسمى عبد العزيز بيك، فرجع كما رجع الأول بعدم القبول وبرسالة طويلة من سعود، ومما ورد فيها: "وأما المهادنة والمسابلة على غير الإسلامِ، فهذا أمر محال بحولِ الله وقوَّتِه، وأنت تفهم أن هذا أمرٌ طلبتموه منا مرَّةً بعد مرة، أرسلتم لنا عبد العزيز القديمي ثم أرسلتم لنا عبد العزيز بيك، وطلبتم منا المهادنة والمسابلة، وبذلتم الجزيةَ على أنفُسِكم كلَّ سنة ثلاثين ألف مثقالٍ ذهبًا، فلم نقبل ذلك منكم ولم نُجِبْكم بالمهادنة، فإن قبلتم الإسلامَ فخيرتها لكم وهو مطلبنا، وإن توليتم فنقول كما قال الله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] فلما أصبحت الدولةُ العثمانيةُ عاجزةً عن مهادنة الإمام سعود بن عبد العزيز بن سعود فضلًا عن محاربته، طلب عندئذ السلطان العثماني من والي مصر محمد علي باشا القيامَ بمحاربة الإمام سعود وإخراجِه من الحجاز، فتردَّد محمد علي أولًا ثم أخيرًا لبَّى طلب السلطان وسيَّرَ ابنَه طوسون سنة 1226هـ ثم خرج هو بنفسِه إلى أن سقطت الدولة السعودية سنة 1233هـ على يد إبراهيم باشا، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
في هذه السَّنة قَتَل السلطان بركيارق خلقًا من الباطنية ممن تحقَّق مذهبَه، ومن اتُّهِم به، فبلغت عدتُهم ثمانمائة ونيِّفًا، ووقع التتبُّعُ لأموال من قُتِل منهم، فوُجِد لأحدهم سبعون بيتًا من الزوالي المحفور، وكُتب بذلك كتابٌ إلى الخليفة، فتقدَّم بالقبض على قومٍ يُظَنُّ فيهم ذلك المذهَبُ، ولم يتجاسر أحدٌ أن يشفع في أحدٍ لئلَّا يُظَنَّ مَيلُه إلى ذلك المذهب، وزاد تتبُّعُ العوام لكل من أرادوا، وصار كلُّ من في نفسه شيءٌ من إنسانٍ يرميه بهذا المذهب، فيُقصَد ويُنهَب حتى حُسِم هذا الأمر فانحسم في أيام السلطان ملكشاه، فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلًا، فصلَّوا صلاة العيد في ساوة، ففَطِنَ بهم الشحنة فأخذهم وحبَسَهم، ثم سُئِلَ فيهم فأطلقهم، فهذا أول اجتماع كان لهم، ثمَّ إنهم دَعَوا مؤذِّنًا من أهل ساوة كان مقيمًا بأصبهان، فلم يُجِبْهم إلى دعوتهم، فخافوه أن ينمَّ عليهم، فقتلوه، فهو أوَّلُ قتيل لهم، وأوَّلُ دم أراقوه، فبلغ خبَرُه إلى نظام الملك، فأمر بأخذِ من يُتَّهَمَ بقتله، فوقعت التهمةُ على نجارٍ اسمه طاهر، فقُتِل ومُثِّل به، وجَرُّوا برِجْلِه في الأسواق، فهو أولُ قتيل منهم، وأولُ موضع غُلِبوا عليه وتحصَّنوا به بلدٌ عند قاين، كان متقدَّمُه على مذهبهم، فاجتمعوا عنده، وقَوُوا به، فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي، الفقيه الشافعي، وجمع الجمَّ الغفير بالأسلحة، وأمر بحفرِ أخاديد، وأوقد فيها النيرانَ، وجعل العامةُ يأتون بالباطنية أفواجًا ومنفَرِدين، فيُلقَون في النار، وجعلوا إنسانًا على أخاديد النيران وسمَّوه مالكًا، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وكان السببُ في قتل بركيارق الباطنيةَ أنَّه لما اشتد أمرُ الباطنية، وقَوِيت شوكتهم، وكثُرَ عددهم، صار بينهم وبين أعدائهم إحَنٌ، فلما قتلوا جماعةً من الأمراء الأكابر، وكان أكثَرُ من قتلوا من هو في طاعة محمد، مخالِفٌ للسلطان بركيارق، مثل شحنة أصبهان سرمز، وأرغش، وكمش النظاميين، وصهره، وغيرهم، نَسَب أعداءُ بركيارق ذلك إليه، واتهموه بالميلِ إليهم. فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمدًا، وقتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعةٌ منهم في العسكر، واستغووا كثيرًا منهم، وأدخلوهم في مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوَّة، وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فصار يخافهم من يخالِفُهم، حتى إنهم لم يتجاسَرْ أحد منهم، لا أمير ولا متقدِّم، على الخروج من منزله حاسِرًا، بل يلبس تحت ثيابه درعًا، وأشاروا على السلطان أن يفتك بهم قبل أن يعجِزَ عن تلافي أمرهم، وأعلموه ما يتَّهِمُه الناس به من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنِّعون بذلك، وكانوا في القتال يكبرون عليهم، ويقولون: يا باطنية. فاجتمعت هذه البواعِثُ كلها فأذن السلطانُ في قتلهم، والفتكِ بهم، وركب هو والعسكرُ معه، وطلبوهم وأخذوا جماعةً من خيامهم ولم يُفلِتْ منهم إلا من لم يُعرَف، وكان ممن اتُّهِم بأنه مقدَّمُهم الأمير محمد بن دشمنزيار بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه، صاحب يزد، فهرب وسار يومه وليلته، فلما كان اليوم الثاني وجَدَّ في العسكر قد ضَلَّ الطريق ولا يَشعُر، فقُتِل، ونُهِبَت خيامه، فوُجِد عنده السلاح المعَدِّ، وأخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقُتِلوا، وقُتِل منهم جماعة برآء لم يكونوا منهم سعى بهم أعداؤهم، وكتب إلى بغداد بالقبض على أبي إبراهيم الأسداباذي الذي كان قد وصل إليها رسولًا من بركيارق ليأخذ مال مؤيد الملك، وكان من أعيانهم ورؤوسهم، فأُخذ وحُبِس، فلما أرادوا قتله قال: هَبُوا أنكم قتلتموني، أتقدرون على قَتْلِ من بالقلاع والمدُن؟ فقُتِل، ولم يُصَلِّ عليه أحد، وألقِيَ خارج السور، واتُّهِم أيضًا الكيا الهرَّاسي، المدَرِّس بالنظامية بأنَّه باطنيٌّ، ونُقِل ذلك عنه إلى السلطان محمد، فأمر بالقبض عليه، فأرسل المستظهر بالله من استخلصه، وشَهِدَ له بصحة الاعتقاد، وعلوِّ الدرجةِ في العلم، فأُطلِقَ.
لمَّا مَلَكَ الفِرنجُ مَدينةَ المَهديَّة وفَعَلوا ما فَعَلوا في زويلة المَدينةِ المُجاوِرَةِ للمَهديَّةِ من القَتلِ والنَّهبِ، هَرَبَ منهم جَماعةٌ وقَصَدوا عبدَ المُؤمنِ صاحبِ المَغربِ، وهو بمراكش، يَستَجيرُونَه، فلمَّا وَصَلوا إليه ودَخَلوا عليه أَكرَمَهم، وأَخبَروهُ بما جَرَى على المسلمين، وأنه ليس من مُلوكِ الإسلامِ مَن يُقصَد سِواهُ، فبدَأَ بالاستِعدادِ للمَسيرِ, فلمَّا كان في صفر سَنةَ554هـ سار عن مراكش، فلم يَزَل يَسيرُ إلى أن وَصلَ إلى مَدينةِ تونس، فلمَّا نازَلَها أَرسلَ إلى أَهلِها يَدعوهُم إلى طاعَتِه، فامتَنَعوا، فقاتَلَهُم ثم نَزَلوا يَسأَلونَهُ الأَمانَ فأَجابَهُم إليه. ثم سار عبدُ المؤمن منها إلى المَهديَّةِ والأُسطولُ يُحاذِيه في البَحرِ، فوَصلَ إليها ثامنَ عشر رجب سَنةَ 554هـ، وكان حينئذٍ بالمَهديَّةِ أَولادُ مُلوكِ الفِرنجِ وأَبطالُ الفِرسانِ، وقد أَخلوا زويلةَ، فدَخلَ عبدُ المؤمنِ زويلةَ، وامتَلأَت بالعَساكرِ والسُّوقَةِ وانضافَ إليه من صنهاجة والعَربِ وأَهلِ البلادِ ما يَخرُج عن الإحصاءِ، وأَقبَلوا يُقاتِلون المَهديَّةَ مع الأَيامِ، فلا يُؤثِّر فيها لِحصَانَتِها وقُوَّةِ سُورِها وضِيقِ مَوقِعِ القِتالِ عليها، فعَلِمَ عبدُ المؤمنِ أن المَهديَّةَ لا تُفتَح بقِتالٍ بَرًّا ولا بَحرًا، لأن البحرَ دائرُ بأَكثرِها، فكأَنها كَفٌّ في البَحرِ، وزِندُها مُتَّصِلٌ بالبَرِّ، وليس لها إلا المُطاوَلَةِ، فتَمادَى الحِصارُ، وكانت الفِرنجُ تُخرِج شُجعانَهم إلى أَطرافِ العَسكرِ، فتَنال منه وتَعودُ سَريعًا؛ فأَمرَ عبدُ المؤمنِ أن يُبنَى سُورٌ من غَربِ المَدينةِ يَمنَعُهم من الخُروجِ، وأَحاطَ الأُسطولُ بها في البَحرِ، ورَكِبَ عبدُ المؤمنِ في شيني، ومعه الحَسنُ بنُ عَليٍّ الذي كان صاحِبَها، وطاف بها في البَحرِ، فهاله ما رأى من حَصانَتِها، وفي مُدَّةِ حِصارِه أَطاعَتهُ مجموعةٌ من المناطِقِ. ثم جاء أُسطولُ صاحبِ صِقلِّية فأَرسلَ إليهم مَلِكُ الفِرنجِ يَأمُرُهم بالمَجيءِ إلى المَهديَّةِ، فلمَّا قارَبَ أُسطولُ صِقلِّية المَهديَّةَ حَطُّوا شِراعَهم لِيَدخُلوا المِيناءَ، فخَرجَ إليهم أُسطولُ عبدِ المؤمنِ، ورَكِبَ العَسكرُ جَميعُه، ووَقَفوا على جانبِ البَحرِ، فاستَعظَم الفِرنجُ ما رَأوهُ من كَثرةِ عَساكرِ المُوَحِّدِين، ودَخلَ الرُّعبُ قُلوبَهم، فاقتَتَلوا في البَحرِ، فانهَزَمَت شواني الفِرنجِ، وتَبِعَهم المسلمون، فأَخَذوا منهم سبعَ شوان. ويَئِسَ أَهلُ المَهديَّةِ حينئذٍ من النَّجدَةِ، وصَبَروا على الحِصارِ سِتَّةَ أَشهُر، فنَزلَ حينئذٍ من فِرسانِ الفِرنجِ إلى عبدِ المؤمنِ عَشرةٌ وكان قُوتُهُم قد فَنِيَ حتى أَكَلوا الخَيْلَ, وسَألوا الأَمانَ لمن فيها من الفِرنجِ على أَنفُسِهم وأَموالِهم لِيَخرُجوا منها ويَعودُوا إلى بِلادِهم، فعَرَض عليهم الإسلامَ، ودَعاهُم إليه فلم يُجيبوا، ولم يَزالوا يَتَردَّدُون إليه أيامًا واستَعطَفوهُ بالكَلامِ اللَّيِّنِ، فأَجابَهُم إلى ذلك، وأَمَّنَهُم وأَعطاهُم سُفُنًا فرَكِبوا فيها وساروا، وكان الزَّمانُ شِتاءً، فغَرِقَ أَكثرُهم ولم يَصِل منهم إلى صِقلِّية إلا النَّفَرُ اليَسيرُ. ودَخلَ عبدُ المؤمن المَهديَّةَ بُكرَةَ عاشوراء من المُحرَّم سنةَ 555هـ، وسَمَّاها عبدُ المؤمن سَنةَ الأَخماسِ، وأَقامَ بالمَهديَّةِ عِشرينَ يَومًا، فرَتَّبَ أَحوالَها، وأَصلَح ما انثَلَمَ من سُورِها، ونَقَلَ إليها الذَّخائِرَ من القُوَّاتِ والرِّجالِ والعَدَدِ، واستَعمَلَ عليها أَحَدَ أَصحابِه، وجَعلَ معه الحَسنَ بن عليٍّ الذي كان صاحِبَها، وأَمَرَهُ أن يَقتَدِي بَرأيِه في أَفعالِه، وأَقطَعَ الحَسنَ بها أَقطاعًا، وأَعطاهُ دُورًا نَفيسةً يَسكُنُها، وكذلك فَعلَ بأَولادِه، ورَحلَ من المَهديَّةِ أوَّلَ صَفر من السَّنَةِ إلى بِلادِ المَغرِب.
وُلِد أنور خوجا في بلدةِ "أرجيرو كاسترو" سنة (1326هـ = 1908م)، ونشأ في وسطِ عائلةٍ مُسلمةٍ، اشتغلت بالتِّجارةِ، وعُرفت بالثَّراءِ، وتلقَّى دراستَهُ الأولى في مدرسةٍ فَرَنسيَّةٍ في "كوريتسا"، وهناك انخرط في صُفوفِ الحِزبِ الشُّيوعي الفَرَنسيِّ، وبعد أن أنْهى دراستَهُ سافَرَ إلى "بلجيكا"؛ حيث عَمِلَ سكرتيرًا للسفارة الألبانية، ثم عاد إلى بلادِهِ سنة (1355هـ = 1936م)، واشتغَلَ بالتَّدريس. ولمَّا تعرَّضت بلادُهُ للغَزوِ الإيطاليِّ سنة (1358هـ = 1939م) انقطَعَ عن التدريسِ، وانخرَطَ في صُفوفِ المقاومينَ للاحتِلالِ الإيطاليِّ بعدَ فِرار أحمد زوغو ملك ألبانيا تاركًا بلادَهُ فريسةً للاحتلال الإيطاليِّ، اشتعلتْ حَرَكةُ المقاومةِ ضدَّ الغُزاة، وكان أنور خوجا واحدًا من قادةِ المُقاومةِ، وحُكِمَ عليه بالقتل غيابيًّا في سنة (1360هـ = 1941م)، ثم شارَكَ في تأسيسِ جَبهةِ التحرير القوميَّةِ التي تزعَّمت حركةَ مُقاومةِ الطليان والألمان، وكان الشُّيوعيُّونَ يتزعَّمون هذه الجَبْهة، ثم تولَّى قيادة المقاومةِ، ورئاسةَ اللَّجْنةِ الألبانيَّةِ المُناهِضةِ للفاشيَّةِ في (جُمادى الآخرة 1363هـ = مايو 1944م)، وفي أثناء هذه الفترة شارَكَ في تأسيسِ الحِزبِ الشُّيوعي الألباني وتولَّى أمانتَهُ؛ فلمَّا انتهتِ الحربُ العالميةُ الثانيةُ، وخرج الألمان من ألبانيا؛ تولَّى "أنور خوجا" رئاسةَ الحكومة الألبانية في (1365هـ = 1945م).ثم أُعلنت ألبانيا جمهوريةً شعبيَّةً، وأُلغيت الملكيَّةُ رسميًّا، وما إن أمسك بمقاليدِ الأُمور حتى بادَرَ إلى قطعِ العَلاقاتِ مع كُلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.كان أنور خوجا من المُعجَبينَ بـ"ستالين" دكتاتورِ الاتِّحادِ السُّوفيتي، فوقف إلى جانبه حين نشَبَ خِلافٌ سنة (1367هـ = 1948) بينه وبين "تيتو" الرئيسِ اليُّوغسلافي، على الرَّغمِ من مُساندة الحِزبِ الشُّيوعي اليوغسلافي للشُّيوعيِّينَ الألبانِ أثناءَ الاحتلالِ الإيطالي لبلادِهِم، غيرَ أنَّ هذا التأييدَ الذي أبْداه أنور خوجا للسياسة السُّوفيتيَّةِ توقَّف بعد وفاةِ ستالين سنة (1373هـ = 1953م)، وانتهاج خُلَفائه سياسةً مُغايرةً؛ فتحوَّل التأييدُ إلى عداءٍ مُستحكمٍ، انتهى بقَطعِ العَلاقاتِ بين البلدَينِ في سنة (1381هـ = 1961م)، وكان من الأسبابِ التي أدَّت إلى هذه النتيجةِ وقوفُ "خوجا" إلى جانب الصِّينِ في صِراعها الأيديولوجيِّ المذهبيِّ ضدَّ الاتِّحادِ السُّوفيتي، ثم أعقب ذلك انسحابُ ألبانيا من حِلفِ "وارسو" سنة (1388هـ = 1968م)، والتوقُّف عن المُشاركةِ في "الكوميكون"، وهو المجلسُ المُشتَرَكُ لِمُساعدة دولةِ الكُتلة الشرقيَّةِ. أدَّت هذه السياسةُ التي اتَّبعها أنور خوجا إلى انعزالِ ألبانيا عن أوروبا، والعالم الخارجي، ولم يعُدْ لها من حليفٍ سوى الصين، لكنَّ الصينَ نفسَها انتهجت بعدَ وفاةِ "ماو تسي تونج" سياسةً مَرِنةً ومُهادِنةً للولايات المُتَّحِدة الأمريكية؛ الأمرَ الذي جعل أنور خوجا يُعيد النَّظَر والتفكيرَ ويقلبُ الرأي، فأعاد العَلاقاتِ الدُّبلوماسيَّةَ مع يوغوسلافيا واليونان؛ للتغلُّب على شيءٍ من العُزلة التي فرَضَها على بلاده، وفي الوقتِ نفسِهِ ساءت عَلاقاتُهُ مع الصينِ، وانتهى بها الحالُ إلى قَطعِ مُساعداتِها له. أحكم أنور خوجا قبضتَهُ على البلاد، وأمسَكَ مقاليدَ الأمور بيدٍ من حديدٍ، وتخلَّصَ من جميعِ مُنافسيهِ في الحِزب الشُّيوعي، وامتدَّت يدُهُ إلى المعارضين؛ فأسكَتَ أصواتَهم، ولم يعُدْ هناك مَن يُواجهُهُ، أو يقفُ في وجهِهِ ويُعارِض سياستَهُ. ظلَّ أنور خوجا يحكُمُ ألبانيا إحدى وأربعين سنةً، حتى تُوَفِّيَ في (20 من رجب سنة 1405هـ = 11 من إبريل 1985م) عن عُمرٍ يُناهِزُ السَّابعةَ والسَّبعينَ، وخَلَفَهُ "رامز عليا".
سيَّرَ الظَّاهِرُ حاكِمُ مِصرَ العُبَيديُّ إلى الشَّامِ الدزبريَّ وزيرَه، فملَّكه، وقَصَد حسَّانَ بنَ المفرج الطائي، فألحَّ في طلَبِه، فهَرَب منه، ودخل بلدَ الرُّومِ ولَبِسَ خِلعةَ مَلِكِهم، وخرج مِن عِندِه وعلى رأسِه عَلَمٌ فيه صليبٌ، ومعه عسكَرٌ كثيرٌ، فسار إلى أفامية فكَبَسَها، وغَنِمَ ما فيها، وسبى أهلَها، وأسَرَهم، وسيَّرَ الدزبري إلى البلادِ يستنفِرُ النَّاسَ للغزو وخرج فخافه نصرُ بن صالح وقَرَّرَ لِمَلِك الرومِ على نفسِه خَمسَمِئَة ألف درهم، صرف ستين درهمًا بدينار، على أن يحميَه، وذلك في جُمادى الأولى؛ فاتَّفَقَ مَرَضُ الدزبري بدمشق، وأُرجِفَ به، ثم عوفيَ.
كانت زَلزلةٌ بأَرضِ فِلسطينَ، أَهلكَت بَلدَ الرَّملةِ، ورَمَت شَراريفَ -الشراريف ما يُوضَع في أَعلى البناء يحلَّى به- من مَسجدِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولَحِقَت وادي الصَّفْرَ وخَيبرَ، وانشَقَّت الأرضُ عن كُنوزٍ كَثيرةٍ مِن المالِ، وبَلغَ حِسُّها إلى الرَّحبةِ والكوفةِ، وجاء كِتابُ بَعضِ التُّجَّارِ فيه ذِكْرُ هذه الزَّلزلةِ، وذَكرَ فيه أنَّها خَسفَت الرَّملةَ جَميعًا حتى لم يَسلَم منها إلا داران فقط، وهَلكَ منها خمس عشرة ألف نَسَمةٍ، وغارَ البحرُ مَسيرةَ يَومٍ، وساخَ في الأرضِ وظَهرَ في مَكانِ الماءِ أشياءُ مِن جواهرَ وغَيرِها، ودَخلَ الناسُ في أَرضهِ يَلتَقِطُونَه، فرَجعَ عليهم فأَهلكَ كَثيرًا منهم.
هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي البلنسي النحوي، أحد أئمة اللغة والأدب في القرنين الخامس والسادس الهجريين. ولد ببطليوس سنة 444, ونشأ بها، ثم سكن مدينة بلنسية، وكان الناس يجتمعون إليه ويقرؤون عليه ويقتبسون منه، واشتهر بالتبحر في الأدب واللغة، وكان مقدَّمًا في معرفتهما وإتقانهما، وانتصب لإقراء علوم النحو، واجتمع إليه الناس، وله يدٌ في العلوم القديمة، وكان حسَنَ التعليم، جيِّدَ التفهيم، ثقة ضابطًا. ألَّف كتبًا نافعة ممتعة, ومن أشهر كتبه: المثلث في اللغة، والاقتضاب في شرح أدب الكتاب. وكانت وفاته في 15 رجب من هذه السنة.
وصل رسولٌ إلى شهاب الدين الغوري من عند مُقَدَّم الإسماعيليَّة بخراسان برسالةٍ أنكَرَها، فأمر علاء الدين محمد بن أبي علي متولي بلاد الغور بالمسيرِ في عساكر إليهم ومحاصرةِ بلادهم، فسار في عساكر كثيرةٍ إلى قهستان، وسَمِعَ به صاحب زوزن، فقصده وصار معه وفارق خدمةَ خوارزم شاه، ونزل علاء الدين على مدينة قاين، وهي للإسماعيليَّة، وحَصَرها، وضَيَّق على أهلها، ووصل خَبَرُ قتل شهاب الدين، فصالح أهلَها على ستين ألف دينار ركنية، ورحل عنهم، وقَصَد حصن كاخك فأخذه وقتل المقاتِلة، وسَبى الذريَّة، ورحل إلى هراة ومنها إلى فيروزكوه.
جاء في المعاهدةِ التي وقَّعَها رئيس وزراء مصر وزملاؤه ووزير الدولة بوزارة الخارجية البريطانية، والسفير البريطاني بشأن قاعدة السويس، والغرض منه إقامةُ علاقات مصرية إنجليزية على أساسٍ جديدٍ مِن التعاون، وإنهاء معاهدة 1936، وجلاء القوات البريطانية جلاءً تامًّا عن الأراضي المصرية في مدة أقصاها عشرون شهرًا من تاريخ الاتفاقية، على أنه يحِقُّ للقوات البريطانية العودةُ في حالة الاعتداء على مصر، ويبقى بالتالي خبراءُ بريطانيون في القاعدة لا يتجاوز عددهم الألف خبير، وبناءً على هذه الاتفاقية بدأت القواتُ البريطانية بالجلاء عن القناة في 5 ذي القعدة 1375هـ / 13 حزيران 1956م.
بالتَّعاوُنِ مع مليشياتِ الحيِّ النُّصَيريِّ في بعل محسن في طرابلس، أقدمتِ القُوَّاتُ السُّوريَّةُ على حِصارِ ودكِّ مدينةِ طرابلس عاصمةِ أهل السُّنَّة في شمال لبنان. وكانت قد ارتكبتْ مَجزرةً في مُخيَّماتِ بيروت قبل ذلك بأُسبوعٍ، وعلى مَدارِ 20 يومًا ذكرتْ وِكالاتُ الأنباءِ: أنَّ أكثَرَ من مِليونِ صاروخٍ وقذيفةٍ دمَّرت أكثَرَ من نِصف مباني المدينةِ وجعلتْها معزولةً عن العالَمِ، وساهمتِ القُوَّاتُ اللُّبنانية الكتائبيَّةُ النَّصْرانيَّةُ في الحِصارِ، ومَنعِ الوَقودِ والدَّقيقِ عن طرابلس، وقد قُتِل في هذه المجزرةِ عِدَّةُ آلافٍ، وفرَّ من المدينة أكثرُ من 300 ألف نسمةٍ، وحُلَّت الأحزابُ الإسلامية، وتمَّ توقيعُ الاتفاقِ على نَزعِ سِلاحِها بواسطةِ إيرانَ.
أصبحت القوةُ العسكريةُ الأمريكيةُ-الأوروبيةُ هي التي تُباشرُ مهامَّ العملِ العسكري لأفغانستانَ، وأطلقوا عليها اسمَ "قوة المساعدة الأمنية الدولية (ISAF)"، وتتكوَّنُ قوة الإيساف من 32 ألفَ جنديٍّ، ينتمون إلى 37 بلدًا، ثم تسلَّمَ حلف الناتو قيادة قوة المساعدة، وأصبحت هذه القوةُ مسؤولةً بالكامل عن الأمن في جنوب أفغانستانَ، ثم أُضيفت منطقة شرق أفغانستانَ إلى مسؤوليات قواتِ الناتو.
وأصدرَ مجلسُ الأمن الدولي العديد من القراراتِ الدوليةِ على نحوٍ أدَّى إلى توسيع صلاحيَّات قوات الإيساف وهياكلها، بما يُساعدُ على تملُّص القوات الأمريكية تدريجيًّا عن المسؤولية، وذلك حتى أصبحت كلُّها تقريبًا في يد حلف الناتو.
كان دخولُ الرُّومِ إلى حَلَب بصحبة الدُّمُسْتُق مَلِك الروم، في مائتي ألفِ مقاتل، وكان سببُ ذلك أنَّه ورَدَ إليها بغتةً فنهَضَ إليه سيفُ الدولة بن حمدان بمن حضَرَ عنده من المقاتِلة، ولم يتمَكَّنوا من مقاوَمتِه لكثرةِ جُنودِه، وقَتَلَ مِن أصحاب سيف الدولة خلقًا كثيرًا، وكان سيفُ الدولة قليلَ الصبرِ ففَرَّ منهزمًا في نفرٍ يسيرٍ مِن أصحابه، فأوَّل ما استفتح به الدُّمُسْتُق- قبَّحه الله- أن استحوذ على دار سيفِ الدولة، وأخذ ما فيها من النِّساءِ والولدان وغيرِهم، ثمَّ حاصَرَ سُورَ حَلَب فقاتل أهلُ البلد دونه قتالًا عظيمًا، وقَتَلوا خلقًا كثيرًا من الروم، وثَلَمت الرومُ بسور حلب ثُلمةً عظيمة، فوقف فيها الرومُ فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها، فلمَّا جَنَّ الليلُ جَدَّ المسلمون في إعادتِها، فما أصبح الصباحُ إلا وهي كما كانت، وحَفِظوا السورَ حِفظًا عظيما، ثم بلغ المسلمونَ أنَّ الشُّرَط والبلاحية قد عاثُوا في داخل البلد ينهَبونَ البُيوتَ، فرجع الناسُ إلى منازلهم يمنعونها منهم قبَّحهم الله؛ فإنَّهم أهلُ شَرٍّ وفساد، فلما فعلوا ذلك غَلَبت الرومُ على السور فعَلَوه ودخلوا البلد يقتلونَ مَن لَقُوه، فقتلوا من المسلمينَ خلقًا كثيرًا وانتهبوا الأموالَ وأخذوا الأولاد والنساء، وخَلَّصوا من كان بأيدي المُسلمين من أسارى الروم، وكانوا ألفًا وأربعمائة، فأخذ الأُسارى السيوفَ وقاتَلوا المسلمين، وكانوا أضَرَّ على المسلمينَ مِن قَومِهم، وخَرَّبوا المساجِدَ وأحرقوها، وكلُّ شيءٍ لا يَقدِرونَ على حَملِه أحرقوه، وأسَرُوا نحوًا مِن بضعة عشر ألفًا ما بين صبيٍّ وصبيَّةٍ، ومن النساء شيئًا كثيرا، ومن الرجال الشَّباب ألفينِ، وأقاموا في البلد تسعةَ أيام يفعلون فيها الأفاعيلَ الفاسدةَ العظيمة، كلُّ ذلك بسببِ فِعلِ البلاحية والشُّرطِ في البلد- قاتَلَهم الله. ثم عزم الدُّمُسْتُق على الرحيلِ عنهم؛ خوفًا من سيف الدولة، ثمَّ إن الدُّمُسْتُق أمر بإحضارِ مَن في يديه من أُسارى المسلمين الرِّجال، وكانوا قريبًا من ألفينِ فضُرِبَت أعناقُهم بين يديه- لعنه الله- ثم كَرَّ راجِعًا.
قدم البريدُ بوصول طائفةِ الأويراتية من التتار ومُقَدَّمُهم طرغاي زوجُ بنت هولاكو، وإنَّهم نحو الثمانية عشر ألف بيت، وقد فَرُّوا من غازان ملك التتار وعبَروا الفراتَ يريدون الشام، فكتب إلى نائب الشام أن يبعَثَ إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري إلى الرَّحبةِ لِيلقاهم، فخرجَ من دمشق، ثم توجَّه بعده الأميرُ سنقر الأعسر شاد الدواوين بدمشق، ووصلت أعيانُ الأويراتيَّة صُحبة سنقر الأعسر في الثالث عشر من صفر، وكانت عِدَّتُهم مائة وثلاثة عشَرَ رجُلًا، ومقَدَّمُهم طرغاي، ومن أكابِرِهم الوص وككباي، فتلقاهم النائبُ والأمراء واحتفل لقدومِهم احتفالًا زائدًا، ثم سار بهم الأميرُ قراسنقر إلى القاهرةِ يوم الاثنين سابعَ ربيع الآخر، فلما وصلوا بالغَ السلطان في إكرامِهم والإحسانِ إليهم، وأمر عدَّةً منهم، وبقُوا على كفرهم، ودخل شهرُ رمضان فلم يَصُمْ منهم أحد، وصاروا يأكلونَ الخيلَ مِن غيرِ ذَبحِها، بل يربط الفَرَسُ ويُضرَبُ على وجهِه حتى يموتَ فيُؤكَلَ، فأنِفَ الأمراء من جلوسِهم معهم بباب القلَّة في الخدمة، وعَظُم على الناس إكرامُهم، وتزايد بعضُهم في السلطان، وانطلقت الألسنةُ بذَمِّه حتى أوجب ذلك خلعَ السلطان العادل كتبغا فيما بعدُ، وأما بقيَّةُ الأويراتية فإنه كتب إلى سنجر الدواداري أن ينزِلَهم ببلاد الساحل، فمَرَّ بهم على مرج دمشق، وأخرجت الأسواقُ إليهم فنُصِبَت بالمرج وبمنزلة الصنمين وفي الكسوة، ولم يمكِنْ أحدًا من الأويرايتة أن يدخُلَ مدينة دمشق، وأُنزلوا من أراضي عثليث ممتَدِّين في بلاد الساحل، وأقام الأميرُ سنجر عندهم إلى أن حضر السلطانُ كتبغا إلى الشام، وقد هلك منهم عالم كبير، وأخذ الأمراء أولادهم الشباب للخدمة، وكثرت الرغبةُ فيهم لجمالِهم، وتزوَّج الناسُ ببناتهم، وتنافسَ الأمراءُ والأجناد وغيرهم في صبيانِهم وبناتهم، ثم انغمس من بَقِيَ منهم في العساكِرِ، فتفَرَّقوا في الممالك، ودخلوا في الإسلامِ واختلطوا بأهل البلاد، ويُذكَرُ أن أصل السلطان كتبغا هو من التتار كان مملوكًا مغوليًّا ثم علا شأنُه حتى تمَلَّك مِصرَ؛ فلذلك قَدِمَت الأسَرُ المغوليَّةُ إليه.