تُوفِّي الدبلوماسيُّ المصرِيُّ الدُّكتور أسامة الباز المستشارُ السياسِيُّ للرئيسِ الأسبقِ محمد حسني مبارك رئيسِ مصرَ عن عمر تجاوز (82) عامًا. وأُطلق على "الباز" لقبُ "خِزانة أسرار السُّلطة" و"عميد الدبلوماسية المصرية"، بسببِ قُربِه من صُناَّع القرارِ في مصرَ لمدَّةٍ طويلة. وقد وُلِد أسامة بإحدى قرى محافظة الدَّقهلِيَّة، وحَصَل على ليسانس الحُقوق عامَ (1954م)، ودكتوراه في القانون العامِّ من الولايات المتحدة عام (1962م)، وهو شقيقُ عالم الجيولوجيا في وَكالةِ الفضاءِ الأمريكية (ناسا) الدكتور فاروق الباز. بدأ البازُ حياتَه العمليةَ بالعملِ وكيلًا للنِّيابة، ثم عُيِّن بوِزارة الخارِجِيَّة سكرتيرًا ثانيًا عامَ (1958م)، ووكيلًا للمعهدِ الدبلوماسي ثم مُستشارًا سياسيًّا لوزيرِ الخارجيَّةِ، ويُعَدُّ أصغرَ مَن حَصَل على درجةِ سفير عامَ (1975م). وكان أحدَ مستشارِي مركزِ الدِّراسات الإسرائيلية والفِلَسطينية بمؤسَّسة الأهرام، ومديرًا لمكتبِ الأمينِ الأوَّل للَّجنة المركزيَّة للشُّؤون الخارجية، ثم مقرِّرًا لِلَجنة الشُّؤون الخارجيَّة المُنبثِقَة من اللجنة المركزية للاتِّحاد الاشتراكيِّ، ومُديرًا للمعهدِ الدبلوماسي، ومديرًا لمكتب نائبِ رئيسِ الجمهورية، ثم مديرًا لمكتبِ رئيسِ الجمهورية للشُّؤون السياسيَّةِ ووكيلَ أولِ وزارَةِ الخارجيَّة. وشارك في مُفاوضات "كامب ديفيد" وصياغَةِ مُعاهدةِ السلام عامَ (1979م)، وهو مؤلِّف كتاب "مصر والقرن الحادي والعشرين"، وتولَّى المِلَفَّ الفلسطينيِّ - الإسرائيليِّ لفترةٍ طويلةٍ. وقد أُقيمَت صلاةُ الجنازة عليه بمسجدِ السيِّدة نفيسة بالقاهرة.
هو الأمير عبد الله بن علي بن رشيد، من الجعافرة (آل جعفر) من الربيعية، من عبدة، من شمر: أول حكام آل رشيدٍ في جبل شمر، ومؤسِّسُ حُكمِهم فيها. ولِدَ بحائل سنة 1202ه. كان جدُّه رشيد من سكان حائل ومات في أواخر القرن الثاني عشر للهجرة, وعُرِفَ أبناءُ رشيد وأحفاده بآل رشيد. وكانت لهم في شماليَّ جزيرة العرب إمارةٌ واسعة ظهر فيها أمراءُ وفرسان عُرِفوا في تاريخ نجد الحديث. خلَّف رشيد عليًّا. وعلي خلَّفَ عبد الله وعبيدًا، حاول عبد الله بن علي بن رشيد -وهو من أغنياء أسرة جعفر العريقة وأعيانها- سنة 1235ه أن يستوليَ على العرش في حائل وينتزِعَه من آل علي بمعاونة أقاربِه الكثيرين ذَوِي النفوذ، فنَشبت الحرب بينهم وبين آل علي ودارت الدائرةُ على عبد الله فنُفِيَ، ولكِنَّ عبد الله عاد بعد عشر سنوات إلى جبل شمر فعَيَّنَه فيصل بن تركي أميرًا على جبل شمر؛ اعترافًا بفضله في استرداد حكم الرياض، ومساعدته له في قتل مشاري بن عبد الرحمن الذي تآمرَ على قتل والدِه تركي بن عبد الله، وقتل عبدَ مشاري حمزة بن إبراهيم الذي باشر قتل تركي بن عبد الله، وبعد أن تمكَّنَ عبد الله بن رشيد في حائل طردَ بيت آل علي من جبل شمر, ثم بنى عبد الله القصر الكبير، وقد توثَّقَت العلاقةُ بين فيصل بن تركي وبين ابن رشيد بالمصاهرة بين الأسرتين، فقد تزوَّج عبد الله بن فيصل بن تركي من نورة آل عبد اللهِ الرشيد، ثم من ابنة عمها طريفة بنت عبيد ابن رشيد، ولما توفي عنها، تزوَّجها شقيقه محمد بن فيصل بن تركي, وكذلك تزوَّج عبد الله ابن رشيد بالجوهرة أخت فيصل بن تركي، وتزوَّج ابنه طلال من الجوهرة بنت فيصل. توفي عبد الله بن رشيد في حائل بعد عودته من غزوة غزا فيها عنزة، وخلَفَه في حكم الجبل ابنُه طلال, وكان ابن رشيد خلَّفَ من الأبناء متعبًا الأول-وتوفي صغيرًا- ومحمدًا، وطلالًا، ومتعبًا.
هو الخليفةُ العثماني عبد المجيد الأول بن محمود الثاني بن عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني. كان السلطانُ عبد المجيد الأول ضعيفَ البنية شديدَ الذكاء، واقعيًّا ورحيمًا، وهو من أجلِّ سلاطين آل عثمان قدْرًا، تولَّى الحُكمَ بعد وفاة والِدِه السلطان محمود الثاني سنة 1839م، وكان عمرُه دون الثامنة عشرة، فكان صِغَرُ سِنِّه هذا فرصةً لبعض الوزراء التغريبيين لإكمال ما بدأه والدُه الراحل من إصلاحاتٍ على الطريقة الأوروبية، والتمادي في استحداثِ الوسائل الغربية، ومن هؤلاء الوزراء الذين ظهروا في ثيابِ المصلحين ومُسُوح الصادقين (مصطفى رشيد باشا) الذي كان سفيرًا للدولة في (لندن) و (باريس). أحب السلطان عبد المجيد الإصلاحَ فأدخل التنظيماتِ الحديثة، ورَغِب في تطبيقها في الحال، كما أدخل إصلاحاتٍ جمَّةً في الجيوش العثمانية. وترقَّت في أيامه العلومُ والمعارف، واتَّسَعت دائرةُ التجارة، وشُيِّدت الكثيرُ من المباني الفاخرة، ومُدَّت في عهده أسلاكُ الهاتف وقضبان السكك الحديدية, ويعتبر السلطانُ عبد المجيد أوَّلَ سلطان عثماني يُضفي على حركة تغريب الدولة العثمانية صِفةَ الرسمية؛ إذ إنَه أمر بتبني الدولة لهذه الحركةِ، وأمر بإصدار فرمانَي التنظيمات عامي 1854م، 1856م، وبهما بدأ في الدولة العثمانية ما سُمِّيَ بعهد التنظيمات، وهو اصطلاح يعني تنظيم شؤون الدولة وَفْقَ المنهج الغربي، وبهذين الفرمانينِ تم استبعادُ العمل بالشريعةِ الإسلامية، وبدأت الدولةُ في التقنين وإقامة المؤسسات، فكان السلطان عبد المجيد خاضِعًا لتأثير وزيره "رشيد باشا" الذي وجَدَ في الغرب مَثَله وفي الماسونية فلسفَتَه، ورشيد باشا هو الذي أعدَّ الجيلَ التالي له من الوزراءِ ورجال الدولة مثل مدحت باشا. توفِّيَ السلطان عبد المجيد في السابع عشر من ذي الحجة من هذا العام بعد أن دام في الحُكم اثنين وعشرين سنة ونصفًا تقريبًا، وتولى بعده أخوه عبد العزيز خلفًا له.
وُلِد شمعون بيريز في بولندا، وهاجَرَت عائلتُه إلى فِلَسطينَ في عامِ 1934م (أيامَ الانتدابِ البريطانيِّ)، واستقَرَّت في مدينةِ تل أبيب التي أصبَحَت في تلك الأيامِ مَركزًا للمجتمَعِ اليهوديِّ. تعلَّمَ في مدرسةِ "غيئولا" في تلِّ أبيب، ثم واصلَ دراستَه في المدرسةِ الزراعيَّة "بن شيمن" قُربَ مدينةِ اللدِّ. وفي 1947م انضمَّ إلى قيادةِ الهجاناه، وكان مَسؤولًا عن شراءِ العَتادِ والموارِدِ البشريَّة. وفي ذلك الحينِ عَمِلَ مع دافيد بن غوريون وليفي أشكول، وعمِلَ دبلوماسيًّا في وزارةِ الدِّفاعِ الإسرائيليَّةِ، وكانت مُهمَّتُه جَمعَ السِّلاحِ اللازمِ لدولةِ إسرائيلَ الحديثةِ. وفي 1949م عُيِّن بيريز رئيسًا لبَعثةِ وزارةِ الدَّفاعِ الإسرائيليَّةِ إلى الولاياتِ المتَّحدة. وفي 1952م عُيِّنَ نائبًا للمديرِ العامِّ لوَزارةِ الدفاعِ الإسرائيليَّة، ثم أصبحَ المديرَ العامَّ في 1953م. ونجَحَ في بناءِ المُفاعلِ النوويِّ الإسرائيليِّ (مفاعلِ ديمونةَ) من الحُكومةِ الفرنسيَّة، كذلك نظَّمَ التعاونَ العسكريَّ مع فرنسا الذي أدَّى إلى الهجومِ على مصرَ في أكتوبر 1956 ضِمنَ العُدوانِ الثُّلاثيِّ. وترَكَ بيريز حزبَ ماباي عام 1965 ليؤسِّسَ مع ديفد بن غوريون حزبَ رافي، ثم عاد للعمَلِ على توحيدِ الحِزبينِ عامَ 1968 تحت اسمِ حِزبِ العمَلِ الإسرائيليِّ، وأصبحَ زعيمًا له عامَ 1977. وتولَّى منصبَ رئيسِ الوزراءِ بالتناوبِ مع إسحاق رابين، ثم صار نائبًا لرئيسِ الوُزراءِ ووزيرًا للخارجيَّةِ في المدَّةِ ما بين 1986 و1988، وشغَلَ بعدها منصِبَ وزير الماليَّةِ، ثم عُيِّنَ عامَ 1992 وزيرًا للخارجيَّةِ. فشرَعَ في مفاوضاتٍ تمخَّضَت عن توقيعِ اتفاقيَّةِ أوسلو مع منظمَّةِ التحريرِ الفلسطينيَّةِ في سبتمبر 1993، تقاسَم بعدها جائزةَ نوبل للسَّلامِ مع رابين وياسر عرفات. وفي أكتوبرَ 1994 وقَّع معاهدةَ السلامِ مع الأَردُنِّ. وبعد اغتيالِ رابين، تولَّى رئاسةَ الوزراءِ في 1995، وأمرَ بعُدوانٍ عسكريٍّ شاملٍ ضدَّ لُبنانَ في 1996 سُمِّي بعناقيدِ الغضَبِ في محاولةٍ للقَضاءِ على المقاومةِ، قصَفَ فيه مدُنَ لُبنانَ بما فيها العاصمةُ بيروتُ، وفي عامِ 2007 انتُخِب رئيسًا لإسرائيلَ حتى 2014. وفي 13 سبتمبر 2016 نُقِلَ إلى مستشفى تلِّ هاشومير، قُربَ تلِّ أبيب، بعد تَعرُّضِه لجَلطةٍ في الدِّماغِ. وتوفِّيَ عن عمرٍ ناهزَ 93 عامًا.
تعاظم أمرُ النَّصارى بمصر, فتباهَوا بالملابِسِ الفاخرة، وبَنَوا الأملاكَ الجليلة في مصرَ والقاهرة، واقتَنَوا الجواريَ الجميلةَ مِن الأتراك والمولَّدات، واستولَوا على دواوينِ السلطان والأمراء، وزادوا في الحُمقِ والرَّقاعة، وتعَدَّوا طَورَهم في الترفُّع والتعاظم، وأكثروا من أذى المسلمينَ وإهانتهم، وتحرَّكت الناسُ في أمر النصارى وماجوا، وانتَدَب عِدَّةٌ من أهل الخير لذلك، وصاروا إلى الأمير طاز الشريف أبى العباس الصفراوي، وبلَّغوه ما عليه النصارى مما يوجِبُه نَقضُ عَهدِهم، وانتَدَبوه لنصرة الإسلام والمسلمين، فانتفَضَ الأمير طاز لذلك، وحَدَّثَ الأميرين شيخو وصرغتمش وبقية الأمراء في ذلك بين يدي السلطانِ، فوافقوه جميعًا، وكان لهم يومئذٍ بالإسلامِ وأهلِه عِنايةٌ، ورَتَّبوا قِصَّةً على لسان المسلمين، قُرِئَت بدار العَدلِ على السلطانِ بحَضرةِ الأمراء والقُضاة وعامة أهل الدولة، فرَسَمَ بعَقدِ مَجلِسٍ للنَّظَرِ في هذا الأمر؛ لِيُحمَلَ النصارى واليهود على العهدِ الذي تقَرَّرَ في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وطُلِبَ بطرك النصارى ورئيس اليهود، وحَضَرت قضاة القضاة وعلماء الشريعة، وأمراءُ الدولة، وجيء بالبطرك والرئيس، فوقفا على أرجُلِهما وقرأ العلائيُّ علي بن فضل الله كاتِبُ السر نسخةَ العهد الذي بين المسلمين وبين أهل الذمة، بعد ما أُلزِموا بإحضاره، وهو ألَّا يُحدِثوا في البلاد الإسلامية وأعمالها دِيرًا ولا كنيسةً ولا صومعةً، ولا يجَدِّدوا منها ما خَرِبَ، ولا يَمنَعوا من كنائِسِهم التي عاهدوا عليها أن يَنزِلَ بها أحدٌ مِن المسلمين ثلاثَ ليالٍ يُطعِمونَه، ولا يكتموا غشًّا للمسلمين، ولا يعَلِّموا أولادَهم القرآنَ، ولا يمنعوهم من الإسلامِ إن أرادوا، وإن أسلم أحدُهم لا يردُّوه، ولا يتشَبَّهوا بشيءٍ مِن ملابِسِ المسلمين ويلبَسُ النصرانيُّ منهم العمامةَ الزرقاءَ عَشرَ أذرُعٍ فما دونَها، واليهوديُّ العِمامةَ الصفراء كذلك، ويُمنَع نساؤُهم من التشبُّه بنساء المسلمين، ولا يتسَمَّوا بأسماءِ المُسلِمين، ولا يكتَنُوا بكُناهم، ولا يتلقَّبوا بألقابهم، ولا يركبوا على سَرجٍ، ولا يتقَلَّدوا سيفًا، ولا يركبوا الخيلَ والبِغالَ، ويركبون الحميرَ عَرضًا بالكَفِّ مِن غيرِ تزيينٍ ولا قيمةٍ عظيمة لها، ولا ينقُشوا خواتمهم بالعربيَّة، وأن يَجُزُّوا مقادِمَ رُؤوسهم، والمرأةُ من النصارى تلبَسُ الإزارَ المصبوغ أزرق، والمرأةُ مِن اليهود تلبَسُ الإزار المصبوغ بالأصفر، ولا يدخل أحَدٌ منهم الحمامِ إلَّا بعلامة ممَيِّزة عن المسلم في عُنُقِه، من نحاسٍ أو حديد أو رصاصٍ أو غير ذلك، ولا يستخدموا مُسلِمًا في أعمالهم، وتلبَسُ المرأة السائرةُ خُفَّين أحدهما أسود والآخر أبيض، ولا يجاوروا المسلمينَ بموتاهم، ولا يرفَعوا بناءَ قُبورهم، ولا يعلُوا على المسلمين في بناءٍ، ولا يضربوا بالنَّاقوسِ إلَّا ضربًا خفيفًا، ولا يرفَعوا أصواتَهم في كنائِسِهم، ولا يشتَرُوا من الرقيقِ مُسلمًا ولا مُسلِمةً، ولا ما جَرَت عليه سهامُ المسلمين، ولا يمشُوا وسَطَ الطريق توسِعةً للمُسلمين، ولا يَفتِنوا مُسلِمًا عن دينه، ولا يدُلُّوا على عوراتِ المسلمين، ومن زنى بمُسلمةٍ قُتِل، ومن خالف ذلك فقد حَلَّ منه ما يحِلُّ مِن أهل المعانَدةِ والشِّقاقِ، وكلُّ من مات من اليهود والنصارى والسامرة، ذكرًا كان أو أنثى، يَحتاطُ عليه ديوانُ المواريثِ الحَشريَّة، بالديارِ المصريَّة وأعمالِها وسائِرِ الممالك الإسلامية، إلى أن يُثبِتَ ورَثَتُه ما يستحقُّونه بمقتضى الشرع الشريف، فإذا استحَقَّ يعطونه بمقتضاه، وتُحمَلُ البقيَّةُ لبيت مال المسلمين، ومن مات منهم ولا وارِثَ له يُحمَلُ موجوده لبيتِ المال، ويُجرى على موتاهم الحوطةُ من ديوان المواريث ووكلاء بيت المال مجرى من يموتُ من المسلمين، إلى أن تُبَيَّن مواريثهم، وكان هذا العهدُ قد كتب في رجب سنة 700 في الأيام الناصريَّة محمد بن قلاوون، فلمَّا انتهى العلائي علي بن فضل الله كاتِبُ السرِّ مِن قراءته، تقلد بطركُ النصارى وديان اليهود حُكمَ ذلك، والتَزَما بما فيه، وأجابا بالسَّمع والطاعة، ثم جال الحديثُ في أمر اليهود والنصارى وإعادةِ وقائِعِهم الماضية، وأنهم بعد التزامِهم أحكام العهد يعودونَ إلى ما نُهُوا عنه، فاستقَرَّ الحال على أنهم يُمنَعونَ مِن الخِدَم في جميع الأعمال، ولا يُستخدَمُ نصراني ولا يهودي في ديوانِ السلطان، ولا في شيءٍ مِن دواوين الأمراء، ولو تلفَّظ بالإسلامِ، على أنَّ أحدًا منهم لا يُكرَهُ على الإسلام، فإن أسلم برِضاه، لا يدخُلُ مَنزِلَه، ولا يجتَمِعُ بأهله إلَّا إن اتَّبَعوه في الإسلام، ويُلزَمُ أحدُهم إذا أسلم بملازمة المساجد والجوامع، وكُتِبَ بذلك كُلِّه مراسيم سلطانية سار بها البريدُ إلى البلاد الإسلامية، فكان تاريخُها ثاني عشر جمادى الآخرة، وقُرئ منها مرسومٌ بمجلس السلطان في يوم الخميس خامس عشر، وركب من الغد يوم الجمعة سادس عشر الأميرُ سيف الدين قشتمر الحاجب، ومعه الشريف شهاب الدين المنشئ بالمراسيم السلطانيَّة إلى البلاد الإسلامية، وقُرئ مرسومٌ بجامع عمرو بن العاص من مدينة مصر، وآخَرُ بجامع الأزهر من القاهرة، فكان يومًا عظيمًا هاجت فيه حفائِظُ المسلمين، وتحَرَّكت سواكِنُهم؛ لِما في صدورهم من الحَنَق على النصارى، ونهضوا من ذلك المجلس بعد صلاة الجمعة، وثاروا باليهودِ والنصارى، وأمسكوهم من الطرقات، وتتَبَّعوهم في المواضِعِ وتناولوهم بالضرب، ومَزَّقوا ما عليهم من الثياب، وأكرهوهم على الإسلام، فيَضطرُّهم كثرةُ الضرب والإهانة إلى التلفظ بالشهادتينِ خوفَ الهلاك، فإنَّهم زادوا في الأمر حتى أضرموا النيران، وحملوا اليهود والنصارى، وألقَوهم فيها، فاختَفَوا في بيوتهم، حتى لم يوجَدْ منهم أحد في طريق ولا ممر، وشربوا مياه الآبار لامتناعِ السقَّائين مِن حَمل ِالماء من النيل إليهم، فلما شنع الأمر نُودِيَ في القاهرة ومصر ألا يُعارَضَ أحدٌ مِن النصارى أو اليهود، فلم يرجِعوا عنهم، وحَلَّ بهم من ذلك بلاءٌ شديد، كان أعظَمَه نكايةً لهم أنَّهم منعوا مِن الخِدَم بعد إسلامِهم، فإنهم كانوا فيما مضى من وقائِعِهم إذا مُنِعوا من ذلك كادوا المُسلمين بإظهارِ الإسلام، ثمَّ بالغوا في إيصال الأذى لهم بكلِّ طريق، بحيث لم يبقَ مانع يمنَعُهم لأنه صار الواحِدُ منهم فيما يظهَرُ مُسلِمًا ويَدُه مبسوطةٌ في الأعمال، وأمْرُه نافذٌ، وقولُه مُمتَثَل، فبطل ما كانوا يعملونَ، وتعطَّلوا عن الخِدَم في الديوان، وامتنع اليهودُ والنصارى من تعاطي صناعة الطب، وبذل الأقباط جُهدَهم في إبطال ذلك، فلم يجابُوا إليه، ثمَّ لم يكْفِ الناس من النصارى ما مَرَّ بهم حتى تسَلَّطوا على كنائسهم ومساكِنِهم الجليلة التي رفعوها على أبنيةِ المسلمين، فهدموها، فازداد النصارى واليهودُ خوفًا على خوفهم، وبالغوا في الاختفاءِ، حتى لم يظهَرْ منهم أحدٌ في سوق ولا في غيره، ثم وقعت قِصَصٌ على لسان المسلمين بدار العدل تتضَمَّنُ أنَّ النصارى استَجَدُّوا في كنائِسِهم عُمالًا، ووسعوا بناءها، وتجَمَّع من الناس عدد لا ينحصر، واستغاثوا بالسلطانِ في نصرة الإسلام، وذلك في يوم الاثنين رابع عشر رجب، فرسم لهم أن يَهدِموا الكنائِسَ المُستَجَدَّة، فنزلوا يدًا واحِدةً وهم يضِجُّون، وركب الأميرُ علاء الدين علي بن الكوراني والي القاهرة ليكشِفَ عن صحة ما ذكروه، فلم يتمَهَّلوا بل هجموا على كنيسةٍ بجوار قناطر السباع، وكنيسة للأسرى في طريق مصر، ونهبوهما وأخذوا ما فيهما من الأخشاب والرخام وغير ذلك، ووقع النهبُ في دير بناحية بولاق الدكرور، وهَجَموا على كنائس مصر والقاهرة، وأخربوا كنيسةً بحارة الفهادين من الجوانية بالقاهرة، وتجمعوا لتخريب كنيسة بالبندقانيين من القاهرة، فركب والي القاهرة وما زال حتى ردَّهم عنها، وتمادى هذا الحالُ حتى عجَزَت الحكَّامُ عن كفهم، وكثُرَت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بدخولِ النصارى في الإسلامِ، ومُواظبتِهم المساجِدَ، وحِفظِهم للقرآن، حتى إنَّ منهم من ثبتت عدالتُه وجلس مع الشهودِ، فإنه لم يبقَ في جميع أعمال مصر كُلِّها قِبليِّها وبحريِّها كنيسةٌ حتى هُدِمت، وبُني مواضِعَ كثيرٍ منها مساجد، فلما عَظُم البلاء على النصارى، وقَلَّت أرزاقهم، رأوا أن يدخلوا في الإسلام، ففشا الإسلامُ في عامَّة نصارى أرض مصر، حتى إنه أسلم من مدينة قليوب خاصة في يوم واحد أربعمائة وخمسون نفرًا! وممَّن أسلم في هذه الحادثة الشمس المقسي، جدُّ بني المقسي الذي منهم التاج ناظر الخواصِّ، والهيصم جدُّ بني الهيصم الوزراء, وحمَلَ كثيرٌ من الناس فِعْلَهم هذا على أنه من جملةِ مَكْرِهم؛ لكثرةِ ما شنَّعَ العامة في أمرهم، فكانت هذه الواقعةُ أيضًا من حوادث مصر العظيمة، ومن حينئذ اختلطت الأنسابُ بأرض مصر، فنكح هؤلاء الذين أظهروا الإسلامَ بالأرياف المُسلِماتِ، واستولدوهنَّ، ثمَّ قَدِمَ أولادُهم إلى القاهرة، وصار منهم قضاةٌ وشهود وعلماء، ومَن عَرَف سيرتَهم في أنفُسِهم، وفيما وَلُوه من أمور المسلمين، تفطَّنَ لِما لا يمكِنُ التصريحُ به.
كان سببُ ذلك أنَّ بني سُليم كانت تُفسِدُ حولَ المدينة بالشَّرِّ، ويأخذون ما أرادوا من الأسواقِ بالحجازِ بأيِّ سِعرٍ أرادوا، وزاد الأمرُ بهم إلى أن وقَعُوا بناسٍ مِن بني كِنانة وباهلة، فأصابُوهم، وقتلوا بعضَهم، فوَجَّهَ محمَّدُ بن صالح- عامِلُ المدينةِ- إليهم حمَّادَ بنَ جريرٍ الطبري، وكان مَسلَحةً لأهل المدينة، في مائتي فارسٍ، وأضاف إليهم جندًا غيرَهم، وتَبِعَهم متطوِّعة، فسار إليهم حمَّاد، فلَقِيَهم بالرويثة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزمت سودانُ المدينةِ بالنَّاسِ، وثَبَت حمَّادٌ وأصحابُه، وقُرَيشٌ والأنصارُ، وقاتلوا قتالًا عظيمًا، فقُتِل حمَّادٌ وعامةُ أصحابِه وعَدَدٌ صالحٌ مِن قريشٍ والأنصار، وأخذ بنو سُلَيم الكُراعَ والسِّلاحَ، والثياب، فطَمِعوا ونهبوا القُرى والمناهِلَ ما بين مكَّة والمدينة، وانقطع الطريقُ. فوَجَّه إليهم الواثِقُ بغا الكبيرَ أبا موسى في جمعٍ من الجند، فقَدِمَ المدينةَ في شعبان، فلَقِيَهم ببعض مياه الحرَّة من رواء السورقية قريتِهم التي يأوُون إليها وبها حُصون، فقتل بغا منهم نحوًا من خمسين رجلًا وأسر مِثلَهم، وانهزم الباقون، وأقام بغا بالسَّورقية، ودعاهم إلى الأمانِ على حُكم الواثق، فأتوه متفَرِّقين فجَمَعَهم، وترك من يُعرَفُ بالفسادِ، وهم زُهاءَ ألفِ رجل، وخلَّى سبيل الباقين، وعاد بالأَسْرى إلى المدينة، فحبَسَهم ثم سار إلى مكَّة. فلما قضى حَجَّه سار إلى ذاتِ عِرقٍ بعد انقضاء الموسِمِ، وعرض على بني هلالٍ مِثلَ الذي عرضَ على بني سُليم، فأقبلوا وأخذ من المفسدينَ نحوًا من ثلاثمائةِ رَجُلٍ، وأطلق الباقين، ورجع إلى المدينةِ فحَبَسَهم.
اجتمع ابنُ وثَّاب النميري صاحِبُ حران وقريبُه ابن عطير النميري، وأمدَّهما نصر الدَّولة بنُ مروان بعسكرٍ كثيف، فساروا جميعُهم إلى السُّويداء جنوب دمشق، وكان الرومُ قد أحدثوا عمارتَها في ذلك الوقت، واجتمع إليها أهلُ القرى المجاورةِ لها، فحصرها المسلمون وفتحوها عَنوةً، وقتلوا فيها ثلاثةَ آلاف وخمسَمِئَة من الرومِ، وغَنِموا ما فيها، وسَبَوا خلقًا كثيرًا، وقَصَدوا الرَّها فحصروها، وقطعوا الميرةَ عنها، حتى بلغ مكوكُ الحنطة دينارًا، واشتَدَّ الأمر، فخرج البطريقُ الذي فيها متخفِّيًا، ولحق بمَلِك الرومِ، وعَرَّفه الحالَ، فسَيَّرَ معه خمسةَ آلاف فارس، فعاد بهم، فعَرَف ابن وثاب ومُقَدَّم عساكر نصر الدَّولة الحالَ، فكَمَنا لهم، فلمَّا قاربوهم خرج الكمينُ عليهم، فقُتِلَ من الروم خلقٌ كثير، وأُسِرَ مِثلُهم، وأُسِرَ البطريقُ وحُمِلَ إلى باب الرَّها، وقالوا لِمَن فيها إمَّا أن تفتحوا البلدَ لنا، وإمَّا قتَلْنا البطريقَ والأسرى الذين معه. ففتحوا البلدَ للعجزِ عن حفظه، وتحصَّن أجنادُ الروم بالقلعةِ، ودخل المسلمون الرَّها، وغَنِموا ما فيها، وامتلأت أيديهم من الغنائمِ والسَّبيِ، وأكثروا القتلَ، وأرسل ابنُ وثاب إلى آمد مِئَة وستين راحلةً عليها رؤوسُ القتلى وأقام مُحاصِرًا للقلعة، ثمَّ إنَّ حسَّان بن الجرَّاح الطائي سار في خمسةِ آلاف فارس من العرَبِ والروم نجدةً لِمَن بالرَّها، فسَمِعَ ابن وثاب بقربه، فسار إليه مجِدًّا ليلقاه قبل وصوله، فخرج من الرَّها الروم إلى حران، فقاتَلَهم أهلها، وسَمِعَ ابن وثاب الخبر فعاد مسرعًا، فوقع على الرومِ، فقتل منهم كثيرًا، وعاد المنهزِمونَ إلى الرَّها.
سَمِعَ ألب أرسلان أن شهابَ الدَّولةِ قُتلمش السلجوقي، قد عَصَى عليه، وجَمعَ جُموعًا كَثيرةً، وقَصدَ الرَّيَّ ليَستَولي عليها، فجَهَّزَ ألب أرسلان جَيشًا عَظيمًا وسَيَّرَهُم على المَفازَةِ إلى الرَّيِّ، فسَبَقوا قُتلمش إليها، وسار ألب أرسلان من نيسابور أَوَّلَ المُحرَّم من هذه السَّنَةِ، فلمَّا وَصلَ إلى دامغان أَرسَل إلى قُتلمش يُنكِر عليه فِعلَه، ويَنهاهُ عن ارتكابِ هذا الحالِ، ويَأمرُه بِتَركِها، فإنَّه يَرعَى له القَرابةَ والرَّحِمَ، فأجابَ قُتلمش جوابَ مُغْتَرٍّ بمَن معه مِن الجُموعِ، ونَهَبَ قُرَى الرَّيِّ، وأَجرَى الماءَ على وادي المِلْحِ، وهي سَبِخَةٌ، فتَعَذَّرَ سُلوكُها، وقَرُبَ السُّلطانُ من قُتلمش، فلَبِسَ المَلِكُ السِّلاحَ، وعَبَّأَ الكتائِبَ، واصطَفَّ العَسكرانِ فقَصدَ قُتلمش المحاجزة، وجَعلَ السَّبِخَة بينه وبين ألب أرسلان لِيَمتَنِعَ من اللِّقاءِ, فسَلكَ ألب أرسلان طَريقًا في الماءِ، وخاضَ غَمْرَتَهُ، وتَبِعَهُ العَسكرُ، فطَلَعَ منه سالِمًا هو وعَسكرُه، فصاروا مع قُتلمش واقتَتَلوا، فلم يَثبُت عَسكرُ قُتلمش لِعَسكرِ السُّلطانِ، وانهَزَموا لِساعَتِهم، ومَضَى مُنهَزِمًا إلى قَلعةِ كردكوه، وهي مِن جُملةِ حُصونِه ومَعاقِلِه، وكَثُرَ القَتلُ والأَسْرُ في عَسكرِه، وأراد السُّلطانُ قَتلَ الأَسْرَى، فشَفَعَ فيهم نِظامُ المُلْكِ فعَفَا عنهم وأَطلقَهم، ولمَّا سَكَنَ الغُبارُ، ونَزلَ العَسكرُ، وُجِدَ قُتلمش مَيِّتًا مُلقًى على الأرضِ لا يُدرَى كيف كان مَوتُه، قيلَ: إنَّه مات من الخَوفِ، والله أَعلمُ، فبَكَى السُّلطانُ لِمَوتِه، وقَعَدَ لِعَزائِه، وعَظُمَ عليه فَقْدُهُ، فسَلَّاهُ نِظامُ المُلْكِ، ودَخلَ ألب أرسلان إلى مدينة الرَّيِّ آخرَ المُحرَّم من السَّنَةِ.
هو المَلِكُ أبو سَعيدٍ تاجُ الدَّولةِ تتش بنُ محمد ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن سلجوق بن دقاق السلجوقي، وَلَدُ سُلطانٍ وأَخو سُلطانٍ. صاحِبُ البِلادِ الشرقيَّةِ. وُلِدَ في رمضان سَنةَ 458هـ. تُركِيٌّ مُحتَشِمٌ، شُجاعٌ، مَهِيبٌ جَبَّارٌ، ذا سَطْوَةٍ، مِن بَيتِ مُلْكٍ، وله فُتوحاتٌ ومصافاتٌ، وتَمَلَّكَ عِدَّةَ مَدائنَ، وخُطِبَ له ببغداد، وصار مِن كِبارِ مُلوكِ الزَّمانِ وتقدم. مَرَّ كَثيرٌ مِن سِيرَتِه وفُتوحاتِه العَظيمةِ في الحَوادثِ. تَمَلَّكَ بِضعَ عَشرةَ سَنةً. وكان يُغالِي في حُبِّ شَيخِ الإسلامِ أبي الفَرجِ الحَنبليِّ، ويَحضرُ مَجلِسَه، فعَقَدَ له ولِخُصومِه في مَسألَةِ القُرآنِ مَجلِسًا، قَدِمَ لبِلادِ الشامِ لمَّا حاصَرَ أَميرُ الجُيوشِ بَدرٌ الجماليُّ مَدينةَ دِمشقَ مِن جِهَةِ صاحبِ مصر العُبيديِّ, وكان صاحِبُ دِمشقَ يَومئذٍ أتسز بن أوق بن الخوارزميَّ التركيَّ, فاستَنجَدَ بتتش فأَنجَدَه وسار إليه بنَفسِه، فلمَّا وَصلَ إلى دِمشقَ خَرجَ إليه أتسز، فقَبَضَ عليه تتش وقَتلَه واستَولَى على مَملَكَتِه وذلك في سَنةِ 471هـ، ثم مَلَكَ حَلَب بعدَ ذلك في سَنةِ 478هـ، ثم استَولَى على مُعظَمِ البلادِ الشاميَّةِ، وجَرَت له أُمورٌ وحُروبٌ مع المِصريِّينَ، ثم جَرَى بينه وبين ابنِ أَخيهِ بركياروق مُنافراتٌ ومُشاجراتٌ بعدَ وَفاةِ ملكشاه أَدَّت إلى المُحارَبَةِ بينهما، فتَوجَّه إليه تتش وتَصافَّا بالقُربِ من مَدينةِ الرَّيِّ في يَومِ الأَحدِ سابع عشر صَفَر سَنةَ 488هـ، فانكَسرَ تتش، وقُتِلَ في المَعركةِ ذلك النهارَ.
بعد أن فَشِلَ عليُّ بنُ إسحاق الملثَّم السنة الماضية في مُلك بجاية، سار علي إلى إفريقيَّة، فلما وصل إليها اجتمع سليمٌ ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم التركُ الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع بهاء الدين قراقوش، ودخل أيضًا من أتراكِ مِصرَ مملوك لتقي الدين بن أخي صلاح الدين، اسمُه بوزابة، فكَثُرَ جَمعُهم، وقَوِيَت شوكتُهم، فلما اجتمعوا بلغت عِدَّتُهم مبلغًا كثيرًا، وكُلُّهم كاره لدولة الموحِّدين، وقصدوا بلاد إفريقيَّةَ فمَلَكوها جميعها شرقًا وغربًا إلَّا مدينتي تونس والمهدية؛ فإن الموحدين أقاموا بهما، وحَفِظوهما على خوفٍ وضِيقٍ وشِدَّة، وكان الوالي على إفريقيَّةَ حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يُعلِمُه الحال، وقصد الملثَّم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتَمِلُ على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلُها منه الأمان، فأمَّنهم، فلما دخلها العسكَرُ نهبوا جميع ما فيها من الأموالِ والدوابِّ والغَلَّات، وسلبوا النَّاسَ حتى أخذوا ثيابَهم، وامتدت الأيدي إلى النِّساءِ والصبيان، وتركوهم هلكى، فقَصَدوا مدينة تونس، فأما الأقوياءُ فكانوا يخدُمون ويَعمَلون ما يقوم بقُوتِهم، وأما الضعفاء فكانوا يَستَعطونَ ويسألون الناس، ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلَكَهم البَردُ ووقع فيهم الوباء، فأُحصيَ الموتى منهم فكانوا اثني عشر ألفًا، هذا من موضع واحد، ولما استولى الملثَّم على إفريقية قطَعَ خطبة أولاد عبد المؤمن وخطَبَ للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلُبُ الخِلَعَ والأعلامَ السُّودَ.
هو العلامةُ ضياءُ الدين أبو محمَّد عبد الله بن أحمد المالقي النباتي المعروفُ بابن البيطار، الطبيبُ، ولد في مالقةَ بالأندلس، كان عالمًا بالنبات وصفاتِه ومنافِعِه وأماكِنِه، سافر في البلادِ إلى اليونان والمغرب ومصر وبلاد الشام، وكان كلَّ ذلك يدرس علمَ النبات ويجمع العيِّنات، كان ثقةً فيما ينقُلُه حُجَّةً, وإليه انتهت معرفة النباتِ وتحقيقه وصفاته وأسمائه وأماكنه. كان لا يجارَى في ذلك. سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم. وأخذ فنَّ النبات عن جماعة، وكان ذكيًّا فَطِنًا. قال الموفق أحمد بن أبي أصيبعة: "شاهدت معه كثيرًا من النبات في أماكِنِه بظاهر دمشق. وقرأت عليه تفسيرَه لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنت أجِدُ من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئًا كثيرًا جِدًّا. ثم ذكر الموفَّقُ فَصلًا في براعته في النبات والحشائش، ثم قال: وأعجَبُ من ذلك أنه كان ما يذكرُ دواء إلا ويُعَيِّن في أي مقالة هو في كتاب ديسقوريدس وجالينوس، وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة في تلك المقالة". وكان في خدمة الملكِ الكامِلِ، وكان يَعتَمِدُ عليه في الأدوية المفردة والحشائِش، ثم خَدَمَ بعده ابنَه الملك الصالح. وكان متقدِّمًا في أيامه، حظيًّا عنده. عُيِّنَ في مصر رئيسًا للعشَّابين وأصحاب البسطات, ثم رحل إلى دمشق، ومن أشهر مصنَّفاته: الجامع لمفردات الأدوية والأغذية،كتاب الأدوية المفردة الذي لم يصنف مثله. وصَفَ فيه لألف وأربعمائة نوع من أنواع النبات والعقاقير بتراكيبها الكيميائية مع ملاحظات دقيقة على طرق الاستخدام في العلاج، وله المغني في الأدوية المفردة والأغذية، وله ميزان الطبيب، وكتاب الأفعال الغريبة والخواص العجيبة، فكان ابنُ البيطار يعتبَرُ من أشهر أطباء الأعشاب في عصره، توفِّيَ في دمشق.
هو العلامة الفقيه المحدث القاضي الشاعر الأديب قاضي القضاة محبُّ الدّين أبو الوليد محمد بن محمد بن محمود بن غازي ابن أيوب بن الشِّحنة محمود، والشِّحنة جدُّه الأعلى محمود، الشهير بابن الشِّحنة التُّركي الأصل الحلبي الحنفي، وأسرة آل الشحنة المشهورين بحلب من قبيلة ثقيف، وظهر منهم علماء أجلاء. ولد أبو الوليد سنة 749، وحفظ القرآن العظيم وعدة متون، وتفقَّه وبرع في الفقه، والأصول، والنحو، والأدب، وأفتى ودرّس، وتولى قضاء قضاة الحنفية بحلب، ثم دمشق، إلى أن قبض عليه الظَّاهر برقوق، وقدم به إلى القاهرة، ثم أُفرِجَ عنه ورجع إلى حلب، فأقام بها إلى أن قبض عليه الملك الناصر فرج سنة 813 لقيامه مع جماعةٍ على الناصر، ثم أفرج عنه فقدمَ القاهرة، ثم عاد إلى دمشق بصحبة الملك الناصر سنة أربع عشرة، فلما انكسر الناصر وحوصر بدمشق ولَّاه قضاء الحنفية بالقاهرة، فلم يتمَّ؛ لأنه لما أزيلت دولة الناصر أعيد ابن العديم لقضاء الدِّيار المصرية، واستقرَّ ابن الشِّحنة في قضاء حلب ودرس بدمشق. قال ابن حجر: "كان كثير الدعوى والاستحضار، عالي الهمَّة، وعمل تاريخًا لطيفًا فيه أوهام عديدة، وله نظم فائق وخط رائق" له ألفية رجز تشتمل على عشرة علوم، وألفية اختصر فيها منظومة النَّسَفي وضم إليها مذهب أحمد. وله تآليف أخرى في الفقه، والأصول، والتفسير. توفي بحلب يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر. ومحب الدين هو والد أبي الفضل
هو القائد أمير البحر طرغد باشا العثماني، يسمى عند النصارى درغوث، وعند العرب طرغول. من أشهر قادة البحر العثمانيين، خلَفَ خيرَ الدين في قيادة الأسطول العثماني في شمال إفريقيا، ولِدَ طرغد عام 1485م، في قرية تابعة للواء منتشة موغلة. التحق بالبحرية العثمانية كجنديٍّ بحري عاديٍّ في سن مبكرة جدًّا، ثم اندفع في شبابه إلى حياة البحر بدافع حب المغامرات، فاشتغل كملَّاح بسيط ثم مِدفَعي، ثم ذاع صيتُه، وأظهر تفوقًا ومقدرة عالية في الأعمال العسكرية البحرية، فوجَّه غزواته ناحية البحار الشرقية للبحر المتوسط ضِدَّ السفن البندقية, وسرعان ما انضمَّ إلى الأخوين عروج وخير الدين بربروسا, فخاض معارك بحرية ناجحة ضد النصارى الإسبان في البحر المتوسط. حتى أصبح الذراع الأيمن لخير الدين بربروسا أميرِ الأسطول العثماني، إلى أن خلَفَه في قيادة الأسطول بعد وفاته, وقد قام بغارةٍ كبيرة على شواطئ إسبانيا، تمكَّن خلالها من إنقاذ آلاف من الموركسيين المسلمين الغرباء في الأندلس. حاز طرغد شهرةً عظيمة في الحروب البحرية وخافت بأسَه جميعُ دول الإفرنج المعادية للدولة العثمانية، وحَفِظَ اسم البحرية العثمانية من السقوطِ بعد موت رئيسِها ومؤسِّسها خير الدين بربروسا في البحر المتوسط, وقد شارك طرغد في تعزيز الحماية العثمانية للجزائر وطرابلس الغرب من خطر الإسبان الذين يطمحون في استرجاعها والسيطرة عليها. توفي طرغد أثناء غزو جزيرة مالطة، وكان عمره حين توفي يناهز الثمانين عامًا، ودُفِن في طرابلس الليبية.
كان أوَّل ما حضر إلى الإسكندرية في أوَّلِ هذه السنة مراكِب للإنجليز زعموا أنَّهم جاؤوا ليحمُوا الثغر من الفرنسيين، فإنَّهم في طريقهم لاحتلال مصر, ولكنَّ أهل الإسكندرية ظنُّوا أن هذه مخادعة وقالوا: هذه بلاد السلطان، لا سبيل للإنجليز ولا للفرنسيين عليها، فرحل الإنجليزُ، ومع ذلك لم يفعل أمراءُ البلد شيئًا، أما أهل الإسكندرية فجمعوا العُربان وتهيَّأ الناسُ لِمثل هذا الحدَثِ، ثم وصلت مراكبُ الفرنسيين وطلبوا القنصل وبعض أهالي البلد، فلما نزلوا إليهم عوَّقوهم، فلما دخل الليل طلعوا إلى البر ومعهم آلاتُ الحرب والعساكر، ولم يفجأ أهلَ الثغر صباحًا إلا وهم كالجراد المنتَشِر، فلم يستطع أهل الثغر ومن انضم إليهم من العُربان فِعلَ شيء أمامهم، فانهزموا إلى البيوت والحيطان، فطلبوا الأمانَ فأمَّنوهم وطلبوا جمعَ السلاح من الأهالي، ثم سار الفرنسيون إلى البر الغربي ووصلوا دمنهور ورشيد، وكان نابليون نشرَ في أنحاء مصر مع الرسُلِ قبل وصوله إلى كُلِّ بلد أنه ما جاء إلى مصر إلى ليخَلِّصَهم من ظلم المماليك والأتراك، وأنَّه يحترم الدينَ والنبيَّ صلَّى الله عليه وسلم والقرآنَ، ثمَّ في شهر صفر التقى العسكر المصريُّ مع الفرنسيين، فلم تكن ساعة إلا وانهزم مراد بيك ومن معه، وكان هذا في البحرِ، ثم ارتحل الناسُ إلى بولاق لعمل المتاريس، ثم وصل الفرنسيون إلى بر مصر، وسكن بونابرت ببيت محمد بيك الألفي بالأزبكية، ثم ملكوا مدينةَ بلبيس بغير مقاومة ولا قتال، ثم عَمِلوا ديوانًا من ستة أنفار من النصارى القبط وستة تجار من المسلمين للنظر في قضايا التجَّار والعامة.
بادرت القواتُ الدرزية بزعامة أولاد بشير جنبلاط إلى محاصرة "دير القمر"؛ إيذانًا ببدء الحرب الأهلية الأولى. وعلى الرغم من استعداداتِ الموارنة وادِّعاءاتهم بما سيفعلونه بالدروز عندما تقع الحرب، تحوَّل القتال إلى كارثة مروِّعة نزلت بالموارنة في دير القمر؛ إذ دبَّت فيهم الفوضى، فأصبحوا أهدافًا سهلة للقوات الدرزية. وما إن سمع البطريرك بما حدث لدير القمر، حتى أغلق الكنائس، وطلب من كلِّ نصراني أن يحمِلَ السلاح. وهاجمت القواتُ المارونية بعضَ المواقع الدرزية المتفَرِّقة؛ لينتشر لهيبُ الحرب الأهلية بسرعة في البلاد. وتبادل الطرفانِ إحراق القرى وسلْب الأموال، والتمثيل بالأسرى والقتلى. ولكِنَّ كِفَّة الدروز كانت هي الراجحةَ؛ فبعد أن سيطروا على المناطق المارونية في الجنوب شرعوا يدقُّون أبواب النصف الشمالي الماروني عبْرَ نهر الكلب. وخلال هذه الحرب الأهلية وقف الأرثوذكس إلى جانب الدروز؛ لاعتقادهم أن تفوُّقَ الموارنة سيعَرِّضُهم لاضطهاد ماروني، حملًا لهم على ترْك عقيدتِهم. وحينما اشتَدَّ الضغط الدرزي على الموارنة وثبت لهؤلاء أن الحرب تسير في مصلحة خصومهم، وأن الجبهة المارونية هشة مفكَّكة؛ إذ كان رجال الدين الموارنة في جانب، والإقطاعيون في جانب آخر، فضلًا عن تعدد الخلافات بين الزعامات المارونية- سارَعَ الموارنةُ حينها إلى السلطاتِ العثمانية، والقناصل الأوروبيين -خاصة القنصل الفرنسي. وأسفرت الحربُ عن موافقة البطريرك الماروني على إبعادِ الأمير بشير الشهابي الصغير الدرزي عن الحُكم، على أن يحلَّ محلَّه الأميرُ بشير الشهابي الكبير؛ الأمر الذي ترك انطباعًا سيئًا لدى القنصل الإنجليزي عن رجالِ الدين الموارنة.