ثارت العامَّةُ يدًا واحدةً في يوم الجمعة تاسِعَ ربيع الآخر، وهَدَموا كنيستينِ مُتقابلتَينِ بالزهري، وكنيسة بستان السكري، وتعرف بالكنيسة الحمراء، وبعض كنيستين بمصرَ، ففي هذا اليوم الجمعة تاسع ربيع الآخر بطل العَمَلُ وقتَ الصلاةِ لاشتغالِ الأمراء بالصلاةِ، اجتمع من الغلمانِ والعامَّة طائفةٌ كبيرة، وصرخوا صوتًا واحدًا: اللهُ أكبر، ووقعوا في أركانِ الكنيسة بالمساحي والفُؤوسِ حتى صارت كُومًا، ووقع مَن فيها من النصارى، وانتهب العامَّةُ ما كان بها، والتفَتوا إلى كنيسة الحمراء المجاورة لها، وكانت من أعظَمِ كنائس النصارى، وفيها مالٌ كبير، وعِدَّةٌ من النَّصارى ما بين رجالٍ ونساءٍ مُتَرَهِّبات، فصعدت العامَّةُ فوقها، وفتحوا أبوابَها ونهبوا أموالَها وخُمورَها، وانتقلوا إلى كنيسةِ بومنا بجوار السبع سقايات، وكانت مَعبدًا جليلًا من معابد النصارى، فكَسَروا بابَها ونهبوا ما فيها، وقَتَلوا منها جماعة، وسَبَوا بنات كانوا بها تزيد عِدَّتُهن على ستين بكرًا، فما انقضت الصلاة حتى ماجت الأرضُ، فلما خرج الناسُ من الجامع رأوا غبارًا ودخانَ الحريق قد ارتفعا إلى السَّماءِ، وما في العامَّةِ إلَّا من بيده بنتٌ قد سباها أو جَرَّة خمرٍ أو ثوب أو شيء من النهب، فدُهِشوا وظنُّوا أنها الساعة قد قامت، وقَدِمَ مملوك والي مصر وأخبر بأن عامَّتَها قد تجمَّعَت لهدم كنيسة المعلَّقة حيث مسكَنُ البطرقِ وأموال النصارى، ويَطلُبُ نجدة، فلِشِدَّةِ ما نزل بالسلطان من الغَضَبِ هَمَّ أن يركَبَ بنَفسِه، ثم أردف أيدغمش بأربعةِ أمراء ساروا إلى مصر، وبعث بيبرس الحاجِبَ، وألماس الحاجب إلى موضع الحفر، وبعث طينالَ إلى القاهرة، ليضعوا السيف فيمن وَجَدوه، فقامت القاهرةُ ومصر على ساق، وفَرَّت النهَّابة، فلم تُدرِك الأمراءُ منهم إلا من غلب على نفسِه بالسُّكرِ مِن الخمر، وأدرك الأميرُ أيدغمش والي مصر وقد هزمته العامَّةُ من زقاق المعلقة، وأنكَوا مماليكَه بالرَّميِ عليهم، ولم يبقَ إلَّا أن يحرقوا أبوابَ الكنيسة، فجَرَّد هو ومن معه السيوفَ ليفتِكَ بهم، فرأى عالَمًا عظيمًا لا يحصيهم إلَّا خالِقُهم، فكفَّ عنهم خوفَ اتِّساعِ الخَرقِ، ونادى مَن وقَفَ فَدَمُه حلالٌ، فخافت العامَّةُ أيضًا وتفَرَّقوا، ووقف أيدغمش يحرُسُ المعَلَّقة إلى أن أُذِّنَ بالعصر، فصلى بجامع عمرو بن العاص، وعيَّنَ خمسينَ حارِسًا للمَبيتِ مع الوالي على بابِ الكنيسة، وعاد. وقيل كأنَّما نودي في إقليم مصر بهدمِ الكنائس، وأوَّل ما وقع الصوتُ بجامع قلعة الجبل, وذلك أنَّه لما انقضت صلاةُ الجمعة صرخ رجلٌ مُولَهٌ في وسط الجامع: "اهدِموا الكنيسةَ التي في القلعةِ"، وخرج في صراخه عن الحَدِّ واضطرب، فتعجَّب السلطانُ والأمراء منه، ونُدِبَ نقيب الجيش والحاجب لتفتيش سائر بيوت القلعة، فوجدوا كنيسةً في خرائب التتر قد أُخفِيَت، فهدموها، وما هو إلَّا أن فرغوا من هَدمِها والسلطانُ يتعَجَّبُ إذ وقع الصراخُ تحت القلعة، وبلغه هدمُ العامَّة للكنائس، وطُلِبَ الرجُلُ المُولَهُ فلم يُوجَدْ، وعندما خرج الناسُ من صلاة الجمعة بالجامع الأزهر من القاهرة رأوا العامةَ في هرج عظيم، ومعهم الأخشابُ والصُّلبان والثياب وغيرها، وهم يقولون: "السلطانُ نادى بخراب الكنائس"، فظنُّوا الأمر كذلك، وكان قد خُرِّبَ من كنائس القاهرة سوى كنيستي حارة الروم وحاره زويلة وكنيسة بالبندقانيين كنائس كثيرة، ثم تبيَّنَ أنَّ ذلك كان من العامة بغير أمر السلطان، فلما كان يومُ الأحد الحادي عشر سقط الطائِرُ من الإسكندرية بأنَّه لَمَّا كان الناس في صلاة الجمعة تجمَّع العامَّةُ وصاحوا هُدِمَت الكنائس، فركب الأميرُ بدر الدين المحسني متولي الثغر بعد الصلاةِ لِيُدرِك الكنائس، فإذا بها قد صارت كُومًا، وكانت عِدَّتُها أربع كنائس، ووقعت بطاقةٌ من والي البحيرة بأنَّ العامَّةَ هَدَمت كنيستين في مدينة دمنهور، والنَّاسُ في صلاة الجمعة، ثمَّ ورد مملوكُ والي قوص في يوم الجمعة السابع عشر، وأخبر بأنه لما كان يوم الجمعة هدم العامَّةُ سِتَّ كنائس بقوص في نحو نصف ساعة، وتواترت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بهدم الكنائس وقت صلاةِ الجمعة، فكثُرَ التعَجُّبُ من وقوع هذا الاتِّفاق في ساعةٍ واحدة بسائر الأقاليم، وكان الذي هُدِمَ في هذه الساعة من الكنائِسِ سِتُّونَ كَنيسةً!!
ورد الخبر بدخول منكوتمر أخي أبغا بن هولاكو بن طلوي بن جنكيزخان إلى بلاد الروم بعساكر المغول، وأنه نزل بين قيسارية والأبلستين، فبعث السلطان قلاوون الكشافة، فلقوا طائفةً من التتار أسروا منهم شخصًا وبعثوا به إلى السلطان، فقَدِمَ إلى دمشق في العشرينَ مِن جمادى الأولى، فأتاه السلطانُ ولم ينزل به حتى أعلَمَه أن التتار في نحو ثمانين ألفًا، وإنهم يريدونَ بلاد الشام في أول رجب، فشرع السلطانُ في عرض العساكر، واستدعى الناس، فحضَرَ الأمير أحمد بن حجي من العراق في جماعة كبيرةٍ مِن آل مراتكون زهاء أربعة آلاف فارس، وقدمت نجدةٌ من الملك المسعود خضر بن الظاهر بيبرس صاحب الكرك، وقدمت عساكِرُ مصر وسائر العربان والتركمان وغيرهم، فوردت الأخبار بمسير التتار، وأنهم انقَسَموا فسارت فرقةٌ مع الملك أبغا بن هولاكو إلى الرحبة ومعه صاحب ماردين، وفرقة أخرى من جانب آخر، فخرج بجكا العلائي في طائفة من الكشافة إلى جهة الرحبة، وجفل الناسُ من حلب إلى حماة وحمص حتى خلت من أهلها، وعَظُم الإرجاف، وتتابع خروج العساكر من دمشق إلى يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، فخرج السلطانُ إلى المرج، بمن بقي من العساكر وأقام به إلى آخر الشهر، ثم رحل يريد حمص فنزل عليها في حادي عشر رجب ومعه سائر العساكر، وحضر الأمير سنقر الأشقر من صهيون ومعه بعض أمرائه فسُرَّ السلطان قلاوون بذلك وأكرمهم وأنعم عليهم، وكان ذلك في ثاني عشر فنزل سنقر الأشقر على الميسرة، وقويت الأراجيف بقرب العدو، ووصل التتارُ إلى أطراف بلاد حلب، وقدم منكوتمر إلى عين تاب، ونازل الملك أبغا قلعة الرحبة في السادس عشر جمادى الآخرة، ومعه نحو ثلاثة آلاف فارس، وتقدم منكوتمر قليلًا قليلًا حتى وصل حماة، وأفسد نواحيها وخرب جواسقَ الملك المنصور صاحب حماة وبستانه فورد الخبر إلى السلطان قلاوون بذلك وهو على حمص، وأن منكوتمر في خمسين ألفًا من المغول وثلاثين ألفًا من الكرج والروم والأرمن والفرنجة، وأنَّه قد قفز إليه مملوك الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق ودله على عورات المسلمين، ثم ورد الخبَرُ بأن منكوتمر قد عزم أن يرحل عن حماة، ويكون اللقاء في يوم الخميس رابع عشر رجب، واتفق عند رحيله أن يدخل رجلٌ منهم إلى حماة وقال للنائب: اكتُبِ الساعة إلى السلطان قلاوون على جناحِ الطائر بأن القَومَ ثمانون ألف مقاتل، في القلب منهم أربعةٌ وأربعون ألفًا من المغول وهم طالبون القلب، وميمنتهم قوية جدًّا، فيقوي ميسرة المسلمين، ويحترز على السناجق، فسقط الطائر بذلك وعلم بمقتضاه، وبات المسلمون على ظهور خيولهم، وعند إسفار الصباح من يوم الخميس رابع عشر شهر رجب: ركب السلطان ورتب العساكِرَ: وجعل في الميسرة الأميرَ سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء، ثم اختار السلطانُ مِن مماليكه مائتي فارس، وانفرد عن العصائب ووقف على تل، فكان إذا رأى طلبًا قد اختل أردفه بثلاثمائةٍ مِن مماليكه، فأشرَفت كراديس التتار وهم مِثْلَا عساكر المسلمين، ولم يعتدُّوا منذ عشرين سنة مثل هذه العِدَّة، ولا جمعوا مثل جَمعِهم هذا، فإنَّ أبغا عرض من سيره صحبة أخيه منكوتمر فكانوا خمسة وعشرين ألف فارس منتخبة، فالتحم القتال بين الفريقين بوطأة حمص، قريبًا من مشهد خالد بن الوليد، ويوم الخميس رابع عشر رجب، من ضحوة النهار إلى آخره، وقيل من الساعة الرابعة، فصدمت ميسرة التتار ميمنة المسلمينَ صَدمةً شديدة ثبتوا لها ثباتًا عظيمًا، وحملوا على ميسرةِ التتار فانكسرت وانتَهَت إلى القلب وبه منكوتمر، وصَدَمَت ميمنة التتار ميسرة المسلمين، فانكسرت الميسرةُ وانهزم من كان فيها، وانكسر جناحُ القلب الأيسر، وساق التتار خلفَ المسلمين حتى انتهوا إلى تحت حمص وقد غُلِّقَت أبوابها، ووقعوا في السوقةِ والعامة والرجَّالة والمجاهدين والغلمان بظاهر حمص، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وأشرف الناس على التلاف، ولم يعلم المسلمون من أهل الميسرة بما جرى للمسلمين أهل الميمنة من النصر، ولا علم التتار الذين ساقوا خلف المسلمين ما نزل بميسرتِهم من الكسرة، ووصل بعض المنهزمين إلى صفد، وكثيرٌ منهم دخل دمشق، ومر بعضُهم إلى غزة، فاضطرب الناسُ بهذه البلاد وانزعجوا انزعاجًا عظيمًا، وأما التتار الذين ساقوا خلف المنهزمين من المسلمين أصحاب الميسرة، فإنهم نزلوا عن خيولهم وأيقنوا بالنَّصرِ، وأرسلوا خيولهم ترعى في مرج حمص، وأكلوا ونهبوا الأثقال والوطاقات والخزانة وهم يحسبون أن أصحابهم ستُدرِكُهم، فلما أبطأوا عليهم بعثوا من يكشف الخبر، فعادت كشافتُهم وأخبرتهم أن منكوتمر هرب، فركبوا وردُّوا راجعين، هذا ما كان من أمر ميمنة التتار وميسرة المسلمين، وأما ميمنة المسلمين فإنها ثبتت وهزمت ميسرة التتار حتى انتهت إلى القلب، إلا الملك المنصورَ قلاوون فإنه ثبت تحت السناجق –الرماح-، ولم يبقَ معه غير ثلاثمائة فارس، والكوسات تضرب، وتقدَّم سنقر الأشقر، وبيسري، وطيبرس الوزيري، وأمير سلاح، وأيتمش السعدي، ولاجين نائب دمشق، وطرنطاي نائب مصر، والدواداري، وأمثالهم من أعيان الأمراء إلى التتار، وأتاهم عيسى بن مهنا فيمن معه، فقتلوا من التتار مقتلةً عظيمة، وكان منكوتمر مقدم التتار قائمًا في جيشه، فلما أراده الله من هزيمته نزل عن فرسه ونظر من تحت أرجل الخيل، فرأى الأثقالَ والدواب فاعتقد أنَّها عساكر، ولم يكن الأمرُ كذلك، بل كان السلطان قلاوون قد تفرقت عنه عساكِرُه ما بين منهزم ومَن تقدم القتال، حتى بقي معه نحو الثلاثمائة فارس لا غير، فنهض منكوتمر من الأرض ليركَبَ فتقنطر عن فرسِه، فنزل التتار كلُّهم لأجله وأخذوه، فعندما رآهم المسلمون قد ترجَّلوا حملوا عليهم حملةً واحدة كان الله معهم فيها، فانتصروا على التتار، وقيل إنَّ الأمير عز الدين أزدمر الحاج حمل في عسكر التتار وأظهر أنه من المنهزِمين، فقَدِمَهم وسأل أن يوصَلَ إلى منكوتمر، فلما قرب منه حمل عليه وألقاه عن فَرَسِه إلى الأرض، فلما سقط نزل التتارُ إليه من أجل أنه وقع، فحمل المسلمون عليهم عند ذلك، فلم يثبُت منكوتمر وانهزم وهو مجروح، فتبعه جيشه وقد افترقوا فرقتين: فرقة أخذت نحو سلمية والبرية، وفرقة أخذت جهة حلب والفرات، وأما ميمنة التتار التي كسرت ميسرة المسلمين، فإنها لما رجعت من تحت حمص كان السلطان قد أمر أن تلف السناجق ويبطل ضرب الكوسات، فإنَّه لم يبق معه إلَّا نحو الألف، فمرت به التتار ولم تعرض له، فلما تقدموه قليلًا ساق عليهم، فانهزموا هزيمةً قبيحة لا يلوون على شيء، وكان ذلك تمام النصر، وهو عند غروبِ الشمس من يوم الخميس، ومر هؤلاء المنهزمون من التتار نحو الجبل يريدون منكوتمر، فكان ذلك من تمام نعمة الله على المسلمين، وإلَّا لو قدر الله أنهم رجعوا على المسلمين لما وجدوا فيهم قوة، ولكِنَّ الله نصر دينه، وهزَمَ عَدُوَّه مع قوتهم وكثرتهم، وانجلَت هذه الواقعة عن قتلى كثيرة من التتار لا يحصى عددهم، وعاد السلطانُ في بقية يومه إلى منزلتِه بعد انقضاء الحرب، وكتب البطائِقَ بالنصرة وبات ليلةَ الجمعة إلى السحر في منزلته، فثار صياحٌ لم يشك النَّاسُ في عود التتار، فبادر السلطان وركب وسائِرُ العساكر، فإذا العسكر الذي تبع التتار وقت الهزيمة قد عاد، وقتل من التتار في الهزيمة أكثَرَ ممن قتل في المصاف، واختفى كثيرٌ منهم بجانب الفرات، فأمر السلطان أن تُضرَمَ النيران بالأزوار التي على الفرات، فاحترق منهم طائفة عظيمة، وهلك كثير منهم في الطريق التي سلكوها من سلمية، وفي يوم الجمعة: خرج من العسكر طائفة في تتبع التتار، مقدمهم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري، ورحل السلطان من ظاهر حمص إلى البحيرة ليبعد عن الجيف، وقتل من التتار صمغار، وهو من أكبر مقدميهم وعظمائهم، وكانت له إلى الشام غارات عديدة، واستشهد من المسلمين زيادة على مائتي رجل، وأمَّا أبغا بن هولاكو ملك التتار فإنه لم يشعر وهو على الرحبة إلا وقد وقعت بطاقة من السلطانِ إلى نائب الرحبة، بما منَّ الله به من النصر وكسرةِ التتار فعندما بلغه ذلك بدق بشائر القلعة رحل إلى بغداد، ووصل الأميرُ بدر الدين الأيدمري إلى حلب، وبعث في طلب التتار إلى الفرات، ففَرُّوا من الطلب وغرق منهم خلق كثير، وعبرت طائفة منهم على قلعة البيرة، فقاتلهم أهلُها وقتلوا منهم خمسمائة، وأسروا مائة وخمسين، وتوجَّه منهم ألف وخمسمائة فارس إلى بغراس، وفيهم أكابِرُ أصحاب سيس وأقاربهم فخرج عليهم الأميرُ شجاع الدين السيناني بمن معه، فقتَلَهم وأسَرَهم عن آخرهم بحيث لم يُفلِتْ منهم إلا دون العشرين، وتوجَّه منهم على سلمية نحو أربعة آلاف، فأخذ عليهم نواب الرحبة الطرقات والمعابر، فساروا في البرية فماتوا عطشًا وجوعًا، ولم يسلم منهم إلا نحو ستمائة فارس، فخرج إليهم أهل الرحبة فقتلوا أكثرهم، وأحضروا عِدَّةً منهم إلى الرحبة ضُرِبت أعناقهم بها، وأدرك بقية التتار الملك أبغا، وفيهم أخوه منكوتمر وهو مجروح، فغضب عليه وقال: " لم لا مت أنت والجيش ولا انهزمت" وغضب أيضًا على المقدمين، فلما دخل أبغا بغداد سار منها إلى جهة همذان وتوجه منكوتمر إلى بلاد الجزيرة فنزل بجزيرة ابن عمر، وكانت الجزيرة لأمه قد أعطاها إياها أبوه هولاكو لما أخذها.
كانت قُريشٌ تُحذِّر منَ الاستِماعِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا قَدِم الطُّفَيلُ بن عمرٍو مكةَ مَشَى إليه رجالٍ من قُرَيشٍ، وكان الطُّفَيلُ رجلًا شَريفًا شاعِرًا لَبيبًا، فقالوا له: "يا طُفَيلُ، إنَّك قَدِمتَ بلادَنا، وهذا الرجلُ الذي بين أظهُرِنا قد أعضَلَ -اشتَدَّ أمرُه- بنا، وقد فرَّق جماعَتَنا، وشتَّت أمْرَنا، وإنَّما قَولُه كالسِّحرِ يُفرِّق بين الرَّجلِ وبين أبيه، وبين الرَّجُلِ وبين أخيه، وبين الرَّجُلِ وبين زَوجَتِه، وإنَّا نَخشَى عليك وعلى قَومِك ما قد دَخلَ علينا، فلا تُكلِّمَنَّه ولا تَسمَعَنَّ منه شيئًا". قال: فَواللهِ ما زالوا بي حتَّى أجمعتُ ألَّا أسمَعَ منه شيئًا ولا أُكلِّمه، حتى حَشَوتُ في أُذُنَيَّ حين غَدَوتُ إلى المسجِدِ كُرسُفًا -قُطنًا- خوفًا مِن أن يَبلُغَني شيءٌ مِن قَولِه، وأنا لا أُريدُ أن أسمَعَه. فغَدَوتُ إلى المسجدِ فإذا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائمٌ يصلِّي عند الكَعبةِ. قال: فقُمتُ منه قريبًا، فأبى الله إلَّا أنْ يُسمِعَني بعضَ قولِه. قال: فسَمِعتُ كَلامًا حَسَنًا. فقُلتُ في نَفسي: وا ثُكْلَ أُمِّي، واللهِ إنِّي لرَجلٌ لَبيبٌ شاعِرٌ ما يَخفَى علَيَّ الحَسنُ من القَبيحِ، فما يَمنَعُني أن أسمَعَ من هذا الرَّجلِ ما يقولُ؟ فإنْ كان الذي يَأتي به حَسنًا قَبِلتُه، وإن كان قَبيحًا تَرَكتُه. فمَكَثتُ حتى انصَرَف رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بيتِه فاتَّبَعتُه، حتى إذا دخل بَيتَه دَخَلتُ عليه، فقلتُ: يا مُحمَّدُ، إنَّ قومَك قد قالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا؛ فوالله ما بَرِحوا يُخوِّفونَني أمْرَك حتى سَدَدتُ أُذُنَيَّ بكُرسُفٍ لِئَلَّا أسمَعَ قولَك، ثمَّ أبَى الله إلا أن يُسمِعَني قَولَك، فسَمِعتُه قَولًا حَسَنًا، فاعرِضْ علَيَّ أمْرَك. قال: فعَرَضَ علَيَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإسلامَ، وتلا علَيَّ القُرآنَ، فلا والله ما سَمعتُ قولًا قطُّ أحسنَ منه، ولا أمرًا أعدَلَ منه. فأسلمتُ وشَهِدتُ شهادةَ الحقِّ، وقلتُ: يا نبيَّ الله، إنِّي امرُؤٌ مُطاعٌ في قومي، وأنا راجِعٌ إليهم، وداعيهِم إلى الإسلامِ، فادعُ الله أن يجعلَ لي آيةً تَكون لي عَونًا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: "اللَّهمَّ اجعَل له آيةً".
قال: فخَرَجتُ إلى قومي، حتى إذا كنتُ بثَنيَّةٍ -الفُرجةُ بين الجَبَلَين- تُطلِعُني على الحاضِرِ -أي: القوم النَّازِلين على الماء- وقع نورٌ بين عينَيَّ مِثلُ المِصباحِ، فقُلتُ: اللَّهمَّ في غيرِ وجهي، إنِّي أخشى أن يَظُنُّوا أنَّها مُثلةٌ وَقَعت في وَجهي لفِراقي دينَهم. قال: فتَحَوَّل فوَقَع في رأسِ سوطي. قال: فجَعَل الحاضِرُ يَتراءَون ذلك النُّورَ في سَوطي كالقِنديلِ المُعلَّقِ، وأنا أهبِطُ إليهم من الثَّنيَّةِ، قال: حتى جِئتُهم فأصبَحتُ فيهم. فلمَّا نزلتُ أتاني أبي، وكان شيخًا كبيرًا، قال: فقلتُ: إليك عنِّي يا أبتِ، فلستُ منك ولستَ منِّي. قال: ولِمَ يا بُنَيَّ؟ قال: قلتُ: أسلمتُ وتابَعتُ دينَ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: أيْ بنيَّ، فديني دينُك. قال: فقلتُ: فاذهَبْ فاغتَسِلْ وطهِّرْ ثيابَك، ثم تعالَ حتى أُعَلِّمَك ما عَلِمتُ. فذَهَب فاغتَسَلَ، وطهَّرَ ثيابَه، ثم جاء فعَرَضتُ عليه الإسلامَ، فأسلمَ.
ثم أتَتْني صاحِبَتي -زَوجَتي- فقلتُ: إليكِ عنِّي، فلستُ منكِ ولستِ منِّي. قالت: لِمَ؟ بأبي أنت وأمي. قلتُ: قد فرَّق بيني وبينكِ الإسلامُ، وتابَعتُ دينَ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قالت: فديني دينُكَ. قلتُ: فاذهَبي فتطهَّري، فذَهَبَت فاغتسَلَت، ثم جاءت فعَرَضتُ عليها الإسلامَ، فأسلَمَت.
ثم دعوتُ دَوسًا إلى الإسلامِ فأبطَؤوا علَيَّ، ثم جئتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمكةَ، فقلتُ له: يا نبيَّ الله، إنَّه قد غَلَبني على دوسٍ الزِّنا -لَهوٌ مع شُغُلِ القَلبِ والبَصرِ-، فادعُ الله عليهم، فقال: "اللَّهمَّ اهدِ دَوسًا، ارجِعْ إلى قومِكَ فادعُهم وارفُقْ بِهِم". قال: فلَم أزَلْ بأرضِ دَوسٍ أدعوهم إلى الإسلامِ، حتى هاجَرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المدينةِ، ومَضَى بدرٌ وأُحُدٌ والخَندَقُ، ثم قَدِمتُ على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِمَن أسلم معي من قومي، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَيبَرَ، حتى نزلتُ المدينةَ بسبعين أو ثمانين بَيتًا من دوسٍ، ثم لَحِقْنا برسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَيبَرَ، فأسهَمَ لنا مع المسلمين".
ثم لم يَزَل رَضي اللهُ عنه مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى فتح الله عليه مكَّةَ، وكان معه بالمدينةِ حتى قَبَض الله رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا ارتدَّتِ العربُ خرج مع المسلمين، فسار معهم حتى فَرَغوا من طُلَيحةَ، ومن أرضِ نجدٍ كلِّها. ثم سار مع المسلمين إلى اليَمامةِ، واستشهد فيها.
هو أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن سبعين، القرشي، المخزومي، بن قطب الدين المقدسي الصوفي الرقوطي، نسبة إلى رقوطة بلدة قريبة من مرسية بالأندلس. المشهور بابن سبعين، ولِدَ سنة أربع عشرة وستمائة، واشتغل بعلم الأوائل والفلسفة، فتولَّدَ له من ذلك نوع من الإلحاد، وصنَّفَ فيه، وكان يعرف السيميا، وكان يلَبِّسُ بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء، ويزعُمُ أنه حال من أحوال القوم، وله المصنفات منها كتاب البدوي، وكتاب الهو، رسالة النصيحة النورية، عهد ابن سبعين، الإحاطة، الرسالة الفقيرية، الحكم والمواعظ، الرسالة القبرصية, وقد أقام بمكة واستحوذ على عقل صاحبها أبي نمي بن أبي سعد. وشاع صيتُه وكثر أتباعه بين أهل مكة بسبب سخائه وعِلمِه، وقد ظل ابن سبعين في مكَّة حتى توفي به، وجاور في بعض الأوقاتِ بغار حراء يرتجي فيما يُنقَلُ عنه أن يأتيه فيه وحيٌ، كما أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم!! بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة، إن كان مات على ذلك, وقد كان إذا رأى ابن سبعين الطائفينَ حول البيت يقول عنهم كأنهم الحميرُ حول المدار، وأنهم لو طافوا به كان أفضَلَ من طوافهم بالبيتِ، وقد نُقِلَت عنه عظائم من الأقوال والأفعال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فصار بعضُهم يرى أن باب النبوة مفتوح لا يمكن إغلاقُه فيقول كما كان ابن سبعين يقول: "لقد زرَّب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي" أو يرى لكونه أشد تعظيمًا للشريعة أن باب النبوة قد أغلق فيدعي أن الولاية أعظم من النبوة، وأن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء بل وجميع الأنبياء إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء!! ويقول إنه يوافق النبي في معرفة الشريعة العملية؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا، وإنه أعلم من النبي بالحقائق العلمية؛ لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول!! وهذا بناء على أصول هؤلاء الفلاسفة الكفار الذين هم أكفر من اليهود والنصارى". وقال شيخ الإسلام: "ابن سبعين أحد أئمة الاتحادية ومحققيهم وأذكيائهم، أنه قال عن كلام ابن عربي: "فلسفة مخموجة" وكلامه هو أدخل في الفلسفة وأبعد عن الإسلام، ولا ريب أن هؤلاء من جنس الملاحدة الباطنية القرامطة، وهؤلاء الفلاسفة مشتركون في الضلال ومذاهب هؤلاء الفلاسفة في الإلهيات من أشد المذاهب اضطرابًا وتناقضًا وقولًا لا حقيقة له، فلما كان مذهبهم المقارنة التي هي في الحقيقة تعطيل الصنع والخلق والإبداع وإن كانوا يدَّعون أنهم يثبتون واجبًا غير العالم، فهذا دعواهم، وإلا ففي الحقيقة يلزمهم ألا يكون ثَمَّ واجِبُ الوجود غير العالم، وهذا حقيقة قول الاتحادية وهو الذي أظهره إمام هؤلاء فرعون؛ فإن الاتحادية تنتحله وتعظمه والباطنية تنتحله وتعظمه وهو على مقتضى أصول الفلاسفة الصابئة المشركين الذين هم من أعظم الناس إيمانًا بالجبت والطاغوت" قال الذهبي: "كان ابن سبعين صوفيًّا على قاعدة زهاد الفلاسفة وتصوفهم، وله كلام كثير في العرفان على طريق الاتحاد والزندقة, وقد ذكرنا محط هؤلاء الجنس في ترجمة " ابن الفارض "، و " ابن العربي " وغيرهما. فيا حسرة على العباد كيف لا يغضبون لله تعالى ولا يقومون في الذبِّ عن معبودهم، تبارك اسمُه وتقدست في ذاته، عن أن يمتزج بخَلقِه أو يحِلَّ فيهم, وتعالى الله عن أن يكون هو عينَ السموات والأرض وما بينهما, فإن هذا الكلام شر من مقالة من قال بقدم العالم، ومن عرف هؤلاء الباطنية عذرني، أو هو زنديق مبطن للاتحاد يذب عن الاتحادية والحلولية، ومن لم يعرفهم فالله يثيبه على حسن قصده. وينبغي للمرء أن يكون غضَبُه لربه إذا انتُهِكَت حرماته أكثَرَ من غضبه لفقير غير معصوم من الزَّلَل. فكيف بفقير يحتمل أن يكون في الباطن كافرًا، مع أنا لا نشهد على أعيان هؤلاء بإيمان ولا كفر لجواز توبتهم قبل الموت. وأمرهم مُشكِل وحسابُهم على الله, وأما مقالاتهم فلا ريب في أنها شر من الشرك، فيا أخي ويا حبيبي أعطِ القوس باريَها ودعني ومعرفتي بذلك، فإنني أخاف الله أن يعذبني على سكوتي، كما أخاف أن يعذبني على الكلام في أوليائه. وأنا لو قلت لرجل مسلم: يا كافر، لقد بؤتُ بالكفر، فكيف لو قلتُه لرجل صالح أو ولي لله تعالى؟ " توفي ابن سبعين في الثامن والعشرين من شوال بمكة.
مصطفى كمال من سلانيك أو سالونيك مدينة يونانية، وهي مهبِطُ اليهود ومقَرُّهم، ومنها خرج وفيها نشأ، لذلك عدَّه كثيرٌ من الكُتَّاب من يهود الدونمة؛ ثمَّ إن أدواره التي لَعِبَها توحي بالعمالة الغربية؛ فقد صنعه الغَربُ ليظهَرَ في صورة البطل؛ وليكونَ مقبولًا عند الأتراك، ويكفي أنَّ أعمالَه تدُلُّ على باطنه؛ فقد منع الخليفةَ مِن الخروج للصلاة، ثم خفض مخصَّصاته للنصف، وحكم مصطفى كمال البلادَ بالحديدِ والنار، وضَمِنَ تأييدَ الدول العظمى لسياستِه التعسفية، وقد نفَّذ مصطفى كمال المخطَّط كاملًا، وابتعد عن الخطوط الإسلامية، ودخلت تركيا لعمليَّات التغريب البَشِعة؛ فألغى الخلافةَ الإسلامية سنة 1342ه، ثم ألغى وزارة الأوقاف سنة 1343هـ/1924م، وعَهِدَ بشؤونها إلى وزارة المعارف. وفي عام 1344هـ أغلق المساجِدَ، وقضت حكومتُه في قسوةٍ بالغة على كلِّ تيَّار ديني، وواجهت كلَّ نقدٍ ديني لتدبيرها بالعُنفِ. أما الشريعة الإسلامية فقد استُبدِلَت وحلَّ محلها قانونٌ مدني أخذته حكومةُ تركيا من القانون السويسري عام 1345هـ/1926م، وغيَّرَ التقويمَ الهجريَّ واستخدم التقويم الجريغوري الغربي، فأصبح عام 1342هـ مُلغًى في كلِّ أنحاء تركيا وحلَّ محله عام 1926م! وفي دستور عام 1347هـ أغفل النصَّ على أن تركيا دولةٌ إسلامية، وغيَّرَ نَصَّ القسم الذي يقسِمُه رجال الدولة عند تولِّيهم لمناصبهم، فأصبحوا يُقسِمون بشَرَفِهم على تأدية الواجبِ بدلًا من أن يحلِفوا بالله كما كان عليه الأمر من قبل!! وفي عام 1348ه بدأت الحكومة تَفرِضُ إجباريًّا استخدامَ الأحرف اللاتينية في كتابة اللغة التركية بدلًا من الأحرُفِ العربية. وبدأت الصُّحُفُ والكتُبُ تَصدُرُ بالأحرف اللاتينية، وحُذِفَ من الكليات التعليمُ باللغة العربية واللغة الفارسية، وحُرِّم استعمال الحرف العربي لطبع المؤلفات التركية، وأما الكتُبُ التي سبق لمطابِعِ استانبول أن طبعتها في العهود السالفة فقد صُدِّرَت إلى مصر، وفارس، والهند، وهكذا قطعت حكومة تركيا ما بين تركيا وماضيها الإسلاميِّ من ناحية، وما بينها وبين المسلمين في سائر البلدان العربية والإسلامية من ناحية أخرى!! وفي عام (1350-1351هـ/1931-1932م) حدَّدَت عددَ المساجِدِ، ولم تسمَحْ بغير مسجد واحدٍ في كل دائرة من الأرض يبلغ محيطُها 500 متر مربع، وأعلن أنَّ الروح الإسلامية تعوقُ التقدُّمَ. وتمادى مصطفى كمال في تهجُّمه على المساجد، فخفض عددَ الواعظين الذين تدفَعُ لهم الدولة أجورَهم إلى ثلاثمائة واعظ، وأمَرَهم أن يفسحوا في خطبة الجمعة مجالًا واسعًا للتحدُّثِ على الشؤون الزراعية والصناعية وسياسة الدَّولة، وكَيْلِ المديحِ له. وأغلق أشهَرَ جامعين في استانبول، وحَوَّلَ أولهما وهو مسجد آيا صوفيا إلى متحف، وحول ثانيهما وهو مسجد الفاتح إلى مستودع، وأهملت الحكومةُ التعليم الديني كليَّةً في المدارس الخاصة، ثم تمَّ إلغاؤه. بل إنَّ كلية الشريعة في جامعة استانبول بدأت تقَلِّلُ من أعداد طلابها حتى أغلقت عام 1352هـ/1933م. وأمعنت حكومة مصطفى كمال في حركة التغريب، فأصدرت قرارًا بإلغاء لبس الطربوش، وأمَرَت بلُبس القبعة تشبهًا بالدول الأوروبية، وفي عام 1935م غيَّرَت الحكومة العطلة الرسمية فلم يعد الجمعة، بل أصبحت العطلة الرسمية للدولة يومَ الأحد، وأصبحت عطلةُ نهاية الأسبوعِ تبدأ منذ ظُهر يوم السبت وتستمر حتى صباح يوم الاثنين، وأخذ أتاتورك ينفُخُ في الشعب التركي روحَ القومية، واستغَلَّ ما نادى به بعضُ المؤرخين من أن لغة السومريين أصحاب الحضارة القديمة في بلاد ما بين النهرين كانت ذات صلةٍ باللغة التركية، فقال: إن الأتراك هم أصحاب أقدم حضارة في العالم؛ ليعَوِّضَهم عما أفقَدَهم إياه من قِيَمٍ، بعد أن حارب كلَّ نشاط إسلامي، وخلع مصطفى كمال على نفسه لقب (أتاتورك) ومعناه أبو الأتراك، وعملت حكومته على إلغاء حجاب المرأةِ وأمرت بالسفور، وأُلغيت قوامةُ الرجل على المرأة، وأُطلِقَ لها العِنان باسم الحرية والمساواة، وشجع الحفلاتِ الراقصة والمسارح المختلطة والرقص. وأمر بترجمة القرآن إلى اللغةِ التركية، ففقد كُلَّ معانيه ومدلولاته، وأمر أن يكونَ الأذان باللغة التركية، ثمَّ عَمِلَ على تغيير المناهج الدراسية، وأعيد كتابةُ التاريخ من أجل إبراز الماضي التركي القومي، وجرى تنقيةُ اللغة التركية من الكلمات العربية والفارسية، واستُبدِل بها كلمات أوروبية أو حثية قديمة.
كان الأميرُ الناصر غزا إلى دار الحرب، وهي غزاة مويش، والحشودُ والعساكر تتلاحَقُ به من سائر أقطار الأندلس، وجميع جهاتها، ونزل على مدينةِ طُلَيطلة، وخرج إليه لبُّ بن الطربيشة صاحِبُها، مبادرًا إليه، وغازيًا معه، وكان يظهر طاعةً تحتها معصيةٌ، حتى نزل بمدينة الفرج، فنظر لأهلها، وخرج للجهاد أكثَرُهم، حتى احتَلَّ بثغر مدينة سالم، وأظهَرَ التوجه إلى الثغر الأقصى. وقَدِمَت المُقَدِّمة نحوه. ثم عرجَ بالجيوش إلى طريقِ آلية والقلاع، وطوى من نهارِه ثلاث مراحل، حتى احتَلَّ بوادي دوبر؛ فاضطربت العساكر فيه، وباتت عليه. ثم أخرج صباحَ تلك الليلة سعيد بن المنذر الوزير، في جرائد الخيل وسرعان الفرسان، إلى حصن وخشمة؛ فأغذَّ السيرَ حتى قَرُب من الحصن، وسرَّحَ الخيل المُغيرة يَمنة ويَسرة، والمشركون في سكونٍ وغفلة؛ إذ كان العِلجُ الذي يلي أمورَهم قد كاتبَ النَّاصِرَ مكايدًا له في إزاحته عن بلدِه بمواعيدَ وعدها من نفسه، فأظهر الناصر قَبولَ ذلك منهم، وأضمَرَ الكيد بهم، فغشيتهم الخيلُ المُغيرةُ على حينِ غَفلةٍ، وأصابوا نَعَمهم وسوامَهم ودوابَّهم مُسرحةً مُهملةً؛ فاكتسحوا جميع ذلك، وانصرفوا إلى العسكرِ سالمين غانمين. فلما كان في صباحِ يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، اندفعت الخيلُ إلى حصن وخشمة، ففر عنه الكفرة، وأخلوه، ولاذوا بالغياض الأشبة –المواضعُ التي يكثُرُ فيه الشجرُ ويلتفُّ-، والصخور المنقطعة. ودخل المسلمون الحِصنَ، وغنموا جميعَ ما فيه وأضرموه نارًا. ثم رحل عنها في اليومِ الثاني إلى حصن قاشتر مورش، وهي شنت أشتبين، بيضة المفرة وقاعدتُهم، فخرجوا هاربين عنه، فدخله المسلمون وغنموا جميعَ ما فيه، وخَرَّبوا حِصنَ القبيلة المجاور له، ولم يترك لأعداء اللهِ في تلك الجهة نعمةً يأوونَ إليها، واضطرب العسكرُ بشرقي حصن قاشتر مورش. وبات المسلمونَ ليلة الأحد بأسرِّ ليلة كانوا بها، والحمدُ لله. ثم انتقل الناصر في صبيحة اليوم الثاني من مكانِ المُضطَّرَب شرقيَّ الحصن إلى غربيِّه، ولم يكن بين الموضعين إلا قدرُ ميل، فكسر العسكرُ في ذلك المكانِ يوم الأحد متقصيًا لآثار الكفرة، ومستبيحًا لنَعَمِهم. ثم ارتحل إلى مدينةٍ لهم أولية تعرف بقلونية، وكانت من أمهَّات مُدُنِهم، فلم تمرَّ الجيوش إليها إلَّا على قرًى منتظمة وعمارة بسيطة، فغَنِمَت جميع ما كان بها، وقتلت من أدرَكَت فيها، حتى أوفت العساكِر على المدينة، فأُلقِيَت خالية، قد شُرِّدَ عنها أهلُها إلى الجبالِ المجاورة لهم، فغنم المسلمون جميعَ ما أصابوا فيها، وعَمِلَت الأيدي في تخريبِ ديارِها وكنائسها، وكسر الناصر عليها ثلاثةَ أيَّام، مطاولًا لنكايةِ المُشرِكين، وانتساف نَعَمِهم. ثم ارتحل من مدينة قلونية يوم السبت لخمس بقينَ من صفر إلى ثغر تطيلة، لغِياثِ صريخِ المسلمين به، إذ كان العِلجُ شانجه قد ضايقهم، وتردَّد بكَفَرته عليهم، ثم احتَلَّ الناصر حوز تطيلة ثم قدَّم الخيل مع محمَّد بن لبّ عاملها إلى حصن قلهرة الذي كان اتَّخذه شانجه على أهلها. فلما قصَدَته الخيلُ أخلاه مَن كان فيه، وضَبَطه المسلمون. ثم نهض الناصر إلى حِصن قلهرة. وكان شانجة قد اتخذه معقِلًا، وتبوَّأه مسكنًا. فلما فجَأته العساكِرُ أخلاه العِلجُ، وزال عنه؛ فغَنِمَه المسلمون بأسرِه، ثم رحل بالجيوشِ يوم الأحد لأربعٍ خَلَون من ربيع الأول إلى دي شره، وأجاز إليها وادي إبره، فخرج شائجة من حصن أرنيط في جموعه وكفَرَته، متعرضًا لمن كان في مُقدِّمة العسكر، فتبادر إليه شُجعان الرِّجال، تبادر رشق النبال، فانهزم الكفرة، وركِبَتْهم الخيلُ، تقتل وتجرَحُ، حتى توارَوا في الجبال، ولاذُوا بالشعاب وأيقنوا بالدمارِ والهلاك. وحِيزَ كثيرٌ من رؤوسِ المشركين؛ فتلقوا بها الناصر، ولا علم عنده بالمعركةِ التي دارت بينهم وبين أعداء الله. واضطرب العسكرُ بهذا الموضع، وبات المسلمون ظاهرينَ على عَدُوِّهم، ومنبسطين في قُراهم ومزارعهم، وورد الخبرُ على الناصر باجتماع العِلجَينِ أرذون وشانجة، واستمداد بعضِهما ببعض، طامعينِ في اعتراضِ المقَدِّمة، أو انتهاز فرصة في السَّاقة. فأمر الناصرُ بتعبئة العساكر، وضبْطِ أطرافِها، ثم نهض بها موغِلًا في بلاد الكَفَرة، فتطلَّلوا على كُدًى مشرفةٍ وجبالٍ منيعة؛ ثم تعرضوا من كان في أطرافِ الجيش، وجعلوا يتصايحون، ويولوِلون لِيُضعِفوا من قلوب المسلمين، فعهد الناصر بالنزولِ والاضطراب وإقامةِ الأبنية. ثم تبادر الناسُ إلى محاربة الكفرة، وقد أسهلوا من تلك الجبالِ، فواضعوهم القتالَ، واقتحم عليهم حتى انهزم المشركونَ، والمسلمون على آثارِهم، يقتلون من أدركوا منهم، حتى حجز الظَّلامُ بينهم، ولجأ عند الهزيمةِ ما يزيد على ألفٍ مِن العلوج إلى حصن مويش، ورجوا التمنُّع فيه. فأمر الناصرُ بتقديم المظل وأبنية العسكرِ إلى الحصن، فأحيط به من جميعِ جِهاتِه، وحُوربوا داخِلَه حتى تغلَّب عليه، واستخرج جميعَ العُلوج منه، وقُدِّموا إلى الناصر، فضُرِبَت رقابُ جميعهم بين يديه، وأصيب في الحصنِ والمحلة التي كانت للكَفَرة بقربه من الأمتعةِ والأبنية والحِليةِ المُتقَنة والآنية ما لا يحصى كثرةً، وأصيب لهم نحوُ ألف وثلاثمائة فرس، ثم انتقل الناصرُ يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول إلى حصنٍ كان اتَّخذه شانجة على أهل بقيرة فألقاه خاليًا، قد فرَّ عنه أهلُه، فعَهِدَ بهَدمِه، ولم يبرح الناصرُ مِن محلَّتِه هذه حتى نُقِلَ إلى حصنِ بقيرة من أطعمة الكَفَرة ألفُ مُدٍّ تقويةً لأهله. ثم انتقل إلى حصونِ المُسلمين يسكِّنُها وينظر في مصالحِ أهلها، فكلما ألفى بقربها مَعقلًا للمشركين، هدمه وأحرق بسيطَه، حتى اتصل الحريقُ في بلاد المشركين عشرةَ أميال في مثلها. واجتمع عند الناس من الأطعمةِ والخيرات ما عجزوا عن حَملِه، ولم يجدوا لها ثمنًا تباع به، وقفل الناصر يوم الثلاثاء. لثلاثٍ بقين من ربيع الأول، حتى انتهى إلى مدينة أنتيشة؛ وبعث إلى قرطبةَ مِن رؤوس الكَفَرة التي أصيبت في المعارك المذكورة أعدادًا عظيمة، حتى لقد عجَزَت الدواب عن استيفاءِ حَملِها. ودخل الناصرُ القصر بقرطبة يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاتِه هذه تسعين يومًا.
لما قدم خبر أخْذ حلب وما ارتكبه المغول في أهلها نودِيَ بدمشق في الناس بالتحوُّل إلى المدينة والاستعداد للعدوِّ، فاختبط الناس وعظُم ضجيجهم وبكاؤهم، وأخذوا ينتقلون في يوم الأربعاء نصفه من حوالي المدينة إلى داخلها، واجتمع الأعيانُ للنظر في حفظ المدينة، فقدم في سابع عشر ربيع الأول المنهزمون من حماة، فعظُمَ الخوف، وهمَّ الناس بالجلاء، فمُنِعوا منه، ونودِيَ: من سافر نُهب، فورد في الثامن العشر منه الخبر بنزول طائفة من العدو على حماة، فحُصِّنت مدينة دمشق، ووقف الناسُ على الأسوار، وقد استعدُّوا، ونُصِبت المجانيق على القلعة، وشُحِنت بالزاد، وهمَّ نائب الغيبة بالفرار، ولكن العامة ردته ردًّا قبيحًا، وهاج الناس وماجوا ونادوا بتسليم البلد من غير قتال، وكل هذا وعسكر مصر لم يخرجُ منها بعدُ، ثم في ربيع الآخر بدأ جيش مصر بالخروج منها متوجِّهين إلى دمشق، هذا وجيش تيمورلنك قد وصل قريبًا من حمص؛ فبدأ الناس بالهرب وخاصة أن أهل بعلبك أيضًا هربوا لنزول تيمورلنك عليهم، ثم في سادس جمادى الأولى قدم السلطان دمشق بعساكره، وقد وصل أصحاب تيمورلنك إلى البقاع، وفي يوم السبت الخامس عشر من هذا الشهر نزل تيمورلنك إلى قطا، فملأت جيوشه الأرض، وركب طائفةٌ منهم إلى العسكر وقاتلوهم، فخرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء الثامن عشر إلى يلبغا، فكانت وقعة انكسرت ميسرةُ العسكر، وانهزم أولاد الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران، وجُرح جماعة، وحَمل تيمورلنك حملةً منكرة؛ ليأخُذَ بها دمشق، فدفعته عساكِرُ السلطان، ونزل كلٌّ من العسكرين بمعسكره، وبعث تيمورلنك إلى السلطان في طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه، وأنه هو أيضًا يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم في وقعة حلب، فأشار تغري بردي ودمرداش وقطلوبغا الكركي في قبول ذلك؛ لما يعرفون من اختلاف كلمتهم، لا لضعف عسكرهم، فلم يقبلوا وأبوا إلا القتال، ثم أرسل تيمور رسولًا آخر في طلب الصلح وكرَّر القول ثانيًا، وظهر للأمراء ولجميع العساكر صحةُ مقالته، وأن ذلك على حقيقتِه، فأبى الأمراء ذلك، هذا والقتال مستمرٌّ بين الفريقين في كل يوم، فلما كان ثاني عشر جمادى الآخرة اختفى من أمراء مصر والمماليك السلطانية جماعة، منهم الأمير سودون الطيار، وقاني باي العلائي رأس نوبة، وجمق، ومن الخاصكية يشبك العثماني، وقمش الحافظي، وبرسبغا الدوادار، وطرباي، في جماعة أخر، فوقع الاختلافُ عند ذلك بين الأمراء، وعادوا إلى ما كانوا عليه من التشاحُن في الوظائف والإقطاعات والتحكُّم في الدولة، وتركوا أمر تيمورلنك كأنه لم يكن، وأخذوا في الكلام فيما بينهم بسببِ من اختفى من الأمراء وغيرهم، هذا وتيمورلنك في غاية الاجتهاد في أخذ دمشق، وفي عمل الحيلة في ذلك، ثم أُعلِمَ بما الأمراء فيه، فقَوِيَ أمرُه واجتهاده بعد أن كان عزم على الرحيل، واستعدَّ لذلك، فلما كان آخر ليلة الجمعة الحادي والعشرين جمادى الأولى ركب الأمراء وأخذوا السلطان الملك الناصر فرج على حين غفلة، وساروا به من غير أن يعلم العسكر به مِن على عقبة عمر يريدون الديارَ المصرية، وتركوا العساكِرَ والرعية من المسلمين غَنَمًا بلا راعٍ، وأما بقية أمراء مصر وأعيانها من القضاة وغيرهم لما علموا بخروج السلطان من دمشق خرجوا في الحال في إثره طوائف طوائف يريدون اللحاق بالسلطان، فأخذ غالبهم العشير وسلبوهم، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأما العساكر الذين خُلِّفوا بدمشق من أهل دمشق وغيرها، فإنه كان اجتمع بها خلائق كثيرة من الحلبيين والحمويين والحمصيين وأهل القرى ممن خرج جافلًا من تيمور، ولما أصبحوا يوم الجمعة، وقد فقدوا السلطانَ والأمراء والنائب، غلَّقوا أبواب دمشق، وركبوا أسوار البلد، ونادَوا بالجهاد، فتهيَّأ أهل دمشق للقتال وزحف عليهم تيمورلنك بعساكره، فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشدَّ قتال، وردوهم عن السور والخندق، وأسروا منهم جماعة ممن كان اقتحم باب دمشق، وأخذوا من خيولِهم عدَّةً كبيرة، وقتلوا منهم نحو الألف، وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة، وصار أمرُهم في زيادة، فأعيا تيمورلنك أمرهم، وعلم أن الأمر يطول عليه، فأخذ في مخادعتهم، وعمل الحيلة في أخذِ دمشق منهم، وبينما أهل دمشق في أشدِّ ما يكون من القتال والاجتهاد في تحصين بلدهم، قَدِمَ عليهم رجلان من أصحاب تيمورلنك من تحت السور وصاحا مِن بُعدٍ: الأميرُ يريد الصلح، فابعثوا رجلًا عاقلًا حتى يحدِّثَه الأمير في ذلك، ولما سمع أهل دمشق كلام أصحاب تيمورلنك في الصلح وقع اختيارُهم في إرسال قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن مفلح الحنبلي، فأرخى من سور دمشق إلى الأرض، وتوجَّه إلى تيمورلنك واجتمع به وعاد إلى دمشق وقد خدعه تيمورلنك بتنميق كلامه، وتلطَّف معه في القول، وترفَّق له في الكلام، وقال له: هذه بلدة الأنبياء والصحابة وقد أعتقتُها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقةً عني وعن أولادي، ولولا حنقي من سودون نائب دمشق عند قتله لرسولي ما أتيتُها، وقد صار سودون المذكور في قبضتي وفي أسري، وقد كان الغرض في مجيئي إلى هنا، ولم يبقَ لي الآن غرض إلا العود، ولكِنْ لا بد من أخذ عادتي من التقدمة من الطقزات، وكانت هذه عادته: إذا أخذ مدينةً صلحًا يُخرِجُ إليه أهلها من كل نوع من أنواع المأكول والمشروب والدواب والملابس والتحف تسعة؛ يسمون ذلك طقزات، والطقز باللغة التركية: تسعةٌ، وهذه عادة ملوك التتار، فعاد ابن مفلح يثني على تيمورلنك ويحثُّ الناس على عدم القتال وإعطائِه ما يريد، وكاد يحصل بسبب ذلك فتنةٌ إلى أن جمع ابن مفلح ما يريده تيمورلنك وحمله إليه وعاد هو ومن معه ومعهم فرمان من تيمورلنك لهم، وهو ورقة فيها تسعة أسطر يتضمن أمانَ أهل دمشق على أنفُسِهم وأهليهم خاصة؛ فقرئ الفرمان المذكور على منبر جامع بني أمية بدمشق، وفُتح من أبواب دمشق باب الصغير فقط، وقدم أمير من أمراء تيمور جلس فيه لِيَحفَظَ البلد ممن يعبر إليها من عساكر تيمور، فمشى ذلك على الشاميين وفرحوا به، لكن تيمورلنك لم يرضَ بالمال الذي أُحضِرَ له، بل طلب أضعافه، فحصل من الغلاء في دمشق ما لا يُصَدَّق بسبب ذلك، ثم إن الجمعة قد دُعِيَ فيها لابن تيمورلنك في الخطبة، ثم قدم شاه ملك أحد أمراء تيمورلنك إلى مدينة دمشق على أنه نائبها من قِبَل تيمور، ثم بعد جمعتين منعوا من إقامة الجمعة بدمشق لكثرة غلبة أصحاب تيمورلنك بدمشق، كل ذلك ونائب القلعة ممتنع بقلعة دمشق، وأعوان تيمورلنك تحاصِرُه أشد حصار، حتى سَلَّمها بعد تسعة وعشرين يومًا، وقد رمي عليها بمدافع ومكاحل لا تدخل تحت حصر، هذا وليس بالقلعة المذكورة من المقاتلة إلا نفر قليل دون الأربعين نفرًا، وطال عليهم الأمر، ويئسوا من النجدة، وطلبوا الأمان، وسلموها بالأمان، وكان تيمورلنك لما اتفق أولًا مع ابن مفلح على ألف ألف دينار يكون ذلك على أهل دمشق خاصة، والذي تركته العساكر المصرية من السلاح والأموال يكون لتيمور، فخرج إليه ابن مفلح بأموال أهل مصر جميعها، فلما صارت كلها إليه وعلم أنه استولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فرُّوا من دمشق، فسارعوا أيضًا إلى حمل ذلك كله، وتدافعوا عنده حتى خلص المال جميعه، فلما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما في البلد من السلاح: جليلِها وحقيرِها، فتتبعوا ذلك وأخرجوه له حتى لم يبقَ بها من السلاح شيءٌ، فلما فرغ ذلك كله قبض على ابن مفلح ورفقته، وألزمهم أن يكتبوا له جميعَ خِطَط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا فلكًا ودفعوه إليه، ففرقه على أمرائه، وقسم البلد بينهم، فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم، ونزل كل أمير في قسمه، وطلب من فيه، وطالبهم بالأموال، فحينئذ حلَّ بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف، وأجرى عليهم أنواع العذاب من الضرب والعصر والإحراق بالنار، والتعليق منكوسًا، وغم الأنف بخرقة فيها تراب ناعم، كلما تنفَّس دخل في أنفه حتى تكاد نفسُه تُزهَق؛ فكان الرجل إذا أشرف على الهلاك يخلَّى عنه حتى يستريح، ثم تعاد عليه العقوبة أنواعًا، فكان المعاقَبُ يحسُدُ رفيقَه الذي هلك تحت العقوبة على الموت، ويقول: ليتني أموت وأستريح مما أنا فيه! ومع هذا تؤخذ نساؤه وبناته وأولاده الذكور، وتُقَسَّم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرجل المعذَّب امرأته أو بنته وهي توطأ، وولده وهو يلاطُ به، فيصرخ هو من ألم العذاب، والبنت والولد يصرخان من إزالة البكارة واللواط!! وكل ذلك من غير تستُّر في النهار بحضرة الملأ من الناس، ورأى أهل دمشق أنواعًا من العذاب لم يُسمَع بمثلها، واستمرَّ هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يومًا، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب، فهلك في هذه المدة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددَهم إلا الله تعالى، فلما علم أمراء تيمورلنك أنه لم يبق بالمدينة شيء، خرجوا إلى تيمورلنك فسألهم هل بقي لكم تعلُّق في دمشق؟ فقالوا: لا، فأنعم عند ذلك بمدينة دمشق أتباع الأمراء، فدخلوها يوم الأربعاء آخر رجب، ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الحرب وغيرها، وسبَوا نساء دمشق وساقوا الأولاد والرجال، وتركوا من الصغار مَن عُمُره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميعَ مربوطين في الحبال، ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد، وكان يومًا عاصف الريح، فعم الحريقُ جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها آخرها يوم الجمعة، وكان تيمورلنك -لعنه الله- سار من دمشق في يوم السبت ثالث شهر شعبان بعدما أقام على دمشق ثمانين يومًا، وقد احترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق، وزالت أبوابه وتفطَّر رخامه، ولم يبق غيرُ جُدُرِه قائمة، وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها وصارت أطلالًا بالية ورسومًا خالية، ولم يبقَ بها دابة تدب إلا أطفال يتجاوز عددهم آلاف، فيهم من مات، وفيهم من سيموت من الجوع!!
كان لسقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين سنة642 هـ (1244م) صدى كبير في أوروبا فأخذت أوروبا تجَهِّزُ لحملة صليبيةٍ جديدةٍ كبيرةٍ هي الحملةُ الصليبية السابعة للاستيلاءِ على مصر, حيثُ إنهم أدركوا بعد هزيمةِ حَملتِهم الصليبية الخامسةِ على مصر، ثم هزيمتهم في معركة الحربيَّة عند غزة، وضياع بيت المقدس منهم، أنَّ مِصرَ هي التي تمثل مركزَ قُوَّة المسلمين وقلعة التصدِّي لطموحاتِهم في الاستيلاءِ على بيتِ المقدسِ والشَّرق, وكان لويس التاسع ملك فرنسا الذي عُرِفَ لاحقًا بالقديس لويس، من أشد المتحمِّسين لقيام تلك الحملة، فراح يروِّجُ لها في أنحاء أوروبا. خرج لويس التاسع قاصدًا الديار المصرية في جموعٍ عظيمة فسار عن بلاده بأموالٍ جزيلة وأُهبة عظيمة، وأرسى بعكَّا وانبثَّ أصحابُه في جميع بلاد الساحل. فلمَّا استراحوا جاؤوه حاشدينَ حافلين وساروا في البحرِ إلى دمياط ومَلَكوها بغيرِ تَعَب ولا قتالٍ؛ لأنَّ أهلَها لَمَّا بلَغَهم ما الفرنجُ عليه من القوة والكثرة والعُدَّة الكاملة هالهم أمرُهم فرحلوا عنها مخفِّين. فوصل إليها الفرنجُ ولَقُوها خالية عن المقاتلين مليئةً بالأرزاق والسِّلاح، فدخلوها وغَنِموا ما فيها من الأموال. وكان الملكُ الصالح أيوب بن الملك الكامل صاحبُ مصر يومئذ بالشَّامِ يحاصر مدينة حمص. فلمَّا سَمِعَ بمقدم الفرنج رحل عن حمصَ وسار مسرعًا إلى الديار المصرية ومرض في الطريقِ وعند وصوله إلى المنصورة وافاه مقدَّمو دمياط الذين أخلوها منهزمين، فلما قيل له ما صنعوا لأنَّهم فرُّوا عنها من غير أن يباشروا حربًا وقتالًا، عظم ذلك عليه فأمر بصَلبِهم وكانوا أربعة وخمسين أميرًا فصُلِبوا كما هم بثيابِهم ومناطِقِهم وخفافِهم. ثم مات من الغدِ في الخامس عشر من شعبان. وتولَّى تدبير المملكة الأمير عزُّ الدين المعروف بالتركمانيِّ، وهو أكبر المماليك الترك. وكان مرجعه في جميع ذلك ممَّا يعتمده من الأمور إلى حظيَّة الملك الصالح أيوب المسمَّاة شجرة الدرِ،ّ وكانت تركية داهيةَ الدَّهرِ لا نظير لها في النساءِ حُسنًا، وفي الرجال حزمًا. فاتفقا على تمليك الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح. وكان يومئذٍ بحِصن كيفا من ديارِ بكر, فسار إلى الدِّيار المصريَّة وبايعوه وحَلَفوا له وسَلَّموا إليه مُلكَ أبيه. وفي مطلع سنة 648 سيَّرَ لويس التاسع ألفي فارس نحو المنصورة ليجسَّ بهم ما عليه المصريون من القوَّة. فلَقِيَهم طرفٌ مِن عسكر المسلمينَ فاقتتلوا قتالًا ضعيفًا فانهزم المسلمون بين أيديهم فدخل الفرنجُ المنصورةَ ولم ينالوا منها نيلًا طائلًا؛ لأنهم حَصلوا في مضايق أزقَّتِها وكان العامَّةُ يقاتلونهم بالحِجارة والآجُرِّ والتراب وخيولهم الضَّخمة لم تتمكَّن من الجولان بين الدُّروبِ، وكان القائد لعسكر المسلمين فخر الدين عثمان المعروف بابن شيخ الشيوخ أحد الأمراء المصريين شيخًا كبيرًا، أحاط به الفرنجُ وهو في الحمام يصبغُ لحيَتَه فقتلوه هناك. وعادوا إلى لويس التاسع وأعلموه بما تمَّ لهم مع ذلك العسكر وبالمدينة. فزاد طمعه وطمَعُ من معه من البطارقة ظانِّينَ أنه إذا كان الالتقاء خارج الجدران بالصحراء لم يكن للمسلمين عليهم مقدرة. فعبَّى جيوشه وسار بهم طالبًا احتلال أرض مصر. فصبر المصريون إلى أن عبر الفرنج الخليجَ مِن النيل المسمى أشموم طناح وهو بين البرَّين: برِّ دمياط وبرِّ المنصورة. في ليلة الأربعاء الثالث من محرم رحل الفرنج بأسرِهم من منزلتهم وانحدرت مراكِبُهم في البحر قبالةَ المسلمين، فركب المسلمونَ أقفيَتَهم، بعد أن عَدَّوا برَّهم واتبعوهم، فطلع صباحُ نهار يوم الأربعاء وقد أحاط بهم المسلمون، وبَلَوا فيهم سيوفَهم، واستولوا عليهم قتلًا وأسرًا، وكان معظمُ الحرب في فارسكور، فبلغت عدة القتلى عشرةَ آلاف في قَولِ المقِلِّ، وثلاثين ألفًا في قولِ المكثر، وأُسِرَ من خيَّالة الفرنج ورجالتهم المقاتلة، وصناعهم وسُوقتِهم، ما يناهِزُ مائة ألف إنسان، وغَنِمَ المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرةً، واستُشهِدَ من المسلمين نحو مائة رجل، وأبلت الطائفةُ البحرية لاسيما بيبرس البندقداري في هذه النوبة بلاءً حسنًا، وبان لهم أثرٌ جميل، والتجأ الملك الفرنسيُّ وعِدَّة من أكابر قومه إلى تل المنية، وطلبوا الأمانَ فأمَّنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي، ونزَلوا على أمانه، وأُخِذوا إلى المنصورة، فقُيِّد الملك الفرنسي بقيدٍ مِن حديدٍ واعتُقِلَ في دار القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتبِ الإنشاء، التي كان ينزل بها من المنصورةِ ووكَلَ بحفظه الطواشي صبيح المعظمي، واعتُقِلَ معه أخوه، وأجرى عليه راتبًا في كل يوم، وتقَدَّم أمر الملك المعظم توران شاه لسيف الدين يوسف بن الطودي أحد من وصل معه من بلاد الشرق بقَتلِ الأسرى من الفرنج، وكان سيفُ الدين يُخرِجُ كُلَّ ليلة منهم ما بين الثلاثمائة والأربعمائة ويَضرِبُ أعناقَهم ويرميهم في البحر، حتى فَنُوا بأجمعهم، ورحل السلطانُ من المنصورة، ونزل بفارسكور وضرب بها الدهليزَ السلطاني، وعَمِلَ فيه برجًا من خَشَبٍ.
لمَا خلا بالُ السلطان الظاهر بيبرس من هَمِّ المَلِك المغيث صاحب الكرك، توجَّهَ بكليته إلى الفرنجِ؛ فإنَّهم كانوا قد شرعوا في التعَلُّل وطلبوا زرعين- وهي قرية في سهل زرعين بصفد- فأجابَهم السلطان بأنكم تعوَّضتُم عنها في الأيام الناصرية ضِياعًا من مرج عيون، وهم لا يزدادونَ إلا شكوى، وآخِرَ الحال طلب الفرنجُ من والي غزة كتابًا بتمكينِ رُسُلِهم إذا حضروا، فكتب لهم الكتابَ، وتواصلت بعد ذلك كتُبُهم، ووردت كتبُ النواب بشكواهم، وأنهم اعتمدوا أمورًا تفسِخُ الهدنة فلمَّا صار السلطان في وسط بلادِهم وردت عليه كتُبُهم، هذا وقد أمَرَ السلطان ألا ينزِلَ أحد في زرع الفرنجِ ولا يُسَيِّب فرسًا، ولا يؤذي لهم ورقةً خضراء، ولا يتعَرَّض إلى شيء من مواشيهم ولا إلى أحد من فلَّاحيهم، وكانت كتبهم أولًا تَرِدُ بندمهم على الهدنة وطلَبِهم فَسْخَها، فلما قرب السلطانُ منهم صارت تَرِدُ بأنهم باقون على العَهدِ مُتمَسِّكون بأذيال المواثيق، وفي اليوم الذي قُبِضَ فيه على الملك المغيث، أمَرَ السلطان بإحضار بيوت الفرنجيَّة، وقال: ما تقولون؟ قالوا: نتمَسَّك بالهدنة التي بيننا، فقال السلطان: لم لا كان هذا قبلَ حُضورنا إلى هذا المكان، وبالجملة فأنتم أخذتم هذه البلاد من المَلِك الصالح إسماعيل لإعانةِ مملكة الشام، وطاعةِ مَلِكِها ونصرته والخروجِ في خدمته، وإنفاقِ الأموال في نجدتِه، وقد صارت بحمد الله مملكةُ الشام وغيرها لي، وما أنا محتاج إلى نصرتكم ولا إلى نجدَتِكم، ولم يبقَ لي عدو أخافه، فرُدُّوا ما أخذتموه من البلاد، وفكُّوا أسرى المسلمين جميعهم، فإني لا أقبل غير ذلك، فلما سمع رسل الفرنج هذه المقالةَ بُهِتوا، وقالوا: نحن لا ننقُضُ الهدنة، وإنما نطلُبُ مَراحِمَ السلطان في استدامتِها، ونحن نزيل شكوى النواب، ونخرجُ مِن جميع الدعاوى ونفُكُّ الأسرى، ونستأنف الخِدمةَ، فقال السلطان: كان هذا قبل خروجي من مصرَ، في هذا الشتاءِ وهذه الأمطارِ، ووصول العساكرِ إلى هنا، وانفَصَلوا على هذه الأمور، فأمر السلطانُ بإخراجهم وألَّا يَبِيتوا في الوطاق، ووجَّه الأمير علاء الدين طيبرس إلى كنيسة الناصرة، وكانت أجلَّ مواطِنِ عباداتهم ويزعُمونَ أنَّ دينَ النصرانية ظهَرَ منها، فسار إليها وهدمها، فلم يتجاسَرْ أحدٌ من الفرنج أن يتحَرَّك، ثمَّ وجه السلطانُ الأمير بدر الدين الأيدمري في عسكر إلى عكا، فساروا إليها واقتَحَموا أبوابها وعادوا، ثم ساروا ثانيًا، وأغاروا على مواشي الفرنجِ، وأحضروا منها شيئًا كثيرًا إلى المخَيَّم، ثم ركب السلطان وجَرَّد من كل عشرة فارسًا، واستناب الأميرَ شجاع الدين الشبلي المهمندار- من يقوم بضيافة الرسل الواردين على السلطان- في الدهليز السلطاني، وساق من منزلة الطور نصف الليل، فصبَّحَ عكَّا وأطاف بها من جهة البر، وندب جماعةً لحصار برج كان قريبًا منه فشرعوا في نقبه، وأقام السلطانُ على ذلك إلى قريبِ المغرب وعاد، وكان قصدُه بذلك كشْفَ مدينة عكا؛ فإنَّ الفرنج كانوا يزعمونَ أن أحدًا لا يجسُرُ أن يقرب منها، فصاروا ينظرُونَ من أبواب المدينة ولا يستطيعون حركة، ولما عاد السلطان إلى الدهليز ركب لما أصبح، وأركب ناس معه، وساق إلى عكا، فإذا الفرنجُ قد حفروا خندقًا حول تل الفضول، وجعلوا معاثر في الطريق، ووقفوا صفوفًا على التلِّ، فلما أشرف السلطانُ عليهم رتَّب العسكرَ بنفسه، وشرع الجميعُ في ذكرِ الله وتهليلِه وتكبيرِه، والسلطان يحثُّهم على ذلك حتى ارتفعت أصواتهم، وللوقت رُدِمَت الخنادقُ بأيدي غلمان العساكِرِ وبمن حضر من الفقراءِ المجاهدين، وصَعِد المسلمون فوق تل الفُضول، وقد انهزم الفرنجُ إلى المدينة، وامتَدَّت الأيدي إلى ما حول عكا من الأبراج فهُدِمَت، وحُرِقَت الأشجارُ حتى انعقد الجوُّ من دخانها، وساق العسكرُ إلى أبوابِ عكا، وقَتَلوا وأسروا عِدَّةً مِن الفرنجِ، والسلطان قائمٌ على رأس التل يعملُ في أخذِ رأي المدينة، والأمراءُ تحمِلُ على الأبواب واحدًا بعد واحد، ثم حملوا حملةً واحدة ألقوا فيها الفرنجَ في الخنادق، وهلك منهم جماعةٌ في الأبواب، فلما كان آخرُ النهار ساق السلطانُ إلى البرج الذي نُقب، وقد تعلَّقَ حتى رُمِيَ بين يديه، وأُخِذَ منه أربعةٌ من الفرسان ونيف وثلاثون راجلًا، وبات السلطان على ذلك، فلما أصبح عاد على بلاد الفرنجِ وكشفها مكانًا مكانًا، وعبر على الناصرةِ حتى شاهد خرابَ كنيستِها وقد سوَّى بها الأرض، وصار إلى الصفَّة التي بناها قبالة الطور، فوافاها ليلًا وجلس عليها، وأحضر الشموع التي بالمنجنيقات ونصب عليها خمسة، ورحل السلطان من الطور يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة، وسار إلى القدسِ فوافاه يوم الجمعة عشرة، وكشف أحوال البلدِ وما يحتاج إليه المسجِدُ من العمارة، ونظر في الأوقاف وكتب بحمايتِها، ورتَّبَ برسم مصالح المسجد في كل سنة خمسة آلاف درهم وأمر ببناء خان خارج البلد، ونقل إليه من القاهرة باب القصر المعروف بباب العيد، ونادى بالقدس ألا ينزل أحدٌ في زرع.
قَدِمَ دمرداش بن جوبان بن تلك بن تداون المغولي مصرَ في سابع ربيع الأول، وسَبَبُ ذلك أن القان أبا سعيد بن خربندا المغولي لَمَّا مَلَك أقبلَ على اللهو، فتحَكَّم الأميرُ جوبان بن تلك على الأردو، وقام بأمر المملكة، واستناب ولدَه خواجا رمشتق بالأردو، وبعث ابنَه دمرداش إلى مملكة الروم، فانحصر أبو سعيد بن خربندا إلى أن تحَرَّك بعض أولاد كبك بجهة خراسان، وخرج عن الطاعةِ، فسار جوبان لحَربِه في عسكرٍ كبير، فما هو إلَّا أن بَعُد عن الأردو قليلًا حتى رجع العدوُّ عن خراسان، وقصد جوبان العودَ، وكان قد قبض أبو سعيدٍ على خواجا رمشتق، وقتَلَه بظاهر مدينة السلطانيَّة في شوال من السنة الماضية، وأتبَعَ به إخوتَه ونَهَب أتباعهم، وسَفَك أكثَرَ دمائهم، وكتب إلى من خرج من العسكَرِ مع جوبان بما وقع، وأمَرَهم بقبضه، وكتب إلى دمرداش أن يحضُرَ إلى الأردو، وعَرَّفه شَوقَه إليه، ودَسَّ مع الرسول إليه عِدَّة ملطفات إلى أمراء الروم بالقَبضِ عليه أو قَتْلِه، وعَرَّفَهم ما وقع، وكان دمرداش قد مَلَك بلاد الروم جميعَها وجبالَ ابن قرمان، وأقام على كلِّ دربند جماعةً تحفَظُه، فلا يمُرُّ أحد إلا ويعلم به خوفًا على نفسِه من السلطان الملك الناصر أن يبعَثَ إليه فداويًّا لقتلِه، بسبب ما حصل بينهما من المواحَشةِ التي اقتضت انحصارَ السلطان منه، وأنَّه منع التجارَ وغَيرَهم مِن حَملِ المماليكِ إلى مصر، وإذا سمِعَ بأحد من جهة صاحِبِ مصر أخرق به، فشَرَعَ السلطان يخادِعُه على عادته، ويهاديه ويتَرَضَّاه، وهو لا يلتَفِتُ إليه، فكتب إلى أبيه جوبان في أمْرِه حتى بعث ينكِرُ عليه، فأمسك عمَّا كان فيه قليلًا، ولَبِسَ تشريف السلطان، وقَبِلَ هَدِيَّته وبعث عِوَضَها، وهو مع هذا شديدُ التحَرُّز، فلما قَدِمَت رسل أبي سعيد بطَلَبِه فتَّشَهم الموكَّلون بالدربندات، فوجدوا الملطفات، فحملوهم وما معهم إلى دمرداش، فلما وقف دمرداش عليهما لم يزَلْ يعاقِبُ الرسُلَ إلى أن اعترفوا بأنَّ أبا سعيد قَتَل خواجا رمشتق وإخواته ومن يلوذُ بهم، ونهب أموالَهم، وبعث بقتل جوبان، فقَتَل دمرداش الرسُلَ، وبعث إلى الأمراء أصحابِ الملطفات فقَتَلَهم أيضًا، وكتب إلى السلطانِ الملك الناصر يَرغَبُ في طاعته، ويستأذِنُه في القدوم عليه بعساكر الروم، ليكون نائبًا عنه بها، فسُرَّ السلطان بذلك، وكان قد ورد على السلطانِ كتابُ المجد السلامي من الشرق بقَتلِ خواجا رمشتق وإخوته، وكتاب أبي سعيد بقَتلِ جوبان، وطلب ابنه دمرداش، وأنه ما عاق أبا سعيد عن الحركة إلا كثرةُ الثلج وقُوَّة الشتاء، فكتب السلطانُ الناصر جواب دمرداش يَعِدُه بمواعيد كثيرة، ويُرَغِّبُه في الحضور، فتحَيَّرَ دمرداش بين أن يقيم فيأتيه أبو سعيد، أو يتوجَّه إلى مصر فلا يدري ما يتَّفِقُ له، ثم قَوِيَ عنده المسير إلى مصر، وأعلَمَ أمراءَه أنَّ عسكَرَ مِصرَ سار ليأخُذَ بلاد الروم، وأنه قد كتب إليه المَلِكُ الناصر يأمره أن يكون نائِبَه، فمشى عليهم ذلك وسَرَّهم، فلمَّا قدم دمرداش إلى القاهرة في سابع ربيع الأول أتاه الأميرُ طايربغا وأحضره إلى السلطانِ بالجيزة، فقَبَّل الأرض ثلاثَ مرات، فترحَّبَ السلطان به وأجلَسَه بالقرب منه، وأكرمه وبالغ في ذلك واجتَمَعَ دمرداش بالسلطانِ وفاوضه في أمرِ بلاد الروم، وأن يجهِّزَ إليها عسكرًا، فأشار السلطانُ بالمهلة حتى يَرِدَ البريد بخبر أبيه جوبان مع أبي سعيد، فاستأذن دمرداش في عَودِ مَن قَدِمَ معه إلى بلادِهم، فأذِنَ له في ذلك، فسار كثيرٌ منهم، ثم جاء كتابٌ فيه بيان أحوال دمرداش هذا وأنَّه سفك دماءً كثيرة، وقَتَل من المسلمين عالَمًا عظيمًا، وأنَّه جَسورٌ وما قصد بدخولِه مِصرَ إلا طمعًا في مُلكِها، وبعث ابن قرمان الكتابَ صحبة نجم الدين إسحاق الرومي صاحب أنطالية، وهي القلعة التي أخذها منه دمرداش وقَتَل والِدَه، وأنَّه قَدِمَ ليطالِبَه بدَمِ أبيه، فلما وقف السلطانُ على الكتاب تغيَّرَ، وطلب دمرداش وأعلَمَه بما فيه، وجمع السلطانُ بينه وبين إسحاق، فتحاقَقا بحضرة الأمراء، فظهر أنَّ كُلًّا منهما قتَلَ لصاحِبِه قتيلًا، فكتب جواب ابن قرمان معه وأُعيد، وقد تبَيَّن للسلطان خُبثُ نية دمرداش، فقبضه ومن معه واعتقل دمرداش ببرج السباعِ مِن القلعة، وفَرَّق البقية في الأبراج، وفُرِّقَت مماليكُه على الأمراء، ورُتِّبَ له ما يكفيه، وكان للقبضِ على دمرداش أسباب: منها أنه كان قد أخذ يوقِعُ في الأمراء والخاصكية، ويقول: هذا كان كذا، وهذا كان كذا، وهذا ألماس الحاجب كان حمَّالًا، فما حمل السلطان هذا منه، فلما كان في ليلة الخميس رابع شوال من هذه السنة أُخرِجَ دمرداش من مُعتَقَلِه بالبرج، وفُتِحَ باب السِّرِّ من جهة القرافة وأُخرِجَ منه وهو مُقَيَّدٌ مَغلول، وشاهَدَه رسُلُ الملك أبي سعيد وهو على هذه الحالِ، ثم خُنِقَ دمرداش، وشاهده الرسُلُ بعد موته، وقُطِعَ رأسُه وسُلِخَ وصُبِرَ وحُشِيَ، وأرسل السلطانُ الرأسَ إلى أبي سعيد، ودُفِنَ الجسَدُ بمكانِ قَتْلِه.
كَثُرَ عَبَثُ العُربان ببلاد الصعيد بقيادة الأحدب محمد بن واصل شيخ عرك، فجمع جمعًا كبيرًا، وتسمَّى بالأمير، فقَدِمَ الخبر في شعبان بأنهم كَبَسوا ناحيةَ ملوي، وقتلوا بها نحو ثلاثمائة رجل، ونهبوا المَعاصِرَ، وأخذوا حواصِلَها وذَبحوا أبقارَها، وأنَّ عَرَب منفلوط والمراغة وغيرهم قد نافقوا، وقَطَعوا بعض الجسور بالأشمونين، فوقع الاتفاقُ على الركوب عليهم بعد تخضيرِ الأراضي بالزراعة، وكُتِبَ إلى الولاة بتجهيز الإقامات برًّا وبحرًا، فأخذَ العرب حِذْرَهم، فتفَرَّقوا واختَفَوا، وقَدِمَت طائفة منهم إلى مصر، فأُخِذوا، وكانوا عشرة، فقُبِضَ ما وجد معهم من المال، وحَمل الأمير جندار، فإنهم كانوا فلَّاحيه، وأُتلِفوا، فلما برز الحاجُّ إلى بركة الحجَّاج ركب الأمير شيخو، وضرب حلقةً على الركب، ونادى مَن كان عنده بدويٌّ وأخفاه، حَلَّ دَمُه، وفَتَّش الخيام وغيرها، فقَبض على جماعة، فقتل بعضهم وأفرج عن بَعضٍ، ثمَّ لما عاد السلطان إلى الجيزة كُبِسَت تلك النواحي، وحُذِّرَ الناس من إخفاء العربان، فأُخِذَ البحري والبري، وقُبِضَت خيول تلك النواحي وسيوفُ أهلها بأسْرِها، وعُرِضَت الرجال، فمن كان معروفًا أُفرج عنه، ومن لم يعرف أقِرَّ في الحديد وحُمِل إلى السجنِ، ورُسِمَ أنَّ الفلاحين تبيعُ خُيولَهم بالسوق، ويوردون أثمانَها ممَّا عليهم من الخراجِ فبِيعَت عِدَّةُ خيول، وأُورِدَ أثمانها للمُقطِعين، والفَرَس الذي لم يُعرَف له صاحِبٌ حُمِلَ إلى إسطبل السلطان، وكُتِبَ للأمير عز الدين أزدمر، الكاشِفِ بالوجه البحري، أن يركَبَ ويكبِسَ البلادَ التي لأرباب الجاه، والتي يأويها أهلُ الفسادِ، فقَبَض على جماعةٍ كثيرة ووسَّطَهم، وساق منهم إلى القاهرةِ نحو ثلاثمائة وخمسين رجلًا، ومائة وعشرين فرسًا، وسلاحًا كثيرًا، ثم أحضَرَ الأميرُ أزدمر من البحيرة ستمائة وأربعين فرسًا، فلم يبقَ بالوجه البحري فرس، ورُسِمَ لقضاة البر وعُدولِه بركوب البغال والأكاديش، ثم كُبِسَت البهنسا وبلاد الفيوم، فركِبَ الأميران طاز وصرغتمش، بمن معهما إلى البلاد، وقد مَرَّ أهلها، واختفى بعضهم في حفائِرَ تحت الأرض، فقبضوا النِّساء والصبيان، وعاقبوهم حتى دلوهم على الرجال، فسَفَكوا دماء كثيرين، وعُوِقَب كثيرٌ من الناس بسبب من اختفى، وأُخِذَت عدة أسلحة، فحَشَد الأحدب بن واصل شيخ عرك جموعَه، وصَمَّم على لقاء الأمراء، وحَلَف أصحابه على ذلك، وقد اجتمع معه عرَبُ منفلوط، وعَرَبُ المراغة وبني كلب وجهينة وعرك، حتى تجاوزت فرسانُه عشرة آلاف فارس تحمِلُ السلاح، سوى الرجَّالة المعَدَّة، فإنَّها لا تعَدُّ ولا تحصى لكثرتِها، ثم رحل الأمير شيخو عن أسيوط، وبعث الأمير مجد الدين الهذبانى ليؤمِّنَ بنى هلال أعداء عرك، ويُحضِرَهم ليقاتلوا عرك أعداءَهم، فانخدعوا بذلك، وفَرِحوا به، وركبوا بأسلحتِهم، وقَدِموا في أربعمائة فارس، فما هو إلا أن وصلوا إلى الأمير شيخو فأمر بأسلحَتِهم وخيولهم فأُخِذَت بأسْرِها، ووضَعَ فيهم السَّيفَ، فأفناهم جميعًا، ثم قاتلوا العَرَبَ الباقين على دفَعات يقتلونهم، وأسَروا منهم الكثيرَ واستَرَقُّوا الأولادَ والحريم، وهلك من العرب خلائقُ بالعطش، ما بين فرسان ورجَّالة وجَدَّ المجَرَّدون في طلبهم، فسَلَبوهم، وصَعِدَ كثيرٌ منهم إلى الجبال، واختَفَوا في المغائر، فقَتَلَ العسكرُ وأَسَر، وسبى عددًا كثيرًا، وارتَقَوا إلى الجبال في طَلَبِهم، وأضرَموا النيران في أبواب المغائر، فمات بها خلقٌ كثير من الدخان، وخرج إليهم جماعةٌ، فكان فيهم من يُلقي نَفسَه من أعلى الجبل ولا يُسَلِّم نَفسَه، ويرى الهلاكَ أسهَلَ مِن أخذ العدوِّ له، فهلك في الجبالِ أُمَمٌ كثيرة وقُتِلَ منهم بالسيف ما لا يُحصى كثرةً، حتى عُمِلَت عدة حفائر ومُلِئَت من رمَمِهم، وأَنتَنَت البرِّيَّةُ من جِيَفِ القتلى ورِمَمِ الخَيلِ، وكان الأحدَبُ قد نجا بنفسِه، فلم يُقدَرْ عليه، ومن حينئذ أَمِنَت الطرقات برًّا وبحرًا، فلم يُسمَعْ بقاطع طريق بعدها، ووقع الموتُ فيمن تأخَّرَ في السجون من العُربان، فكان يموتُ منهم في اليوم من عشرين إلى ثلاثين، حتى فَنُوا إلا قليلًا، وفي شهر ربيع الأول قَدِمَ الأحدب محمد بن واصل، شيخ عرك من بلاد الصعيد، طائعًا، وكان من خَبَرِه أنه لما نجا وقت الهزيمة، وأُخِذَت أمواله وحَرَمُه، ترامى بعد عَودِ العسكر على الشَّيخِ المعتقد أبى القاسم الطحاوي، فكتب الشيخ في أمره إلى الأمير شيخو، يسأل العفوَ عنه وتأمينَه، على أنَّه يقومُ بدَركِ البلاد، ويلتَزِمُ بتحصيل جميع غِلالِها وأموالِها، وما يحدُثُ بها من الفَسادِ فإنَّه مُؤاخَذٌ به، وأنَّه يقابِلُ نواب السلطان من الكُشَّاف والولاة، فكُتِب له أمانٌ سُلطاني، وكُوتِبَ بتطييب خاطِرِه وحضوره آمنًا، فسار ومعه الشيخ أبو القاسم، فأكرم الأمراءُ الشَّيخَ، وأكرموا لأجله الأحدَبَ، وكان دخولُه يومًا مشهودًا، وتمثَّل الأحدَبُ بين يدي السلطان، وأنعم عليه السلطانُ وألبسه تشريفًا وناله من الأمراءِ إنعامٌ كثيرٌ، وضَمِنَ منهم درك البلاد على ما تقدَّمَ ذِكرُه، فرُسِمَ له بإقطاعٍ، وعاد الأحدب إلى بلاده بعد ما أقام نحو شهرٍ.
كثُرَ تنافرُ الأمراء واختلافهم، وانقطع نوروز، وجكم الجركسي الظاهري، وقنباي، عن الخدمة، ودخل شهر رمضان وانقضى، فلم يحضروا للهناء بالعيد، ولا صلَّوا صلاة العيد مع السلطان، فلما كان يوم الجمعة ثاني شوال ركبوا للحرب، فنزل السلطان من القصر إلى الإسطبل عند سودن طاز، وركب نوروز وجكم وقنباي، وقرقماس الرماح، ووقعت الحربُ من بكرة النهار إلى العصر، ورأس الأمراءَ نوروز وجكم، وخصمهم سودن طاز، فلما كان آخر النهار بعث السلطان بالخليفةِ المتوكل على الله وقضاة القضاة الأربع إلى الأمير الكبير نوروز في طلب الصلح، فلم يجد بدًّا من ذلك، وترك القتال، وخلع عنه آلة الحرب، فكفَّ الأمير جكم الدوادار أيضًا عن الحرب، وعد ذلك مكيدةً من سودن طاز، فإنه خاف أن يغلِبَ ويُسَلِّمَه السلطان إلى الأمراء، فأشار عليه بذلك حتى فعله، فتمَّت مكيدته بعدما كاد أن يؤخذ؛ لقوة نوروز وجكم عليه، وبات الناس في هدوء، فلما كان يوم السبت الغد ركب الخليفة وشيخ الإسلام البلقيني، وحلَّفوا الأمراء بالسمع والطاعة للسلطان، وإخماد الفتنة، فطلع الأمير نوروز إلى الخدمة في يوم الاثنين خامسه، وخُلِعَ عليه، وأُركِبَ فرسًا خاصًّا بسرج، وكنفوش ذهب، وطلع الأمير جكم في ثامنه وهو خائف، ولم يطلع قنباي، ولا قرقماس، وطُلِبا فلم يُوجَدا، وجُهِّز إليهما خلعتان، على أن يكون قنباي نائبًا بحماة، وقرقماس حاجبًا بدمشق، ونزل جكم بغير خِلعة حنقًا وغضبًا، فما هو إلا أن استقر في داره، ونزل إليه سرماش رأس نوبة، وبشباي الحاجب بطلب قنباي، ظنًّا أنه اختفى ليلبس الخلعة بنيابة حماة، فأنكر أن يكون عنده وصرفهما، وركب من ليلته بمن معه من الأمراء والمماليك وأعيانهم قمش الخاصكي الخازندار، ويشبك الساقي، ويشبك العثماني، وألطبغا جاموس، وجانباي الطيبي، وبرسبغا الدوادار، وطرباي الدوادار، وصاروا كلهم على بركة الحبش خارج مصر، ولحق به الأمير قنباي، وقرقماس الرماح، وأرغز، وغنجق، ونحو الخمسمائة من مماليك السلطان، وأقاموا إلى ليلة السبت عاشره، فأتاهم الأمير نوروز، والأمير سودن من زاده رأس نوبة، والأمير تمربغا المشطوب، في نحو الألفين، فسُرَّ بهم، وأقاموا جميعًا إلى ليلة الأربعاء، وأمرُهم يزيد ويقوى بمن يأتيهم من الأمراء والمماليك، فنزل السلطان من القصر في ليلة الأربعاء الرابع عشر إلى الإسطبل عند سودن طاز، وركب بكرةَ يوم الأربعاء فيمن معه، وسار من باب القرافة بعد ما نادى بالعرض، واجتمع إليه العسكر كله، وواقع جكم ونوروز، وكسرهما، وأسَرَ تمربغا المشطوب، وسودن من زاده، وعلى بن أينال، وأرغر، وفرَّ نوروز وجكم في عدة كبيرة يريدون بلاد الصعيد، وعاد السلطان ومعه الأمير سودن طاز إلى القلعة مُظفَّرًا منصورًا، وبعث بالأمراء المأسورين إلى الإسكندرية في ليلة السبت السابع عشر، وانتهى نوروز وجكم إلى منية القائد وعادوا إلى طموه، ونزلوا على ناحية منبابه من بر الجيزة تجاه القاهرة، فمنع السلطان المراكبَ أن تعديَ بأحدٍ منهم في النيل، وطلب الأمير يشبك الشعباني من الإسكندرية، فقدم يوم الاثنين التاسع عشر إلى قلعة الجبل، ومعه عالم كبير ممن خرج إلى لقائه، فباس الأرض ونزل إلى داره، وفي ليلة الثلاثاء عِشرينه: ركب الأمير نوروز نصف الليل، وعدى النيل، وحضر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس الأتابك، وكان قد تحدَّث هو والأمير إينال باي بن قجماس له مع السلطان، حتى أمنه ووعده بنيابة دمشق، وكان ذلك من مكر سودن طاز، فمشى ذلك عليه، حتى حضر فاختلَّ عند ذلك أمر جكم وتفرَّق عنه من معه، وفرَّ عنه قنباي وصار فريدًا، فكتب إلى الأمير بيبرس الأتابك يستأذنه في الحضور، فبعث إليه الأمير أزبك الأشقر رأس نوبة، والأمير بشباي الحاجب، وقدما به ليلة الأربعاء في الحادي والعشرين إلى باب السلسلة من الإسطبل السلطاني، فتسلَّمه عدوه الأمير سودن طاز وأصبح وقد حضر يشبك وسائر الأمراء للسلام عليه، فلما كانت ليلة الخميس الثاني والعشرين قُيِّدَ وحمل في الحراقة -سفينة- إلى الإسكندرية، فسُجِن بها حيث كان الأمير يشبك مسجونًا، وفي يوم الخميس هذا خرج المحمَلُ وأمير الحاج نكباي الأزدمري، أحد أمراء الطبلخاناه، وكان قد ألبس الأمير نوروز تشريف نيابة دمشق في بيت الأمير بيبرس يوم الأربعاء، فقُبِض عليه من الغد يوم الخميس، وحُمل إلى باب السلسلة، وقُيِّد وأخرج في ليلة الجمعة الثالث والعشرين إلى الإسكندرية، فسُجِن بها أيضًا، وغضب الأميران بيبرس وإينال باي، وتركا الخدمة السلطانية أيامًا، ثم أُرضيا، واختفى الأميران قانباي وقرقماس، فلم يُعرَف خبرهما.
هو أمير المؤمنين في الحديث قاضي القضاة، شيخُ الإسلام، حافظ العصر، رحلة الطالبين، مفتي الفِرَق، شهاب الدين أبو الفضل أحمد ابن الشيخ نور الدين علي بن محمد بن علي بن أحمد بن حجر، المصريُّ المولدِ والمنشأِ والدار والوفاة، العسقلانيُّ الأصلِ، الشافعيُّ، قاضي قضاة الديار المصرية وعالِمُها وحافظها وشاعرها، ولد في 23 شعبان بالقاهرة سنة 773. مات والده وهو حَدَث السن، فكفَلَه بعض أوصياء والده إلى أن كبرَ وحفظ القرآن الكريم، واشتغل بالمتجر، وتولَّع بالنظم، وقال الشعر الكثير المليح إلى الغاية, ثم حَبَّب الله إليه طلبَ الحديث فأقبل عليه وسَمِعَ الكثير بمصر وغيرها، ورحل وانتقى، وحصَّل وسَمِع بالقاهرة من شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، والحافظين ابن الملقِّن والعراقي، وأخذ عنهم الفقه، ورحل إلى اليمن بعد أن جاور بمكة، وأقبل على الاشتغال والتصنيف، وبرع في الفقه والعربية، وصار حافظَ الإسلام، علَّامة في معرفة الرجال واستحضارهم، والعالي والنازل مع معرفةٍ تامة بعلل الأحاديث وغيرِها. وصار هو المعوَّلَ عليه في هذا الشأن في سائر أقطار الأرض، وقدوةَ الأمة، علَّامة العلماء، حجَّة الأعلام، مُحيي السنة، انتفع به الطلبة وحضر دروسَه جماعة من علماء عصره وقضاة قضاتِه، وقرأ عليه غالبُ فقهاء مصر، وأملى بخانقاه بيبرس نحوًا من عشرين سنة, ولَمَّا عُزِل عن منصب القضاة بالشيخ شمس الدين محمد القاياتي انتقل إلى دار الحديث الكاملية ببين القصرين، واستمَرَّ على ذلك، وناب في الحكم في ابتداء أمرِه عن قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني مدة طويلة، ثم عن الشيخ ولي الدين العراقي، ثم تنزَّه عن ذلك وتولى مشيخة خانقاه بيبرس الجاشنكير في دولة الملك المؤيد شيخ، وصار إذ ذاك من أعيان العلماء، وتصدر للإقراء والتدريس إلى أن ولَّاه الملك الأشرف برسباي قضاءَ القضاة الشافعية بالديار المصرية عوضًا عن قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني بعد عزلِه، وذلك في السابع والعشرين محرم سنة 827، فاستمَرَّ في المنصب ثم عُزِلَ عن القضاء وأعيد إليه، ثم عُزِلَ وأعيد أكثر من مرة. إلى أن طلب وأعيد عوضًا عن الشيخ ولي الدين محمد السفطي، وذلك في يوم الاثنين ثامن ربيع الآخرة سنة 852, وكان لولايته في هذه المرة يوم مشهود، فدام في المنصب إلى أن عزل نفسه في الخامس والعشرين جمادى الآخرة من هذه السنة، وولي من الغد عوضَه قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني، وهذه آخِرُ ولايته للقضاء, وانقطع شيخ الإسلام ابن حجر في بيته ملازمًا للاشغال والتصنيف إلى أن توفي بعد أن مرض أكثر من شهر. قال ابن تغري بردي: "كان رحمه الله حافِظَ المشرق والمغرب، أميرَ المؤمنين في الحديث، انتهت إليه رئاسةُ علم الحديث من أيام شبيبتِه بلا مُدافَعةٍ، بل قيل: إنه لم يَرَ مِثلَ نفسه، قلتُ: وهذا هو الأصح. وكان ذا شيبةٍ نيرة ووقار وأبَّهة، ومهابة، هذا مع ما احتوى عليه من العقل والحكمة والسكون والسياسة، والدربة بالأحكام ومداراة الناس قبل أن يخاطب الشخصَ بما يكره، بل كان يحسِنُ لمن يسيء إليه ويتجاوز عمن قَدَر عليه, وكانت صفته ذا لحيةٍ بيضاء ووجه صبيحٍ، للقِصَرِ أقرب، وفي الهامةِ نحيف، جيدِّ الذكاء، عظيم الحذق لمن ناظره أو حاضره، راويةً للشعر وأيامِ من تقدمه وعاصره، فصيح اللسان، شجيَّ الصوت، هذا مع كثرة الصوم ولزوم العبادة، واقتفائِه طرق من تقَدَّمه من الصلحاء السادة، وأوقاته للطلبة مقسمة تقسيمًا لمن ورد عليه آفاقيًّا كان أو مقيمًا، مع كثرة المطالعة والتأليف والتصدي للإفتاء والتصنيف. وأما مصنفاته فإن أسماءها تستوعب مجلدًا كاملًا صغير الحجم" مات رحمه الله ولم يخلِّفْ بعده مثله شرقًا ولا غربًا، ويكفيه شهرة أنه مؤلِّفُ كتاب: "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" الذي لا يكاد يستغني عنه أحد، وله "تغليق التعليق" وكتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" وكتاب "تقريب التهذيب" و "تهذيب التهذيب" و "لسان الميزان" و "بلوغ المرام في أدلة الأحكام"، وفي التاريخ: "رفع الإصر عن قضاة مصر" وكتاب "الإعلام فيمن ولي مصر في الإسلام" وغيرها من الكتب, وكلها تدل على سعة علمه في الحديث والرجال والعلل والفقه والخِلاف؛ مما أكسبه اسم الحافظ بحقٍّ. توفي في ليلة السبت الثامن والعشرين ذي الحجة، وصلِّيَ عليه بمصلاة المؤمني، وحضر السلطان الظاهر جقمق الصلاةَ عليه، ودفِنَ بالقرافة، ومشى أعيان الدولة في جنازته من داره بالقاهرة من باب القنطرة إلى الرملة، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية، حتى قال بعض الأذكياء: إنه حزر من مشى في جنازته نحو الخمسين ألف إنسان، وكان لموته يومٌ عظيم على المسلمين، وحتى على أهل الذمَّةِ.
ما أن استقَلَّت الكويت عام 1381هـ / حزيران 1961م حتى أخذت العراق تُطالِب بالكويت، وتَعُدُّها جزءًا منها، ولكنْ بعد أيام من الاستقلال نزلَت قوات بريطانية في الكويت، وأصبحت العراق تُطالب بضرورة انسحاب القوات الأجنبية من أرض الوطن، ثم تقدَّمت الكويت إلى الجامعة العربية لتكون عضوًا فانسحبت القوات البريطانية، وحلَّت محلَّها قوات عربية من سوريا والأردُنِّ، ومصرَ والسعوديةِ، التي بَقيَت فيها سنةً، ثم رجعَت، فرجَع العراقُ بالمطالَبة من جديد، وقد تأجَّجَت الفكرة عند قيام الاتحاد العربي بين الأردُنِّ والعراقِ، وحاوَل نوري السعيد رئيسُ الحكومة العراقية في عام 1376هـ / 1957م أنْ يُقنِعَ أميرَ الكويت بالانضمام، وكان الأمر وشيكًا، إلَّا أنَّ الثورة التي قامت في العراق قَضَت على الاتحاد من أصله، وكان هذا قبلَ أيام عبد الكريم قاسم، وفي عهد صدَّام حُسين، وبعد أن انتهت حروبه مع إيرانَ وخرج بمظهَر المنتصِر، طالَب الكويت بتعويضاتٍ عمَّا خَسِره من نِفط الرُّمَيلةِ، ولكنَّ الكويت لم يوافِق؛ لأنه قدَّم الكثير للعراق أيام الحرب، وقامت بريطانيا بتأجيج الفكرة في رأس صدَّام حُسين، وفي الوقت نفسِه حرَّضت الكويت على عدم الدفع للعراق ما يَطلُبه، واطمأنَّت الكويت أيضًا بحماية أمريكا لها، ثم تقدَّمت الجيوش العراقية في الحاديَ عشَرَ من محرم 1411هـ 2 آب 1990م، واحتلَّت الكويت، ولم تستطِع الكويت مقاومةَ العراق، وقامت القوات العراقية بارتكابِ الكثير من الجرائم، وشُرِّد الكثيرون من الكويت، عَقَدت جامعة الدول العربية اجتماعًا لمناقَشة الوضع، فأيَّدت اثنتا عشرة دولةً دخول القوات الأجنبية، وعارَض ذلك ثمانيةُ دولٍ، وأسهمت بعض الدول كسوريا ومصر في إرسال قوات مساعدة للقوات الأجنبية، واجتمع مجلس العلماء في مكَّة المكرَّمة، وأعطى تأييده المباشر للسعودية، ثم بعد اجتماع القوات فُرض الحصارُ على العراق بكل المستويات برًّا وبحرًا وجوًّا، ثم إنَّ مجلس الأمن قرَّر إلزام العراق بالانسحاب، وأُعطيَ مهلةً وإلَّا أُخرجَ بالقوة، ولم يُبالِ العراق بذلك، وغيَّر اسم الكويت إلى كاظمة، وأنها عادت للأم، وبعد انتهاء المُهلةِ بيومَينِ بدأت القوات المتحالِفة بالهجوم على العراق والكويت بالطائرات في الساعة الخامسة صباحًا من يوم الخميس الثاني من رجب 1411هـ / 17 كانون الثاني 1991م، وأُذيع بأنَّ القوات الجويَّة العراقيَّة قد أُبيدت، وكذلك الحرس الجمهوري، وبدأت العراق تهرُب طائراتُها العسكرية والمدنيةُ إلى إيرانَ، واستمرَّ القَصفُ على العراق والكويت خمسةَ أسابيعَ، وخلال ذلك قامت عدةُ مبادَرات سِلمية، آخِرُها كانت من روسيا، فوافَقَت العراق على الانسحاب خلال ثلاثة أسابيعَ، إلَّا أنَّ أمريكا أصرَّت على أسبوع واحد فقطْ، وحاوَل العراق أنْ يُشرِكَ اليهودَ في الحرب، فأطلَق عدَّةَ صواريخَ عليها، فربما لو اشتركت ينسحِب العرب منَ التحالُف، ولكنَّ هذا ما لم يتمَّ، وأطلقَ كذلك صواريخَ على الرياض عاصمةِ المملكة العربية السعودية، وعلى الجُبيل البحْرية، والظِّهران، وحَفْر الباطن، وعلى البحرَينِ أيضًا، ثم أسرعت روسيا بمبادَرةٍ جديدةٍ، والعراق يُصرُّ على شروط للانسحاب، وأمريكا تُصرُّ على عدم وجود أي شرطٍ، واستطاعت قوات التحالف أن تُكبِّد العراق خسائرَ كبيرة على كافَّة المستويات، ثم بدأت المعارك البريَّة في الساعة الرابعة صباحًا من يوم الأحد العاشر من شعبان 1411هـ / 24 شباط 1991م، بعد ثلاثة أيام من الرمي التمهيدي المكثَّف، وبعد أن قام العراق بإحراق ما يقرُب من 150 بئرًا للنفطِ في الكويت، ممَّا شكَّل طبقة كثيفةً من الدخان الأسود، ليعوق عمل الطائرات، ودفعت بالنفط إلى البحر، بعد تفجير بعض الآبار، وذلك ليعوق محطات تحلية المياه السعودية، وكان العراق يُذيع دائمًا بأنه ينتظر المعارك البريَّة لينتقِمَ من قوات التحالُف، ثم إن قوات التحالُف تقدَّمت على حدود الكويت، واخترقت التحصينات العراقية، وقامت بإنزال بحْري على سواحل الكويتِ، وآخَر جوي في شمال العراق، ووافَق العراق على وَقف إطلاق النار، ولكنَّ أمريكا رفضت، وطالبت بالانسحاب مع ترك كافَّة الأسلحة، ثم وافَق العراق على الانسحاب بناءً على قرار مجلس الأمن، إلَّا أنَّ أمريكا أصرَّت على أن يتعهَّد العراق بدفع الخسائر، وفي الليلة الخامسة من الهجوم البري شهِدت بغدادُ أعنفَ الغارات الجوية، وجرى إنزال جوي خلفَ الوَحْدات العراقية من القوات الأمريكية والفرنسية، وجرت معاركُ بالدبابات، وأذاع كل طرفٍ النصرَ، وفي منتصَف الليل أذاع العراق أنه موافِق على كل شروط الانسحاب، فقام الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بوقف إطلاق النار بدءًا من الساعة الثامنة صباحًا حسَبَ توقيت بغدادَ ضمنَ شروط منها: إعادةُ الأسرى والكويتيِّين، وإرشاد قوات التحالف على الألغام المزروعة، وغيرها من الشروط، ويتحمَّل صدَّام حُسين كل هذه الخسائر والمآسي بسبب قراراته الخَرْقاء.
هو الإمامُ الأَوحدُ، البَحرُ، ذو الفُنونِ والمَعارِف، العَلَّامَةُ أبو مُحمدٍ عليُّ بن أحمدَ بن سَعيدِ بن حَزْمِ بن غالبِ بن صالحِ بن خَلَفِ بن معد بن سُفيانَ بن يَزيدَ (مَولى يَزيدَ بن أبي سُفيانَ) الأُمَويُّ الفَقيهُ الحافظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَديبُ، الوَزيرُ، الظَّاهريُّ، صاحبُ التَّصانيفِ. أَصلُ جَدِّهِ يَزيدَ من فارس، وهو أَوَّلُ مَن أَسلَم من أَجدادِه، وجَدُّهُ خَلَفٌ أَوَّلُ مَن دَخَلَ بِلادَ المَغرِب من آبائهِ زَمنَ عبدِالرحمن الدَّاخِل، وكانت بَلدُهم قُرطبةَ، ووُلِدَ ابنُ حَزمٍ بها في رمضان، سنة 384هـ، وكان والِدُه من كُبَراءِ أَهلِ قُرطُبة؛ عَمِلَ في الوِزارةِ للدَّولةِ العامِريَّة، فنَشأَ ابنُ حَزمٍ في تَنَعُّمٍ ورَفاهِيَةٍ، ورُزِقَ ذَكاءً مُفرِطًا، وذِهْنًا سَيَّالًا. فقَرأَ القُرآنَ واشتَغَلَ بالعُلومِ النَّافِعَةِ الشَّرعيَّةِ، وبَرَزَ فيها وَفاقَ أَهلَ زَمانِه. كان حافِظًا عالِمًا بعُلومِ الحَديثِ وفِقْهِهِ، مُستَنبِطًا للأَحكامِ من الكِتابِ والسُّنَّةِ بعدَ أن كان شافِعيَّ المَذهبِ، انتَقلَ إلى مَذهبِ أَهلِ الظَّاهرِ، وكان مُتَفَنِّنًا في عُلومٍ جَمَّةٍ، عامِلًا بِعِلمِه، زاهِدًا في الدُّنيا بعدَ الرِّياسَةِ التي كانت له ولأَبيهِ مِن قَبلِه في الوزارةِ وتَدبيرِ المَمالِكِ، مُتواضِعًا ذا فَضائلَ جَمَّةٍ. قال الذَّهبيُّ: "كان قد مَهَرَ أوَّلًا في الأَدبِ والأَخبارِ والشِّعْرِ، وفي المَنطِقِ وأَجزاءِ الفَلسفَةِ، فأَثَّرَت فيه تَأثيرًا لَيْتَهُ سَلِمَ من ذلك، ولقد وَقفتُ له على تَأليفٍ يَحُضُّ فيه على الاعتِناءِ بالمَنطِقِ، ويُقَدِّمُه على العُلومِ، فتَألَّمتُ له، فإنَّه رَأسٌ في عُلومِ الإسلامِ، مُتَبَحِّرٌ في النَّقْلِ، عَديمُ النَّظيرِ على يُبْسٍ فيه، وفَرْطِ ظاهِريَّةٍ في الفُروعِ لا الأُصولِ". وله تَصانيفُ وكُتُبٌ مَشهورةٌ كَثيرةٌ أَهَمُّها ((المُحَلَّى))، و((الفَصلُ في المِلَل والنِّحَل)). ويُقال: إنَّه صَنَّفَ أربعمائةَ مُجَلَّدٍ في قَريبٍ من ثمانين ألف وَرَقَةٍ. وكان أَديبًا طَبيبًا شاعِرًا فَصيحًا، له في الطِبِّ والمَنطِقِ كُتُبٌ، كان مُصاحِبًا للشَيخِ أبي عُمرَ بن عبدِ البَرِّ النمري، ومُناوِئًا للشيخِ أبي الوليدِ سُليمانَ بن خَلفٍ الباجيِّ، وقد جَرَت بينهما مُناظراتٌ كَثيرةٌ، وكان ابنُ حَزمٍ كَثيرَ الوَقيعةِ في العُلماءِ بِلِسانِه وقَلَمِه لا يَكادُ يَسلَمُ أَحَدٌ من لِسانِه من العُلماءِ المُتقَدِّمين والمُتأخِّرين، حتى قيلَ: "كان لِسانُ ابنِ حَزمٍ وسَيفُ الحَجَّاجِ بن يوسفَ شَقِيقَينِ, لكَثرةِ وُقوعِه في الأئمةِ" فنَفَرَت عنه القُلوبُ،، فتَمالَأَ العُلماءُ على بُغضِه ورَدُّوا قَولَه واجمَعوا على تَضليلِه وشَنَّعُوا عليه, وحَذَّروا السَّلاطِينَ من فِتنَتهِ, ونَهوا عَوامَّهُم عن الدُّنُوِّ إليه والأَخذِ منه, فأَورَثَهُ ذلك حِقدًا في قُلوبِ أَهلِ زَمانِه، وما زالوا به حتى بَغَّضوهُ إلى مُلوكِهم، فطَردوهُ عن بلادِه حتى تَشَرَّدَ في الباديةِ ومع ذلك لم يرجِع عن أَقوالِه وأَفعالِه. كان ظاهِريًّا لا يقولُ بشيءٍ من القِياسِ لا الجَلِيِّ ولا غَيرِه، وهذا الذي وَضَعهُ عند العُلماءِ، وأَدخَلَ عليه خَطأً كَبيرًا في نَظَرِه وتَصرُّفِه وكان مع هذا مِن أَشَدِّ الناسِ تَأويلًا في باب الأُصولِ، وآياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ، لأنَّه كان أَوَّلًا قد تَضَلَّع من عِلْمِ المَنطِق، أَخذَهُ عن محمدِ بن الحسنِ المُذحجيِّ الكِناني القُرطُبي، ففَسَدَ بذلك حالُه في بابِ الصِّفاتِ، قال الذَّهبيُّ: "قيلَ: إنَّه تَفَقَّهَ أوَّلًا للشافعيِّ، ثم أَدَّاهُ اجتِهادُه إلى القَوْلِ بنَفْيِ القِياسِ كُلِّهِ جَلِيِّهِ وخَفِيِّهِ، والأَخْذِ بظاهرِ النَّصِّ وعُمومِ الكتابِ والحديثِ، والقَولِ بالبَراءةِ الأصليَّة، واستِصحابِ الحالِ، وصَنَّفَ في ذلك كُتُبًا كَثيرةً، وناظَرَ عليه، وبَسَطَ لِسانَه وقَلَمَه، ولم يَتأَدَّب مع الأئمةِ في الخِطابِ، بل فَجَّجَ العِبارةَ، وسَبَّ وجَدَّعَ، فكان جَزاؤُه من جِنْسِ فِعْلِه، بحيث إنَّه أَعرَض عن تَصانيفِه جَماعةٌ من الأئمةِ، وهَجرُوها، ونَفَروا منها، وأُحرِقَت في وَقتٍ، واعتَنَى بها آخرون من العُلماءِ، وفَتَّشُوها انتِقادًا واستِفادةً، وأَخْذًا ومُؤاخَذةً، ورَأوا فيها الدُّرَّ الثَّمينَ مَمْزوجًا في الرَّصْفِ بالخَرزِ المهينِ، فتارةً يطربون، ومَرَّةً يعجبون، ومِن تَفَرُّدِه يَهزَؤون. وفي الجُملةِ فالكمالُ عَزيزٌ، وكلُّ أَحَدٍ يُؤخذُ من قَولِه ويُتركُ، إلَّا رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وكان يَنهضُ بِعُلومٍ جَمَّةٍ، ويُجيدُ النَّقْلِ، ويُحسِن النَّظْمَ والنَثْرَ. وفيه دِينٌ وخَيْرٌ، ومَقاصِدُه جَميلةٌ، ومُصنَّفاتُه مُفيدةٌ، وقد زَهِدَ في الرِّئاسَةِ، ولَزِمَ مَنزِلَه مُكِبًّا على العِلْمِ، فلا نَغلُو فيه، ولا نَجفُو عنه، وقد أَثنَى عليه قَبلَنا الكِبارُ. قال أبو حامد الغزالي: "وجدتُ في أَسماءِ الله تعالى كِتابًا أَلَّفَهُ ابنُ حَزمٍ يَدُلُّ على عِظَمِ حِفظِه وسَيَلانِ ذِهْنِهِ". وقال الإمامُ أبو القاسمِ صاعدُ بن أحمدَ: "كان ابنُ حَزمٍ أَجْمَعَ أَهلِ الأندَلُسِ قاطِبةً لِعُلومِ الإسلامِ، وأَوْسَعَهُم مَعرِفَةً مع تَوَسُّعِهِ في عِلْمِ اللِّسانِ، ووُفورِ حَظِّهِ من البَلاغةِ والشِّعْرِ، والمَعرِفَةِ بالسِّيَرِ والأَخبارِ". قال الحافظُ أبو عبدِ الله محمدُ بن فتوح الحُميدي: "ما رأينا مِثلَه فيما اجتَمَع له من الذَّكاءِ وسُرعَةِ الحِفظِ وكَرَمِ النَّفْسِ والتَّدَيُّنِ، وما رأيتُ مَن يقولُ الشِّعْرَ على البَديهةِ أَسرعَ منه". قال أبو القاسمِ صاعدٌ: "كان أَبوهُ مِن وُزَراءِ المَنصورِ محمدِ بن أبي عامرٍ، ثم وَزَرَ للمُظَفَّرِ، ووَزَرَ أبو محمدٍ للمُسْتَظْهِر عبدِ الرحمن بن هشامٍ، ثم نَبَذَ هذه الطَّريقَة، وأَقبلَ على العُلومِ الشَّرعيَّة، وعَنِيَ بِعِلْمِ المَنطِقِ وبَرَعَ فيه، ثم أَعرَض عنه". قُلتُ (الذهبي): "ما أَعرَض عنه حتى زَرَعَ في باطِنِه أُمورًا وانحِرافًا عن السُّنَّةِ". وقد حَطَّ أبو بكر بن العربي على أبي محمدٍ وعلى الظاهريَّةِ في كِتابِ القَواصِم والعَواصِم، فقال: "هي أُمَّةٌ سَخِيفةٌ، تَسَوَّرَت على مَرتَبةٍ ليست لها، وتَكلَّمَت بكَلامٍ لم تفهَمهُ". قلتُ (الذهبي): "لم يُنصِف القاضي أبو بكرٍ شَيْخَ أَبيهِ في العِلْمِ، ولا تَكلَّم فيه بالقِسْطِ، وبالَغَ في الاستِخفافِ به، وأبو بكرٍ فعَلَى عَظَمَتِه في العِلْمِ لا يَبلُغ رُتْبَةَ أبي محمدٍ، ولا يَكادُ، فرَحِمَهُما الله وغَفَرَ لهُما". ثم قال (الذهبي): "وَلِي أنا مَيْلٌ إلى أبي محمدٍ لِمَحَبَّتِهِ في الحَديثِ الصَّحيحِ، ومَعرِفَتِه به، وإن كنتُ لا أُوافِقُه في كَثيرٍ مما يَقولُه في الرِّجالِ والعِلَلِ، والمَسائِلِ البَشِعَةِ في الأُصولِ والفُروعِ، وأَقطعُ بخَطَئِه في غيرِ ما مَسألةٍ، ولكن لا أُكَفِّرُه، ولا أُضَلِّلُه، وأرجو له العَفْوَ والمُسامَحةَ وللمسلمين. وأَخضَعُ لِفَرْطِ ذَكائِه وسِعَةِ عُلومِه، ورَأيتُه قد ذَكَرَ – أي ابن حزم- قولَ مَن يقول: أَجَلُّ المُصنَّفاتِ (المُوطَّأ). فقال: بل أولى الكُتُبِ بالتَّعظيمِ (صَحيحا) البُخاريِّ ومُسلمٍ" وكانت وَفاتُه شَريدًا في البادِيَةِ بعدَ أن أَقْصَتْهُ المُلوكُ وشَرَّدَتْهُ عن بِلادِه حتى انتهى إلى بادِيَةِ لبلة فتُوفِّي بها آخرَ نهارِ الأحدِ للَيلتينِ بَقِيَتا من شعبان، وقيلَ: إنَّه تُوفِّي في منت ليشم، وهي قَريةٌ له، وقد جاوَزَ التِّسعين.