تُوفِّيَ الشيخُ عبدُ الفتاح بنُ عبدِ الغني بن محمد القاضي، المولودُ في دمنهور البحيرة بمصرَ في 14/10/1907م. وهو عالِمٌ مُبرَّزٌ في القِراءات وعُلومها، التحقَ بالمعهدِ الأزهريِّ بالإسكندرية بعدَ أن حفِظَ القرآنَ الكريم، وتدرَّجَ في التعليمِ حتى حصَل على شَهادة التخصُّص القديمِ (الدكتوراه حاليًّا) عامَ 34/1935م. تَتلمذَ على كِبار عُلماء عصْره بالإسكندرية والقاهرةِ؛ منهم الشيخُ محمد تاج الدينِ في التفسيرِ، والشَّيخُ شحاتة منيسي في البلاغةِ، والشَّيخُ حسن الشريف في الحديثِ الشريفِ، والشَّيخُ أمين محمود سرور في التوحيدِ، وحضَر المنطِقَ وأدب البحثِ على الشيخِ مَحمود شلتوت شيخِ الأزهر، وعبد الله دِراز، وعبد الحليم قادوم، والشَّيخ محمد الخضر حُسين. عُيِّنَ في عدة مَناصبَ: مدرِّسًا ثانويًّا عقِبَ التخرُّجِ، ورئيسًا لِقِسمِ القِراءات بكُلية اللُّغة العربية بالأزهرِ، ومفتِّشًا عامًّا بالمعاهد الأزهريةِ، وشيخًا للمَعهدِ الأزهريِّ بدُسوق، ثم المعهدِ الأزهريِّ بمَدينة دَمنهور، ووَكيلًا عامًّا للمعاهد الأزهريةِ، ثم مديرًا عامًّا لها، ثم رئيسًا لِقِسمِ القراءات بكُلِّية القرآنِ الكريم والدِّراسات الإسلامية بالجامعةِ الإسلامية بالمدينةِ النَّبويةِ، وقد عُيِّن رئيسًا للجنةِ تَصحيحِ المصاحِف بالأزهرِ، وخطيبًا بمسجدِ الشَّعراني بالقاهرة، وعُضوًا في لَجنةِ اختبار القُراء بالإذاعة المصريةِ. مرِضَ بالمدينةِ النبويةِ -على ساكنِها الصلاة والسلامُ- وسافَرَ إلى القاهرة للعلاجِ، وتُوفِّي رحمه الله بها وقتَ آذانِ الظُّهر يوم الاثنين 1/11/1982م، ودُفِنَ بالقاهرةِ.
هو أبو المعالي محمد بن الملك العادل، الملقب بالملك الكامل ناصر الدين، ولد سنة 576، وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود، وإليه أوصى العادل لعلمه بشأنه وكمال عقله، وتوفُّر معرفته، ملك مصر ثلاثينَ سنة، وكانت الطرقاتُ في زمانه آمنة، والرعايا متناصفة، لا يتجاسَرُ أحد أن يظلم أحدًا، وكانت له اليد البيضاء في رد ثغرِ دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ عليه الفرنج، فرابطهم أربعَ سنين حتى استنقذه منهم، وكان يومُ أخْذِه له واسترجاعه إياه يومًا مشهودًا، مع أنه هو من سلم القدسَ مرة أخرى للفرنج بصلحٍ معهم. قال ابن خلكان: "رأيت الكامل والأشرف، وكانا يركبان معًا ويلعبان بالكرةِ في الميدان الأخضر الكبير كلَّ يوم، ولقد كنت أرى من تأدب كل واحد منهما مع الآخر شيئًا كثيرًا، ثمَّ وقعت بينهما وحشة، وخرج الأشرفُ عن طاعة الكامل، ووافقَته الملوكُ بأسرها على الخروج على الملك الكامل، ولم يبقَ مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحبِ الكرك؛ فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية. فتحالفوا وتحزَّبوا واتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل" لما استراح خاطرُ الملك الكامل من جهة الفرنج تفرَّغ للأمراء الذين كانوا متحاملين عليه فنفاهم عن البلاد، وبدَّد شملهم وشَرَّدَهم، ثم دخل إلى القاهرة, وشرع في عمارة البلاد وبنى بها دار حديث ورتَّب لها وقفًا جيدًا، واستخرج الأموال من جهاتها، وكان سلطانًا عظيم القدر جميل الذكر محبًّا للعلماء متمسكًا بالسنة النبوية، حسن الاعتقاد معاشرًا لأرباب الفضائل، حازمًا في أموره، لا يضع الشيءَ إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار، وكانت تبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء، ويشاركهم في مباحثاتهم، ويسألهم عن المواضع المشكلة من كل فنٍّ، وهو معهم كواحد منهم. في سنة 629 قصد آمد، وأخذها مع حصن كيفا من الملك المسعود ركن الدين مودود بن الملك الصالح, قال ابن خلكان: "لقد رأيتُه بدمشق في سنة 633 عند رجوعه من بلاد الشرق واستنقاذه إياها من يد علاء الدين بن كيخسرو السلجوقي صاحب بلاد الروم، في خدمته يومئذ بضعةَ عشر ملكًا، منهم أخوه الملك الأشرف. ولم يزَلْ في علو شأنه وعظم سلطانه إلى أن مَرِضَ بعد أخذ دمشق ولم يركَبْ بعدها", وقد تملك الكامل دمشق سنة 635 مدة شهرين بعد وفاة الأشرف صاحبها، ثم أخذته أمراض مختلفة، من ذلك سعال وإسهال ونزلة في حلقه، ونقرس في رجليه، فاتفق موتُه في بيت صغير من دار القصبة، وهو البيت الذي توفِّيَ فيه عمه الملك الناصر صلاح الدين، ولم يكن عند الكامل أحد عند موته من شدة هيبته، بل دخلوا فوجدوه ميتًا، وقيل: بل حدث له زكام، فدخل في ابتدائه إلى الحمام، وصبَّ على رأسه الماء الحار، فاندفعت المراد إلى معدته، فتورم وعرضت له حمى، فنهاه الأطباء عن القيء، وحذروه منه، فاتفق أنه تقيأ لوقته، في آخر نهار الأربعاء حادي عشر شهر رجب، وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين من رجب من هذه السنة، ودفن بالقلعة حتى كملت تربته التي بالحائط الشمالي من الجامع، فنقل إليها ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان من هذه السنة، وكان قد عهد لولده العادل- وكان صغيرًا- بالديار المصرية، وبالبلاد الدمشقية، ولولده الصالح أيوب ببلاد الجزيرة، فأمضى الأمراء ذلك، فأما دمشق فاختلف الأمراء بها.
هو أميرُ المؤمنين الخليفة العباسي المستنصر بالله أبو جعفر منصور بن الخليفة الظاهر بأمر الله محمد بن الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد. واقف المستنصريَّة التي لا نظيرَ لها. ولد سنة 588, وأمه تركية، وكان جده الناصر يحبُّه ويسميه القاضي؛ لحبه للحقِّ، وعقلِه, وبويعَ عند موت والده يوم الجمعة، ثالث عشر رجب، سنة 623 البيعة الخاصة من إخوته وبني عمه وأسرته، وبايعه من الغد الكبراء والعلماء والأمراء. وكان أبيضَ أشقرَ، سمينًا ربعةً مليح الصورة، عاقلًا حازمًا سائسًا ذا رأي ودهاء ونهوض بأعباء الملك، كان جدُّه الناصر قد جمع ما يتحصل من الذهب في بركة في دار الخلافة، فكان يقفُ على حافتِها ويقول: أتُرى أعيش حتى أملأَها، وكان المستنصر يقِفُ على حافتها ويقول أترى أعيش حتى أنفِقَها كُلَّها, فكان يبني الربُطَ والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عَمِلَ بكل محلَّة من محال بغداد دارَ ضيافة للفقراء، لا سيَّما في شهر رمضان، وكان يتقصد الجواري اللائي قد بلغن الأربعين فيُشترين له فيُعتقُهنَّ ويُجهزهنَّ ويُزوجُهنَّ، وفي كل وقت يُبرِزُ صِلاتِه ألوفًا متعددة من الذهب، تُفَرَّق في المحال ببغداد على ذوي الحاجات والأرامل والأيتام وغيرهم، تقبَّلَ الله تعالى منه وجزاه خيرًا، وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة، وجعل فيها دار حديث وحمامًا ودار طب، وجعل لمستحقيها من الجوامك- رواتب الموظفين- والأطعمة والحلاوات والفاكهة ما يحتاجون إليه في أوقاته، ووقف عليها أوقافًا عظيمة حتى قيل إن ثمن التبن من غلات ريعها يكفي المدرسة وأهلَها, ووقف فيها كتبًا نفيسة ليس في الدنيا لها نظير، فكانت هذه المدرسة جمالًا لبغداد وسائر البلاد, فكان المستنصرُ رحمه الله كريمًا حليمًا رئيسًا متودِّدًا إلى الناس، حازمًا عادلًا، وفي أيامه عَمَرت بغداد عمارة عظيمة. قال ابن النجار: "نشر المستنصر بالله العدلَ، وبثَّ المعروف، وقَرَّب العلماء والصلحاء، وبنى المساجد والمدارس والربط، ودور الضيافة والمارستانات، وأجرى العطيَّات، وقمع المتمَرِّدة، وحمل الناسَ على أقوَمِ سَنَن، وعمر طرق الحاجِّ، وعمر بالحرمين دورًا للمرضى، وبعث إليها الأدوية, ثم قام بأمر الجهاد أحسن قيام، وجمع العساكر، وقمع الطغام، وبذل الأموال، وحَفِظَ الثغور، وافتتح الحصون، وأطاعه الملوك, وبيعت كتبُ العلم في أيامه بأغلى الأثمان لرغبته فيها، ولوقفها, وَخَطَه الشيب، فخضب بالحناء، ثم تركه, قلت (الذهبي): (كانت دولته جيدة التمكن، وفيه عدلٌ في الجملة، ووقع في النفوس) استجد عسكرًا كثيرًا لَمَّا علم بظهور التتار، بحيث إنه يقال: بلغ عدَّةُ عَسكَرِه مائة ألف، وكان يُخطَبُ له بالأندلس والبلاد البعيدة, وبلغ غلَّة وقف المستنصرية مرة نيفًا وسبعين ألف دينار في العام، واتفق له أنه لم يكن في أيامه معه سلطان يحكُم عليه، بل ملوك الأطراف خاضعون له، وفكرهم منشغلٌ بأمر التتار". توفي يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة، وكُتِم موتُه حتى كان الدعاء له على المنابر ذلك اليوم، وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما، ودُفِنَ بدار الخلافة، ثم نُقِلَ إلى الترب من الرصافة، بويع لابنه المستعصم بالله بعد صلاة الجمعة.
هو الحافِظُ الإمام قاضي قضاة الديار المصرية، الإمام الحافظ، وأستاذ المحدِّثين، ولي الدين أبو زُرعة أحمد ابن الحافظ الكبير الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن أبي بكر بن إبراهيم المعروف بابن العراقي الشافعي، كردي الأصل قاهري الولادة والنشأة والوفاة، وُلِدَ في ذي القعدة سنة 762، اعتنى به والده مبكرًا في صِغَرِه، فرحل به إلى الشام سنة خمس وستين، فأدرك جماعة من مُسنِدِي دمشق, ثم رجع به فحفظ القرآن وعدة مختصرات في الفنون, ونشأ يقِظًا وأسمعه أبوه الكثير ثم طلب هو بنفسِه، فسمع الكثير بقراءته وقراءة غيره, ثم رحل بنفسه إلى الشام ثانية، فسمع الكثير بقراءته وقراءة غيره, ومهر في عدة فنون واشتغل فيها وهو شاب، ونشأ على طريقة حسنة من الصيانة، والديانة والأمانة والعفَّة، مع طلاقة الوجه وحسن الصورة، وطيب النغمة، وضيق الحال، وكثرةِ العيال، إلى أن اشتهَرَ أمره، وطار ذِكرُه. ولما مات والِدُه تقرر في مناصبه الجليلة، فزادت رياسته. برع في علم الحديث، ثم غلب عليه الفقه فبرع فيه أيضًا، وأفتى ودرس سنين في عدة أماكن منذ حياة والده ومشايخه، وتولى نيابة الحكم بالقاهرة، ثم تنزه عن ذلك ولَزِمَ داره مدة طويلة، إلى أن استقدَمَه الملك الظاهر ططر بعد وفاة جلال الدين البلقيني، وخلع عليه وأقره قاضيَ قضاة الديار المصرية في قضاء الشافعية. فباشره بعفة ونزاهة، وشهامة ومعرفة، وصار يصمِّمُ في أمور لا يحتملها أهلُ الدولة, فتمالؤوا عليه ثم صُرِفَ بقاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني، فلزم داره, فحصل له بذلك قهر أداه إلى التلف، ومات مبطونًا شهيدًا في يوم الخميس السابع عشر شعبان عن خمس وستين سنة، ودفن إلى جانب والده، وكثر الأسفُ عليه خصوصًا من طلبة العلم. ولم يخلفْ بعده مثلُه في جمعِه بين الفقه والحديث والدين والصلاح، وله مصنفاتٌ كثيرة، منها: تحفة التحصيل بذكر رواة المراسيل، والبيان والتوضيح لمن أُخرج له في الصحيح وقد مُسَّ بضربٍ من التجريح، وشارك والده في طرح التثريب شرح تقريب الأسانيد، وله الأطراف في أوهام الأطراف، وله المستفاد من مبهمات المتن والإسناد، وشرح الصدر بذكر ليلة القدر، وغيرها من المؤلفات. قال ابن حجر: "صَنَّف أبو زُرعة في الفنون الحديثة عدة تصانيف، وأكمل شرح تقريب الأسانيد لأبيه فأجاد فيه. وشرع في شرح مُطَوَّل لسنن أبي داود، لو كمل كان قدر ثلاثين مجلَّدة بل يزيد. وجمع النكت على المختصرات الثلاثة: التنبيه، والحاوي، والمنهاج. فزاد فيها على من تقدَّمه ممن عمل تصحيح التنبيه، وكذا المنهاج، وكذا الحاوي؛ فإنه جمع بين تصانيفهم وبين ما استفاده من حاشية الروضة لشيخنا البلقيني الكبير. وكان قد جرَّدها فجاءت في مجلدين. وجردها قبله الشيخ بدر الدين الزركشي، وقد ملكتُها بخطِّه، لكن كان قبل أن يجرِّدَها أبو زرعة بعشرين سنة. فزادت في تلك المدة فوائد جمة. واختصر المهمات للإسنوي، وضم إليه فوائد وزوائد من الحاشية المذكورة. وعُقِد مجلس الإملاء بعد أن كان انقطع بموت شيخِنا والده من سنة 806 إلى أن شرع هو فيه في سنة عشر. ولم يزل يملي في كل يوم ثلاثاء، إلى أن مرض المرض الذي توفي فيه، مع ما كان فيه من شغل البال بالدرس والحكم وغير ذلك".
في هذه السَّنة قَتَل السلطان بركيارق خلقًا من الباطنية ممن تحقَّق مذهبَه، ومن اتُّهِم به، فبلغت عدتُهم ثمانمائة ونيِّفًا، ووقع التتبُّعُ لأموال من قُتِل منهم، فوُجِد لأحدهم سبعون بيتًا من الزوالي المحفور، وكُتب بذلك كتابٌ إلى الخليفة، فتقدَّم بالقبض على قومٍ يُظَنُّ فيهم ذلك المذهَبُ، ولم يتجاسر أحدٌ أن يشفع في أحدٍ لئلَّا يُظَنَّ مَيلُه إلى ذلك المذهب، وزاد تتبُّعُ العوام لكل من أرادوا، وصار كلُّ من في نفسه شيءٌ من إنسانٍ يرميه بهذا المذهب، فيُقصَد ويُنهَب حتى حُسِم هذا الأمر فانحسم في أيام السلطان ملكشاه، فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلًا، فصلَّوا صلاة العيد في ساوة، ففَطِنَ بهم الشحنة فأخذهم وحبَسَهم، ثم سُئِلَ فيهم فأطلقهم، فهذا أول اجتماع كان لهم، ثمَّ إنهم دَعَوا مؤذِّنًا من أهل ساوة كان مقيمًا بأصبهان، فلم يُجِبْهم إلى دعوتهم، فخافوه أن ينمَّ عليهم، فقتلوه، فهو أوَّلُ قتيل لهم، وأوَّلُ دم أراقوه، فبلغ خبَرُه إلى نظام الملك، فأمر بأخذِ من يُتَّهَمَ بقتله، فوقعت التهمةُ على نجارٍ اسمه طاهر، فقُتِل ومُثِّل به، وجَرُّوا برِجْلِه في الأسواق، فهو أولُ قتيل منهم، وأولُ موضع غُلِبوا عليه وتحصَّنوا به بلدٌ عند قاين، كان متقدَّمُه على مذهبهم، فاجتمعوا عنده، وقَوُوا به، فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي، الفقيه الشافعي، وجمع الجمَّ الغفير بالأسلحة، وأمر بحفرِ أخاديد، وأوقد فيها النيرانَ، وجعل العامةُ يأتون بالباطنية أفواجًا ومنفَرِدين، فيُلقَون في النار، وجعلوا إنسانًا على أخاديد النيران وسمَّوه مالكًا، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وكان السببُ في قتل بركيارق الباطنيةَ أنَّه لما اشتد أمرُ الباطنية، وقَوِيت شوكتهم، وكثُرَ عددهم، صار بينهم وبين أعدائهم إحَنٌ، فلما قتلوا جماعةً من الأمراء الأكابر، وكان أكثَرُ من قتلوا من هو في طاعة محمد، مخالِفٌ للسلطان بركيارق، مثل شحنة أصبهان سرمز، وأرغش، وكمش النظاميين، وصهره، وغيرهم، نَسَب أعداءُ بركيارق ذلك إليه، واتهموه بالميلِ إليهم. فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمدًا، وقتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعةٌ منهم في العسكر، واستغووا كثيرًا منهم، وأدخلوهم في مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوَّة، وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فصار يخافهم من يخالِفُهم، حتى إنهم لم يتجاسَرْ أحد منهم، لا أمير ولا متقدِّم، على الخروج من منزله حاسِرًا، بل يلبس تحت ثيابه درعًا، وأشاروا على السلطان أن يفتك بهم قبل أن يعجِزَ عن تلافي أمرهم، وأعلموه ما يتَّهِمُه الناس به من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنِّعون بذلك، وكانوا في القتال يكبرون عليهم، ويقولون: يا باطنية. فاجتمعت هذه البواعِثُ كلها فأذن السلطانُ في قتلهم، والفتكِ بهم، وركب هو والعسكرُ معه، وطلبوهم وأخذوا جماعةً من خيامهم ولم يُفلِتْ منهم إلا من لم يُعرَف، وكان ممن اتُّهِم بأنه مقدَّمُهم الأمير محمد بن دشمنزيار بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه، صاحب يزد، فهرب وسار يومه وليلته، فلما كان اليوم الثاني وجَدَّ في العسكر قد ضَلَّ الطريق ولا يَشعُر، فقُتِل، ونُهِبَت خيامه، فوُجِد عنده السلاح المعَدِّ، وأخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقُتِلوا، وقُتِل منهم جماعة برآء لم يكونوا منهم سعى بهم أعداؤهم، وكتب إلى بغداد بالقبض على أبي إبراهيم الأسداباذي الذي كان قد وصل إليها رسولًا من بركيارق ليأخذ مال مؤيد الملك، وكان من أعيانهم ورؤوسهم، فأُخذ وحُبِس، فلما أرادوا قتله قال: هَبُوا أنكم قتلتموني، أتقدرون على قَتْلِ من بالقلاع والمدُن؟ فقُتِل، ولم يُصَلِّ عليه أحد، وألقِيَ خارج السور، واتُّهِم أيضًا الكيا الهرَّاسي، المدَرِّس بالنظامية بأنَّه باطنيٌّ، ونُقِل ذلك عنه إلى السلطان محمد، فأمر بالقبض عليه، فأرسل المستظهر بالله من استخلصه، وشَهِدَ له بصحة الاعتقاد، وعلوِّ الدرجةِ في العلم، فأُطلِقَ.
تجَدَّدَت الفِتنةُ ببغدادَ بينَ السُّنَّة والشِّيعة، وكان سبَبُ ذلك أنَّ الوزيرَ أبا القاسم عليَّ بنَ أحمد الملَقَّب بالمذكور أظهَرَ العَزمَ على الغَزاة، واستأذن الخليفةَ في ذلك، فأَذِنَ له، وكُتِبَ له منشورٌ من دار الخلافة، وأعطى عَلَمًا، فاجتمَعَ له لفيفٌ كثيرٌ، فسار واجتاز ببابِ الشعير، وطاق الحراني، وبين يديه الرِّجالُ بالسِّلاحِ، فصاحوا بذِكرِ أبي بكرٍ وعُمَرَ، رَضِيَ الله عنهما، وقالوا: هذا يومُ مُعاوية، فنافَرَهم أهلُ الكَرخِ ورَمَوهم، وثارت الفِتنةُ، ونُهِبَت دورُ اليَهودِ؛ لأنَّهم قيل عنهم إنَّهم أعانوا أهلَ الكَرخِ، فلمَّا كان الغدُ اجتمع السُّنَّةُ من الجانِبَينِ، ومعهم كثيرٌ مِن الأتراكِ، وقصدوا الكَرخَ، فأحرقوا وهَدَّموا الأسواق، وأشرف أهلُ الكَرخِ على خُطَّةٍ عظيمة. وأنكَرَ الخليفةُ ذلك إنكارًا شديدًا، ونَسَب إليهم تخريقَ عَلامتِه التي مع الغزاةِ، فركب الوزيرُ فوَقَعَت في صَدرِه آجُرَّة، فسَقَطَت عِمامَتُه، وقُتِلَ مِن أهل الكرخِ جماعةٌ، وأُحرِقَ وخُرِّبَ في هذه الفتنةِ سُوقُ العَروسِ، وسوقُ الصَّفَّارين، وسوقُ الأنماط، وسوق الدقَّاقين، وغيرها، واشتد الأمرُ، ووقع القتالُ في أصقاع البلَدِ مِن جانبيه، وقَتَلَ أهلَ الكَرخِ، ونهر طابق، والقَلَّائين– صَنعتُهم القَليُ-، وباب البصرة، وفي الجانب الشَّرقيِّ أهل سوقِ الثلاثاء، وسُوق يحيى، وباب الطاق، والأساكفة، والرهادرة، ودرب سليمان، فقُطِعَ الجِسرُ ليُفَرَّقَ بين الفريقين، ودخل العَيَّارون– والعيارون: لُصوصٌ يَمتَهِنونَ النَّهبَ والدعارةَ - البلدَ، وكَثُرَ الاستقفاءُ بها ليلًا ونهارًا. وأظهر الجندُ كراهةَ المَلِك جلالِ الدَّولة، وأرادوا قَطعَ خُطبتِه، ففَرَّقَ فيهم مالًا وحَلَفَ لهم فسَكَنوا، ثم عاودوا الشَّكوى إلى الخليفةِ منه، وطَلَبوا أن يأمُرَ بقَطعِ خُطبتِه، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، فامتنع حينئذ جلالُ الدَّولة من الجلوس، ودامت هذه الحالُ إلى عيدِ الفِطرِ، ثمَّ حدث في شوال فتنةٌ بين أصحابِ الأكْيِسة وأصحابِ الخِلعانِ، وهما شيعةٌ، وزاد الشَّرُّ، ودام إلى ذي الحِجَّة، فنودي في الكَرخِ بإخراجِ العَيَّارين، فخرجوا، واعتَرَض أهلُ باب البصرة قومًا مِن قُمٍّ أرادوا زيارةَ مَشهدِ عليٍّ والحُسَين، فقَتَلوا منهم ثلاثةَ نَفَر، وامتنَعَت زيارةُ مَشهَدِ موسى بنِ جَعفَر.
هو الإمام العلامة شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي القاهري أصله من سخا من قرى مصر، ولد بالقاهرة في ربيع الأول سنة 831 بحارة مجاورة لمدرسة شيخ الإسلام البلقيني محل أبيه وجده، ثم تحول منه حين دخل في الرابعة مع أبويه لمِلْك اشتراه أبوه مجاور لسكن شيخه ابن حجر، وأدخله أبوه المكتب بالقرب من الميدان عند المؤدب الشرف عيسى بن أحمد المقسي الناسخ، فأقام عنده يسيرًا جدًّا، ثم نقله لزوج أخته الفقيه الصالح البدر حسين بن أحمد الأزهري فقرأ عنده القرآن وصلى بالناس التراويح في رمضان، ثم توجه به أبوه لفقيهه المجاور لسكنه الشيخ المفيد النفاع القدوة المؤدب الشمس محمد بن أحمد النحريري الضرير, ثم لازم شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر العسقلاني حيث كان يسمع منه مع والده ليلًا الكثير من الحديث، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته فلازم مجلسه وعادت عليه بركته في هذا الشأن فأقبل عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف؛ بحيث تقلل مما عداه, وداوم الملازمة لشيخه ابن حجر حتى حمل عنه علمًا جمًّا اختص به كثيرًا بحيث كان من أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قُرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر، إما لكونه حمله أو لأن غيره أهم منه وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. ولما علم شيخه ابن حجر شدة حرصه على ذلك كان يرسل خلفه أحيانًا بعض خدمه لمنزله يأمره بالمجيء للقراءة, وكان شيخه يأذن له في الإقراء والإفادة والتصنيف، وصلى به إمامًا التراويح في بعض ليالي رمضان, وتدرب به في طريق القوم ومعرفة العالي والنازل والكشف عن التراجم والمتون وسائر الاصطلاح, وأخذ عنه علم الحديث وبرع فيه، ولم ينفك عن ملازمته ولا عدل عنه بملازمة غيره من علماء الفنون؛ خوفًا على فقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية، بل ولا حجَّ إلا بعد وفاة شيخه ابن حجر, ومع ذلك حمل السخاوي عن شيوخ مصر والواردين إليها كثيرًا من دواوين الحديث وأجزائه بقراءته وقراءة غيره في الأوقات التي لا تعارض أوقات شيخه، سيما حين اشتغال شيخه بالقضاء وتوابعه، حتى صار السخاوي أكثر أهل العصر مسموعًا وأكثرهم رواية، ولما عاد السخاوي سنة تسع وتسعين للقاهرة من الحج للمرة السادسة والمجاورة في المدينة انجمع عن الناس وامتنع من الإملاء لمزاحمة من لا يحسن فيها وعدم التمييز من جُل الناس أو كلهم, وراسل إلى من لامه على ترك الإملاء بما نصه: "إنه ترك ذلك عند العلم بإغفال الناس لهذا الشأن؛ بحيث استوى عندهم ما يشتمل على مقدمات التصحيح وغيره من جمع الطرق التي يتبين بها انتفاء الشذوذ والعلة أو وجودهما، مع ما يورد بالسند مجردًا عن ذلك، وكذا ما يكون متصلًا بالسماع مع غيره, وكذا العالي والنازل والتقيد بكتاب ونحوه مع ما لا تقيد فيه إلى غيرها، مما ينافي القصد بالإملاء وينادي الذاكر له العامل به على الخالي منه بالجهل". كما أنه التزم ترك الإفتاء مع الإلحاح عليه فيه حين تزاحم الصغار على ذلك واستوى الماء والخشبةَ، سيما وإنما يعمل بالأغراض، بل صار يكتُب على الاستدعاءات وفي عرض الأبناء من هو في عدادِ من يلتمس له ذلك حين التقيد بالمراتب والأعمال بالنيات، وقد سبقه للاعتذار بنحو ذلك شيخ شيوخه الزين العراقي وكفى به قدوة، بل وأفحش من إغفالهم النظر في هذا وأشد في الجهالة إيراد بعض الأحاديث الباطلة على وجه الاستدلال وإبرازها حتى في التصانيف والأجوبة، كل ذلك مع ملازمة الناس له في منزله للقراءة دراية ورواية في تصانيفه وغيرها، بحيث خُتم عليه ما يفوق الوصف من ذلك، وأخذ عنه من الخلائق من لا يُحصى" وقد حدث خلاف بين السخاوي ومعاصره جلال الدين السيوطي، وهو من خلاف الأقران الذي لا يُقبَل فيه نقد أحدهما في الآخر مع جلالة قدر كل منهما في علمه وعمله في خدمة العلم وأهله. وللسخاوي مصنفات كثيرة جدًّا منها ترجمة لشيخه ابن حجر في كتاب سماه الجوهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، والقول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، والمقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي، ووجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام، والضوء اللامع في أخبار أهل القرن التاسع، واستجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف، وغيرها من الكتب والسؤالات المدونة له. توفي بالمدينة عصر يوم الأحد 28 من شعبان سنة 902 (1497م) وهو في الحادية والسبعين من عمره، ودُفِن بالبقيع بجوار الإمام مالك.
خَرجَت خارِجَة مِن الحَرورِيَّة بالعِراق، يَتَزَعَّمُهم شَوْذَب واسْمُه بِسْطام مِن بَنِي يَشْكُر في ثمانين فارِسًا أَكثرُهم مِن رَبيعَة، فبَعَث أَميرُ المؤمنين عُمَرُ بن عبدِ العزيز إلى عبدِ الحَميدِ نائِب الكوفَة يَأمُرهُ بأن يَدعوهم إلى الحَقِّ، ويَتَلَطَّف بِهم، ولا يُقاتِلهم حتَّى يُفسِدوا في الأَرضِ، فلمَّا فَعَلوا ذلك بَعَث إليهم جَيْشًا فكَسَرهُم الحَرورِيَّةُ، فبَعَث عُمَرُ إليه يَلومُه على جَيْشِه، وقد أَرسَل عُمَرُ إلى بِسْطام يَقولُ له: ما أَخْرَجَك عَلَيَّ؟ فإن كُنتَ خَرجتَ غَضَبًا لله فأنا أَحَقُّ بذلك مِنك، ولستَ أَوْلى بذلك مِنِّي، وهَلُمَّ أُناظِرُك; فإن رَأيتَ حَقًّا اتَّبَعْتَه، وإن أَبْدَيْتَ حَقًّا نَظَرْنا فيه. فبَعَث طائِفَةً مِن أَصحابِه إليه، فاخْتارَ منهم عُمَرُ رَجُلين فسَأَلهُما: ماذا تَنْقِمون؟ فقالا: جَعْلَكَ يَزيد بن عبدِ الملك مِن بَعدِك. فقال: إنِّي لم أَجْعَله أَبَدًا، وإنَّما جَعلَه غَيْري. قالا: فكيف تَرْضَى به أَمينًا للأُمَّةِ مِن بَعدِك؟ فقال: أَنْظِرْني ثَلاثَة. فيُقال: إنَّ بَنِي أُمَيَّة دَسَّتْ إليه سُمًّا فقَتَلوه; خَشْيَةَ أن يَخرُج الأَمرُ مِن أَيديهِم. فلمَّا مات عُمَرُ أراد عَبدُ الحَميد بن عبدِ الرحمن أن يَحْظَى عند يَزيد بن عبدِ الملك، فكَتَب إلى محمَّدِ بن جَريرٍ يَأمُرُه بمُحارَبَة شَوْذَب وأَصحابِه، فبَرَزَ له شَوْذَب فاقْتَتَلوا، وأُصِيبَ مِن الخَوارِج نَفَرٌ، وأَكثَروا في أَهلِ الكوفَة القَتْل، فوَلُّوا مُنْهَزِمين والخَوارِجُ في أَكتافِهم حتَّى بَلَغوا أَخْصاص الكوفَة، فأَقَرَّ يَزيدُ عبدَ الحَميد على الكوفَة، ووَجَّهَ مِن قِبَلِهِ تَميمَ بن الحُباب في أَلْفَيْنِ فقَتَلوه وهَزَموا أَصحابَه، فوَجَّهَ إليهم نَجْدَةَ بن الحَكَم الأَزْدِي في جَمْعٍ، فقَتَلوه وهَزَموا أَصحابَه، فبَعَث آخَر في أَلْفَيْنِ فقَتَلوه، فأَنْفَذَ يَزيدُ أَخاهُ مَسلمةَ بن عبدِ الملك، فنَزَل الكوفَة، ودَعا سَعيدَ بن عَمرٍو الحَرَشِي، فعَقَدَ له على عَشرَة آلافٍ ووَجَّهَهُ، فقال لأَصحابِه: مَن كان يُريدُ الله عَزَّ وجَلَّ فقد جاءَتْهُ الشَّهادَة، ومَن كان إنَّما خَرَج للدُّنيا فقد ذَهبَت الدُّنيا منه. فكَسَروا أَغْمادَ سُيوفِهِم وحَمَلوا على الخَوارِج حتَّى طَحَنوهُم وقَتَلوا شَوْذَبًا.
في الوقتِ الذي كانت الحربُ دائرةً بين الشريف غالب وعثمان المضايفي في الطائفِ، كان الأميرُ سعود بن عبد العزيز يجمَعُ البواديَ والحاضرة في السبلة الموقع القريب من بلدة الزلفي، فلما اجتمعوا إليه رحَلَ بهم إلى الحجاز ونزل العقيقَ المعروف عند المعان، وكان ذلك وقتَ الحَجِّ, وكانت الحُجَّاج الشاميَّة والمصريَّة والمغربية وغيرُهم في مكة، وهم في قوَّةٍ هائلةٍ وعُدَّة عظيمة، فهَمُّوا بالخروج إلى سعود والمسير إلى قتاله، ثم تخاذَلوا وفسَد أمرُهم وانصرفوا إلى أوطانِهم، فألقى الله الرعبَ في قلب الشريفِ غالب وهو في مكَّة فلم يستقِرَّ فيها، فانهزم إلى جُدَّةَ هو وأتباعُه من العساكِرِ، وحمل خزائِنَه وذخائِرَه وبعضَ متاعِه وشوكتِه, وترك أخاه عبد المعين في مكَّةَ يدبِّرُ شؤونها فكتب عبد المعين إلى الأمير سعود يَعرِضُ عليه السَّمعَ والطاعة وعلى أن يستبقيَه في إمارةِ مكَّةَ، وأرسل الكتابَ مع بعض علماء مكة, فلما اجتمع هؤلاء العلماءُ بالأمير سعود في السَّيلِ وعرضوا عليه الكتاب قَبِلَ ما فيه وأعطاهم كتابًا بالأمان وموافقتِه على بقاءِ ولاية الشريف عبد المعين على مكَّةَ, ثم إنَّ سعودًا وجموعه أحرموا بالعُمرة، ودخلوا مكَّةَ واستولَوا عليها بدون قتال، وأعطى أهلَها الأمانَ وبذَلَ لهم من الصَّدَقاتِ والعطاء الشيءَ الكثير, فلما قضى سعودٌ العمرة فرَّق أهلَ النَّواحي يهدِمونَ القبابِ التي بُنِيت على القُبورِ والمشاهِدِ الشِّركيةِ بأنفُسِهم ففعلوا، وكان في مكَّةَ من هذا النوع شيءٌ كثيرٌ في أسفَلِها وأعلاها ووسَطَها وبيوتها، فأقام فيهم أكثَرَ من عشرينَ يومًا وأهل مكَّةَ يهدمونَها، حتى لم يبقَ مِن تلك المشاهِدِ والقِبابِ إلا أعدموها وجعلوها ترابًا! كانت العادة أن يصلِّيَ في المسجِدِ الحرامِ بالجماعةِ الحاضرةِ أحدُ الأئمَّةِ من المذاهب الأربعةِ، ثم يتلوه غيرُه، فأمر الأميرُ سعود بإبطال تلك العادةِ وألَّا يصلِّي في المسجِدِ الحرام إلَّا إمامٌ واحدٌ، فيصلي الصُّبحَ الشافعيُّ، والظُّهرَ المالكيُّ، وهكذا بقية الأوقات، ويصلِّي الجمعةَ مفتي مكَّةَ عبد الملك القلعي الحنفي, وأمر بتدريس كشفِ الشبُهاتِ في المسجد الحرام في حَلقةٍ يحضُرُها العلماء والأهالي ففعلوا, وكان الشريفُ في هذه المدةِ يراسل سعودًا، وطلبَ الصُّلحَ وبَذَل المالَ، وهو يريد أن يحصِّنَ جُدَّة.
هو يَمينُ الدَّولةِ، فاتِحُ الهِندِ: أبو القاسِمِ، المَلِكُ السُّلطانُ مَحمودُ بنُ سَيِّد الأمراءِ ناصِر الدَّولةِ سبكتكين، التُّركيُّ، صاحِبُ خُراسان والهِند. وُلِدَ في غزنة سنةَ 361. كان- رحمه الله- صادِقَ النِّيَّة في إعلاءِ الدِّينِ، مُظَفَّرًا كثيرَ الغَزوِ، وكان ذكيًّا بعيدَ الغَورِ، صائِبَ الرَّأيِ، وكان مَجلِسُه مَورِدَ العُلَماءِ. كان والِدُه أبو منصورٍ سبكتكين قد تولَّى إمرةَ غزنة بعد وفاةِ واليها ابنِ السكين, فتمكَّنَ فيها وعَظُمَ أمْرُه، ثمَّ أخَذَ يُغيرُ على أطرافِ الهِندِ، وافتتح قِلاعًا، وتَمَّت له ملاحِمُ مع الهنودِ، وافتَتَح ناحيةَ بُست، وكان سبكتكين ناصِرًا للسُّنَّة وقامِعًا للبِدعةِ, ولَمَّا مات سنة 387، تولَّى حُكم غزنةَ ابنُه محمود بعد نزاعٍ مع أخيه إسماعيلَ الذي كان والدُهما عَهِدَ له مِن بعده. حارب محمودٌ النوَّابَ السامانيِّينَ، وخافَتْه الملوكُ. وضَمَّ إقليمَ خُراسان، ونفَّذ إليه الخَليفةُ العباسيُّ القادِرُ بالله خِلَعَ السَّلْطنةِ، ولَقَّبَه يمينَ الدَّولة، وفَرَضَ على نفسِه كُلَّ سَنةٍ غَزوَ الهندِ، فافتتح بلادًا شاسعةً منها، وكسَّرَ أصنامَ الهندِ، وأعظَمُها عند الهُنودِ سومنات. كان السُّلطانُ محمود رَبعةً، فيه سِمَنٌ وشُقرةٌ، ولحيتُه مُستديرةٌ، غَليظَ الصَّوتِ، وفي عارِضَيه شَيبٌ, وكان مُكْرِمًا لأمرائِه وأصحابِه، وإذا نَقِمَ عاجَلَ، وكان لا يَفتُرُ ولا يكادُ يَقِرُّ. كان يعتَقِدُ في الخليفة العباسيِّ القادِرِ بالله، ويخضَعُ لجَلالِه، ويحمِلُ إليه قناطيرَ مِن الذَّهَب، وكان إلبًا على القرامِطةِ والإسماعيليَّةِ، والفلاسِفةِ المتكَلِّمةِ، وكان فيه شِدَّةُ وطأةٍ على الرعيَّة؛ لكِنْ كانوا في أمنٍ وإقامةِ سياسةٍ. من سلاطينِ ومُلوك الإسلامِ الذين كان لهم دَورٌ عَظيمٌ في نَشرِ السُّنَّةِ وقَمعِ البِدعةِ, قال ابنُ كثير: "في سنة 408 استتاب القادِرُ باللهِ الخَليفةُ فُقَهاءَ المُعتَزِلة، فأظهروا الرُّجوعَ وتبَرَّؤوا من الاعتزالِ والرَّفضِ والمقالاتِ المُخالِفةِ للإسلامِ، وأمَرَ عُمَّالَه بالمِثلِ, فامتَثَلَ محمودُ بنُ سبكتكين أمْرَ أميرِ المؤمنين في ذلك, واستَنَّ بسُنَّتِه في أعمالِه التي استخلَفَه عليها من بلادِ خُراسانَ وغَيرِها في قَتلِ المُعتَزِلة والرَّافِضةِ والإسماعيليَّةِ والقَرامطة، والجَهميَّة والمُشَبِّهة، وصَلَبَهم وحَبَسَهم, ونفاهم وأمَرَ بلَعنِهم على المنابِرِ, وأبعَدَ جَميعَ طوائفِ أهلِ البِدَعِ، ونفاهم عن ديارِهم، وصار ذلك سُنَّةً في الإسلامِ" قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة: "لَمَّا كانت مملكةُ مَحمودِ بنِ سبكتكين من أحسَنِ ممالِكِ بني جِنسِه، كان الإسلامُ والسُّنَّة في مملكَتِه أعَزَّ؛ فإنَّه غزا المُشرِكينَ مِن أهلِ الِهندِ، ونشَرَ مِن العدلِ ما لم ينشُرْه مِثلُه، فكانت السُّنَّةُ في أيامِه ظاهِرةً، والبِدَعُ في أيَّامِه مَقموعةً". قال ابنُ كثير: "كان يمينُ الدَّولة يخطُبُ في سائِرِ ممالِكِه للخليفةِ القادر بالله، وكانت رسُلُ الفاطميِّينَ مِن مصر تَفِدُ إليه بالكُتُبِ والهدايا لأجلِ أن يكونَ مِن جِهَتِهم، فيحرِقُ بهم ويحرِقُ كتُبَهم وهداياهم، وفتَحَ في بلاد الكُفَّارِ مِن الهند فتوحاتٍ هائلةً، لم يتَّفِقْ لغَيرِه من الملوكِ، لا قَبلَه ولا بعده، وغَنِمَ منهم مغانمَ كثيرةً لا تَنحَصِرُ ولا تنضَبِطُ، مِن الذَّهَب والمجوهرات، والسَّبْي، وكسَرَ مِن أصنامِهم شيئًا كثيرًا، وأخذ مِن حِليَتِها, ومِن جملةِ ما بلغ تَحصيلُه مِن سومنات أعظَمِ أصنامِهم مِن حُلِيِّ الذَّهَبِ عشرون ألف ألف دينار، وكَسَرَ مَلِكَ الهِندِ الأكبَر الذي يُقالُ له صينال، وقهَرَ مَلِكَ التُّركِ الأعظَم الذي يقال له إيلك الخان، وأباد مُلْكَ السَّامانيَّة، الذين ملكوا العالَمَ في بلاد سمرقند وما حولها، وبنى على جيحون جسرًا عظيمًا أنفَقَ عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيءٌ لم يتَّفِقْ لغيره، وكان في جيشِه أربعُمِئَة فيلٍ تُقاتِلُ معه، وهذا شيءٌ عظيمٌ وهائِلٌ، وكان مع هذا في غايةِ الدِّيانةِ والصِّيانةِ وكراهةِ المعاصي وأهلِها، لا يحِبُّ منها شيئًا، ولا يألَفُه، ولا أن يَسمَعَ بها، ولا يَجسرُ أحَدٌ أن يُظهِرَ مَعصيةً ولا خَمرًا في مملَكتِه، ولا غير ذلك، ولا يُحِبُّ الملاهيَ ولا أهلَها، وكان يحِبُّ العُلَماءَ والمُحَدِّثين ويُكرِمُهم ويُجالِسُهم، ويحِبُّ أهلَ الخيرِ والدِّينِ والصَّلاح، ويُحسِنُ إليهم، وكان حنفيًّا ثمَّ صار شافعيًّا على يدي أبي بكرٍ القَفَّال الصغيرِ على ما ذكره إمامُ الحَرَمينِ وغَيرُه". ثمَّ إنَّه مَلَك سجستان سنة 393، بدخُولِ قُوَّادها وولاةِ أمورِها في طاعتِه مِن غَيرِ قِتالٍ, ولم يَزَلْ يفتَحُ بلادَ الهِندِ إلى أن انتهى إلى حيثُ لم تَبلُغْه في الإسلامِ رايةٌ، ولم تُتْلَ به سورةٌ قَطُّ ولا آية، فدحَضَ عنها أدناسَ الشِّركِ، وبنى بها مساجِدَ وجوامِعَ. توفِّيَ يمينُ الدَّولةِ أبو القاسِمِ محمودُ بنُ سبكتكين في ربيعٍ الآخِرِ، وقيل: في أحدَ عَشَر صَفَر، وكان مرضُه سوءَ مزاجٍ وإسهالًا، وبقي كذلك نحو سنتينِ، فلم يزَلْ كذلك حتى توفِّيَ قاعِدًا، فلمَّا حَضَره الموتُ أوصى بالمُلْك لابنِه مُحمَّد، وهو ببَلْخ، وكان أصغَرَ مِن مَسعود، إلَّا أنَّه كان مُعرِضًا عن مسعود؛ لأنَّ أمْرَه لم يكن عنده نافِذًا، وسعى بينهما أصحابُ الأغراضِ، فزادوا أباه نُفورًا عنه، فلَمَّا وصَّى بالمُلْكِ لولَدِه مُحَمَّد توفِّيَ، خُطِبَ لمحَمَّد من أقاصي الهندِ إلى نَيسابور، وكان لَقَبُه جلالَ الدَّولةِ، وأرسَلَ إليه أعيانُ دَولةِ أبيه يُخبِرونَه بموت أبيه ووصِيَّتِه له بالمُلك، ويَستَدعونَه، ويَحُثُّونَه على السُّرعةِ، ويُخَوِّفونَه مِن أخيه مسعود، فحين بلَغَه الخبَرُ سار إلى غزنة، فوصلها بعد موتِ أبيه بأربعينَ يومًا، فاجتَمَعَت العساكِرُ على طاعتِه، وفَرَّقَ فيهم الأموالَ والخِلَعَ النَّفيسةَ، فأسرف في ذلك. لكِنَّ أخاه مسعودًا نازَعَه الحُكمَ فانتزَعَه منه.
كان الوزيرُ ابن العلقمي يجتَهِدُ في صرف الجيوش وإسقاطِ اسمِهم من الديوان، فكانت العساكِرُ في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء ومن هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلِهم إلى أن لم يبقَ سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتارَ وأطمعهم في أخذِ البلاد، وسَهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقةَ الحال، وكشَفَ لهم ضعف الرجال، وذلك كلُّه طمعًا منه أن يزيل السُّنَّة بالكُلِّيَّة، وأن يُظهِرَ البِدعةَ الرَّافضية، وأن يقيمَ خليفةً مِن الفاطميِّينَ، وأن يُبيدَ العلماء والمُفتين- والله غالبٌ على أمرِه- كانت الفِتَنُ قد استعرت بين السُّنة والرافضة في بغداد حتى تجالَدوا بالسيوف، وشكا أهلُ باب البصرة إلى الأمير ركن الدين الدويدار والأمير أبي بكر بن الخليفة فتَقَدَّما إلى الجند بنَهبِ الكرخ، فهَجَموه ونهبوا وقتلوا، وارتكبوا من الشنعة العظائم، فحنق ابنُ العلقمي ونوى الشرَّ، وأمر أهل الكرخ بالصَّبرِ والكف. فمالأ- قبَّحَه اللهُ- على الإسلامِ وأهلِه المغولَ الكَفَرةَ وزَعيمَهم هولاكو، حتى فعل ما فعل بالإسلامِ وأهلِه، خاصة في بغداد- عليه من الله ما يستحقُّ- كان قدوم هولاكو بجنوده كلها- وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشرَ المحرم من هذه السنة، وجاءت إليهم أمدادُ صاحب الموصل يساعِدونَهم على أهل بغداد, وميرته وهداياه وتُحَفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه مِن التتار، ومصانعةً لهم، وقد سُتِرَت بغداد ونُصِبَت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة، فأحاطوا ببغدادَ مِن ناحيتها الغربيَّة والشرقية، وجيوش بغداد في غايةِ القِلَّة ونهاية الذِّلَّة، لا يبلغونَ عَشرةَ آلاف فارس، وهم وبقيَّة الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتِهم وذلك كلُّه عن آراء الوزيرِ ابن العلقميِّ الرافضي، الذي دبَّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيعِ، الذي لم يؤرخ أبشَعُ منه منذ بُنِيَت بغداد، وكان أوَّلَ مَن برز إلى التتار هو، فخرج بأهلِه وأصحابِه وخَدَمِه وحَشَمِه، فاجتمع بالسلطانِ هولاكو خان- لعنه الله- ثم عاد فأشار على الخليفةِ بالخروجِ إليه والمثول بين يديه لتقَعَ المصالحة على أن يكون نِصفُ خراج العراق لهم ونِصفُه للخليفة، فخرج الخليفةُ في سبعمائة راكبٍ مِن القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتَرَبوا من منزل السلطان هولاكو خان حُجِبوا عن الخليفةِ إلا سبعة عشر نفسًا، فخَلَص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزِلَ الباقون عن مراكبهم فنُهِبَت وقُتِلوا عن آخرهم، وأُحضِرَ الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال: إنَّه اضطرب كلامُ الخليفة من هَولِ ما رأى من الإهانةِ والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صُحبَتِه خوجه نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفةُ تحت الحوطة والمصادرة، فأحضَرَ مِن دار الخلافة شيئًا كثيرًا مِن الذهب والحُلِيِّ والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرَّافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو ألَّا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلحُ على المناصفة لا يستمِرُّ هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحَسَّنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفةُ إلى السلطان هولاكو أمر بقَتلِه، ويقال: إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصيرُ عند هولاكو قد استصحبه في خدمَتِه لما فتح قلاع ألموت التي للإسماعيلية، وانتزعها من أيديهم، وانتخب هولاكو الطوسيَّ ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قَدِمَ هولاكو وتهيبَ مِن قَتلِ الخليفة هَوَّن عليه الوزير ذلك فقتلوه، فباؤُوا بإثمِه وإثم من كان معه من ساداتِ العُلَماءِ والقُضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحَلِّ والعقد ببلاده، ومالوا على البلد فقَتَلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبَّان، ودخل كثيرٌ من الناس في الآبار وأماكِنِ الحشوش، وقنى الوسَخِ، وكَمَنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعةُ مِن الناس يجتمعون إلى الخانات ويُغلِقونَ عليهم الأبواب فتفتحها التتارُ إمَّا بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلونَ عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنةِ فيقتلونهم بالأسطُحِ، حتى تجري الميازيب من الدماءِ في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!! وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبُط، ولم ينجُ منهم أحد سوى أهل الذمَّة من اليهود والنصارى ومَن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفةٌ مِن التجَّار أخذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالًا جزيلةً حتى سَلِموا وسَلِمَت أموالهم، وعادت بغدادُ بعد ما كانت آنَسَ المدن كلِّها كأنها خرابٌ ليس فيها إلا القليلُ مِن الناس، وهم في خوفٍ وجوعٍ وذِلَّة وقلة! وكان دخولهم إلى بغداد في أواخِرِ المحرم، وما زال السيف يقتُلُ أهلَها أربعينَ يومًا، وكان الرجلُ من بني العباس يُستدعى به مِن دار الخلافة فيخرج بأولادِه ونسائه فيُذهَبُ به إلى مَقبرةِ الخَلَّال تجاه المنظرة فيُذبَحُ كما تُذبَحُ الشاة، ويؤسَرُ من يختارون من بناتِه وجواريه، وتعطَّلَت المساجد والجمع والجمعات مدة شهورٍ ببغداد، ولما انقضى الأمرُ المقَدَّر وانقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاويةً على عروشها ليس بها أحَدٌ إلا الشاذُّ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطَرُ فتغيرت صُوَرُهم وأنتنت من جِيَفِهم البلد، وتغيَّرَ الهواء فحصل بسببه الوباءُ الشديد حتى تعدى وسرى في الهواءِ إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير من تغيُّرِ الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاءُ والوَباءُ والفَناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولما نودي ببغداد بالأمانِ خرج من تحت الأرضِ مَن كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نُبِشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضُهم بعضًا، فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباءُ الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقَهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمرِ الذي يعلَمُ السر َّوأخفى، اللهُ لا إلهَ إلا هو له الأسماءُ الحسنى. حكى جمال الدين سليمان بن عبد الله بن رطلين قال: "لما قُتِلَ الخليفة, وأَطلَقَ المغول السبعة عشر الذين كانوا معه وكان أبي معهم، قُتِلَ منهم رجلان وطلب الباقونَ بيوتهم فوجدوها بلاقِعَ. فأتوا المدرسةَ المغيثية، وقد كُنتُ ظَهرتُ مِن مخبئي, فبقيت أسألُ عن أبي، فدُلِلْتُ عليه، فأتيتُه وهو ورفاقه، فسَلَّمت عليهم، فلم يعرفني أحدٌ منهم، وقالوا: ما تريد؟ قلت: أريدُ فخر الدين ابن رطلين. وقد عرفتُه، فالتفَتَ إليَّ وقال: ما تريد منه؟ قلت: أنا ولَدُه. فنظر إليَّ وتحقَّقني، فلما عرفني بكى!!". كان رحيل هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر مُلكِه، وفوَّضَ أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوَّضَ إليه الشحنكية بها وإلى الوزير ابن العلقمي الذي مات بعد أشهرٍ من هذه الحادثةِ غَمًّا وكَمَدًا, فولي بعده الوزارة ولدُه عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه اللهُ بأبيه في بقيَّة هذا العام.
هو الشيخُ الإمام العلامة الحافظُ الحجَّة الرُّحَلة الفقيه المقرئ المسنِد المؤرخ الخطيبُ: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن الزين أحمد بن الجمال محمد بن الصفي محمد بن المجد حسين بن التاج علي القسطلاني الأصل، القتيبي المصري الشافعي، ويعرف بالقسطلاني علَّامة الحديث, وأمُّه حليمة ابنة الشيخ أبي بكر بن أحمد بن حميدة النحاس. ولِدَ في الثاني والعشري ذي القعدة سنة 851 بمصر ونشأ بها فحفظ القرآن والشاطبيتين, والقراءات السبع ثم العشر، وكذا أخذ القراءات عن الشمس بن الحمصاني إمام جامع ابن طولون, وقرأ صحيحَ البخاري بتمامه في خمسة مجالسَ على الشاوي، وكذا قرأ عليه ثُلاثيات مسند أحمد، وحجَّ غير مرة وجاور سنة أربع وثمانين ثم سنة أربع وتسعين وسنتين قبلها على التوالي. وجلس للوعظ بالجامع العمري سنة ثلاث وسبعين وكذا بالشريفية بالصبانيين، بل وبمكة, ولم يكن له نظيرٌ في الوعظ، وكان يجتمع عنده الجمُّ الغفير مع عدم ميلِه في ذلك، وولي مشيخة مقام أحمد بن أبي العباس الحرَّاز بالقرافة الصغرى، وأقرأ الطلبة وجلس بمصر شاهدًا رفيقًا لبعض الفضلاء, وبعده اعتزل وتفرَّغ للكتابة, فكتب بخطِّه لنفسه ولغيره أشياء، بل جمع في القراءات العقود السنية في شرح المقدمة الجزرية في التجويد، ومن مؤلفاته: إرشاد الساري على صحيح البخاري، انتهى منه سنة 916, وتحفة السامع والقاري بختم صحيح البخاري, ونفائس الأنفاس في الصحبة واللباس, والروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر, وعمل تأليفًا في مناقبه سماه: نزهة الأبرار في مناقب الشيخ أبي العباس الحرَّار, وتحفة السامع والقارئ بختم صحيح البخاري. وهو كثير الأسقام قانعٌ متعفِّف جيد القراءة للقرآن والحديث والخطابة، شجيُّ الصوت بها، مشارك في الفضائل، متواضع متودِّد لطيف العشرة سريعُ الحركة. قال محي الدين عبد القادر العَيدَروس: "وارتفع شأنُه بعد ذلك فأُعطيَ السعدَ في قَلَمِه وكَلِمِه، وصنَّف التصانيف المقبولة التي سارت بها الركبانُ في حياته، ومن أجَلِّها شرحُه على صحيح البخاري مزجًا في عشرة أسفار كبار، لعله أحسَنُ شروحِه وأجمعُها وألخصُها، ومنها المواهب اللدُنِّية بالمنح المحمدية، وهو كتاب جليل المقدار عظيم الوقع كثير النفع، ليس له نظير في بابه، ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغُضُّ منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمدُّ منها ولا ينسبُ النقل إليها، وأنَّه ادَّعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا فألزمه ببيان مدَّعاه، فعدد عليه مواضِعَ قال إنه نقَلَ فيها عن البيهقي، وقال إن للبيهقي عدةَ مؤلفات فليذكرْ لنا ما ذكر في أي مؤلفَّاته ليُعلَمَ أنَه نقل عن البيهقي، ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك النقلَ عن البيهقي فنقله برُمَّته، وكان الواجب عليه أن يقول نقل السيوطي عن البيهقي، وحكى الشيخ جار الله بن فهد رحمه الله: أنَّ الشيخ رحمه الله تعالى قصد إزالةَ ما في خاطر الجلال السيوطي فمشى من القاهرة إلى الروضة، وكان السيوطي معتزلًا عن الناس بالروضة فوصل القسطلاني إلى باب السيوطي ودق الباب فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلاني جئتُ إليك حافيًا مكشوف الرأس ليطيبَ خاطرُك عليَّ، فقال له: قد طاب خاطري عليك، ولم يفتح له الباب ولم يقابله! وبالجملة فإنه كان إمامًا حافظًا متقنًا جليل القدر حسن التقرير والتحرير، لطيف الإشارة بليغ العبارة، حسن الجمع والتأليف، لطيف الترتيب والتصنيف، كان زينة أهل عصره، ونقاوة ذوي دهره، ولا يقدح فيه تحامُلُ معاصريه عليه، فلا زالت الأكابر على هذا في كل عصرٍ- رحمهم الله" أصيب القسطلاني بالفالج، ثم توفي ليلة الجمعة السابع محرم بالقاهرة ودفن بالمدرسة العينية جوار منزله، ووافق يومُ دفنه الثامن محرم دخولَ السلطان سليم الأول العثماني عَنْوةً إلى مصر وتملُّكه بها.
هو الإمام، الصَّادق، شيخ بني هاشم، أبو عبدالله جعفرُ بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي، الهاشمي، العلوي، النبوي، المدني، أحد الأعلام من التابعين, وكان يلقَّبُ بالصابر، والفاضِلِ، والطاهر، وأشهرُ ألقابه الصادِقُ، ولد سنة 80, وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق, وأمها: هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان يقول: ولدني أبو بكر الصديق مرتين. قال الذهبي: "كان يغضب من الرافضة، ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر ظاهرا وباطنا, ثم قال: هذا لا ريب فيه، ولكن الرافضة قوم جهلة، قد هوى بهم الهوى في الهاوية، فبعدا لهم" وقال: "أن الصادق رأى بعض الصحابة، أحسبه رأى: أنس بن مالك، وسهل بن سعد".حاول المنصورُ أن يظفَرَ به، لكنَّه لم يقدِرْ عليه وانثنى عن ذلك، كان من أجلَّاء التابعين؛ فقيهًا عالِمًا جوادًا كريمًا زاهدا عابدا، قال ابن خلكان: " أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية، وكان من سادات أهل البيت ولقب بالصادق لصدقه في مقالته وفضلُه أشهر من أن يذكر، وله كلام في صنعة الكيمياء والزجر والفأل". أورد الذهبيُّ بإسنادٍ قال إنه صحيح، عن سالم بن أبي حفصة قال: "سألتُ أبا جعفرٍ محمدَ بنَ عليٍّ وابنَه جعفرًا عن أبي بكرٍ وعمر، فقالا: يا سالمُ، تولَّهَما وابرأْ مِن عدُوِّهما؛ فإنهما كانا إمامَيْ هُدًى. وقال لي جعفرٌ: يا سالم، أيسُبُّ الرجُلُ جَدَّه؟! أبو بكرٍ جَدِّي، فلا نالَتني شفاعةُ محمَّدٍ يومَ القيامة إن لم أكنْ أتولَّاهما وأبرأُ من عدوِّهما!" توفِّي في المدينة ودُفِنَ في البقيعِ.
هو أبو بكر محمَّدُ بن الحسن بن دريد بن عتاهية الأزديُّ البصريُّ، عالِمٌ وشاعِرٌ وأديبٌ عربيٌّ، كان رأسًا في العربيَّةِ وأشعار العرَبِ, وله شعرٌ كثيرٌ وتصانيفُ مشهورة. ولِدَ سنة 223.كان يقالُ: "ابن دريد أشعَرُ العُلَماء وأعلَمُ الشُّعَراء", وكان أبوه وجيهًا من وجهاءِ البصرة، وقرأ ابنُ دريد على علمائِها وعلى عمه الحُسَين بن دريد، قال أحمد بن يوسف الأزرق: "ما رأيتُ أحفَظَ مِن ابنِ دُرَيد. وما رأيتُه قُرئ عليه ديوانٌ قَطُّ إلَّا وهو يسابِقُ إلى روايته؛ لحفظِه له". قال أبو حفصِ بنُ شاهين: "كنَّا ندخُلُ على ابن دُرَيد فنستحي ممَّا نرى من العيدانِ المُعَلَّقة والشَّراب. وقد جاوز التِّسعينَ". وقال أبو منصور الأزهري: "دخلتُ عليه فرأيتُه سكرانَ، فلم أعُدْ إليه". وعند ظهور الزِّنجِ في البصرة انتقل مع عمِّه إلى عُمان عام 257، وأقام فيها اثنتي عشرة سنةً، ثم رجع إلى البصرة وأقام فيها زمنًا، ثم خرج إلى الأحوازِ بعد أن لبَّى طلب عبد الله بن محمد بن ميكال، فلحق به لتأديبِ ابنِه أبي العباس إسماعيلَ، وهناك قَدَّمَ له كتابَه (جَمهرة اللُّغة) وتقَلَّد ابنُ دريد آنذاك ديوانَ فارِسَ، فكانت كتُبُ فارس لا تصدُرُ إلَّا عن رأيه، ولا ينفُذُ أمرٌ إلَّا بعد توقيعِه، وقد أقام هناك نحوًا من سِتِّ سنواتٍ. ولابن دريدٍ مِن الكتب "الجمهرة"، و"الأمالي"، و"اشتقاق أسماء القبائل"، و"المجتبى"، و"الخيل"، و"السلاح"، و"غريب القرآن" ولم يتِمَّ، و"أدب الكاتِب"، و"فعلتُ وأفعلتُ"، و"المطر"، وغيرها من الكتب. دُفِنَ ابن دريد وأبو هاشم الجُبَّائي في يومٍ واحد في مقبرةِ الخيزران لاثنتي عشرة ليلة بَقِيَت من شعبان، فقيل: مات الكلامُ واللُّغةُ جميعًا.
الإمامُ، الحافظُ، المُجَوِّدُ، المُقرِئُ، الحاذِقُ، عَالِمُ الأندلُس، أبو عَمرٍو عُثمانُ بن سَعيدِ بن عُثمان الدَّاني، المعروف بابنِ الصَّيْرَفِيِّ، وبأبي عَمرٍو الدَّاني، مالِكي المَذهَب، وُلِدَ سنة 371هـ بدأ بِطَلَبِ العِلمِ في قُرطبة سَنةَ 386هـ, ثم رَحلَ إلى المَشرِق وسَمِعَ الحَديثَ في القَيروان ومصر، وهو أَحدُ الأَئِمَّة في عِلمِ القُرآن رِواياتِه، وقِراءاتِه، وتَفسيرِه، ومَعانِيه، وطُرُقِه، وإعرابِه، وإليه انتهى عِلمُ القِراءات وإتقانُ القُرآن، وجَمعَ في ذلك كُلِّهِ تَواليفَ حِسانًا مُفيدةً، وله مَعرِفَة بالحَديثِ وطُرُقِه، وأسماء رِجالِه ونَقَلَتِهِ، وكان حَسَنَ الخَطِّ، جَيِّدَ الضَّبطِ، مِن أهلِ الذَّكاءِ والحِفظِ، والتَّفنُّنِ في العِلمِ، دَيِّنًا فاضِلًا، وَرِعًا مُجابَ الدَّعوةِ. لم يكُن في عَصرِه ولا بَعدَ عَصرِه أحدٌ يُضاهيهِ في حِفظهِ وتَحقيقِه، وكان يقول: "ما رأيتُ شَيئًا قط إلا كَتبتُه، ولا كَتبتُه إلا وحَفِظتُه، ولا حَفِظتُه فنَسيتُه". وكان يُسألُ عن المَسأَلةِ مما يَتعلَّق بالآثارِ وكلامِ السَّلفِ، فيُورِدها بجميعِ ما فيها مُسنَدَةً من شُيوخِه إلى قائلِها. وله مُؤلَّفاتٌ تُعتَبر هي المرجِعُ في القِراءات مثل: ((التَّيسير في القِراءاتِ السَّبْعِ))، و((المقنع في رَسْمِ المصاحِف)) و((المُحكَم في نَقْطِ المصاحِف)) و((الاهتداء في الوقفِ والابتداء)) وغيرها، قال الذهبي: " كان بين أبي عَمرٍو الدَّاني، وبين أبي محمد بن حَزمٍ وَحشَةٌ ومُنافرَةٌ شَديدةٌ، أَفضَت بهما إلى التَّهاجي، وهذا مَذمومٌ مِن الأَقرانِ، مَوفورُ الوُجودِ، نَسألُ اللهَ الصَّفحَ, وأبو عَمرٍو أَقْوَمُ قِيلًا، وأَتْبَعُ للسُّنَّةِ، ولكنَّ أبا مُحمدٍ أَوسعُ دَائِرةً في العُلومِ، بَلغَت تَواليفُ أبي عَمرٍو مائةً وعِشرين كِتابًا". تُوفِّي في الأَندلُس عن 73 عامًا. ودُفِنَ ليومِه بعدَ العَصرِ بِمَقبرةٍ دانِيَةٍ، ومَشى سُلطانُ البَلدِ أمامَ نَعشِه، وشَيَّعَهُ خَلْقٌ عَظيمٌ.