في أوَّلِ شَهرِ رَجَب قَدِمَ الخَبَرُ بوصول رسل الفرنج إلى ميناء الإسكندرية، وأنهم طلبوا رهائِنَ عندهم، حتى يَنزِلوا من مراكِبِهم ويَرُدُّوا رسالتَهم، فلم تؤمَنْ مَكيدتُهم، واقتضى الحالُ إجابَتَهم، فأُخرِجَ مِن سجن الوافي- المعروف بخزانة شمايل- جماعةٌ وَجَب قَتْلُهم، وغُسلوا بالحمَّام، وأُلبِسوا ثيابًا جميلةً، وسافروا إلى الإسكندرية، فأكرَمَهم النائب، وأشاع أنَّهم من رُؤساء الثغر، وبَعَث بهم إلى الفرنجِ، وشَيَّعَ خَلفَهم نساءً وصِبيانًا يَصيحونَ ويَبكونَ، كأنَّهم عيالُهم، وهم يخافون الفِرنجَ عليهم، فمشى ذلك على الفِرنجِ، وعلى أهل الثَّغرِ لانتظامِ حالِ المملكة، ومُلَّاك أمرها، وجودة تدبيرها، فتسَلَّم الفرنجُ الجماعةَ ونَزَلت رسلُهم من المراكب، وقَدِموا إلى قلعةِ الجَبَل، وقد عدى السلطانُ إلى سرحة كوم برا بالجيزة، فحُملوا إلى هناك، وجلس لهم الأميرُ يلبغا الأتابك، وقام الأمراءُ والحُجَّاب بين يديه وأُدخِلوا عليه فهالهم مَجلِسُه، وظنُّوا أنه السُّلطانُ، فقيل لهم هذا مملوكُ السلطان، فكشفوا عن رؤوسِهم، وخَرُّوا على وجوهِهم يُقَبِّلون الأرض، ثم قاموا ودنوا إليه وناولوه كتابَ مَلِكِهم، وقدَّموا هديَّتَه إليه، ففَرَّقَ ذلك بحضرتِهم فيمن بين يديه، واختارَ منه طستًا وأبريقًا من ذهب، وصندوقًا لم يُعرَفْ ما فيه، وتضَمَّنَت رسالتُهم أنهم في طاعة السلطان ومساعِدُوه على متمَلِّك قبرص، حتى تُرَدَّ الأسرى التي أُخِذَت من الإسكندرية، ويُعَوَّض المال وسألوا تجديدَ الصلحِ، وأن يمَكِّنَ تجَّارَهم من قدوم الثغر، وأن تُفتَحَ كَنيسةُ القيامة بالقُدس، وكانت قد أُغلِقَت بعد واقعة الإسكندرية، فأجابهم بأنه لا بُدَّ مِن غزو قبرص وتخريبها، ثمَّ أُخرجوا، فأقاموا بالوطاق ثلاثةَ أيام، وحملوا إلى دار الضيافةِ بجوار قلعة الجبل، فلما عاد السلطانُ مِن السرحة وقَفوا بين يديه وقَدَّموا هديَّتَهم، وأدَّوا رسالتَهم، فلم يُجابوا وأعيدوا إلى بلادِهم خائبينَ.
ملك العادل أبو بكر بن أيوب بلد الخابور ونصيبين، وحصر مدينة سنجار، والجميع من أعمال الجزيرة، وهو بيد قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود، وسببُ ذلك أن قطب الدين كان بينه وبين ابنِ عَمِّه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، صاحب الموصل، عداوةٌ مستحكمة، وكان لنور الدين وزراء يحبون أن يشتغل عنهم، فحسَّنوا له مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما بالبلاد التي لقطب الدين، وبالولاية التي لولد سنجر شاه بن غازي بن مودود، وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها، فيكون مُلك قطب الدين للعادل، وتكون الجزيرةُ لنور الدين، فوافق هذا القولُ هوى نور الدين، فأرسل إلى العادل في المعنى، فأجابه إلى ذلك مستبشرًا، فبادر العادلُ إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره، وقصد الخابور فأخذه، فلما سمع نور الدين بوصوله كأنَّه خاف واستشعر، هذا والعادل قد ملك الخابورَ ونصيبين، وسار إلى سنجار فحصرها، فبينما الأمرُ على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن لهم في حساب، وهو أن مظفر الدين كوكبري، صاحب إربل، أرسل وزيره إلى نور الدين يبذُلُ من نفسه المساعدةَ على منع العادل عن سنجار، وأنَّ الاتفاق معه على ما يريده، فوصل الرسولُ ليلًا فوقف مقابل دار نور الدين وصاح، فعبَرَ إليه سفينة عبر فيها، واجتمع بنور الدين ليلًا وأبلغه الرسالة، فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة، وحلفَ له على ذلك، وعاد الوزيرُ من ليلته، فسار مظفر الدين، واجتمع هو ونور الدين، ونزلا بعساكِرِهما بظاهر الموصل، ولما وصل مظفر الدين إلى الموصل، واجتمع بنور الدين، أرسلا إلى الملك الظاهرِ غازي بن صلاح الدين، وهو صاحِبُ حلب، وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، بالاتِّفاق معهما، فكلاهما أجاب إلى ذلك، فتواعَدوا على الحركة وقصْد بلاد العادل إن امتنع من الصلحِ والإبقاء على صاحب سنجار، وأرسلا أيضًا إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسِلَ رسولًا إلى العادل في الصلح أيضًا، فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع، ووصلت رسلُ الخليفة إلى العادل وهو يحاصر سنجار، فأجاب أولًا إلى الرحيل، ثم امتنع عن ذلك، وغالط، وأطال الأمر لعله يبلغ منها غرضًا، فلم ينلْ منها ما أمَّله، وأجاب إلى الصلح على أن يكون له ما أخذ وتبقى سنجار لصاحبها، واستقرَّت القاعدة على ذلك، وتحالفوا على هذا كلُّهم، وعلى أن يكونوا يدًا واحدة على الناكثِ منهم؛ ورحل العادل عن سنجار إلى حران، وعاد مظفر الدين إلى إربل، وبقي كل واحد من الملوك في بلده.
هو إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب الحسني من بيتٍ خرج منهم جماعةٌ على الخلفاء بالحجاز والعراق والمغرب، عرف بالسَّفَّاك، خرج إسماعيل سنة إحدى وخمسين ومائتين في زمن المستعين بالله بالحجاز وهو شاب له عشرون سنة، وتبعه خلقٌ كثير من المتشيِّعة والديلم, فعاث في الحرمين وقتل من الحُجَّاج بعرفة وسلَبَ ونهب، ولقِيَ النَّاسُ منه عنَتًا إلى أن هلك هو وأصحابُه بالطاعون في السنة التالية من خروجِه.
عقد المعتزُّ لموسى بن بغا الكبير على جيشٍ قريب من أربعةِ آلاف ليذهَبوا إلى قتال عبد العزيز بن أبي دلف بناحيةِ همذان؛ لأنَّه خرج عن الطاعة، وهو في نحوٍ من عشرين ألفًا بناحية همذان، فهَزَموا عبد العزيز في أواخر هذه السَّنة هزيمةً عظيمةً، ثمَّ كانت بينهما وقعةٌ أخرى في رمضانَ عند الكرج، فهُزِم عبد العزيز أيضًا وقُتِلَ من أصحابه بشرٌ كثير، وأَسَروا ذراريَّ كثيرةً حتى أسروا أمَّ عبد العزيز، وبَعَثوا إلى المعتز سبعين حِملًا من الرؤوس، وأعلامًا كثيرة، وأُخِذَ من عبد العزيز ما كان استحوذَ عليه من البلادِ.
أعلن والي أرضروم أباظة باشا العصيانَ مدَّعيًا أنه يريد الانتقام للمرحوم السلطان عثمان شهيد الانكشارية، فدخل سيواس وأنقرة، فسار إليه الصدرُ الأعظم حافظ باشا، وبعد معركة قيصرية قضى على هذه الثورة، ثم سار القائدُ حافظ باشا إلى بغداد غير أنَّ الانكشارية لم يستمروا معه في القتال، فعزل بسبب ذلك القائد حافظ باشا، فعاد أباظة باشا للثورة وأحرز نصرًا على الدولة العثمانية، فسار إليه خسرو باشا الصدر الأعظم الجديد، وأدخله في الطاعة وعيَّنه واليًا على البوسنة عام 1037هـ.
كان قد حدث من الملك السعيد أشياء أوغرت صدورَ الأمراء عليه، وأصبَحَ خاصية الملك يحظَونَ بما يريدون ويُبعِدونَ من أرادوا حتى كان في السنة الماضيةِ أن أرسل بعض الأمراء إلى سيس للقتال فخرجوا وهم مكرهون، فأما الأمراء فإنهم غَزَوا سيس وقتلوا وسَبَوا، ثم عادوا إلى دمشق ونزلوا بالمرجِ، فخرج الأميرُ كوندك إلى لقائهم على العادة، وأخبرهم مما وقع من الخاصكية في حَقِّهم وحَقِّه من تخوُّفِ الملك منهم، فحَرَّك قَولُه ما عندهم من كوامِنِ الغضب، وتحالفوا على الاتفاق والتعاون، وبعثوا من المرج إلى السلطانِ يُعلِمونَه أنهم مقيمون بالمرج، وأن الأمير كوندك شكى إليهم من لاجين الزيني وهو من أقرَبِ مقربي الملك السعيد شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشفِ عنها، وسألوا السلطانَ أن يحضر إليهم حتى يسمعوا كلامَه وكلام كوندك، فلما بلغ السلطانَ ذلك لم يعبأ بقولهم، وكتب إلى من معهم من الأمراءِ الظاهريَّة يأمُرُهم بمفارقة الصالحيَّة ودخول دمشق، فرحلوا مِن فَورِهم ونزلوا على الجورةِ مِن جهة داريا، وأظهروا الخلافَ، ورموا الملكَ السعيد بأنه قد أسرف وأفرطَ في سوء الرأي وأفسد التدبير، فخاف السلطان عند ذلك سوء العاقبة، وبعث إليهم الأميرَ سنقر الأشقر، والأمير سنقر التكريتي الأستادار- المشرف على شؤون بيوت السلطان- ليلطفا بهم ويعملا الحيلة في إحضارِهم، فلم يوافقوا على ذلك، وعادا إلى السلطان فزاد قلقُه، وتردَّدَت الرسل بينه وبين الأمراء، فاقترحوا عليه إبعادَ الخاصكية، فلم يوافق، فرحل الأمراءُ بمن معهم من العساكِرِ إلى مصر وتَبِعَهم الملك السعيد ليلحَقَهم ويتلافى أمرَهم فلم يُدرِكْهم فعاد إلى دمشق وبات بها، ثم سار من دمشق بالعساكر يريد مصرَ فنزل بلبيس في نصف ربيع الأول وكان قد سبقه الأميرُ قلاوون بمن معه إلى القاهرة، ونزلوا تحت الجبل الأحمر، فبلغ ذلك الأمراء الذين بقلعة الجبل، وهم الأمير عز الدين أيبك أمير جانذار والأمير أفطوان الساقي، والأمير بلبان الزربقي، فامتنعوا بها وحَصَّنوها وتقدموا إلى متولي القاهرة فسَدَّ أبوابها فراسَلَهم قلاوون والأمراء في فتحِ أبواب القاهرة ليدخُلَ العسكر إلى بيوتهم ويُبصِروا أولادَهم؛ فإن عهدهم بَعُدَ بهم ونزل الأمير لاجين البركخاي وأيبك الأفرم وأقطون إلى الأمراء لمعرفة الخبر فقَبَضوا عليهم وبعثوا إلى القاهرة ففُتِحَت أبوابها ودخل كلُّ أحد إلى داره وسُجِنَ الثلاثة الأمراء في دار الأمير قلاوون بالقاهرة وزحفوا إلى القلعةِ وحاصروها وأمَّا السلطان فإنه لما نزل بلبيس وبلغه خبَرُ الأمراء خامر عليه من كان معه من عسكَرِ الشام وتركوه في بلبيس وعادوا إلى دمشق وبها الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام، فصاروا إليه ولم يبقَ مع السلطان إلا مماليكُه ولم يبق معه من الأمراء الكبار إلا الأميرُ سنقر الأشقر فقط، فسار السلطان من بلبيس ففارقه الأشقر من المطرية وأقام بموضعه، وبلغ الأمراءَ أن السلطان جاء من خَلفِ الجبل الأحمر فركبوا ليحولوا بينه وبين القلعة وكان الضباب كثيرًا فنجا منهم واستتر عن رؤيتِهم وطلع إلى المقَدِّمة، فلما انكشف الضباب بلغ الأمراء أن السلطانَ بالقلعة فعادوا إلى حصارِها وصار السلطان يُشرِفُ من برج الرفرف المطلِّ على الإسطبل ويصيح بهم: يا أمراءُ، أرجِعُ إلى رأيكم ولا أعمَلُ إلا ما تقولونَه، فلم يجبه أحدٌ منهم وأظهروا كتبًا عنه يطلب فيها جماعةً من الفداوية لقَتلِهم وأحاطوا بالقلعة وحصروه، وكان الأميرُ سنجر الحلبي معتَقلًا بالقلعة، فأخرجه السلطانُ وصار معه، فاستمر الحصارُ مدة أسبوع، وكان الذي قام في خلع السلطان جماعةٌ كثيرة من الأمراء وأعيان المفاردة والبحرية، ولما طال الحصار بعث الخليفةُ العباسي الحاكم بأمر الله أحمد، يقول: يا أمراءُ، أيش غرضكم؟ فقالوا: يخلع المَلِكُ السعيد نفسه من الملك ونعطيه الكرك، فأذعن السعيدُ لذلك، وحلف له الأمراء، وحضر الخليفةُ والقضاة والأعيان، وأنزل بالملك السعيد، وأشهد عليه أنَّه لا يَصلُحُ للمُلك، وخلعَ السعيدُ نفسَه، وحلف أنه لا يتطَرَّقُ إلى غير الكرك، ولا يكاتِبُ أحدًا من النواب، ولا يستميلُ أحد من الجند، وسافر من وقته إلى الكرك مع الأمير بيدغان الركني، وذلك في سابع شهر ربيع الآخر، فكانت مدة ملكه من حين وفاة أبيه إلى يوم خلعه سنتين وشهرين وثمانية أيام، فوصل إلى الكرك وتسَلَّمَها في الخامس عشر من جمادى الآخرة، واحتوى على ما فيها من الأموال وكانت شيئًا كثيرًا، ولما تم خلعُ الملك السعيد وسافر إلى الكرك، عرض الأمراءُ السلطنة على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي فامتنع، وقال: أنا ما خلعت الملك السعيد طمعًا في السلطنة، والأولى ألا يخرجَ الأمر عن ذرية الملك الظاهر، فاستُحسِنَ ذلك منه؛ لأن الفتنة سكنت فإنَّ الظاهرية كانوا معظم العسكرِ، وكانت القلاعُ بيَدِ نواب الملك السعيد، وقصَدَ قلاوون بهذا القَولِ أن يتحَكَّم حتى يغَيِّرَ النواب ويتمكن مما يريد، فمال الجميعُ إلى قوله وصوبوا رأيه، واستدعوا سلامش بن السلطان الظاهر، واتفقوا أن يكون الأمير قلاوون أتابِكَه، وأن يكون إليه أمرُ العساكر وتدبير الممالك، فحضر سلامش وله من العمر سبع سنين وأشهر، وحلف العسكرُ جميعه على إقامته سلطانًا، وإقامة الأمير قلاوون أتابك العساكر، ولقَّبوه الملك العادل بدر الدين، فاستقَرَّ الأمرُ على ذلك، وأقيم الأمير عز الدين أيبك الأفرم في نيابة السلطنة.
لما فرغ الفرنجُ من إصلاح أمْرِ عكا، ساروا مستهلَّ شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارِقونَه، فلما سمع صلاح الدين برحيلِهم نادى في عسكره بالرحيلِ، فضايقوا الفرنج في مسيرِهم، وأرسلوا عليهم مِن السهام ما كاد يحجُبُ الشمس، ووقعوا على ساقةِ الفرنج، فقتلوا منها جماعةً، وأسَروا جماعةً، وأرسل الأفضَلُ بن صلاح الدين إلى والِدِه يستَمِدُّه ويُعَرِّفُه الحال، فأمر صلاح الدين العساكِرَ بالمسير إليه، فاعتذروا بأنَّهم ما ركبوا بأُهبةِ الحَربِ، وإنما كانوا على عَزمِ المسيرِ لا غير، فبَطَل المددُ وعاد مَلِك الإنكليز إلى ساقة الفرنج، فحماها، وجَمَعَهم، وساروا حتى أتوا حيفا، فنَزَلوا بها، ونزل المسلمونَ لِيُقيموا في قرية بالقرب من الفرنج، وأحضر الفرنجُ مِن عكا عِوَض من قُتِلَ منهم وأُسِرَ ذلك اليوم، وعِوَضَ ما هلك من الخيل، ثم ساروا إلى قيسارية، والمسلمون يسايرونَهم ويتخَطَّفون منهم مَن قَدَروا عليه فيَقتُلونه، لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنَّه لا يظفَرُ بأحدٍ منهم إلا قَتَلَه بمن قَتَلوا بعكا، فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون، وقاتلوهم أشدَّ قتال، فنالوا منهم نيلًا كثيرًا، ونزل الفرنجُ بها، وبات المسلمون قريبًا منهم، فلما نزلوا خرجَ من الفرنج جماعةٌ فأبعدوا عن جماعتِهم، فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك – المقَدِّمة- فقتلوا منهم وأسروا، ثم ساروا من قيساريَّة إلى أرسوف، وكان المسلمونَ قد سبقوهم إليها، ولم يُمكِنْهم مسايرة الفرنج لضِيقِ الطريق، فلما وصل الفرنجُ إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر، ودخله بعضُهم فقُتِل منهم كثير، فلما رأى الفرنجُ ذلك اجتمعوا، وحملت الخيَّالة على المسلمين حملةَ رجل واحد، فوَلَّوا منهزمين، فلما انهزم المسلمون عنهم قُتِلَ خلق كثير، والتجأ المنهزمون إلى القلب، وفيه صلاحُ الدين، وكان بالقُربِ من المسلمين روضةٌ كثيرة الشجر، فدخلوها وظَنَّها الفرنج مكيدةً، فعادوا، وزال عنهم ما كانوا فيه من الضِّيقِ، ثم سار الفرنجُ إلى يافا فنزلوها، ولم يكُنْ بها أحد من المسلمين، فملكوها، وسار صلاحُ الدين عنهم إلى الرملة، واجتمع بأثقالِه بها، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريبِ عسقلان، فأمر بتخريبِها، فخُرِّبَت تاسع عشر شعبان، وأُلقِيَت حجارتها في البحر، وهَلَك فيها من الأموال والذخائر التي للسُّلطانِ والرعية ما لا يُمكِنُ حَصرُه، وعفى أثَرَها حتى لا يبقى للفرنجِ في قَصدِها مَطمَعٌ، ولَمَّا سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانَهم ولم يسيروا إليها، فلما خَرِبَت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهرِ رمضان، ومضى إلى الرملة فخَرَّبَ حِصنَها وخَرَّب كنيسة لد، ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريبِ الرملة، فاعتَبَرَه وما فيه من سلاحٍ وذخائر، وقرَّرَ قواعِدَه وأسبابه، وما يُحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان، وفي هذه الأيام خرج ملك الإنكليز من يافا، ومعه نفرٌ من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفرٌ من المسلمين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا، وكاد ملك الإنكليز يؤسَرُ، ففداه بعضُ أصحابه بنَفسِه، فتخلَّصَ المَلِكُ وأُسِرَ ذلك الرجُل.
في شهر جمادى الأولى كانت الفتنة الكبيرة بمدينة تعز من بلاد اليمن؛ وذلك أن الملك المنصور عبد الله بن أحمد لما توفي في جمادى الأولى السنة الفائتة، أقيم بعده أخوه الملك الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر بن الملك الأشرف إسماعيل بن عباس، فتغيَّرت عليه نيات الجند كافةً؛ من أجل وزيره شرف الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي، نسبةً إلى علي بن بولان العكي؛ فإنه أخَّر صرف جوامكهم -مخصَّصاتهم- ومرتَّباتهم، واشتد عليهم، وعنف بهم، فنفرت منه القلوب، وكثُرت حُسَّاده؛ لاستبداده على السلطان، وانفراده بالتصرف دونه، وكان يليه في الرتبة الأمير شمس الدين علي بن الحسام، ثم القاضي نور الدين علي المحالبي مشد -ضابط- الاستيفاء، فلما اشتد الأمر على العسكر وكثرت إهانة الوزير لهم، واطِّراحه جانبهم، ضاقت عليهم الأحوال حتى كادوا أن يموتوا جوعًا، فاتفق تجهيز خزانة من عدن، وبرز الأمر بتوجه طائفة من العبيد والأتراك لنقلِها، فسألوا أن يُنفَق فيهم أربعة دراهم لكلٍّ منهم يرتفق بها، فامتنع الوزير ابن العلوي من ذلك، وقال: ليمضوا غصبًا إن كان لهم غرضٌ في الخدمة، وحين وصول الخزانة يكون خير، وإلا ففَسَح الله لهم، فما للدهر بهم حاجة، والسلطان غني عنهم، فهيج هذا القول حفائِظَهم، وتحالف العبيد والترك على الفتك بالوزير، وإثارة فتنة، فبلغ الخبر السلطان، فأعلم الوزير، فقال: ما يسووا شيئًا، بل نشنق كل عشرة في موضع، وهم أعجَزُ من ذلك، فلما كان يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة هذا قبيل المغرب، هجم جماعةٌ من العبيد والترك دار العدل بتعز، وافترقوا أربع فرق؛ فرقة دخلت من باب الدار، وفرقة دخلت من باب السر، وفرقة وقفت تحت الدار، وفرقة أخذت بجانب آخر، فخرج إليهم الأمير سنقر أمير جندار، فهبروه بالسيوف حتى هلك، وقتلوا معه علي المحالبي مشد المشدين، وعدة رجال، ثم طلعوا إلى الأشرف -وقد اختفى بين نسائه وتزيَّا بزيهن- فأخذوه ومضوا إلى الوزير ابن العلوي، فقال لهم: ما لكم في قتلي فائدة؟ أنا أنفق على العسكر نفقة شهرين، فمضوا إلى الأمير شمس الدين علي بن الحسام بن لاجين، فقبضوا عليه، وقد اختفى، وسجنوا الأشرف وأمَّه وحظيَّته في طبقة المماليك، ووكلوا به، وسجنوا ابن العلوي الوزير وابن الحسام قريبًا من الأشرف، ووكلوا بهما، وقد قيدوا الجميع، وصار كبير هذه الفتنة برقوق من جماعة الترك، فصعد هو في جماعة ليُخرِجَ الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن عباس من مدينة ثعبات بتعز، فامتنع أمير البلد من الفتح ليلًا، وبعث الظاهر إلى برقوق بأن يتمهَّل إلى الصبح، فنزل برقوق ونادى في البلد بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وأن السلطان هو الملك الظاهر يحيى بن الأشرف، هذا وقد نهب العسكر عند دخولهم دار العدل جميعَ ما في دار السلطان، وأفحَشوا في نهبهم، فسلبوا الحريم ما عليهن، وانتهكوا ما حرَّم الله، ولم يَدَعوا في الدار ما قيمتُه الدرهم الواحد، وأخذوا حتى الحُصُر، وامتلأت الدار وقت الهجمة بالعبيد والترك والعامة، فلما أصبح يوم الجمعة عاشره اجتمع بدار العدل الترك والعبيد، وطلبوا بني زياد وبني السنبلي والخدم، وسائر أمراء الدولة والأعيان، فلما تكامل جمعهم ووقع بينهم الكلام فيمن يقيموه، قال بنو زياد: ما تمَّ غير يحيى، فاطلَعوا له هذه الساعة، فقام الأمير زين الدين جياش الكاملي والأمير برقوق، وطلعا إلى مدينة ثعبات في جماعة من الخدام والأجناد، فإذا الأبوابُ مغلقة، وصاحوا بصاحب البلد حتى فتح لهم، ودخلوا إلى القصر، فسلموا على الظاهر يحيى بالسلطنة وسألوه أن ينزل معهم إلى دار العدل، فقال: حتى يصل العسكر أجمع، ففكُّوا القيد مِن رِجلَيه، وطلبوا العسكرَ بأسرِهم، فطلعوا بأجمعهم، وأطلعوا معهم بعشرة جنائب من الإسطبل السلطاني في عدة بغال، فتقدَّم الترك والعبيد وقالوا للظاهر: لا نبايعك حتى تحلفَ لنا أنَّه لا يحدث علينا منك سوءٌ بسبب هذه الفعلة، ولا ما سبقَ قبلها،، فحلف لهم ولجميع العسكر، وهم يعيدون عليه الأيمانَ، ويتوثَّقون منه، وذلك بحضرة قاضي القضاة موفق الدين علي بن الناشري، ثم حلفوا له على ما يحبُّ ويختار، فلما انقضى الحلف، وتكامل العسكر، ركب ونزل إلى دار العدل في أهبة السلطنة، فدخلها بعد صلاة الجمعة، فكان يومًا مشهودًا، وعندما استقر بالدار أمر بإرسال ابن أخيه الأشرف إسماعيل إلى ثعبات، فطلعوا به، وقيدوه بالقيد الذي كان الظاهر يحيى مُقيَّدًا به، وسجنوه بالدار التي كان مَسجونًا بها، ثم حُمل بعد أيام إلى الدملوه، ومعه أمه وجاريته، وأنعم السلطان الملك الظاهر يحيى على أخيه الملك الأفضل عباس بما كان له، وخلع عليه وجعله نائب السلطة كما كان في أول دولة الناصر، وخمدت الفتنة، وكان الذي حرَّك هذا الأمر بني زياد، فقام أحمد بن محمد بن زياد الكاملي بأعباء هذه الفتنة، لحنقه على الوزير ابن العلوي؛ فإنه كان قد مالأ على قتل أخيه جياش، وخذل عن الأخذ بثأره وصار يمتَهِنُ بني زياد، ثم ألزم الوزير ابن العلوي وابن الحسام بحمل المال، وعُصِرا على كِعابهما وأصداغهما، ورُبطا من تحت إبطهما، وعُلِّقا منكسَينِ، وضُرِبا بالشيب والعصا، وهما يوردان المال، فأُخِذَ من ابن العلوي -ما بين نقد وعروضٍ- ثمانون ألف دينار، ومن ابن الحسام ثلاثون ألف دينار، وظهر من السلطان نبل وكرم وشهامة ومهابة، بحيث خافه العسكر بأجمعهم؛ فإن له قوة وشجاعة، حتى إن قوسه يعجز من عندهم من الترك عن جَرِّه، وبهذه الحادثة اختَلَّ مُلكُ بني رسول.
كان أوَّلَ الخارِجين فَروةُ بن نَوفلٍ الأشجعيُّ، وكان ممَّن اعتزَل قِتالَ عَلِيٍّ والحسنِ وانحاز معه خمسُمائة فارسٍ مِن الخَوارِج إلى شَهْرَزُور، قائلًا: والله ما أدري على أيِّ شيءٍ نُقاتِلُ عَلِيًّا! أرى أن أَنصَرِفَ حتَّى تَتَّضِحَ لي بَصيرَتي في قِتالِه أو أُتابِعُه. فلمَّا سَلَّمَ الحسنُ الأمرَ إلى مُعاوِيَة قالوا: قد جاء الآن ما لا شَكَّ فيه، فسيروا إلى مُعاوِيَة فجاهِدوهُ. فأقبلوا وعليهم فَروةُ بن نَوفلٍ حتَّى حَلُّوا بالنُّخَيْلَةِ عند الكوفَة، فأرسل إليهم مُعاوِيَةُ جَمْعًا مِن أهلِ الشَّام فقاتَلوهُم، فانْهزَم أهلُ الشَّام، فقال مُعاوِيَةُ لأهلِ الكوفَة: والله لا أمانَ لكم عندي حتَّى تَكُفُّوهُم. فخرَج أهلُ الكوفَة فقاتَلوهُم. فقالت لهم الخَوارِج: أليس مُعاوِيَةُ عَدُوَّنا وعَدُوَّكُم؟ دَعُونا حتَّى نُقاتِلَه، فإن أَصَبْنا كُنَّا قد كَفَيْناكُم عَدُوَّكُم، وإن أَصابَنا كنتم قد كَفَيْتُمونا. فقالوا: لابُدَّ لنا مِن قِتالِكُم. فأخَذ بَنُو أَشْجَعَ صاحِبَهُم فَروةَ فحادَثوهُ ووَعَظوهُ فلم يَرْجِعْ، فأخَذوهُ قَهْرًا وأَدْخَلوهُ الكوفَةَ، فاسْتَعْمَل الخَوارِج عليهم عبدَ الله بن أبي الحَوْساءِ، رجلًا مِن طَيِّء، فقاتَلهُم أهلُ الكوفَة فقتَلوهُم, ثمَّ تَمَكَّنَ منه المُغيرةُ بن شُعبةَ والي العِراق وقتَله، وقُتِلَ عبدُ الله بن أبي الحَوْساء الطَّائيُّ الذي تَوَلَّى أمرَ الخَوارِج بعدَه، ثمَّ قُتِلَ حَوْثَرةُ بن وَداعٍ الأسديُّ الذي نَصَّبَهُ الخَوارِج أميرًا عليهم. ثمَّ خرَج أبو مَريم وهو مَوْلًى لِبَني الحارثِ بن كعبٍ، وقد أَحَبَّ أن يُشْرِكَ النِّساءَ معه في الخُروجِ؛ إذ كانت معه امرأتان: "قَطام وكُحَيْلَة" فكان يُقالُ لهم: يا أصحاب كُحَيْلَة وقَطام. تَعْيِيرًا لهم، وقد أراد بهذا أن يَسُنَّ خُروجَهُنَّ، فوَجَّهَ إليه المُغيرةُ جابرَ البَجليَّ فقاتَلهُ حتَّى قتَلهُ وانْهزَم أصحابُه. ثمَّ خرَج رجلُ يُقالُ له: أبو لَيْلى، أَسْودُ طَويلُ الجِسْم، وقبلَ أن يُعْلِنَ خُروجَه دخَل مَسجِدَ الكوفَة وأخَذ بعِضادَتَيِ البابِ، وكان في المسجدِ عِدَّةٌ مِن الأشرافِ، ثمَّ صاح بأعلى صَوتِه: لا حُكمَ إلَّا لله، فلم يَعترِضْ له أحدٌ، ثمَّ خرَج وخرَج معه ثلاثون رجلًا مِن الموالي بسَوادِ الكوفَة، فبعَث له المُغيرةُ مَعقِلَ بن قيسٍ الرِّياحيَّ فقَتلَه سنة 42هـ.
هو الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله المحمدي الظاهري، الشهير بتلي، يعني مجنونًا، كان من مماليك الملك الظاهر برقوق، ومن أعيان خاصكيته، وترقى في الدولة الناصرية فرج بن برقوق إلى أن صار أمير مائة ومقدم ألف. ثم قُبِضَ عليه وحُبِسَ بثغر الإسكندرية، هو وبيبرس الصغير الدوادار، وجانم بن حسن شاه، في يوم الخميس سابع عشر ذي الحجة سنة 806، فاستمروا في السجن إلى أن أُفرج عنهم في شوال سنة 807. وقَدِموا القاهرة، فأقام سودون المحمدي بالقاهرة، من جملة الأمراء، إلى يوم الخميس ثامن شوال سنة 808، استقر أمير آخورا كبيرًا، عوضًا عن جرباش الشيخي الظاهري بحكم عزله. فاستمر في وظيفته إلى أن اختفى الملك الناصر فرج، وخُلع وتسلطن أخوه الملك المنصور عبد العزيز ابن الملك الظاهر برقوق، فاستمر سودون المحمدي على وظيفته، إلى أن ظهر الملك الناصر وأراد الطلوع إلى القلعة، فمنعه سودون المحمدي مع من منعه من الأمراء، وقاتلوه قتالًا ليس بالقويِّ، ثم انهزم سودون ومن معه فملك الناصِرُ القلعة وتسلطن ثانيًا، وخلع المنصور عبد العزيز، فأمسك بسودون وأخرجه إلى دمشق على إقطاع الأمير سودون اليوسفي، واستقَرَّ الأمير أخورية من بعده الأمير جاركس القاسمي المصارع, ولما توجه سودون المحمدي إلى دمشق قبض عليه نائبها الأمير شيخ المحمودي، وحبسه بقلعتها إلى أوائل سنة 809، إلى أن فرَّ من السجن، ولحق بالأمير نوروز الحافظي، وهو إذ ذاك خارج عن طاعة الملك الناصر فرج. واستمر بتلك البلاد سنين، ووقع له أمور ومحن، وملك مدينة غزة، وشنَّ بها الغارات إلى أن ظفر به الأمير شيخ ثانيًا، وحبسه أيضًا بقلعة دمشق مدة، وحبس معه سودون اليوسفي وغيره من الأمراء. وبلغ الملك الناصر مسْكه، فبعث بطلبه مع الأمير كمشبغا الجمالي، فامتنع شيخ من إرسال سودون ورفقته، ثم أطلقهم وخرج شيخ أيضًا عن الطاعة، وذلك في سنة 812. فعاد الجمالي إلى الناصر بغير طائل، وصار سودون المحمودي من أعزِّ أصحاب شيخ، ودام معه إلى أن ملك صفد من جهة شيخ، ثم خرج عن طاعة شيخ وفرَّ إلى نوروز ثانيًا، ثم اصطلح الجميع على العصيان. واستمرَّ مع شيخ ونوروز إلى أن قُتِلَ الملك الناصر فرج، وقدِمَ سودون بصحبة الأمير شيخ إلى الديار المصرية، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف, واستمرَّ على ذلك إلى أن قبض عليه الملك المؤيد شيخ في شوال سنة 815 وحبسه بثغر الإسكندرية، فاستمر بها إلى أن قُتِلَ سودون في المحرم سنة ثماني عشرة وثمانمائة، وقتل معه الأمير دمرداش المحمدي والأمير طوغان الحسني, وسودون هذا غير الأمير سودون بن عبد الله النوروزي المعروف بالعجمي المتوفى سنة 847
هو شَيخُ الآدابِ، أبو العلاء أَحمدُ بن عبدِ الله بن سُليمانَ المَعَرِّي التَّنوخي الشاعر، اللُّغويُّ، صاحبُ الدَّواوين والمُصَنَّفات في الشِّعرِ واللُّغةِ، المشهور بالزَّندقَةِ، وُلِدَ سنة 363هـ, وأصابهُ جُدَري وله أربعُ سِنين أو سَبع، فذَهبَ بَصرهُ، وقال الشِّعْرَ وله إحدى أو ثنتا عشرة سَنة، ودخلَ بغداد سنةَ تِسعٍ وتسعين وثلاثمائة، فأقام بها سنةً وسبعةَ أَشهُر، ثم خَرجَ منها طَريدًا مُنهزِمًا، لمَّا عَزَم الفُقهاءُ على أَخذِه ببَعضِ أَشعارهِ الدَّالةِ على فِسْقِه، هَرَب ورَجَع إلى بَلدِه، ولَزِمَ مَنزِلَه فكان لا يَخرُج منه، وسَمَّى نَفسَه: رَهينَ المَحْبَسَينِ لذلك ولِذهابِ بَصرِه, وقد كان المَعَرِّي غايةً في الذَّكاءِ المُفرِط، ومَكَثَ المَعَرِّي خمسًا وأربعين سنةً من عُمُرِه لا يأكلُ اللَّحمَ ولا اللَّبَنَ ولا البَيْضَ، ولا شيئًا مِن حَيوانٍ، على طَريقَةِ البَراهِمَة الفَلاسِفَة، ويُقال: "إنَّه اجتَمَع بِراهبٍ في بَعضِ الصَّوامِع في مَجيئِه من بَعضِ السَّواحِل آواهُ اللَّيلَ عنده، فشَكَّكَهُ في دِينِ الإسلام" فكان لا يَتَقَوَّتُ إلَّا بالنَّباتِ وغَيرِه، وأَكثرُ ما كان يأكلُ العَدسَ، ويَتَحَلَّى بالدِّبْسِ وبالتِّينِ، وكان لا يأكل بِحَضرَةِ أَحدٍ، ويقول: أَكْلُ الأعمى عَورةٌ وسَترُه واجب. قال ابنُ كَثيرٍ: "كان ذَكِيًّا ولم يكن زَكِيًّا، وله مُصنفاتٌ كَثيرةٌ أَكثرُها في الشِّعْرِ، وفي بَعضِ أَشعارِه ما يَدلُّ على زَندَقتِه، وانحِلالِه مِن الدِّين، ومن الناسِ مَن يَعتَذِر عنه ويقول: إنَّه إنمَّا كان يقول ذلك مُجونًا ولَعِبًا، ويقول بلِسانِه ما ليس في قَلبِه، وقد كان باطنُه مُسلِمًا"، قال أبو الوفاء ابن عَقيلٍ شيخُ الحنابلة: "مِن العجائبِ أنَّ المَعَرِّي أَظهرَ ما أَظهرَ مِن الكُفرِ الباردِ، وسَقَطَ مِن عُيونِ الكُلِّ، ثم اُعتُذِرَ بأن لِقَولهِ باطِنًا، وأنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ، لأنَّه تَظاهَر بالكُفرِ وزَعَم أنَّه مُسلمٌ في الباطنِ، وهذا عَكسُ قضايا المُنافِقين والزَّنادِقة، حيث تَظاهَروا بالإسلامِ وأَبطَنوا الكُفرَ، فهل كان في بلادِ الكُفَّارِ حتى يحتاج إلى أن يُبطِنَ الإسلام، فلا أَسخَف عَقلًا ممَن سَلكَ هذه الطَّريقَة التي هي أَخَسُّ مِن طَريقةِ الزَّنادِقة والمُنافِقين، إذا كان المُتَدَيِّن يَطلُب نَجاةَ الآخِرةِ، والزِّنديق يَطلُب النَّجاةَ في الدُّنيا، وهو جَعلَ نَفسَه عُرضةً لإهلاكِها في الدنيا حين طَعَنَ في الإسلامِ في بلادِ الإسلامِ، وأَبطَن الكُفرَ، وأَهلكَ نَفسَه في المَعادِ، فلا عَقلَ له ولا دِينَ" قال ابنُ الجوزيُّ: "وقد رَأيتُ لأبي العَلاءِ المَعَرِّي كِتابًا سَمَّاهُ (الفُصول والغايات)، يُعارض به السِّور والآيات، وهو كَلامٌ في نِهايةِ الرَّكَّةِ والبُرودةِ، فسبحان مَن أَعمَى بَصرَهُ وبَصيرتَهُ، وقد ذَكرهُ على حُروفِ المُعجَم في آخرِ كِلماتِه"، قال ابنُ كَثيرٍ: "وقد أَورَد ابنُ الجوزي من أَشعارِه الدَّالَّةِ على استِهتارِه بِدِينِ الإسلامِ أَشياءً كَثيرةً تَدُلُّ على كُفرِه؛ بل كلُّ واحدةٍ مِن هذه الأشياءِ تَدُلُّ على كُفرِه وزَندقَتِه وانحِلالِه، وقد زَعمَ بعضُهم أنَّه أَقلَع عن هذا كُلِّه وتاب منه وأنَّه قال قَصيدةً يَعتذِر فيها مِن ذلك كُلِّه، ويَتنَصَّل منه، ومنهم مَن قال: بل كلُّ ذلك مَدسوسٌ عليه مِن قِبَلِ حُسَّادِه وَهُم كُثُر. بل أَلَّفَ ابنُ العديم كِتابًا في الدِّفاعِ عنه، وللمَعَرِّي (دِيوانُ اللُّزومِيَّات)، و(سِقْطُ الزَّنْدِ) و(رِسالةُ الغُفران)"، قال الباخرزي: "أبو العلاء ضَريرٌ ما له ضَريبٌ، طال في ظِلِّ الإسلامِ آناؤهُ، ورَشَحَ بالإلحاد إناؤهُ، وعندنا خَبرُ بَصرِه، والله العالم بِبَصيرَتِه والمُطَّلِع على سَريرَتِه، وإنمَّا تَحدَّثت الأَلسُنُ بإساءتِه بكِتابِه الذي عارَضَ به القُرآنَ، وعَنْوَنَهُ: (الفُصولُ والغايات في مُحاذاةِ السُّوَرِ والآيات)", وقال غَرسُ النِّعمَة محمدُ بن هلالِ بن المُحسِن بن إبراهيمَ الصابئ عنه: "له شِعْرٌ كَثيرٌ، وأَدَبٌ غَزيرٌ، ويُرمَى بالإلحادِ، وأَشعارُه دَالَّةٌ على ما يُتَّهَمُ به" قال أبو زكريا التِّبريزي: "لمَّا قَرأتُ على أبي العَلاءِ بالمَعَرَّةِ قوله:
تَناقُضٌ ما لنا إلَّا السُّكوتُ له
وأن نَعوذُ بمولانا مِن النَّارِ
يَدٌ بِخَمسِ مِئٍ مِن عَسْجَدٍ وُدِيَت
ما بالُها قُطِعَت في رُبعِ دِينارِ؟
سَألتُه، فقال: هذا كَقولِ الفُقهاءِ: عِبادَةٌ لا يُعقَل مَعناها". قال الذَّهبيُّ: لو أراد ذلك؛ لقال: تَعَبُّد، ولَمَا قال: تَناقُض, ولِمَا أَردَفهُ ببَيتٍ آخرَ يَعترِض على رَبِّه, وبإسنادي قال السَّلفيُّ: إن كان قاله مُعتَقِدًا مَعناهُ، فالنَّارُ مَأْواهُ، وليس له في الإسلامِ نَصيبٌ". تُوفِّي في المَعَرَّةِ مَعَرَّةِ النُّعمانِ، وفيها دُفِنَ عن عُمُرٍ 86 عامًا.
لما شفيَ المنصور أحمد السعدي من مرضه الذي ألمَّ به, وعاد إلى حاله من الصحة؛ أجمع رأي أعيان الدولة السعدية واتَّفقت كلمة كبرائها على أن يطلبوا منه تعيينَ من يلي الأمرَ بعده، ويكون وليَّ عهده، وكان المنصور مهيبًا لا يقدِرُ أحد على مواجهته بمثل هذا، فاتفقوا على أن يكون البادئ لذلك القائِدَ المؤمن بن الغازي العمري؛ لِما له من الإدلال على المنصور بطول الخدمة وسالف التربية، فقال له ابن الغازي: يا مولانا، الله تعالى حَفِظَ البلاد بإبلالك من هذا المرض، وقد بقي الناس في أيام سقمك في حيرةٍ عظيمةٍ، ودخلهم من الدهَشِ ما لا يخفى عليك، فلو عيَّنت لنا من أبنائك من تجتمعُ كلمة الإسلام عليه، ويشار بالخلافةِ إليه من بعدُ؛ لكان أولى وأليق بسياسة المُلك, وإنَّ ابنك أبا عبد الله محمد المأمون حقيقٌ بذلك, فاستحسن المنصور ذلك وأعجبه ما أشار عليه به، فقال له: سوف أستخير الله في ذلك، فإن يكن من عند الله يُمضِه, ثمَّ لبث المنصور بعد هذه الإشارة أيامًا يستخير ربه في ذلك ويستشير من يعلمُ أهليَّته للمشورة من أهل العلم والصلاح، فلما انقضت أيام الاستخارة وتواطأت الآراءُ على حسن تلك الإشارة، جمع المنصور أعيان حاضرة مراكش وأعيان مدينة فاس، وغيرهم من أشياخ القبائل بوجوه الناس من أهل الحواضر والبوادي، وأوصى بالعهد لولده أبي عبد الله محمد المأمون، وذلك يوم الاثنين مُنسلَخَ شعبان من هذه السنة.
لَمَّا تولى براك بن عبد المحسن أمرَ بني خالد نهض بجميعِ بني خالد للغزوِ، فورد اللصافة الماء المعروف، فأغار على عُربان سبيع وغيرهم, وأخذ منهم إبلًا كثيرة، فلما بلغ الأمير سعود خبَرُ بني خالد استشار من معه في النفير أو الحضير، فأشار عليه العُربان بالنفير طمعًا في الغنيمة، فتكلم حجيلان بن حمد فقال: هؤلاء مقصِدُهم الغنيمة ونحن مقصِدُنا عزُّ الإسلام والمسلمين، فانهض بالمسلمين في ساقةِ هذه الشَّوكةِ، فإن أظفرك اللهُ بهم لم يقُمْ لبني خالد قائمةٌ حتى الحسا بيدك، وأعطاك الله من الأموال ما هو خير ممَّا في محلتهم، وهؤلاء الجنود رؤساءُ بني خالد ورجالُ شوكتهم, فنهض سعود بجيشِه وورد ماء اللصافة، فوجد آثار بني خالد صادِرة منها، فبعث العيون يقتفون آثارهم حتى أقبلوا كأنَّها قِطَع الليل، فنهض لهم سعود بجيشِه فرسانًا ورُكبانًا، فلم يثبتوا لهم ساعةً واحدةً حتى انهزموا لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، ولا والدٌ على ولد, فتبعهم جيشُ سعود في ساقَتِهم يقتلون ويغنَمون، واستأصلوا تلك الجموعَ قتلًا ونهبًا، وانهزم براك ومعه شرذمة قليلة إلى المنتفق, وهلك من بني خالد في هذه الوقعة بين القَتلِ والظمأ خلق كثير، قيل إنهم أكثر من ألف رجل, وأخذ سعودٌ جميع ركابهم وخيلهم وأذوادهم وأمتاعهم، وجميع ما معهم، ولم يقم بعد هذه الواقعة لبني خالد قائمةٌ.
لَمَّا قطَعَ المُعِزُّ بنُ باديس الخطبةَ للفاطميِّينَ وخطَبَ للعباسيِّينَ، وأعلن بذلك انشقاقَه عن الفاطميِّينَ وولاءَه للعباسيِّينَ، كاد له المستنصِرُ الفاطميُّ حاكِمُ مِصرَ لَمَّا عجز عنه بنَفسِه وجَيشِه عن قَهرِه، أرسل إليه جموعًا مِن العرب الهلاليَّة مِن بني زغبة ورياح، وهم بطونُ بني عدي الأثبج، وكانوا يسكُنونَ على الضَّفَّة الشرقيَّة من صعيد مصر بعد قُدومِهم من نجد، وكان المستنصِرُ قد عقد لرؤسائِهم ورجالاتِهم على أمصارِ البلاد المغربيَّة وثُغورِها، وقلَّدَهم كثيرًا من الأعمال والولاياتِ؛ كلُّ ذلك انتقامًا مِن المعِزِّ بن باديس، فخرجت في هذه السَّنةِ أوَّلُ حملةٍ بنحوِ أربعمِئَة ألف شَخصٍ، فساروا حتى نزلوا بُرقةَ وأغاروا على طرابلس والقيروان ونَهَبوا وقطعوا الطريقَ، وصَدُّوا جميع الحَمَلاتِ التي سَيَّرَها المعِزُّ ضِدَّهم؛ مما اضطرَّ المعِزَّ للتحَوُّلِ إلى المهدية، ثم تلَتْها حَملاتٌ أخرى عُرِفَت في التاريخِ والقِصَص بتغريبةِ بني هلالٍ.
سار صلاحُ الدين عن دمشق منتصَفَ ربيعٍ الأول إلى حمص، فنزل على بحيرةِ قدس غربيَّ حمص، وجاءته العساكِرُ، فأوَّل من أتاه من أصحابِ الأطرافِ عماد الدين زنكي بن مودود بن آقسنقر. صاحِبُ سنجار، ونصيبين، والخابور، وتلاحقت العساكِرُ مِن الموصل وديار الجزيرة وغيرها. فاجتَمَعَت عليه، وكَثُرَت عنده. فسار حتى نزل تحت حِصنِ الأكراد من الجانبِ الشرقيِّ، فأقام يومينِ، وسار جريدة- الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها- وترك أثقالَ العسكَرِ مَوضِعَها تحت الحصن، ودخل إلى بلدِ الفرنج، فأغار على صافيثا، والعريمة، ويحمور، وغيرها من البلاد والولايات، ووصل إلى قرب طرابلس، وأبصر البلادَ، وعرف من أين يأتيها، وأين يسلُكُ منها، ثم عاد إلى مُعسكَرِه سالِمًا، وقد غَنِمَ العسكر من الدوابِّ على اختلاف أنواعِها ما لا حَدَّ له، وأقام تحت حصن الأكراد إلى آخرِ ربيع الآخر.