حاولت روسيا إعادةَ اتفاقية خونكار أسكله سي، ولكِنَّ الدولة العثمانية رفضت ذلك، كما رفضت حقَّ حماية روسيا للنصارى المقيمين في الدولةِ العثمانية، وأُعيدَ رشيد باشا للصدارة العظمى بعدما عُزِلَ سابقًا؛ إرضاءً لروسيا، فهددت روسيا باحتلالِ الأفلاق والبغدان، فأبلغ الخليفةُ ذلك التهديدَ لسفراء الدول، فأعطت إنكلترا الأوامِرَ لقطعاتِها البحرية المنتَظِرة في مالطة بالتحَرُّك إلى مياه اليونان، والاشتراك مع القوَّاتِ الفرنسية فيها، ثم التوجُّه لمضيق الدردنيل، وأما القواتُ الروسية فقد تقَدَّمت واحتلَّت إقليمَي الأفلاق والبغدان، فسَعَت النمسا للصلحِ، وعُقدَ مؤتمرٌ للصُّلحِ في نهاية العام 1269هـ، ولكن انتهى دون نتائِجَ، وأرسلت الدولةُ العثمانيةُ بضرورةِ إخلاء ولايتي الأفلاق والبغدان في مدة خمسة عشر يومًا، وأمرت القائدَ عمر باشا بالتحَرُّك لدخول الولايتين عند انتهاءِ المهلة، وقد دخل فعلًا وأجبر الروس على الانسحابِ، كما انتصر العثمانيون في الوقتِ نفسِه في جهة القفقاس، واحتلُّوا بعضَ القلاعِ، ثم توقَّف القِتالُ بسَبَبِ الشتاءِ، واستنجد قيصر روسيا بملك النمسا فيما إذا تدخَّلت الدول الغربية فاعتذر، أما في البحرِ فقد دمَّرَت الأساطيل الروسية في البحرِ الأسود القطعاتِ العثمانيةَ في ميناء سينوب، ثم وصلت القطعاتُ الفرنسية والإنكليزية ولم تُجْدِ محاولاتُ الصلح، وكان موقف فرنسا وإنكلترا ضِدَّ روسيا حفاظًا على مصالحهم. وقد جرى اتفاقٌ في استانبول في الثاني عشر من جمادى الآخرة عام 1270هـ بين العثمانيين وفرنسا وإنكلترا على محاربة روسيا، وأن ترسِلَ فرنسا خمسين ألف جندي وترسِلَ إنكلترا خمسة وعشرين ألفًا على أن يرحلوا بعد خمسةِ أسابيع من الصلحِ مع روسيا، وأعلنت فرنسا الحربَ على روسيا بالاتفاق مع إنكلترا، ثم اتفقت الدولتان في لندن في العام نفسِه في الثاني عشر من رجب ألا تنفَرِدَ إحداهما بالاتصال مع روسيا أو الاتفاقِ معها، وأن تمنع روسيا من ضَمِّ أي جزء من الدولة العثمانية إليها، وجمعت جيوشَها في غاليبولي واستانبول، ثم بدأت المعاركُ البحرية قبل أن تَصِلَ الجيوشُ البرية وهَدَمَت القِطَعُ البحرية الإنكليزية والفرنسية قلاعَ مدينة أوديسا، واجتازت الجيوشُ الروسية نهر الدانوب وحاصرت مدينةَ سلستريا مدة خمسين يومًا ولم تستطع اقتحامَها، وجاء المدَدُ للعثمانيين فترك الروس الحصارَ وانسحبوا، وأراد العثمانيون ملاحقَتَهم واحتلال الأفلاق والبغدان حيث أخلاهما الروس إلَّا أن النمساويين قد احتلُّوا هذين الإقليمين ووقفوا في وجهِ العثمانيين، ثم نقلت الدُّولُ المتحالفة المعركةَ إلى أرض روسيا وحاصرت ميناءَ سيباستبول وهَزَمت الجيوش الروسية، ثم اقتَنَعت النمسا بالانضمام إلى الدُّوَل المتحالفة، ثم انضمت أيضًا مملكة البيمونت الإيطالية إلى التحالُف، والتي احتلَّت ميناء كيرتش وبحر آزوف؛ لمنع وصول الإمدادات الروسية إلى ميناء سيباستبول التي استطاع الحلفاءُ دُخولَه في ذي الحجة من عام 1271هـ، وحاصرت مدخل البحر الأبيض الشمالي، واحتلت بعضَ الموانئ على المحيط الهادي، ثم توغلت في أوكرانيا، أما الروسُ فاستطاعوا أن يدخُلوا مدينة قارص، ثم حلَّ الشتاءُ فتوقفت الحروب، ثم انضمت السويدُ إلى التحالف إلى أن وافقت روسيا على طلباتِهم التي زادت عما طُلِبَ منها سابقًا، وعُقِدَت في باريس معاهدةٌ تنصُّ على: تُخلَى المناطِقُ التي احتُلَّت أثناء الحرب من كلا الطرفين، ويُطلَق سراح الأسرى، ويَصدُرُ عفوٌ عامٌّ عن جميع الذين تعاونوا مع خصومِ دُوَلهم، تُطلَق حرية الملاحة في البحر الأسود للدول جميعًا، ولا تُنشَأُ فيه قواعِدُ بحرية حربية، تطلَقُ حرية الملاحة في نهر الدانوب، تبقى الصِّربُ مرتبطة بالدولة العثمانية ولها استقلالٌ ذاتيٌّ يُضمَنُ مِن قِبَل الدول، ثم اتُّفِق على تكوين دولةٍ شبهِ مستقلة تضم الأفلاق والبغدان تسمَّى الإمارات المتحدة، وتكون تحت حماية جميع الدول، فتخرج بالتالي من التبعية العثمانية، وكانت هذه المعاهدةُ في عام 1275هـ.
هو بلاس إنفانتي بيريث دي بارغاس رجلُ سياسة ومفكِّر وكاتب أندلسي، ويُعَدُّ أبا القومية الأندلسية الحديثة. ولِدَ سنة 1885م في بلدة قشريش بمقاطعة مالقة، ظهرت في أوائل القرن العشرين شخصيةُ بلاس إنفانتي الفَذَّة، الذي اعتنق الإسلام وعَمِلَ حَسَب طاقته في ذلك الحين على توعية المجتمع الأندلسي، وإزاحة الغشاء المظلِم الذي أنزله أعداؤه على تاريخِه وماضيه الإسلامي. تعرَّف بلاس إنفانتي إبَّان مُقامِه في غرناطة على التراثِ الإسلامي الأندلسي، فزار إنفانتي إشبيلية وقرطبة ومجريط، واجتمع بزعماء الحركة الأندلسية، وأصبح يعتقِدُ أنَّ الهُويَّةَ الأندلسية ليست هويةَ عِرقٍ أو دم، لكِنَّها هوية (وجود) و(معرفة). وفي سنة 1910م عُيِّن إنفانتي عَدلًا في بلدة قنطيانة، فسكن إشبيلية القريبةَ منها، وأصبح ينتقلُ بين البلدتين، تأثَّر إنفانتي في إشبيلية بمفكِّريها الأندلسيين، وساهم في أنشطتهم الثقافية، وفي 28-11-1913م قُبِل إنفانتي في مجلس المحامين، وفي سنة 1914م ظهرت الطبعةُ الأولى من كتابه النظرية الأندلسية. وفي سنة 1916م أسَّس إنفانتي أول مركز أندلسي في إشبيلية، تبعه مراكز أخرى في مدن الأندلس وقُراها، وأصدر مجلة الأندلس كلسان حال للمراكز الأندلسية، والحركة القومية الأندلسية، ومع الأيام تحوَّل مركز إشبيلية الأندلسي إلى مركز أنشطة أندلسية تثقيفية وتخطيطية، ومنه خرج المنشور الداعي إلى اجتماع المقاطعات الأندلسية في رندة، الذي استعمل عبارةَ الأمة الأندلسية لأول مرة، وهكذا أصبح إنفانتي بأفكاره وحركته رئيسَ تيار جديد للحركة القومية الأندلسية. وطرح فكرة "إنشاء فدرالية تجمع بين بلاد المغرب والأندلس تجمعُهما أخوة سياسية بعيدًا عن الفكر الاستعماري" وفي 13-1-1918م انعقد اجتماعُ مجلس المقاطعات الأندلسية في رندة، فعدد معالم القومية الأندلسية في حركتها المستقبلية، وطلبوا الاعترافَ بالأندلس كبلد وقومية ومنطقة ذات حكم ذاتي ديمقراطي، على أساسِ دستور أنتقيرة. ثم تقَدَّم بلاس إنفانتي، وخوزي أندرس باسكس، باسم المؤتمر لهيئة الأمم طالبينَ منها الاعتراف بالقومية الأندلسية، وفي 21/5/1919م تقدَّم إنفانتي لانتخابات إشبيلية باسم (الديمقراطية الأندلسية) المكونة من الجمهوريين الاتحاديين، والقوميين الأندلسيين، والاشتراكيين المستقلين، وندَّد في خُطَبِه الانتخابية بوضع الأندلس البئيس، فغَضِبَت عليه السلطة الحاكمة واليمين واتهموه وأتباعه بالتآمُرِ على أمن الدولة ووحدتها، وفي 13/1/1923م تحولت أسبانيا إلى الحكم الدكتاتوري الذي قضى على الحريات، وأغلقَ المراكز الأندلسية، واتهم القوميين الأندلسيين بمقاومة الدولة، وأسكت القوى المعادِية للكنيسة. فانتقل إنفانتي تحت ضغط عائلته إلى أيسلا كريستينا (مقاطعة ولبة) كموثِّق عدل، وانسحب من العمل السياسي. تعرَّف إنفانتي على بعض أبناء الأندلس المسلمين، فقَرَّر إشهارَ إسلامه على أيديهم، ثم حاول بعد إسلامِه ربطَ الحركة الأندلسية بالحركات الإسلامية والعربية. وفي سنة 1930م انهارت الدكتاتورية، وأصبح إنفانتي يمجِّدُ التاريخ الإسلامي كأساسِ الهوية الأندلسية، ويطالِبُ الأندلسيين باستعادة الهوية والتاريخ والأرض، وبإزاحة هيمنة الكنيسة على الدولة، ويهاجِمُها على جرائمها في القضاء على الأندلسيين، فكان كل ذلك دافعًا لأعدائهم إلى رميهم بالاتهامات المتواصلة، فحُوربت الحركة من طرف اليمين واليسار على حدٍّ سواء. وفي يوم الأحد 2/8/1936م بعد 14 يومًا من انفجار الحرب الأهلية الأسبانية، هجمت فرقةٌ من الكتائب على إنفانتي في بيته دار الفرح بقورية، وساقته إلى إشبيلية، حيث سجنته وأعدمته رميًا بالرصاص يوم الاثنين 10/8/1936م، فمات وهو يصرخُ مرتين: عاشت الأندلس حرة!
هو السُّلطانُ الكبيرُ، المَلِكُ النَّاصِرُ: صلاح الدين، أبو المظفر يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الكردي الدُوِيني، ثم التِكريتي المولد. صاحِبُ الدِّيارِ المصريَّة والبلادِ الشاميَّة والفُراتيَّة واليمنيَّة، واسطة عقدِ آل أيوب، وشُهرتُه أكبَرُ مِن أن تحتاج إلى التنبيهِ عليه. اتَّفَق أهل التاريخ على أن أباه وأهلَه من دُوِين؛ بلدةٍ في آخِرِ عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج، وأنهم أكرادٌ رَواديِّة، والرَوَاديَّة: بطن من الهَذَبانِيَّة، وهي قبيلةٌ كبيرة من الأكراد. قال ابنُ خَلِّكان: "قال لي رجلٌ فقيه عارِفٌ بما يقول، وهو من أهل دُوِين: إنَّ على باب دوين قريةً يقال لها أجدانقان، وجميع أهلها أكراد رَوَاديَّة، ومولد أيوب بن شاذي والد صلاح الدين وعمه شيركوه بها، ثم أخذ شاذي ولَدَيه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخَرَجَ بهما إلى بغداد، ومِن هناك نزلوا تكريت، ومات شاذي بها، ولقد تتبعت نِسبَتَهم كثيرًا فلم أجِدْ أحدًا ذَكَرَ بعد شاذي أبًا آخر، حتى إنِّي وقفتُ على كتب كثيرة بأوقافٍ وأملاك باسم شيركوه وأيوب، فلم أرَ فيها سوى شيركوه بن شاذي، وأيوب بن شاذي، لا غير" ثم خَدَم أيوب وشيركوه مجاهِدَ الدين بهروز بن عبد الله الغياثي شحنةً بالعراق- الشحنة: القَيِّم لضَبطِ أمن البلد- فلما رأى مجاهِدُ الدين في نجم الدين أيوب عقلًا ورأيًا حسنًا وحُسنَ سيرة، جعله دُزدَار تكريت، أي: حافظ القلعة، وواليها, ثم انتقل أيوب وشيركوه لخدمة عماد الدين زنكي بالموصل، فأحسن إليهما وأقطعهما إقطاعًا حسنًا وصارا من جملة جنده. فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين أيوب واليًا عليها. قال ابن خلكان: " اتفق أربابُ التواريخ أنَّ صلاح الدين وُلِدَ سنة 532 بقلعة تكريت لَمَّا كان أبوه بها، ولم يَزَل صلاح الدين تحت كَنَف أبيه حتى ترعرع, ولما مَلَك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشقَ لازم نجم الدين أيوب خِدمَتَه، وكذلك وَلَدُه صلاح الدين، وكانت مخايلُ السعادة عليه لائحةً، والنجابةُ تُقَدِّمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويُؤثِرُه، ومنه تعلَّم صلاح الدين طرائِقَ الخيرِ وفِعلَ المعروف والاجتهادِ في أمور الجهاد، حتى تجهَّزَ للمَسيرِ مع عمه شيركوه إلى الديار المِصريَّة" قال الذهبي: "سَمِعَ صلاح الدين من أبي طاهر السِّلَفي، والفقيه علي بن بنت أبي سعد، وأبي الطاهر بن عوف، والقطب النيسابوري، وحدَّث". أمَّر نورُ الدين صلاحَ الدين، وبَعَثَه في عسكره مع عَمِّه أسد الدين شيركوه، فحَكَم شيركوه على مصر، فما لَبِثَ أن توفي، فقام بعدَه صلاح الدين، ودانت له العساكِرُ، وقَهَر بني عُبَيد، ومحا دولَتَهم، واستولى على قصرِ القاهرة بما حوى من الأمتعة والنفائس، منها الجبل الياقوت, وخلا القصرُ مِن أهله وذخائره، وأقام الدعوة العباسية. وكان خليقًا للإمارة مَهيبًا، شُجاعًا حازِمًا مجاهِدًا، كثيرَ الغزو، عاليَ الهِمَّة، كانت دولتُه نيفًا وعشرين سنة. قال ابن خلكان: " قال شيخُنا ابن شداد (في سيرة صلاح الدين): "سمعتُ صلاح الدين يوسف بن أيوب يقول: لَمَّا يَسَّرَ لي الله الديارَ المصرية عَلِمتُ أنه أراد فتح الساحِلِ؛ لأنه أوقع ذلك في نفسي, ثم قال ابن شداد: ومِن حينِ استتَبَّ له الأمر ما زال يشُنُّ الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادهما، وغَشِيَ الناس من سحائِبِ الإفضال والإنعام ما لم يُؤَرَّخْ من غير تلك الأيام، وهذا كلُّه وهو وزيرٌ متابِعُ القوم، لكنه يقومُ بمَذهَبِ أهل السنة، غارسًا في البلاد أهلَ الفقه والعِلمِ والتصوف والدين، والناس يُهرَعون إليه من كلِّ صَوبٍ ويَفِدون عليه من كل جانب، وهو لا يخَيِّب قاصدًا ولا يعدِمُ وافدًا ". تملك بعد نور الدين، واتَّسَعَت بلاده. ومنذ تسلطَنَ طَلَّقَ الخَمرَ واللَّذَّات، وأنشأ سورًا على القاهرة ومصر، وبعث أخاه شمس الدين في سنة ثمان وستين، فافتتح برقة، ثمَّ فتح اليمن، وسار صلاح الدين، فأخذ دمشق مِن ابن نور الدين. وفي سنة إحدى وسبعين حاصر عزاز، ووثبت عليه الباطنية، فجرحوه. وفي سنة ثلاث وسبعين كسَرَته الفرنج على الرملة، وفَرَّ في جماعة ونجا, وفي سنة خمس التقاهم وكَسَرهم, وفي سنة ستٍّ أمر ببناء قلعة الجبل, وفي سنة ثمانٍ عدى الفرات، وأخذ حران، وسروج، والرقة، والرها، وسنجار، والبيرة، وآمد، ونصيبين، وحاصَرَ الموصل، ثم تمَلَّك حلب، وعَوَّضَ صاحبها زنكي بسنجار، ثم إنه حاصر الموصل ثانيًا وثالثًا، ثم صالحه صاحبها عز الدين مسعود، ثم أخذ شهرزور والبوازيج, وفي سنة ثلاث وثمانين فتح طبرية، ونازل عسقلان، ثم كانت وقعة حطين سنة 585 بينه وبين الفرنج، وكانوا أربعين ألفًا، فحال بينهم وبين الماء على تَلٍّ، وسلموا نفوسَهم وأسر ملوكهم وأمراءَهم، وبادر فأخذ عكا وبيروت وكوكب، وسار فحاصر بيت المقدس، وجَدَّ في ذلك فأخذه بالأمان، ثم إن الفرنج قامت قيامتُهم على بيت المقدس، وأقبلوا كقطيعِ اللَّيلِ المُظلِمِ بَرًّا وبحرًا وأحاطوا بعكا ليستردُّوها وطال حصارُهم لها، وبنوا على نفوسهم خندقًا، فأحاط بهم السلطانُ، ودام الحصار لهم وعليهم نيفا وعشرين شهرًا، وجرى في غضون ذلك ملاحِمُ وحروب تَشيبُ لها النواصي، وما فكُّوا حتى أخذوها، وجَرَت لهم وللسلطان حروب وسِيَر. وعندما ضرس الفريقان، وكلَّ الحِزبان، تهادن المِلَّتان في صلح الرملة سنة 588. وكانت لصلاح الدين هِمَّة في إقامة الجهاد، وإبادة الأضدادِ ما سُمِعَ بمِثلِها لأحدٍ في دهر. قال الموفق عبد اللطيف: "أتيتُ وصلاح الدين بالقُدسِ، فرأيتُ مَلِكًا يملأ العيون روعةً، والقلوبَ مَحبَّةً، قَريبًا بعيدًا، سَهلًا مُحَبَّبًا، وأصحابه يتشَبَّهون به، يتسابقونَ إلى المعروف، كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} وأوَّلَ ليلة حضرتُه وجدت مجلِسَه حافِلًا بأهلِ العلم يتذاكرون، وهو يُحسِنُ الاستماع والمشاركة، ويأخُذُ في كيفيَّة بناء الأسوار، وحَفْر الخنادق، ويأتي بكلِّ معنى بديع، وكان مهتمًّا في بناء سور بيت المقدس وحَفْرِ خَندقِه، ويتولى ذلك بنَفسِه، وينقُل الحجارةَ على عاتِقِه، ويتأسى به الخَلقُ حتى القاضي الفاضِلُ، والعمادُ إلى وقت الظهر، فيمُدُّ السماط ويستريح، ويركبُ العَصرَ، ثم يرجع في ضوء المشاعِلِ، وكان يحفَظُ (الحماسة)، ويظُنُّ أنَّ كلَّ فقيه يحفَظُها، فإذا أنشَدَ وتوقَّفَ، استطعَمَ فلا يُطعَمُ، وجرى له ذلك مع القاضي الفاضل، ولم يكُن يحفَظُها، وخرج فما زال حتى حفظها، وكتب لي صلاح الدين بثلاثين دينارًا في الشهر، وأطلق أولادُه لي رواتِبَ، وكان أبوه ذا صلاحٍ، ولم يكن صلاحُ الدين بأكبَرِ أولاده، وكان محبَّبًا إلى نور الدين يلاعِبُه بالكُرةِ". لما قَدِمَ الحجيجُ إلى دمشق في يوم الاثنين حادي عشر صفر من هذه السنة خرج السلطانُ لتَلَقِّيهم، ثم عاد إلى القلعةِ فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخِرَ ما رَكِبَ في هذه الدنيا، ثمَّ إنه اعتراه حُمَّى صفراوية ليلةَ السبت سادس عشر صفر، فلما أصبَحَ دخل عليه القاضي الفاضِلُ وابن شداد وابنُه الأفضل، فأخذ يشكو إليهم كثرةَ قلَقِه البارحة، وطاب له الحديثُ، وطال مجلِسُهم عنده، ثم تزايدَ به المرضُ واستمَرَّ، وقَصَده الأطباءُ في اليوم الرابع، ثم اعتراه يَبسٌ وحصَلَ له عَرَقٌ شَديدٌ بحيث نَفَذ إلى الأرض، ثم قَوِيَ اليبس فأحضَرَ الأمراءَ الأكابِرَ فبُويعَ لولده الأفضَل نور الدين علي، وكان نائبًا على دمشق، وذلك عندما ظَهَرت مخايل الضَّعفِ الشديد، وغيبوبة الذِّهنِ في بعض الأوقاتِ، وكان الذين يدخُلونَ عليه في هذه الحال الفاضِلُ وابنُ شداد وقاضي البلد ابن الزكي، ثم اشتَدَّ به الحال ليلةَ الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخَ أبا جعفر إمامَ الكلاسة ليبيتَ عنده يقرأُ القرآن ويُلَقِّنَه الشهادة إذا جَدَّ به الأمرُ، فلما أُذِّنَ الصبحُ جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخِرِ رمقٍ، فلما قرأ القارئُ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فتبَسَّمَ وتهَلَّلَ وَجهُه، وأسلَمَ رُوحَه إلى ربِّه سبحانه وتعالى، ثم أخَذوا في تجهيزه، وحَضَر جميعُ أولاده وأهله، وكان الذي تولَّى غُسلَه خطيب البلد الفقيهُ الدولعي، وكان الذي أحضَرَ الكفَنَ ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل مِن صُلبِ مالِه الحلال، هذا وأولادُه الكبار والصغار يتباكَون وينادون، وأخذ الناسُ في العويل والانتحاب والدُّعاء له والابتهال، ثم أُبرِزَ جِسمُه في نعشِه في تابوتٍ بعد صلاة الظهر، وأمَّ النَّاسَ عليه القاضي ابنُ الزكي، ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شَرَع ابنُه في بناء تربةٍ له ومدرسة للشافعيَّة بالقرب من مسجدِ القدم؛ لوصيته بذلك قديمًا، فلم يكمل بناؤها، ثم اشترى له الأفضَلُ دارًا شماليَّ الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربةً، وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلَّى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي بن الزكي، عن إذنِ الأفضل، ودخل في لحْدِه ولَدُه الأفضلُ فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطانُ الشام، ويقالُ إنه دَفَن معه سَيفَه الذي كان يحضُرُ به الجهادَ، ويُذكَرُ أنَّ صَلاحَ الدين- رحمه الله تعالى- لم يخَلِّفْ في خزائِنِه غيرَ دينار واحدٍ صوري، وأربعين درهمًا ناصريَّة، ثمَّ تولى ابنُه الأفضل مُلكَ دِمشق، والساحل، وبيت المقدس، وبعلبك، وصرخد، وبصرى، وبانياس، وهونين، وتبنين، وجمع الأعمال إلى الداروم، وكان وَلَدُه الملك العزيز عثمان بمصر، فاستولى عليها، وعلى جميعِ أعمالِها، مثل: حارم، وتل باشر، وإعزاز، وبرزية، ودرب ساك، ومنبج وغير ذلك، وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصارَ معه، وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، فأطاع المَلِكَ الأفضل.
كان وصولُ نبأ سقوط مملكةِ بيت المقدس إلى أوروبا كنتيجةٍ لمعركة حطين صاعِقًا لنصارى أوربا. فإنَّ البابا أوربان الثامن ما إن علم بما حدث حتى توفي من وقْعِ الصدمة. ودعا خليفَتَه البابا غريغوريوس الثامن بمنشور باباوي إلى حملةٍ صليبية جديدة، وأمَرَهم بالصيام كلَّ أسبوع في يوم الجمعة على امتدادِ خمس سنوات، كما أمَرَهم بالامتناع كليًّا في هذه الحقبة من الزَّمَنِ عن أكل اللحم مرَّتينِ في الأسبوع، والدعوة إلى المشاركة في حربٍ صليبية لاسترداد بيت المقدس, وقد قام بهذه الدعوة ببالغِ الهِمَّة الكاردينال إنريكو من ألبانو، وبعد شهرين حلَّ البابا كليمنت الثالث مكانَ غريغوريوس، واستكمل المهمَّةَ، وقام الكاردينالات بالتطوافِ مَشيًا على الأقدام في عموم فرنسا وإنجلترا وألمانيا. فجهَّزَ نصارى أوروبا ثلاثَ حملات ألمانية وإنكليزية وفرنسية، كل ذلك لمحاولة استرداد بيت المقدس، وصَلَت الحملتان الإنكليزية والفرنسية بحرًا سنة 586 إلى عكا، وساهمت في الحصار البحري، وكان فيهم ريتشارد المعروف بقلب الأسد، أما الحملة الألمانية فكان مَلِكُهم فريدريك الأول بربروسا، أوَّل من تحرك من ملوك أوربا لنصرة بيت المقدس وجمع عساكِرَه وسار للجهاد بزعمه. تحركت القوات الألمانية قبل غيرِها وهم من أكثر الحَمَلات عددًا، وأشدِّهم بأسًا، فكان طريقُهم على القسطنطينية، فأرسل ملكُ الروم بها إلى صلاح الدين يُعَرِّفُه الخبر ويَعِدُ أنَّه لا يمَكِّنُه من العبور في بلاده، فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينية عجَزَ مَلِكُها عن منعه من العبورِ لكثرة جموعه، لكنَّه منع عنهم الميرة، ولم يمكِّنْ أحدًا من رعيَّتِه من حمل ما يريدونَه إليهم، فضاقت بهم الأزوادُ والأقوات، وساروا حتى عَبَروا خليجَ القسطنطينية، وصاروا على أرضِ بلاد الإسلام، وهي مملكةُ الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق. فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمانُ الأوج، فما زالوا يسايرونَهم ويَقتُلونَ مَن انفرد ويَسرِقونَ ما قدروا عليه، وكان الزمانُ شتاء والبرد يكونُ في تلك البلاد شديدًا، والثلجُ متراكمًا، فأهلكهم البردُ والجوع والتُّركمانُ، فقَلَّ عَدَدُهم، فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم المَلِك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنَعَهم، فلم يكُن له بهم قوَّة، فعاد إلى قونية، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثَرِه، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هديةً وقالوا له: ما قصَدْنا بلادَك ولا أردناها، وإنما قصَدْنا بيت المقدس، وطلبوا منه أن يأذن لرعيَّتِه في إخراجِ ما يحتاجون إليه مِن قُوتٍ وغيره، فأذِنَ في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشَبِعوا، وتزوَّدوا، وساروا، وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحِبُها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمَدَّهم بالأقوات والعلوفات، وحَكَّمَهم في بلاده، وأظهر الطاعةَ لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقِهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل مَلِكُهم إليه ليغتسل، فغَرِقَ في مكانٍ منه لا يبلغ الماءُ وسَطَ الرجُل، وكفى اللهُ شَرَّه، وكان معه ولدٌ له، فصار ملكًا بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابُه عليه، فأحب بعضُهم العود إلى بلاده، فتخَلَّفَ عنه، وبعضُهم مال إلى تمليكِ أخٍ له، فعاد أيضًا، وسار فيمن صَحَّت نيتُه له، فعَرَّضَهم، وكانوا نيفًا وأربعين ألفًا، ووقَعَ فيهم الوباءُ والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نُبِشوا من القبورِ، فتبَرَّمَ بهم صاحبُها، وحَسَّنَ لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكَّا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمونَ، وخرج أهلُ حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقًا كثيرًا، ومات أكثَرُ مَن أُخِذَ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أيامًا، فكَثُرَ فيهم الموت، فلم يبقَ منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنجِ الذين على عكا، ولَمَّا وصولوا رأوا ما نالهم في طريقِهم وما هم فيه من الاختلافِ عادوا إلى بلادهم، فغرقت بهم المراكِبُ ولم ينجُ منهم أحدٌ.
ظهر التترُ إلى بلاد الإسلام، وهم نوع كثير من الترك، ومساكنُهم جبالُ طمغاج من نحو الصين، وكان السبب في ظهورِهم أنَّ مَلِكَهم- ويسمى بجنكيزخان، المعروف بتموجين- كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان، وسيَّرَ جماعة من التجار والأتراك، ومعهم شيءٌ كثير من النقرة- قطع مذابةُ من الذَّهب أَو الفِضَّة- وغيرِها، إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى؛ ليشتروا له ثيابًا للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا، وهي آخرُ ولاية خوارزم شاه محمد، وكان له نائب هناك، فلما ورد عليه هذه الطائفةُ مِن التَّتَر أرسل إلى خوارزم شاه يُعلِمُه بوصولهم ويذكُرُ له ما معهم من الأموالِ، فبعث إليه خوارزم شاه يأمُرُه بقتلِهم وأخْذِ ما معهم من الأموالِ وإنفاذِه إليهم، فقتلهم، وسيَّرَ ما معهم، وكان شيئًا كثيرًا، فلمَّا وصل إلى خوارزم شاه فرَّقه على تجار بخارى، وسمرقند، وأخذ ثمَنَه منهم، وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سدَّ الطرقَ عن بلاد تركستان وما بعدها من البلادِ، وإنَّ طائفةً من التتر أيضًا كانوا قد خرجوا قديمًا والبلادُ للخطا، فلمَّا ملك خوارزم شاه البلادَ بما وراء النهر من الخطا، قتَلَهم. استولى التتَرُ على تركستان: كاشغر، وبلاساغون وغيرهما، وصاروا يحاربونَ عساكِرَ خوارزم شاه، فلذلك منعَ الميرة عنهم من الكسوات وغيرها، فلما قتَلَ نائبُ خوارزم شاه أصحابَ جنكيزخان أرسل جواسيس إلى جنكيزخان لينظُرَ ما هو، وكم مقدارُ ما معه من الترك، وما يريدُ أن يعمل، فمضى الجواسيسُ، وسلكوا المفازةَ والجبال التي على طريقِهم، حتى وصلوا إليه، فعادوا بعد مدَّةٍ طويلة وأخبَروه بكثرةِ عَدَدِهم، وأنَّهم يخرجون عن الإحصاء، وأنَّهم من أصبر خلقِ الله على القتال لا يعرفونَ هزيمةً، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاحِ بأيديهم، فندم خوارزم شاه على قَتلِ أصحابهم وأخْذِ أموالهم، وكان جنكيزخان قد سار إلى تركستان، فملكها، وأزال عنها التترَ الأولى، فلم يظهر لهم خبَرٌ، ولا بقي لهم أثر، بل بادوا كما أصاب الخطا، وتجهز خوارزم شاه، وسار مبادرًا ليسبِقَ خبره ويكبِسَهم، فأدمن السير، فمضى، وقطع مسيرة أربعة أشهر، فوصل إلى بيوتهم، فلم يرَ فيها إلا النِّساءَ والصبيان والأثقال، فأوقع بهم وغنم الجميع، وسبى النساء والذرية، وكان سببُ غيبة الكفار عن بيوتهم أنَّهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان، فقاتلوه، وهزموه، وغَنِموا أمواله وعادوا، فلَقِيَهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخَلَّفيهم، فجدُّوا السير، فأدركوه قبل أن يخرجَ عن بيوتهم، وتصافُّوا للحرب، واقتتلوا قتالًا لم يُسمَعْ بمثله، فبَقُوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها، فقُتِلَ من الطائفتين ما لا يُعَدُّ، ولم ينهزم أحد منهم، أما المسلمون فإنهم صبروا حميَّةً للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبقَ للمسلمين باقية، وأنهم يؤخَذون لبُعدِهم عن بلادهم، وأما الكفَّار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم، واشتدَّ بهم الأمر، حتى إنَّ أحدهم كان ينزل عن فرسِه ويقاتل قرنَه رَجِلًا، ويتضاربون بالسكاكين، وجرى الدمُ على الأرض، حتى صارت الخيلُ تزلق من كثرته، واستنفذ الطائفتان وُسعَهم في الصبر والقتال، هذا القتالُ جميعه مع ابن جنكيزخان ولم يحضُر أبوه الوقعة، ولم يشعرْ بها، فأحصِيَ من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفًا، وأما من الكفَّار فلا يحصى من قُتِل منهم، فلما كان الليلة الرابعة افترقوا، فنزل بعضُهم مقابل بعض، فلما أظلم الليلُ أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا، وكذلك فعل المسلمون أيضًا، كل منهم سَئِمَ القتال؛ فأما الكفار فعادوا إلى مَلِكهم جنكيزخان؛ وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى، فاستعدَّ صاحبها للحصار لعلمه بعجزه؛ لأنَّ طائفة عسكره لم يقدر على أن يظفَرَ بالتتر، فكيف إذا جاؤوا جميعُهم مع ملكهم؟ فأمر أهل بخارى وسمرقند بالاستعداد للحصار، وجمعَ الذخائرَ للامتناع، وجعلَ في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونَها، وفي سمرقند خمسين ألفًا، وقال لهم: احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر وأستنجد بالمسلمين وأعود إليكم.
هو السلطانُ المؤيَّد المظفَّر أبو الفتح جلال الدين محمد أكبر بن همايون بن بابر التيموري الكوركاني، أكبرُ ملوك الهند وأشهرُهم في الذِّكر، ولِدَ في قلعة أمركوث من أرض السِّند في ثاني ربيع الأول سنة 949هـ من "حميده بانو". حين انهزم والده همايون من شير شاه، ثم رجع بعد بضعة سنين فافتتح قندهار وكابل وأكثر بلاد الهند، فلما مات همايون جلس ولدُه جلال الدين على سريره تحت وصاية الوزير بيرم خان؛ لأن سنَّه حينئذ نحو ثلاث عشرة سنة، ولما بلغ أكبرُ أشُدَّه استقَلَّ بالملك، وسافر إلى الحرمين الشريفين، ثم افتتح أمره بالعدل والسخاء، وقرَّب إليه أهل العلم والصلاح، وكان يستمع الحديث، وبنى مساجد وزوايا له، وبنى مدينة بأرضه وجعلها عاصمة بلاد الهند، وبنى بها قصرًا وسماه (عبادت خانه) وقسَّمه على أربعة منازل وأمر أن يجتمع فيه علماء البراهمة والنصارى والمجوس وأهل الإسلام، فيجتمعون في ذلك القصر ويتباحثون في الخلافيات بحضرة السلطان، حتى دخل في مجلسه من أهل الشبهات والشهوات كأبي الفيض وصنوه أبي الفضل والحكيم أبي الفتح ومحمد اليزدي، فجعلهم فريقًا لأهل الصلاح فدسُّوا في قلبه أشياء ورغَّبوه عن أهل الصلاح وقالوا: لا ينبغي للسلطان أن يقلِّدَ أحدًا من الفقهاء المجتهدين، فانشرح صدر السلطان، وفتح أبواب الاجتهاد، فجوَّز متعة النساء، ونكاحَ المسلم بالوثنية، حتى اجترأ على الطعن والتشنيع على السلف الصالح، لا سيما الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وأمر بإخراج المشائخ والعلماء من الهند، واجتمع لديه شِرذمة من علماء الوثنيين والنصارى والمجوس ومن أحبار الهنود ومن الشيعة، وكان كل واحد منهم يجتهد أن يرغِّبَه إلى مذهبه، وكانت تحته طائفة من الأميرات الوثنيات بنات ملوك الهند، وصار حوله من يزيِّن له عبادة الأصنام، وتعظيم النار والشمس، فتدرج في الاجتهاد وترقى من الفروع إلى الأصول، وقال بخلق القرآن، واستحالة الوحي، والتشكيك في النبوات، وأنكر الجن، والمَلَك، والحشر والنشر، وسائر المغيبات، وأنكر المعجزات، وجوز التناسُخ، وحرَّم ذبح البقرة، وحطَّ الجزية عن أهل الذمة، وأحلَّ الخمر والميسِر والمحرَّمات الأُخر، وأمر بإيقاد النار في حَرَمِه على طريق المجوس، وأن يعظِّم الشمس وقت طلوعه على طريق مشركي الهند، وقرَّر أن الحق دائر بين الأديان كلها، فينبغي أن يُقتَبَس من كلها أشياء، وكان يسجد للشمس والنار في كل سنة يوم النيروز بالإعلان، وشرع ذلك من سنة خمس وعشرين الجلوسية، ورسم القشقة على جبينه يوم العيد الثامن من شهر سنبله، وربط سلكًا من الجواهر عن أيدي البراهمة تبركًا، وكذلك كان يفعل كلَّ ما يفعله كفار الهند، ويستحسنه ويحرِّض أصحابه على ما فعله، ويحثهم على ترك التقليد، يعني به دين الإسلام، ويهجِّنه ويقول: إن واضِعَه فقراء الأعراب، وأمر أن لا يقرأ من العلوم العربية غير النجوم والحساب والطب والفلسفة، فكان هذا الدين الذي اخترعه مصدرَ كراهيةٍ شديدة له في نفوس أهل الإسلام، حتى انتهى الأمر بهم مرَّةً إلى شق عصا الطاعة علنًا، بل قيل: إن ابنه الأمير جهانكير ثار عليه وأخذ يدبِّر له المكائدَ خُفْية، فحشد جهانكير جيشًا من ثلاثين ألف فارس، وقتل "أبا الفضل" مؤرِّخَ القصر وأحبَّ الأصدقاء إلى نفس أبيه، فحَطَّمت قوَّته النفسيَّة وتنكَّر له أبناؤه في أواخر أيامه، ومات الملك أكبر في سكندر آباد قريب آكره، بعد أن حكم أربعين سنة، مات بمرض الديسنتاريا، وقيل: مات مسمومًا بتدبير ابنه جهانكير، ولم يجد من يصلِّي عليه من أنصار أيَّةِ عقيدة أو مذهب ممَّن جمعهم حوله. وفي مطلع القرن العشرين الميلادي عملت إنجلترا على تشجيع مرزا غلام أحمد القادياني في الهند على إحياء ما دعا إليه الملك المغولي جلال الدين محمد أكبر!!
عمِلَ الشاهُ ما سماه الثورة البيضاء والتي هدفُها إخضاعُ رجال الدينِ وأخْذ جزءٍ من ممتلكاتهم أيضًا، وكان الخمينيُّ قد سُجِن بسبب ردِّه على الشاه يوم رفَضَ تعدُّد الزوجات، ثم نُفيَ إلى تركيا، ثم إلى العراق، وعاش في النجف، ثم أُجبر على السفر من العراقِ، ورفضت الكويتُ استقباله فسافر إلى فرنسا، ومع ذلك كانت خُطبه وكلماتُه وحماسه يُنقَل إلى إيران فتحدُث بسببها أعمالُ شغب ومظاهرات، وحدثت عدَّة أعمال عنفٍ في عددٍ من المدن ووقعت الصِّدامات مع الشرطةِ، وكان يسقطُ الكثير من القتلى أثناءَ هذه الصداماتِ، وكلُّ هذه الأمور كانت مقدِّمةً للثورة، ثم أعلن الخمينيُّ من مكان إقامتِه في باريس في 9 ذي القعدة 1398هـ / 10 تشرين الأول 1978م أن الحكومةَ الإيرانيَّةَ قد دعته ليكفَّ عن نشاطه السياسيِّ، مما ألهب المظاهرات في اليوم التالي حتى اقترح حاكمُ طهران العسكري على الشاهِ تدميرَ مدينة قم كلِّها، وأما الخمينيُّ فاجتمعَ في باريس مع قادة المعارضةِ في سبيل التنسيقِ للحركةِ، وفي اليوم التالي لعاشوراء يوم حداد الرافضةِ تدفَّق مليونا متظاهرٍ يلبسون لباسَ الحداد، وهم يهتفون: الله أكبر، وكان الجيشُ على استعداد لأي عملٍ من المتظاهرين، ثم دعا الخمينيُّ الشعبَ إلى الجهادِ، واشتعلت نار الثورةِ وتحوَّلت من مظاهراتٍ إلى ثورة معارضةٍ تطالب بإسقاطِ النظامِ، وبدأ الشاه يسترضي الشعبَ حتى خرج في التلفازِ وقال: إنه سيعمَلُ ما يأمر به الشعبُ، وفي 7 صفر / 7 كانون الثاني 1979م صرَّح حسن منتظري بعد عودته من لقاءِ الخمينيِّ رفضه أية حكومة طالما بقِيَ الشاه، ولن تقبل سوى سقوطِ الشاهِ لإقامة جمهوريةٍ إسلاميةٍ، وذلك أن الشاهَ قد أعلن أنه يريد السفرَ خارجَ البلاد وترْك مجلس وصاية نيابةَ عنه، فغادرَ الشاه إيران في 7 صفر 1399هـ / 7 يناير إلى القاهرةِ، وأعلن الخمينيُّ أنه سيعودُ للبلاد وأنه لا يريد أن يكونَ رئيسًا عليها، ثم وصل الخمينيُّ إلى طهران في 4 ربيع الأول / شباط، وكان في استقبالِه في المطارِ ستَّةُ ملايين شخصٍ، وأحاطت هذه الجموعُ بالرجل ذي 80 عامًا، فاستقلَّ طائرة هليكوبتر ليُكمِلَ رحلته فوق رؤوس البشرِ الذين احتشدوا لاستقبالِه، ومع قدومه ذابتِ الدولةُ وسلطتُها وحكومتُها أمام شخصيتِه، وانضمَّت بعض وحدات الجيش إلى المتظاهرين، وأُعلِنَ أنَّ رحيلَ الشاه نهاية المطافِ؛ فالأهمُّ هو إنهاء التسلُّط الأجنبيِّ، ونقَلَ التلفاز وقائع وصولِه، وأعلن الخمينيُّ عدم شرعية الحكومةِ شهبور بختيار، وعين مهدي بازركان رئيسًا للوزراء، وأعلنت حكومة بختيار رئيس وزراء الشاه منع التجوُّل، لكنَّ الخمينيَّ ردَّ عليه بإعلان العصيان المدني، وكتب ورقةً نُقلت صورتُها على شاشة التلفازِ الذي استولى عليه أنصارُه، فيها: "تحدَّوا حظرَ التجول" فتدفَّق الشعب إلى الشارع، وتصاعدتْ حدَّة المواجهات، واستولى المتظاهرون على كميات كبيرةٍ من أسلحةِ الجيش، فجاء القائد الأعلى للقواتِ المسلَّحة الجنرال قرباغي إلى الخمينيِّ وأعلن استسلامَه وحيادَ الجيش في المواجهات التي تحدُث في المدن بين مؤيِّدي النظامين، وعادت القواتُ العسكريةُ إلى مواقِعها، وأعلن الخمينيُّ قيامَ الجمهورية الإسلاميَّة الإيرانية، وفرَّ شهبور بختيار إلى فرنسا؛ حيث اغتالَه هناك الحرسُ الثوريُّ الإيراني في 6 أغسطس عام 1991م. استمرَّت الثورة سنة كاملةً ذهب ضحيَّتها 76.311 قتيلًا وعشرات الآلافِ من الجرحى، ورفعت الثورةُ الإسلامية في إيرانَ الشعاراتِ التي يمكن أن يسيرَ الشعبُ وراءها ويقبلها؛ وذلك لكسبِ التأييد، فطرحت العملَ بالإسلام دون إعلان الانتسابِ الشيعيِّ المرفوض في العالم الإسلاميِّ، كما أعلنوا معاداةَ الدول الصليبيَّة وخاصَّة أمريكا، وأعلنوا التأييدَ للقضية الفلسطينيةِ وأنها ستعملُ على تخليص أرضِ الشام ممن دنَّسها، وصرَّح الخمينيُّ أنه سيقطع علاقاتِه مع إسرائيلَ، ثم بدا للعالم الإسلامي النوايا عندما أظهر الخميني والقادة معه العقيدةَ الرافضية فخَفَّ التأييد العالمي الإسلامي بل انعدم في أكثرها.
إنَّ المسجد البابري الواقعَ بمدينة "إيودهيا " في شمال الهندِ، يعودُ تاريخُه إلى القرن السادسَ عَشَرَ الميلاديِّ، عندما بناه "بابرُ" أولُ إمبراطورٍ مغوليٌّ حكَمَ الهندَ، وفي أوائل الثمانينيات من القرن العشرين زعَم المتطرِّفون الهندوسُ أنه بُنيَ على أنقاض معبدٍ بمكان مَولِد "راما" الأسطوري المقدَّس لدى الهندوس، ولذا وجب نسفُه، والتخلصُ منه .. وجعلوها قضيةً شَعبيَّةً، وقضيَّةً عامَّةً للهندوس، وبدؤوا ينظُرون إلى هذا المسجدِ كأنَّه علامةً وشعارًا للغزوِ المسلِمِ لهذه البلاد، وكانت أحداثُه بالفعل بدايةَ مرحلة تصاعديَّةٍ جديدةٍ من تطرُّف الهندوس وعدائهم للمسلِمين، وكانت إيذانًا بحملة هندوسيَّةٍ دعائيَّةٍ، زعمَت أنَّ كلَّ مساجد المسلِمين العتيقةِ قد بُنيت على أنقاضِ معابِدِ الهندوس، وهي الحملةُ التي برَّرت هدمَ المسجد البابري في السادس من ديسمبر عام 1992/ 1413هـ، وما أعقبَه من صداماتٍ داميةٍ أوْدَت بحياة ألفَيْ مُسلمٍ، وتعود بدايةُ العُدوان على المسجد البابري إلى ما يَزيدُ عن نصفِ قرنٍ، ففي ليلة 22 ديسمبر 1949 هجمت عصابةٌ مكوَّنة من 50 -60 هندوسيًّا على المسجد البابري، ووضَعوا فيه أصنامًا لذاك الممجَّد لديهم المسمَّى "راما"، وادَّعَوْا أنَّ الأصنام ظهرَت بنفسِها في مكان ولادتِه! وقد سَمَح رئيس وزراء الهند "راجيف غاندي" للهندوس بوضع حَجَر أساس لمعبد هندوسي في ساحة المسجد، وتَبِع هذا حُكمٌ صادرٌ بمحكمة فايزباد بتاريخ 1 فبراير 1986 من طرف القاضي "ر.ك. باندي" -الذي أصبح عضوًا في الحزب الحاكم المسؤول عن هدم مسجد بابري- سمَحَ فيه بفتح أبواب المسجد للهندوس، وإقامة شعائرهم التعبديَّة فيه، وحذَّر السُّلطات المحليَّة من التدخل في هذا الشَّأنِ، وفي بداية الثمانينيَّات قام الهندوسي المتطرِّف "محنت راغوبير" برفع قضيةٍ أمام المحكمة بشأن كون المسجدِ البابري قد بُنيَ فوقَ معبدِ "راما" الأسطوري، إلَّا أنَّ هذه المزاعمَ تمَّ دَحْضُها بحكم القضاء في إبريل 1985 لفِقْدان أي دليلٍ تاريخيٍّ أو قانونيٍّ، ولكنَّ التَّحرُّكات الصادرة عن الحكومة العِلمانيَّة هناك قد شجَّعت المتطرِّفين الهندوس على ترتيب هدم المسجد بالكامل بتاريخ 6 ديسمبر 1992م، فقد قام عَشَرات الآلاف من الهندوس في مدينة أبوديا بالهند -يوم الأحد الحاديَ عَشَرَ من جمادي الآخرة 1413هـ- 6 ديسمبر 1992م، بتدميرِ مسجد بابري بالمدينة، بل ومَسحِه من الوجود، وهم يُرَدِّدونَ أهازيج الانتصار مُعلِنين العزمَ على البدء في بناء معبدٍ هندوسيٍّ مكانَ المسجدِ الذي يبلُغُ عمرُه ما يُناهزُ الأربعة قرونٍ ونصفَ قرنٍ، مُنادين في الوقت نفسِه بأنه قد آن الأوانُ لخروج المسلِمين من الهندِ.. وفي أعقاب هذه الجريمة النَّكْراء عمَّت حوادث الشغَب أنحاءَ الهند، وقُتِلَ فيها أكثرُ من ثلاثة آلافِ شخصٍ، وبعد وقوع جريمة الهدمِ بدأ الصراعُ على أرض المسجدِ، إلَّا أنَّ ستارًا من الصَّمْت قد أُسدل على هذه المأساة من الجانبَيْنِ معًا، فالجانبُ الهنديُّ يحرِصُ على التزام الصَّمْتِ حولَ قضية اعتداءٍ وحشيٍّ على المسلمين يكشِفُ ضراوةَ التيار الهندوسيِّ الذي نجحَ في الوصول برموزِه وقياداته إلى سُدَّة السلطة الاتِّحادية في نيودلهي، أما الجانب الإسلامي فثمَّةَ فريقٌ فيه يَدْعو إلى ابتلاع المسألة برُمَّتها، والتزام الصمت بشأنها؛ لأنَّ إثارتها لن تؤديَ إلا إلى مزيد من المشكلات للمسلِمين في الهند، ثم أعلنَ المجلس الهندوسيُّ العالميُّ الذي ينتمي إليه حزب رئيس الوزراء الهنديِّ "أتال بيهاري فاجابايي" في 20/5/2001 بأنه سيبدَأ قريبًا في بناء معبدٍ بالقرب من موقع المسجدِ البابري، واعتُبر هذا الإعلانُ بمثابة تَحَدٍّ للحكومة الهندية التي تعارِضُ بناءَ هذا المعبد، حيث صرَّح وزير الداخليَّة "لال كيرشنا أدفاني" بعدها بأنَّه لن يسمَحْ ببناء ذلك المعبد، والمعروف أن الحكوماتِ الهنديَّة المتعاقِبة وعدَت المسلمين بإعادة بناء المسجد المهدَّمِ، إلَّا أنها تقاعَسَت عن تنفيذ وعودها.
هو يَمينُ الدَّولةِ، فاتِحُ الهِندِ: أبو القاسِمِ، المَلِكُ السُّلطانُ مَحمودُ بنُ سَيِّد الأمراءِ ناصِر الدَّولةِ سبكتكين، التُّركيُّ، صاحِبُ خُراسان والهِند. وُلِدَ في غزنة سنةَ 361. كان- رحمه الله- صادِقَ النِّيَّة في إعلاءِ الدِّينِ، مُظَفَّرًا كثيرَ الغَزوِ، وكان ذكيًّا بعيدَ الغَورِ، صائِبَ الرَّأيِ، وكان مَجلِسُه مَورِدَ العُلَماءِ. كان والِدُه أبو منصورٍ سبكتكين قد تولَّى إمرةَ غزنة بعد وفاةِ واليها ابنِ السكين, فتمكَّنَ فيها وعَظُمَ أمْرُه، ثمَّ أخَذَ يُغيرُ على أطرافِ الهِندِ، وافتتح قِلاعًا، وتَمَّت له ملاحِمُ مع الهنودِ، وافتَتَح ناحيةَ بُست، وكان سبكتكين ناصِرًا للسُّنَّة وقامِعًا للبِدعةِ, ولَمَّا مات سنة 387، تولَّى حُكم غزنةَ ابنُه محمود بعد نزاعٍ مع أخيه إسماعيلَ الذي كان والدُهما عَهِدَ له مِن بعده. حارب محمودٌ النوَّابَ السامانيِّينَ، وخافَتْه الملوكُ. وضَمَّ إقليمَ خُراسان، ونفَّذ إليه الخَليفةُ العباسيُّ القادِرُ بالله خِلَعَ السَّلْطنةِ، ولَقَّبَه يمينَ الدَّولة، وفَرَضَ على نفسِه كُلَّ سَنةٍ غَزوَ الهندِ، فافتتح بلادًا شاسعةً منها، وكسَّرَ أصنامَ الهندِ، وأعظَمُها عند الهُنودِ سومنات. كان السُّلطانُ محمود رَبعةً، فيه سِمَنٌ وشُقرةٌ، ولحيتُه مُستديرةٌ، غَليظَ الصَّوتِ، وفي عارِضَيه شَيبٌ, وكان مُكْرِمًا لأمرائِه وأصحابِه، وإذا نَقِمَ عاجَلَ، وكان لا يَفتُرُ ولا يكادُ يَقِرُّ. كان يعتَقِدُ في الخليفة العباسيِّ القادِرِ بالله، ويخضَعُ لجَلالِه، ويحمِلُ إليه قناطيرَ مِن الذَّهَب، وكان إلبًا على القرامِطةِ والإسماعيليَّةِ، والفلاسِفةِ المتكَلِّمةِ، وكان فيه شِدَّةُ وطأةٍ على الرعيَّة؛ لكِنْ كانوا في أمنٍ وإقامةِ سياسةٍ. من سلاطينِ ومُلوك الإسلامِ الذين كان لهم دَورٌ عَظيمٌ في نَشرِ السُّنَّةِ وقَمعِ البِدعةِ, قال ابنُ كثير: "في سنة 408 استتاب القادِرُ باللهِ الخَليفةُ فُقَهاءَ المُعتَزِلة، فأظهروا الرُّجوعَ وتبَرَّؤوا من الاعتزالِ والرَّفضِ والمقالاتِ المُخالِفةِ للإسلامِ، وأمَرَ عُمَّالَه بالمِثلِ, فامتَثَلَ محمودُ بنُ سبكتكين أمْرَ أميرِ المؤمنين في ذلك, واستَنَّ بسُنَّتِه في أعمالِه التي استخلَفَه عليها من بلادِ خُراسانَ وغَيرِها في قَتلِ المُعتَزِلة والرَّافِضةِ والإسماعيليَّةِ والقَرامطة، والجَهميَّة والمُشَبِّهة، وصَلَبَهم وحَبَسَهم, ونفاهم وأمَرَ بلَعنِهم على المنابِرِ, وأبعَدَ جَميعَ طوائفِ أهلِ البِدَعِ، ونفاهم عن ديارِهم، وصار ذلك سُنَّةً في الإسلامِ" قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة: "لَمَّا كانت مملكةُ مَحمودِ بنِ سبكتكين من أحسَنِ ممالِكِ بني جِنسِه، كان الإسلامُ والسُّنَّة في مملكَتِه أعَزَّ؛ فإنَّه غزا المُشرِكينَ مِن أهلِ الِهندِ، ونشَرَ مِن العدلِ ما لم ينشُرْه مِثلُه، فكانت السُّنَّةُ في أيامِه ظاهِرةً، والبِدَعُ في أيَّامِه مَقموعةً". قال ابنُ كثير: "كان يمينُ الدَّولة يخطُبُ في سائِرِ ممالِكِه للخليفةِ القادر بالله، وكانت رسُلُ الفاطميِّينَ مِن مصر تَفِدُ إليه بالكُتُبِ والهدايا لأجلِ أن يكونَ مِن جِهَتِهم، فيحرِقُ بهم ويحرِقُ كتُبَهم وهداياهم، وفتَحَ في بلاد الكُفَّارِ مِن الهند فتوحاتٍ هائلةً، لم يتَّفِقْ لغَيرِه من الملوكِ، لا قَبلَه ولا بعده، وغَنِمَ منهم مغانمَ كثيرةً لا تَنحَصِرُ ولا تنضَبِطُ، مِن الذَّهَب والمجوهرات، والسَّبْي، وكسَرَ مِن أصنامِهم شيئًا كثيرًا، وأخذ مِن حِليَتِها, ومِن جملةِ ما بلغ تَحصيلُه مِن سومنات أعظَمِ أصنامِهم مِن حُلِيِّ الذَّهَبِ عشرون ألف ألف دينار، وكَسَرَ مَلِكَ الهِندِ الأكبَر الذي يُقالُ له صينال، وقهَرَ مَلِكَ التُّركِ الأعظَم الذي يقال له إيلك الخان، وأباد مُلْكَ السَّامانيَّة، الذين ملكوا العالَمَ في بلاد سمرقند وما حولها، وبنى على جيحون جسرًا عظيمًا أنفَقَ عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيءٌ لم يتَّفِقْ لغيره، وكان في جيشِه أربعُمِئَة فيلٍ تُقاتِلُ معه، وهذا شيءٌ عظيمٌ وهائِلٌ، وكان مع هذا في غايةِ الدِّيانةِ والصِّيانةِ وكراهةِ المعاصي وأهلِها، لا يحِبُّ منها شيئًا، ولا يألَفُه، ولا أن يَسمَعَ بها، ولا يَجسرُ أحَدٌ أن يُظهِرَ مَعصيةً ولا خَمرًا في مملَكتِه، ولا غير ذلك، ولا يُحِبُّ الملاهيَ ولا أهلَها، وكان يحِبُّ العُلَماءَ والمُحَدِّثين ويُكرِمُهم ويُجالِسُهم، ويحِبُّ أهلَ الخيرِ والدِّينِ والصَّلاح، ويُحسِنُ إليهم، وكان حنفيًّا ثمَّ صار شافعيًّا على يدي أبي بكرٍ القَفَّال الصغيرِ على ما ذكره إمامُ الحَرَمينِ وغَيرُه". ثمَّ إنَّه مَلَك سجستان سنة 393، بدخُولِ قُوَّادها وولاةِ أمورِها في طاعتِه مِن غَيرِ قِتالٍ, ولم يَزَلْ يفتَحُ بلادَ الهِندِ إلى أن انتهى إلى حيثُ لم تَبلُغْه في الإسلامِ رايةٌ، ولم تُتْلَ به سورةٌ قَطُّ ولا آية، فدحَضَ عنها أدناسَ الشِّركِ، وبنى بها مساجِدَ وجوامِعَ. توفِّيَ يمينُ الدَّولةِ أبو القاسِمِ محمودُ بنُ سبكتكين في ربيعٍ الآخِرِ، وقيل: في أحدَ عَشَر صَفَر، وكان مرضُه سوءَ مزاجٍ وإسهالًا، وبقي كذلك نحو سنتينِ، فلم يزَلْ كذلك حتى توفِّيَ قاعِدًا، فلمَّا حَضَره الموتُ أوصى بالمُلْك لابنِه مُحمَّد، وهو ببَلْخ، وكان أصغَرَ مِن مَسعود، إلَّا أنَّه كان مُعرِضًا عن مسعود؛ لأنَّ أمْرَه لم يكن عنده نافِذًا، وسعى بينهما أصحابُ الأغراضِ، فزادوا أباه نُفورًا عنه، فلَمَّا وصَّى بالمُلْكِ لولَدِه مُحَمَّد توفِّيَ، خُطِبَ لمحَمَّد من أقاصي الهندِ إلى نَيسابور، وكان لَقَبُه جلالَ الدَّولةِ، وأرسَلَ إليه أعيانُ دَولةِ أبيه يُخبِرونَه بموت أبيه ووصِيَّتِه له بالمُلك، ويَستَدعونَه، ويَحُثُّونَه على السُّرعةِ، ويُخَوِّفونَه مِن أخيه مسعود، فحين بلَغَه الخبَرُ سار إلى غزنة، فوصلها بعد موتِ أبيه بأربعينَ يومًا، فاجتَمَعَت العساكِرُ على طاعتِه، وفَرَّقَ فيهم الأموالَ والخِلَعَ النَّفيسةَ، فأسرف في ذلك. لكِنَّ أخاه مسعودًا نازَعَه الحُكمَ فانتزَعَه منه.
هو الشيخ البحر حُجَّة الإسلام، أُعجوبة الزمان: زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الألوسي الطوسي الشافعي؛ إمام عصره صاحب التصانيف والذكاء المفرط. وُلِدَ بطوس سنة 450, وتفقَّه ببلده أولًا، ثم تحول إلى نيسابور في مرافقة جماعة من الطلبة، فلازم إمام الحرمين، فبرع في عدة علوم في مدة قريبة، ومهر في الكلام والجدل، حتى صار عينَ المناظرين، وشرع في التصنيف. يقول الذهبي: "سار أبو حامد إلى المخيَّم السلطاني، فأقبل عليه نظام الملك الوزير، وسُرَّ بوجوده، وناظَرَ الكبارَ بحضرته، فانبهر له وشاع أمره؛ فولَّاه نظام الملك التدريسَ في نظامية بغداد، فقدمها بعد 480، وسِنُّه نحو الثلاثين، وأخذ في تأليف الأصول والفقه والكلام والحكمة، وأدخَلَه سيلانُ ذهنِه في مضايق الكلام، ومزالِّ الأقدامِ، ولله سرٌّ في خلقه. وعَظُمَ جاه الرجل وازدادت حشمته؛ بحيث إنه في دست أمير، وفي رتبة رئيس كبير، فأدَّاه نظره في العلوم وممارسته لأفانين الزهديات إلى رفض الرئاسة، والإنابة إلى دار الخلود، والتأله والإخلاص وإصلاح النفس، فحجَّ من وقته، وزار بيت المقدس" وأخذ الغزالي في تصنيف كتاب الإحياء وتمَّمه بدمشق، وقد شنع عليه أبو الفرج بن الجوزي ثمَّ ابن الصلاح في ذلك تشنيعًا كثيرًا، وأراد المازري أن يحرق كتاب إحياء علوم الدين، وكذلك غيره من المغاربة، وقالوا: "هذا كتاب إحياء علوم دينه، وأما ديننا فإحياء علومه كتابُ الله وسنة رسوله". قال عبد الغافر في السياق: "لقد زرته مرارًا، وما كنت أحدس في نفسي مع ما عهدته عليه من الزعارة والنظر إلى الناس بعين الاستخفاف كبرًا وخيلاء، واعتزازًا بما رُزِق من البسطة والنطق والذهن وطلب العلو؛ أنَّه صار على الضد، وتصفَّى عن تلك الكدورات، وكنت أظنه متلفعًا بجلباب التكلف، متنمِّسًا بما صار إليه، فتحققت بعد السبر والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون، وحكى لنا في ليالٍ كيفية أحواله من ابتداء ما أظهر له طريق التأله، وغلبة الحال عليه بعد تبحره في العلوم، واستطالته على الكل بكلامه، والاستعداد الذي خصه الله به في تحصيل أنواع العلوم، وتمكُّنه من البحث والنظر، ولما عاد إلى طوس واتخذ في جواره مدرسة للطلبة، وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته على وظائف الحاضرين من ختم القرآن، ومجالسة ذوي القلوب، والقعود للتدريس، حتى توفي بعد مقاساة لأنواع من القصد، والمناوأة من الخصوم، والسعي فيه إلى الملوك، وحفظ الله له عن نوش أيدي النكبات... إلى أن قال: وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله، ومطالعة (الصحيحين)، ومما كان يعترض به عليه وقوع خلل من جهة النحو في أثناء كلامه، ورُوجِعَ فيه، فأنصف واعترف أنه ما مارسه، واكتفى بما كان يحتاج إليه في كلامه، مع أنه كان يؤلِّفُ الخطب، ويشرح الكتب بالعبارة التي يعجز الأدباء والفصحاء عن أمثالها. ومما نُقم عليه ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كتاب (كيمياء السعادة والعلوم) وشرح بعض الصور والمسائل بحيث لا توافق مراسم الشرع وظواهر ما عليه قواعد الملة، وكان الأولى به -والحق أحق ما يقال- ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له؛ فإن العوامَّ ربما لا يُحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئًا من ذلك تخيلوا منه ما هو المضرُّ بعقائدهم، وينسُبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل. على أن المنصِفَ اللبيب إذا رجع إلى نفسه علم أن أكثر ما ذكره أبو حامد مما رمز إليه إشارات الشرع، وإن لم يَبُح به، ويوجد أمثاله في كلام مشايخ الطريقة، فلا يجب حمله إذًا إلا على ما يوافق، ولا ينبغي التعلق به في الرد عليه إذا أمكن، وكان الأولى به أن يترك الإفصاحَ بذلك، وقد سمعت أنه سمع سنن أبي داود من القاضي أبي الفتح الحاكمي الطوسي" قلت (الذهبي): ما نقمه عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء فله أمثاله في غضون تواليفه، حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع". وقال عياض القاضي: "والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داعيةً في ذلك، وألَّف فيه تواليفه المشهورة، أُخِذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنونُ أمة، والله أعلم بسِرِّه، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها، فامتثل ذلك". قلت(الذهبي): ما زال العلماء يختلفون ويتكلم العالم في العالم باجتهادِه، وكل منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور، وإلى الله تُرجَع الأمور". ثم قصد الغزالي مصر وكان ينوي منها للاجتماع بالأمير يوسف بن تاشفين، فبينما هو كذلك بلغه نعي ابن تاشفين، فصرف عزمه عن تلك الناحية، ثم عاد إلى وطنه بطوس واشتغل بنفسه، وصنف الكتب في عدة فنون؛ منها كتاب "الوسيط" و "البسيط" و "الوجيز" و "الخلاصة" في الفقه، وله في أصول الفقه "المستصفى" فرغ من تصنيفه في سادس المحرم سنة 503، وله المنحول والمنتحل في علم الجدل، وله تهافت الفلاسفة، ومحك النظر، ومعيار العلم، والمقاصد، والمضنون به على غير أهله, ولم يُعقِب إلا البنات، ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها بالمدرسة النظامية، ثم ترك ذلك وعاد إلى بيته في وطنه، واتخذ خانقاه للصوفية، ومدرسة للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزع أوقاته على وظائف الخير؛ مِن خَتمِ القرآن، ومجالسة أهل القلوب، والقعود للتدريس، إلى أن انتقل إلى ربه. وكانت وفاته في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة، ودفن بطوس.
لما أُخمدت ثورات المسلمين في الأندلس بالقوة وألغي الإسلام رسميًّا في مملكة غرناطة، تعرض المسلمون لحملة شرسة لتنصيرهم بالقوة, وكان الأندلسيون على صلة وثيقة بإخوانهم في المغرب، الذين كانوا يقفون معهم في محنتهم يحاولون تثبيتهم على دينهم، ومن ذلك فتوى مفتي وهران: أحمد بن بوجمعة المغراوي، وهو أندلسي من بلدة المغرو بمقاطعة قلعة رباح، حيث أرسل لهم فتوى في غرة رجب سنة 910 (18/ 11 / 1504 م) هذا نصها: " الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا، إخواننا القابضين على دينهم كالقابض على الجمر، من أجزل الله ثوابَهم فيما لقُوا في ذاته، وصبروا النفوسَ والأولاد في مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله، من مجاورة نبيه في الفردوس الأعلى من جناته، وارثو سبيل السلف الصالح في تحمل المشاق، وإن بلغت النفوس إلى التراقِ. نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعيننا وإياكم على مراعاة حقه بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا. بعد السلام عليكم من كتابه إليكم، من عُبيد الله أصغر عبيده، وأحوجِهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله أحمد بن بوجمعة المغراوي ثم الوهراني، كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلًا من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار، والحشر مع الذين أنعم الله عليهم من الأبرار، مؤكِّدًا عليكم في ملازمة دين الإسلام، آمرين به من بلغ من أولادكم إن لم تخافوا دخول شرٍّ عليكم من إعلام عدوكم بطويَّتكم. فطوبى للغرباء الذين يَصلحون إذا فسد الناس، وإنَّ ذاكِرَ الله بين الغافلين كالحيِّ بين الموتى. فاعلموا أن الأصنام خشب منجور، وحجر جلمود لا يضر ولا ينفع، وأن المُلكَ مُلك الله، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله. فاعبدوه، واصطبروا لعبادته. فالصلاةَ ولو بالإيماء، والزكاةَ ولو كأنها هديةٌ لفقيركم أو رياء؛ لأن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم. والغُسلَ من الجنابة ولو عومًا في البحور. وإن مُنِعتم فالصلاةَ قضاءً بالليل لحقِّ النهار، وتسقط في الحُكم طهارةُ الماء، وعليكم بالتيمم ولو مسحًا بالأيدي للحيطانِ، فإن لم يمكن فالمشهورُ سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء والصعيد، إلَّا أن يمكنكم الإشارة إليه بالأيدي والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمَّم به، فاقصدوا بالإيماء، نقله ابن ناجي في شرح الرسالة لقوله عليه السلام: "فآتوا منه ما استطعتم" وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام، أو حضور صلاتهم، فأحرِموا بالنيَّة وانووا صلاتَكم المشروعة، وأشيروا لِما يشيرون إليه من صنمٍ ومقصودكم الله. وإن كان لغير القبلة تسقط في حقِّكم كصلاة الخوف عند الالتحام. وإن أجبروكم على شرب الخمر، فاشربوه لا بنيَّة استعماله. وإن كلَّفوا عليكم خنزيرًا، فكلوه ناكرين إيَّاه بقلوبكم ومعتقدينَ تحريمَه. وكذا إن أكرهوكم على محرَّم. وإن زوَّجوكم بناتِهم فجائز لكونهم أهل الكتاب. وإن أكرهوكم على إنكاحِ بناتكم منهم، فاعتَقِدوا تحريمه لولا الإكراهُ، وأنكم ناكرون لذلك بقلوبكم، ولو وجدتم قوة لغيرتموه. وكذا إن أكرهوكم على رِبًا أو حرام، فافعلوا منكِرينَ بقلوبكم، ثم ليس عليكم إلا رؤوس أموالكم، وتتصدَّقون بالباقي إن تبتم لله تعالى، وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والإلغاز فافعلوا. وإلا فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك. وإن قالوا اشتموا محمدًا، فإنهم يقولون له مَمَّد، فاشتموا ممَّدًا، ناوين أنه الشيطان، أو ممَّد اليهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم، وانووا إسقاط مضاف أي عبد الله مريم معبود بحق. وإن قالوا قولوا المسيح ابن الله فقولوها إكراهًا، وانووا بالإضافة للمِلْك، كبَيتِ الله لا يلزم أن يسكُنَه أو يحُلَّ به. فإن قالوا قولوا مريم زوجة له فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بني إسرائيل ثم فارقها قبل البناء، قاله السهيلي في تفسير المبهم من الرجال في القرآن، أو زوَّجها الله منه بقضائه وقدره. وإن قالوا عيسى توفي بالصلب، فانووا من التوفية والكمال والتشريفِ من هذه، وأمانته وصلبه وإنشاء ذِكرِه، وإظهار الثناء عليه بين الناس، وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلو وما يعسر عليكم فابعثوا فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبونَ به. وأنا أسأل الله أن يبدل الكَرَّةَ للإسلام؛ حتى تعبدوا الله ظاهرًا بحولِ الله من غير محنة ولا وَجلةٍ، بل بصدمةِ الترك الكرامِ. ونحن نشهد لكم بين يدي الله أنكم صدقتم الله ورَضِيتم به. ولا بد من جوابكم. والسلام عليكم جميعًا. بتاريخ غرة رجب سنة 910، عرف الله خيره. يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى" قال الأستاذ محمد عنان: "عثرت على هذه الوثيقة خلال بحوثي في مكتبة الفاتيكان الرسولية برومة. وهى تقع ضمن مجموعة خطية من المخطوطات البورجوانية (Borgiani), وقد ورد وصف هذا المخطوط في فهرس مكتبة الفاتيكان (فهرس دللافيدا) بأنه المقدمة القرطبية. وفي صفحة عنوانه بأنه كتاب نزهة المستمعين. وتشغل هذه الوثيقة في المخطوط المشار إليه أربع صفحات (136 - 139) ومن جهة أخرى فقد عثرت بنص هذه الوثيقة مثبتًا في إحدى مخطوطات الألخميادو المحفوظة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة سافدرا)"
سُئِلَ شَيخُ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ عن المَشهَدِ المَنسوبِ إلى الحُسينِ رضي الله عنه بمَدينةِ القاهرةِ:هل هو صَحيحٌ أم لا؟ وهل حُمِلَ رَأسُ الحُسينِ إلى دِمشقَ، ثم إلى مصر، أم حُمِلَ إلى المَدينَةِ من جِهَةِ العِراقِ؟ وهل لِمَا يَذكُرهُ بعضُ الناسِ مِن جِهَةِ المَشهَدِ الذي كان بعَسقلان صِحَّةٌ أم لا؟ ومَن ذَكَرَ أَمرَ رَأسِ الحُسينِ، ونَقْلِه إلى المَدينةِ النَّبويَّةِ دون الشامِ ومصر؟ ومَن جَزَمَ مِن العُلماءِ المُتقدِّمينَ والمُتأخِّرينَ بأن مَشهدَ عَسقلانَ ومَشهدَ القاهرةِ مَكذوبٌ، وليس بصَحيحٍ؟ وليَبسُطوا القَولَ في ذلك لأَجلِ مَسِيسِ الضَّرورَةِ والحاجةِ إليه، مُثابِينَ مَأجُورِينَ. فأجاب: "الحمدُ لله، بل المَشهدُ المَنسوبُ إلى الحُسينِ بنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما الذي بالقاهرةِ كَذِبٌ مُختَلقٌ، بلا نِزاعٍ بين العُلماءِ المَعروفِينَ عند أَهلِ العِلمِ، الذين يَرجِع إليهم المسلمون في مِثلِ ذلك لِعِلْمِهِم وصِدْقِهم. ولا يُعرَف عن عالِمٍ مُسَمَّى مُعروفٌ بعِلْمٍ وصِدْقٍ أنه قال: إن هذا المَشهدَ صَحيحٌ. وإنما يَذكرُه بعضُ الناسِ قَوْلًا عمَّن لا يُعرَف، على عادةِ مَن يَحكِي مَقالاتِ الرَّافِضَةِ وأَمثالِهم مِن أَهلِ الكَذِب. فإنهم يَنقُلونَ أَحاديثَ وحِكاياتٍ، ويَذكُرون مَذاهِبَ ومَقالاتٍ. وإذا طالَبتَهُم بمَن قال ذلك ونَقَلَهُ، لم يكُن لهم عِصمَةٌ يَرجِعُون إليها. ولم يُسَمُّوا أَحَدًا مَعروفًا بالصِّدقِ في نَقلِه، ولا بالعِلمِ في قَولِه، بل غايةُ ما يَعتَمِدون عليه أن يقولوا: أَجمَعَت الطائِفَةُ الحَقَّةُ. وهُم عند أَنفُسِهم الطائِفةُ الحَقَّة، الذين هم عند أَنفُسِهم المؤمنين، وسائرُ الأُمَّةِ سِواهُم كُفَّارٌ. وهكذا كلُّ ما يَنقُلونَه من هذا البابِ. يَنقُلون سِيَرًا أو حِكاياتٍ وأَحاديثَ، إذا ما طالَبتَهُم بإسنادِها لم يُحيلُوكَ على رَجُلٍ مَعروفٍ بالصِّدقِ، بل حَسْبُ أَحَدِهم أن يكون سَمِعَ ذلك مِن آخرَ مِثلِه، أو قَرأَهُ في كِتابٍ ليس فيه إسنادٌ مَعروفٌ، وإن سَمُّوا أَحَدًا، كان من المَشهُورِين بالكَذِبِ والبُهتان. لا يُتَصَوَّر قَطُّ أن يَنقُلوا شيئًا مما لا يُعرَف عند عُلماءِ السُّنَّةِ إلا وهو عن مَجهولٍ لا يُعرَف، أو عن مَعروفٍ بالكَذِب. ومن هذا البابِ نَقْلُ الناقلِ: أن هذا القَبرَ الذي بالقاهرةِ مَشهدُ الحُسينِ رضي الله عنه؛ بل وكذلك مَشاهدُ غيرُ هذا مُضافَةٌ إلى قَبرِ الحُسينِ رضي الله عنه، فإنه مَعلومٌ باتِّفاقِ الناسِ: أن هذا المَشهدَ بُنِيَ عامَ بِضعٍ وأربعين وخمسمائة، وأنه نُقِلَ مِن مَشهدٍ بعَسقلانَ، وأن ذلك المَشهدَ بعَسقلانَ كان قد أُحدِثَ بعدَ التِّسعين والأربعمائة. فأَصلُ هذا المَشهدِ القاهريِّ: هو ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ. وذلك العَسقلانيُّ مُحْدَثٌ بعدَ مَقتلِ الحُسينِ بأَكثرَ من أربعمائة وثلاثين سَنَةً، وهذا القاهريُّ مُحْدَثٌ بعدَ مَقتَلِه بقَريبٍ من خمسمائة سَنَةٍ. وهذا مما لم يُتنازَع فيه اثنان ممَّن تَكلَّم في هذا البابِ من أَهلِ العِلمِ، على اختِلافِ أَصنافِهم، كأَهلِ الحَديثِ، ومُصَنِّفِي أَخبارِ القاهرةِ، ومُصَنِّفِي التَّواريخِ. وما نَقَلَهُ أَهلُ العِلمِ طَبقَةٌ عن طَبقَةٍ. فمِثلُ هذا مُستَفيضٌ عندهم. وهذا بينهم مَشهورٌ مُتَواتِرٌ، سَواءٌ قِيلَ: إن إضافَتَهُ إلى الحُسينِ صِدقٌ أو كَذِبٌ، لم يَتَنازَعوا أنه نُقِلَ من عَسقلانَ في أواخرِ الدولةِ العُبيديَّةِ. وإذا كان أَصلُ هذا المَشهدِ القاهريِّ مَنقولٌ عن ذلك المَشهدِ العَسقلانيِّ باتِّفاقِ الناسِ وبالنَّقْلِ المُتَواتِر؛ فمن المَعلومِ أن قَولَ القائلِ: إن ذلك الذي بعَسقلانَ هو مَبْنِيٌّ على رَأسِ الحُسينِ رضي الله عنه قَوْلٌ بلا حُجَّةٍ أَصلًا. فإن هذا لم يَنقُلهُ أَحَدٌ من أَهلِ العِلمِ الذين مِن شَأنِهم نَقلُ هذا. لا من أَهلِ الحَديثِ، ولا من عُلماءِ الأَخبارِ والتَّواريخِ، ولا من العُلماءِ المُصَنِّفين في النَّسَبِ؛ نَسَبِ قُريشٍ، أو نَسَبِ بَنِي هاشِمٍ ونَحوِه. وذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ، أُحدِثَ في آخِرِ المائةِ الخامسةِ، لم يكُن قَديمًا، ولا كان هناك مَكانٌ قَبلَه أو نَحوَه مُضافٌ إلى الحُسينِ، ولا حَجَرٌ مَنقوشٌ ولا نَحوُه ممَّا يُقالُ: إنه عَلامةٌ على ذلك. فتَبَيَّنَ بذلك أن إِضافةَ مِثلِ هذا إلى الحُسينِ قَوْلٌ بلا عِلمٍ أصلًا. وليس مِن قائِلٍ ذلك ما يَصلُح أن يكون مُعتَمَدًا، لا نَقْلٌ صَحيحٌ ولا ضَعيفٌ، بل لا فَرقَ بين ذلك وبين أن يَجيءَ الرَّجلُ إلى بَعضِ القُبورِ التي بأَحَدِ أَمصارِ المسلمين، فيَدَّعِي أن في واحدٍ منها رَأسَ الحُسينِ، أو يَدَّعِي أن هذا قَبرُ نَبِيٍّ من الأَنبياءِ، أو نحوَ ذلك ممَّا يَدَّعِيهِ كَثيرٌ من أَهلِ الكَذِبِ والضَّلالِ. وإذا كان ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ قد قال طائفةٌ: إنه قَبرُ بَعضِ النَّصارَى، أو بَعضِ الحَواريِّينَ –وليس مَعَنَا ما يَدُلُّ على أنه قَبرُ مُسلِمٍ، فَضلًا عن أن يكون قَبرًا لرَأسِ الحُسينِ- كان قَولُ مَن قال: إنه قَبرُ مُسلِمٍ –الحُسينِ أو غَيرِه- قَوْلًا زُورًا وكَذِبًا مَردودًا على قائلِه. فهذا كافٍ في المَنْعِ مِن أن يُقال: هذا مَشهدُ الحُسينِ. ثم نقول: بل نحن نَعلَم ونَجزِم بأنه ليس فيه رَأسُ الحُسينِ، ولا كان ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ مَشهَدًا للحُسينِ، من وُجُوهٍ مُتعدِّدَةٍ: منها: أنه لو كان رَأسُ الحُسينِ هناك لم يَتأَخَّر كَشْفُه وإِظهارُه إلى ما بعدَ مَقتَلِ الحُسينِ بأكثرَ من أربعمائة سَنَةٍ. ودَولةُ بَنِي أُمَيَّة انقَرَضَت قبلَ ظُهورِ ذلك بأَكثرَ من ثلاثمائة وبِضعٍ وخمسين سَنَةً. وقد جاءت خِلافَةُ بني العبَّاسِ وظَهَرَ في أَثنائِها من المَشاهِدِ بالعِراقِ وغَيرِ العِراقِ ما كان كَثيرٌ منها كَذِبًا. وكانوا عند مَقتَلِ الحُسينِ بكَربَلاء قد بَنوا هناك مَشهدًا. وكان يَنتابُه أُمراءُ عُظماءُ، حتى أَنكرَ ذلك عليهم الأئمَّةُ. وحتى إن المُتوَكِّل لمَّا تَقدَّموا له بأَشياءَ يُقال: إنه بالَغَ في إِنكارِ ذلك وزادَ على الواجبِ. دَعْ خِلافةَ بَنِي العبَّاسِ في أَوائلِها، وفي حالِ استِقامَتِها، فإنهم حينئذٍ لم يكونوا يُعَظِّمونَ المَشاهِدَ، سَواءٌ منها ما كان صِدقًا أو كَذِبًا، كما حَدَثَ فيما بعدُ؛ لأن الإسلامَ كان حينئذٍ ما يَزالُ في قُوَّتِه وعُنفُوانِه. ولم يكُن على عَهدِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وتابِعيهم من ذلك شيءٌ في بِلادِ الإسلامِ، لا في الحِجازِ، ولا اليَمنِ، ولا الشامِ، ولا العِراقِ، ولا مصر، ولا خُراسان، ولا المَغربِ، ولم يكُن قد أُحدِثَ مَشهدٌ، لا على قَبرِ نَبِيٍّ، ولا صاحِبٍ، ولا أَحَدٍ من أَهلِ البيتِ، ولا صالِحٍ أَصلًا، بل عامَّةُ هذه المَشاهِدِ مُحْدَثَةٌ بعدَ ذلك. وكان ظُهورُها وانتِشارُها حينَ ضَعُفَت خِلافةُ بني العبَّاسِ، وتَفَرَّقَت الأُمَّةُ، وكَثُرَ فيهم الزَّنادِقَةُ المُلَبِّسُونَ على المسلمين، وفَشَت فيهم كَلِمةُ أَهلِ البِدَعِ، وذلك في دَولةِ المُقتَدِر في أَواخرِ المائَةِ الثالثةِ، فإنه إذ ذاك ظَهَرَت القَرامِطَةُ العُبيدِيَّةُ القَدَّاحِيَّة بأَرضِ المَغربِ. ثم جاؤوا بعدَ ذلك إلى أَرضِ مصر. فإذا كان مع كلِّ هذا لم يَظهَر حتى مَشهدٌ للحُسينِ بعَسقلانَ، مع العِلمِ بأنه لو كان رَأسُه بعَسقلانَ لكان المُتقَدِّمون من هؤلاءِ أَعلمَ بذلك من المُتأخِّرين، فإذا كان مع تَوَفُّرِ الهِمَمِ والدَّواعِي والتَّمَكُّنِ والقُدرَةِ لم يَظهَر ذلك، عُلِمَ أنه باطِلٌ مَكذوبٌ، مِثلُ ما يَدَّعِي أنه شَريفٌ عَلَوِيٌّ. وقد عُلِمَ أنه لم يَدَّعِ هذا أَحَدٌ من أَجدادِه، مع حِرصِهِم على ذلك لو كان صَحيحًا، فإنه بهذا يُعلَم كَذِبُ هذا المُدَّعِي، الوجهُ الثاني: أن الذين جَمَعوا أَخبارَ الحُسينِ ومَقتَلِهِ مِثلُ أبي بكرِ بن أبي الدنيا، وأبي القاسمِ البَغَويِّ وغَيرِهما لم يَذكُر أَحَدٌ منهم أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى عَسقلانَ ولا إلى القاهرةِ. وقد ذَكَرَ نحوَ ذلك أبو الخَطَّابِ بنُ دُحيةَ في كِتابِه المُلَقَّب بـ ((العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور)) ذَكَرَ أن الذين صَنَّفُوا في مَقتَلِ الحُسينِ أَجمَعوا أن الرَّأسَ لم يَغتَرِب، وذَكَرَ هذا بعدَ أن ذَكَرَ أن المَشهَدَ الذي بالقاهرةِ كَذِبٌ مُختَلَق، وأنه لا أَصلَ له، وبَسَطَ القَولَ في ذلك، كما ذَكَرَ في يومِ عاشُوراءَ ما يَتَعلَّق بذلك. الوجهُ الثالث: أن الذي ذَكَرَهُ مَن يُعتَمَد عليه مِن العُلماءِ والمُؤرِّخين: أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى المَدينةِ، ودُفِنَ عند أَخيهِ الحَسَنِ. ومن الَمعلوم: أن الزُّبيرَ بنَ بَكَّارٍ، صاحِبَ كتابِ ((الأنساب)) ومحمدَ بنَ سَعدٍ كاتِبَ الواقِديِّ صاحِبَ ((الطبقات))، ونَحوَهُما مِن المَعروفين بالعِلمِ والثِّقَةِ والاطِّلاعِ، أَعلمُ بهذا البابِ، وأَصدَقُ فيما يَنقُلونَه من الجاهِلين والكَذَّابين، ومِن بَعضِ أَهلِ التَّواريخِ الذين لا يُوثَق بِعِلْمِهِم ولا صِدْقِهِم، بل قد يكون الرَّجلُ صادِقًا، ولكن لا خِبرةَ له بالأَسانيدِ حتى يُمَيِّزَ بين المَقبولِ والمَردودِ، أو يكون سَيِّءَ الحِفْظِ أو مُتَّهَمًا بالكَذِبِ أو بالتَّزَيُّدِ في الرِّوايَةِ، كحالِ كَثيرٍ من الإخبارِيِّين والمُؤَرِّخين، لا سيما إذا كان مِثلَ أبي مِخنَفٍ لُوطِ بنِ يحيى وأَمثالِه. ومَعلومٌ أن الواقِديَّ نَفسَهُ خَيرٌ عند الناسِ من مِثلِ هِشامِ بنِ الكلبيِّ، وأَبيهِ محمدِ بنِ السائبِ وأَمثالِهِما، وقد عُلِمَ كَلامُ الناسِ في الواقديِّ، فإن ما يَذكُرهُ هو وأَمثالُه إنما يُعتَضَدُ به، ويُستَأنسُ به، وأما الاعتِمادُ عليه بمُجرَّدِهِ في العِلمِ فهذا لا يَصلُح. فإذا كان المُعتَمد عليهم يَذكُرون أن رأسَ الحُسينِ دُفِنَ بالمَدينةِ، وقد ذَكَرَ غَيرُهم أنه إما أن يكون قد عادَ إلى البَدَنِ، فدُفِنَ معه بكَربَلاء، وإما أنه دُفِنَ بحَلَب، أو بدِمشق أو نحوَ ذلك من الأَقوالِ التي لا أَصلَ لها، ولم يَذكُر أَحَدٌ ممَّن يُعتَمَد عليه أنه بعَسقلانَ – عُلِمَ أن ذلك باطِلٌ، إذ يُمتَنَع أن يكون أَهلُ العِلمِ والصِّدقِ على الباطلِ، وأَهلُ الجَهلِ والكَذِبِ على الحَقِّ في الأُمورِ النَّقلِيَّةِ، التي إنما تُؤخَذ عن أَهلِ العِلمِ والصِّدقِ، لا عن أَهلِ الجَهلِ والكَذِبِ. الوجهُ الرابع: أن الذي ثَبَتَ في صَحيحِ البُخاريِّ: أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى قُدَّامِ عُبيدِ الله بن زِيادٍ، وجَعَلَ يَنكُت بالقَضيبِ على ثَناياهُ بحَضرَةِ أَنسِ بنِ مالكٍ، وفي المُسنَدِ: أن ذلك كان بحَضرَةِ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ. وهذا باطِلٌ. فإن أبا بَرزَةَ، وأَنسَ بنَ مالكٍ كانا بالعِراقِ، لم يكُونَا بالشامِ، ويَزيدُ بن مُعاوِيةَ كان بالشامِ، لم يكُن بالعِراقِ حِينَ مَقتلِ الحُسينِ، فمَن نَقَلَ أنه نَكَتَ بالقَضيبِ ثَناياهُ بحَضرَةِ أَنسٍ وأبي بَرزَةَ قُدَّامَ يَزيدَ فهو كاذِبٌ قَطْعًا، كَذِبًا مَعلومًا بالنَّقلِ المُتواتِرِ. ومَعلومٌ بالنَّقلِ المُتَواتِرِ: أن عُبيدَ الله بنَ زيادٍ كان هو أَميرُ العِراقِ حين مَقتلِ الحُسينِ، وقد ثَبَتَ بالنَّقلِ الصَّحيحِ: أنه هو الذي أَرسلَ عُمرَ بنَ سعدِ بن أبي وَقَّاصٍ مُقَدَّمًا على الطائفَةِ التي قاتَلَت الحُسينَ، وكان عُمَرُ قد امتَنَع من ذلك، فأَرغَبَهُ ابنُ زيادٍ وأَرهَبَهُ حتى فَعَلَ ما فَعَلَ. والمَقصودُ هنا أن نَقْلَ رَأسِ الحُسينِ إلى الشامِ لا أَصلَ له زَمَنَ يَزيدَ. فكيف بِنَقْلِه بعدَ زَمَنِ يَزيدَ؟ وإنما الثابتُ هو نَقْلُه من كَربَلاء إلى أَميرِ العِراقِ عُبيدِ الله بن زيادٍ بالكُوفةِ. والذي ذَكَرَ العُلماءُ: أنه دُفِنَ بالمَدينَةِ. الوجهُ الخامس: أنه لو قُدِّرَ أنه حُمِلَ إلى يَزيدَ، فأيُّ غَرَضٍ كان لهم في دَفنِه بعَسقلانَ، وكانت إذ ذاكَ ثَغْرَةً يُقيمُ به المُرابِطون؟ فإن كان قَصْدُهُم تَعْفِيَةَ خَبَرِهِ فمِثلُ عَسقلانَ تُظهِرُهُ لكَثرَةِ مَن يَنتابُها للرِّباطِ. وإن كان قَصْدُهُم بَركَةَ البُقعَةِ فكيف يَقصِدُ هذا مَن يُقال: إنه عَدُوٌّ له، مُسْتَحِلٌّ لِدَمِهِ، ساعٍ في قَتْلِه؟! ثم مِن المَعلومِ: أن دَفْنَهُ قَريبًا عندَ أُمِّهِ وأَخيهِ بالبَقيعِ أَفضلُ له. الوجهُ السادس: أن دَفْنَهُ بالبَقيعِ هو الذي تَشهَدُ له عادَةُ القَومِ. فإنهم كانوا في الفِتَنِ، إذا قَتَلوا الرَّجُلَ -لم يكُن منهم- سَلَّمُوا رَأسَهُ وبَدَنَهُ إلى أَهلِه، الوجهُ السابع: أنه لم يُعرَف قَطُّ أن أَحَدًا، لا مِن أَهلِ السُّنَّةِ، ولا من الشِّيعَةِ، كان يَنتابُ ناحِيةَ عَسقلانَ لأَجلِ رَأسِ الحُسينِ، ولا يَزورونَهُ ولا يَأتونَهُ. كما أن الناسَ لم يكونوا يَنتابون الأَماكِنَ التي تُضافُ إلى الرَّأسِ في هذا الوَقتِ، كمَوضِعٍ بحَلَب. فإذا كانت تلك البِقاعُ لم يكُن الناسُ يَنتابونَها ولا يَقصِدونَها، وإنما كانوا يَنتابون كَربَلاء؛ لأن البَدَنَ هناك، كان هذا دَليلًا على أن الناسَ فيما مضى لم يكونوا يَعرِفون أن الرَّأسَ في شَيءٍ من هذه البِقاعِ، ولكن الذي عَرَفوهُ واعتَقَدوهُ هو وُجودُ البَدَنِ بكَربَلاء، حتى كانوا يَنتابونَهُ في زَمنِ أَحمدَ وغَيرِه، حتى إن في مَسائِلِه، مَسائلَ فيما يُفعَل عند قَبرِه، ذَكَرَها أبو بكرٍ الخَلَّالُ في جامِعِه الكَبيرِ في زِيارَةِ المَشاهِدِ. ولم يَذكُر أَحَدٌ من العُلماءِ أنهم كانوا يَرون مَوضِعَ الرَّأسِ في شيءٍ من هذه البِقاعِ غيرَ المَدينةِ. فعُلِمَ أن ذلك لو كان حَقًّا لكان المُتقَدِّمون به أَعلمَ. ولو اعتَقَدوا ذلك لعَمِلُوا ما جَرَت عادَتُهم بعَمَلِه، ولأَظهَروا ذلك وتَكَلَّموا به، كما تَكَلَّموا في نَظائِرِهِ. فلمَّا لم يَظهَر عن المُتقَدِّمين –بقَوْلٍ ولا فِعْلٍ- ما يَدُلُّ على أن الرَّأسَ في هذه البِقاعِ عُلِمَ أن ذلك باطِلٌ، والله أعلم. الوجهُ الثامن: أن يُقال: ما زال أَهلُ العِلمِ في كلِّ وَقتٍ وزَمانٍ يَذكرون في هذا المَشهَدِ القاهريِّ المَنسوبِ إلى الحُسينِ: أنه كَذِبٌ مُبِينٌ، كما يَذكرون ذلك في أَمثالِه من المَشاهِدِ المَكذوبَةِ؛ فقد ذَكَرَ أبو الخَطَّابِ بن دُحيةَ في كِتابِه ((العِلم المشهور)) في هذا المَشهَدِ فَصْلًا مع ما ذَكَرَهُ في مَقتلِ الحُسينِ مِن أَخبارٍ ثابتَةٍ وغيرِ ثابتَةٍ، ومع هذا فقد ذَكَرَ أن المَشهَدَ كَذِبٌ بالإجماعِ، وبَيَّنَ أنه نُقِلَ من عَسقلانَ في آخرِ الدُّوَلِ العُبيديَّةِ، وأنه وُضِعَ لأَغراضٍ فاسِدَةٍ، وأنه بعدَ ذلك بقَليلٍ أَزالَ الله تلك الدَّولةَ وعاقَبَها بنَقيضِ قَصْدِها. وما زال ذلك مَشهورًا بين أَهلِ العِلمِ حتى أَهلِ عَصْرِنا، مِن ساكِنِي الدِّيارِ المِصريَّةِ، القاهرَةِ وما حَولَها والله أعلم. ".
خرج السلطان الملك الناصر فرج من دمشق بعساكره في يوم الاثنين سادس المحرم، ونزل برزة، ثم رحل منها يريد محاربة الأمراء الخارجين عليه: نوروز الحافظي، وشيخ المحمودي، ونزل حسيا بالقرب من حمص، فبلغه رحيل القوم من قارا إلى جهة بعلبك، فترك أثقاله بحسيا وساق على أثرهم إلى بعلبك، فوجدهم قد توجهوا إلى البقاع، فقصدهم، فمضوا نحو الصبيبة، فتبعهم حتى نزلوا باللجون، فساق السلطان خلفهم وهو سكران لا يعقِل، فما وصل إلى اللجون حتى تقطعت عساكره عنه من شدة السَّوق، ولم يبقَ معه غير من ثَبَت على سوقه، وهم أقل ممن تأخَّر، وكان قد وصل وقت العصر من يوم الاثنين ثالث عشر المحرم، فوجد الأمراء قد نزلوا باللجون وأراحوا، وفي ظنهم أنه يتمهَّلُ ليلته ويلقاهم من الغد، فإذا جنَّهم الليل ساروا بأجمعهم من وادي عارة إلى جهة الرملة، وسلكوا البرية عائدين إلى حلب، وليس في عزمهم أن يقاتلوه أبدًا، لا سيما الأمير شيخ المحمودي فإنه لا يريد ملاقاته بوجه من الوجوه، فحال وصول الملك الناصر إلى اللجون أشار عليه الأتابك دمرداش المحمدي أن يريح خيلَه وعساكره تلك الليلة، ويقاتلهم من الغد، فأجابه السلطان بأنهم يفرُّون الليلة، فقال له دمرداش: إلى أين بقُوا يتوجهون يا مولانا السلطان بعد وقوع العين في العين؟ يا مولانا السلطان مماليكك في جهد وتعب من السَّوق، والخيول كَلَّت، والعساكر منقطعة، فلم يلتفت إلى كلامِه، وحرَّك فرسه ودقَّ بزخمته على طبله، وسار نحو القوم، وحمل عليهم بنفسِه من فوره حال وصولِه، فارتضمت طائفة من مماليكه في وحلٍ كان هناك، ثم قبل اللقاء خرج الأمير قجق أحد أمراء الألوف بطلبه من مماليكه وعسكره، وذهب إلى الأمراء، وتداول ذلك مع المماليك الظاهرية واحدًا بعد واحد، والملك الناصر لا يلتفت إليهم، ويشجِّع من بقي معه حتى التقاهم وصدمهم صدمةً هائلة، وتقهقر عسكره مع قلتهم، فانهزم السلطان عند ذلك، بعد أن قاتل بنفسه، وساق يريد دمشق -وكان الرأي توجهه إلى مصر- وتبعه سودون الجلب، وقرقماس ابن أخي دمرداش، ففاتهما الملك الناصر ومضى إلى دمشق، وأحاط القوم بالخليفة المستعين بالله، وفتح الدين فتح الله كاتب السر، وناظر الجيش بدر الدين حسن بن نصر الله، وناظر الخاص ابن أبي شاكر، واستولوا على جميع أثقال الملك الناصر وأمرائه، وامتدت أيدي أصحاب الأمراء إلى النهب والأسر في أصحاب الملك الناصر، وما غربت الشمس حتى انتصر الأمراء وقَوِيَ أمرهم، وباتوا تلك الليلة بمخيماتهم، وهي ليلة الثلاثاء، وأصبح الأمراء وليس فيهم من يرجع إليه، بل كل واحد منهم يقول: أنا رئيس القوم وكبيرهم، وأما الملك الناصر فإنه لما انكسر سار نحو دمشق حتى دخلها ليلة الأربعاء في ثلاثة نفر، ونزل بالقلعة واستدعى القضاة والأعيان ووعدهم بكل خير، وحثَّهم على نصرته والقيام معه، فانقادوا له، فأخذ في تدبير أموره، وتلاحقت به عساكره شيئًا بعد شيء في العاشر من محرم، ثم أحضر السلطان الأموال وصبها وأتاه الناس من كل فج من التركمان والعربان والعشير وغيرهم، فكتب أسماءهم وأنفق عليهم وقوَّاهم بالسلاح، وأنزل كل طائفة منهم بموضع يحفظه، فكان عدة من استخدمه من المشاة زيادةً على ألف رجل، وحَصَّن القلعة بالمجانيق والمدافع الكبار، وأتقن تحصين القلعة؛ بحيث إنه لم يبق سبيلٌ للتوصل إليها بوجه من الوجوه واستمر ذلك إلى بكرة يوم السبت ثامن عشر المحرم، فنزل الأمراء على قبة يلبغا خارج دمشق، فندب السلطان عسكرًا فتوجهوا إلى القبيبات، فبرز لهم سودون المحمدي، وسودون الجلب، واقتتلوا حتى تقهقر السلطانية منهم مرتين، ثم انصرف الفريقان، وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم ارتحل الأمراء عن قبة يلبغا، ونزلوا غربي دمشق من جهة الميدان، ووقفوا من جهة القلعة إلى خارج البلد، فتراموا بالنشاب نهارهم وبالنفط، فاحترق ما عند باب الفراديس من الأسواق، فلما كان الغد من يوم الاثنين عشرين محرم اجتمع الأمراء للحصار، فوقفوا شرقي البلد وقبليه، ثم كروا راجعين ونزلوا ناحية القنوات إلى يوم الأربعاء الثاني والعشرين، ووقع القتال من شرقي البلد، ونزل الأمير نوروز بدار الطعم، وامتدت أصحابه إلى العقيبة، ونزل طائفة بالصالحية والمزة، ونزل الأمير شيخ بدار غرس الدين خليل تجاه جامع كريم الدين الذي بطرف القبيبات ومعه الخليفة وكاتب السر فتح الله، ونزل بكتمر جلق وقرقماس المدعو بسيدي الكبير في جماعة من جهة بساتين معين الدين ومنعوا الميرة عن الملك الناصر، وقطعوا نهر دمشق، ففُقد الماء من البلد، وتعطلت الحمَّامات، وغُلِّقت الأسواق، واشتدَّ الأمر على أهل دمشق، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وتراموا بالسهام والنفوط، فاحترق عدة حوانيت بدمشق، وكثرت الجراحات في أصحاب الأمراء من الشاميين، وأنكاهم السلطانية بالرمي من أعلى السور، وعَظُم الأمر، وكلُّوا من القتال، ثم بلغ الأمير شيخ المحمودي أن الملك الناصر عزم على إحراق ناحية قصر حجاج حتى يصير فضاءً ثم يركب بنفسه ويواقع القوم هناك بمن يأتيه من التركمان وبمن عنده، فبادر الأمير شيخ وركب بعد صلاة الجمعة بأمير المؤمنين ومعه العساكر، وسار من طريق القبيبات ونزل بأرض الثابتية، وقاتل الملك الناصر في ذلك اليوم أشد قتال إلى أن مضى من الليل جانب، وكثر من الشاميين الرمي بالنفط عليهم، فاحترق سوق خان السلطان وما حوله، وحملت السلطانية على الشيخية حملةً عظيمة هزموهم فيها، وتفرقوا فِرَقًا، وثبت الأمير شيخ في جماعة قليلة بعدما كان انهزم هو أيضًا إلى قريب الشويكة، ثم تكاثر الشيخية وانضم عليهم جماعة من الأمراء، فحمل الأمير شيخ بنفسه بهم حملة واحدة أخذ فيها القنوات، ففرَّ من كان هناك من التركمان والرماة وغيرهم، وكان الأتابك دمرداش المحمدي نازلًا عند باب الميدان تجاه القلعة، فلما بلغه ذلك ركب وتوجه إلى الملك الناصر وهو جالس تحت القبة فوق باب النصر، وسأله أن يندب معه طائفة كبيرة من المماليك السلطانية؛ ليتوجه بهم إلى قتال الأمير شيخ؛ فإنه قد وصل إلى طرف القنوات، وسهل أخذه على السلطان، فنادى الملك الناصر لمن هناك من المماليك وغيرهم بالتوجه مع دمرداش، فلم يجِبْه منهم أحد، ثم كرر السلطان عليهم الأمر غيرَ مرة حتى أجابه بعضهم جوابًا فيه جفاء وخشونة ألفاظ، معناه أنهم ملوا من طولِ القتال، وضَجِروا من شدة الحصار، وبينما هم في ذلك إذ اختبط العسكر السلطاني وكثر الصراخ فيهم بأن الأمير نوروزًا قد كبسهم، فسارعوا بأجمعهم وعبروا من باب النصر إلى داخل مدينة دمشق، وتفرَّقوا في خرائبها بحيث إنه لم يبقَ بين يدي السلطان أحد، فولى دمرداش عائدًا إلى موضعه، وقد ملك الأمير شيخ وأصحابه الميدان والإسطبل، فبعث دمرداش إلى السلطان مع بعض ثقاته بأن الأمر قد فات، وأن أمر العدو قوي، وأمر السلطان أخذ في إدبار، والرأي أن يلحق السلطان بحلب ما دام في الأمر سعة، فلما سمع الملك الناصر ذلك قام من مجلسه وترك الشمعة تتقد حتى لا يقع الطمع فيه بأنه ولى، ويوهم الناس أنه ثابت مقيم على القتال، ثم دخل إلى حَرَمِه وجهَّز ماله، وأطال في تعبئة ماله وقماشه، فلم يخرج حتى مضى أكثر الليل، والأتابك دمرداش واقف ينتظره، فلما رأى دمرداش أن الملك الناصر لا يوافقه على الخروج إلى حلب، خرج هو بخواصه ونجا بنفسه، وسار إلى حلب وترك السلطان، ثم خامر الأمير سنقر الرومي على الملك الناصر، وأتى أمير المؤمنين وبطل طبول السلطان والرماة، ثم خرج الملك الناصر من حرمه بماله، وأمر غلمانه فحُمِلت الأموال على البغال ليسير بهم إلى حلب، فعارضه الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير وغيره، ورغبوه في الإقامة بدمشق، وقالوا له: الجماعة مماليك أبيك لا يوصلون إليك سوءًا أبدًا، ولا زالوا به حتى طلع الفجر، فعند ذلك ركب الملك الناصر بهم، ودار على سور المدينة فلم يجد أحدًا ممن كان أعدَّه للرمي، فعاد ووقف على فرسه ساعة، ثم طلع إلى القلعة والتجأ بها بمن معه -وقد أشحنها- وترك مدينة دمشق، وبلغ أمير المؤمنين والأمراء ذلك، فركب الأمير شيخ بمن معه إلى باب النصر، وركب نوروز بمن معه إلى نحو باب توما، ونصب الأمير شيخ السلالم حتى طلع بعض أصحابه، ونزل إلى مدينة دمشق وفتح باب النصر، وأحرق باب الجابية، ودخل شيخ من باب النصر، وأخذ مدينة دمشق، ونزل بدار السعادة، وذلك في يوم السبت تاسع صفر، بعدما قاتل الملك الناصر نحو العشرين يومًا، قُتِل فيها من الطائفتين خلائق لا تُحصى، ووقع النهب في أموال السلطان وعساكره، وامتدت أيدي الشيخية وغيرهم إلى النهب، فما عفوا ولا كفُّوا، وركب أمير المؤمنين ونزل بدار في طرف ظواهر دمشق، وتحول الأمير شيخ إلى الإسطبل، وأنزل الأمير بكتمر جلق بدار السعادة، كونه قد ولي نيابة دمشق قبل تاريخه، هذا والسلطانية ترمي عليهم من أعلى القلعة بالسهام والنفوط يومهم كله، وباتوا ليلة الأحد على ذلك، فلما كان يوم الأحد عاشر صفر بعث الملك الناصر بالأمير أسندمر أمير آخور في الصلح، وتردد بينهم غير مرة حتى انعقد الصلح بينهم، وحلف الأمراء جميعهم وكُتِبت نسخة اليمين، ووضعوا خطوطهم في النسخة المذكورة، وكتب أمير المؤمنين أيضًا خطه فيها، وصعد بها أسندمر إلى القلعة ومعه الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازي أخو الخليفة المستعين بالله لأمه، ودخلا على الملك الناصر وكلماه في ذلك، وطال الكلام بينهم، فلم يعجب الملك الناصر ذلك، وترددت الرسل بينهم غير مرة بغير طائل، وأمر الملك الناصر أصحابه بالرمي عليهم، فعاد الرمي من أعلى القلعة بالمدافع والسهام، وركب الأمراء واحتاطوا بالقلعة، فأرسل الملك الناصر يسأل بالكف عنه، فضايقوا القلعة خشية أن يفر السلطان منها إلى جهة حلب، ومشت الرسل أيضًا بينهم ثانيًا، وأضر الملك الناصر التضييق والغلبة إلى أن أذعن إلى الصلح، وحلفوا له ألا يوصلوا إليه مكروهًا، ويؤمِّنوه على نفسه، وأن يستمِرَّ الخليفة سلطانًا، وقيل غير ذلك: وهو أنه ينزل إليهم، ويتشاور الأمراء فيمن يكون سلطانًا، فإن طلبه المماليك فهو سلطان على حاله، وإن لم يطلبوه فيكون الخليفة، ويكون هو مخلوعًا يسكن بعض الثغور محتفظًا به، ومحصول الحكاية أنه نزل إليهم في ليلة الاثنين حادي عشر صفر، ومعه أولاده يحملهم ويحملون معه، وهو ماشٍ من باب القلعة إلى الإسطبل والناس تنظُره، وكان الأمير شيخ نازلًا بالإسطبل، فعندما عاينه الأمير شيخ قام إليه وتلقَّاه وقبَّل الأرض بين يديه، وأجلسه بصدر المجلس، وجلس بالبعدِ عنه وسكَّن روعه، ثم تركه بعد ساعة وانصرف عنه، فأقام الملك الناصر بمكانه إلى يوم الثلاثاء ثاني صفر، فجمع الأمراء والفقهاء والعلماء المصريون والشاميون بدار السعادة بين يدي أمير المؤمنين وقد تحول إليها وسكنها، وتكلموا في أمر الملك الناصر والمحضر المكتب في حقه، فأفتوا بإراقة دمه شرعًا، فأخذ في ليلة الأربعاء من الإسطبل، وطلع به إلى قلعة دمشق، وحبسوه بها في موضع وحدَه، وقد ضُيِّق عليه وأُفرِدَ من خَدَمِه، فأقام على ذلك إلى أن قُتِلَ ليلة السبت سادس عشر صفر.
هو سُلطانُ العالَم عَضُدُ الدَّولةِ أبو شُجاعٍ، المُلَقَّبُ بالعادِل محمد، ألب أرسلان بن جغريبك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق بن سلجوق التُّركيُّ, واسمُه بالعربي محمدُ بنُ داودَ وألب أرسلان اسمٌ تُركيٌّ مَعناهُ شُجاع أَسَد، فألب: شُجاع، وأرسلان: أَسَد. وهو ابنُ أخي السُّلطانِ طغرلبك، أَصلُه من قَريةٍ يُقال لها: النور. وُلِدَ سَنةَ 424هـ, وَجَدُّهُ دقاق، هو أَوَّلُ مَن دَخلَ في الإسلامِ, وألب أرسلان أَوَّلُ مَن ذُكِرَ بالسُّلطانِ على مَنابِرِ بغداد, وكان مَلِكًا عادِلًا، مَهِيبًا، مُطاعًا، مُعَظَّمًا. وَلِيَ السَّلْطَنَةَ بعدَ وَفاةِ عَمِّهِ طغرلبك بن سلجوق في سَنةِ 457هـ. لمَّا ماتَ السُّلطانُ طُغرلبك نَصَّ على تَوْلِيَةِ الأَمرِ لسُليمانَ بنِ داودَ أخي ألب أرسلان، ولم يَنُصَّ على ألب أرسلان؛ لأنَّ أُمَّ سُليمانَ كانت عنده فتَبِعَ هَواها في وَلَدِها، فقام سُليمانُ بالأَمرِ وثارَ عليه أَخوهُ ألب أرسلان، وجَرَت بينهم خُطوبٌ فلم يَتِمَّ لِسُليمانَ الأَمرُ، وكانت النُّصرةُ لألب أرسلان. فاستَولَى على المَمالِكِ، وعَظُمَت مَملكَتُه ورُهِبَت سَطوتُه، وفَتحَ من البِلادِ ما لم يكُن لِعَمِّهِ طُغرلبك مع سِعَةِ مُلْكِ عَمِّهِ، وقَصدَ بِلادَ الشامِ فانتَهَى إلى مَدينةِ حَلَب، وهو أَوَّلُ مَن عَبَرَ الفُراتَ من مُلوكِ التُّركِ. وكاد أن يَتَمَلَّكَ مصر. أَعزَّ الله بهِ الإسلامَ وأَذَلَّ الشِّرْكَ. كان ألب أرسلان مِن أَعدَلِ الناسِ، وأَحسَنِهم سِيرَةً، وأَرغَبِهِم في الجِهادِ وفي نَصرِ الدِّينِ. وعَظُمَ أَمرُ السُّلطانِ ألب آرسلان، وخُطِبَ له على مَنابرِ العِراقِ والعَجَمِ وخُراسان، ودانَت له الأُمَمُ، وأَحَبَّتْهُ الرَّعايا، ولا سيما لمَّا هَزَمَ العَدُوَّ، طاغِيةَ الرُّومِ أرمانوس في مَعركةِ ملازكرد سَنةَ 463هـ, وقَنعَ من الرَّعِيَّةِ بالخَراجِ في قِسطَينِ، رِفْقًا بهم, وكان كَثيرَ الصَّدَقاتِ، يَتَفقَّد الفُقراءَ في كلِّ رَمضانَ بأَربعةِ آلافِ دِينارٍ ببَلخ، ومَرو، وهراة، ونيسابور، ويَتَصدَّق بحَضرَتِه بعشرةِ آلافِ دِينارٍ. كَتبَ إليه بَعضُ السُّعاةِ في نِظامِ المُلْكِ وَزيرِهِ، وذَكَرَ مالَه في مَمالِكِه فاستَدعاهُ فقال له: خُذْ إن كان هذا صَحيحًا فهَذِّبْ أَخلاقَك وأَصلِح أَحوالَك، وإن كَذَبَ فاغْفِر له زَلَّتَهُ. وكان شديدَ الحِرصِ على حِفْظِ مالِ الرَّعايا، بَلَغَهُ أنَّ غُلامًا من غِلمانِه أَخذَ إِزارًا لبَعضِ أَصحابِه فصَلَبَهُ فارتَدعَ سائرُ المَماليكِ به خَوفًا من سَطوتِه. في أَوَّلِ سَنةِ 465هـ قَصدَ السُّلطانُ ألب أرسلان، ما وَراءَ النَّهرِ، وصاحبُه شَمسُ المُلْكِ تكين، فعَقدَ على جيحون جِسْرًا وعَبرَ عليه في نَيِّفٍ وعِشرينَ يومًا، وعَسكرُه يَزيدُ على مائتي ألف فارسٍ، فأَتاهُ أَصحابُه بمُسْتَحْفِظِ قَلعَةٍ يُعرفُ بيُوسُف الخوارزمي، في سادس شهرِ رَبيعٍ الأوَّل، وحُمِلَ إلى قُرْبِ سَريرِه مع غُلامَينِ، فقال له يُوسفُ: يا مُخَنَّث! مِثلي يُقتَل هذه القِتلَة؟ فغَضِبَ السُّلطانُ ألب أرسلان، وأَخذَ القَوْسَ والنِّشابَ، وقال للغُلامَينِ: خَلِّيَاهُ! ورَماهُ بِسَهمٍ فأَخطَأهُ، ولم يكُن يُخطِئ سَهمَه، فوَثبَ يُوسفُ يُريدُه، والسُّلطانُ على سُدَّةٍ، فلمَّا رأى يُوسفَ يَقصِدُه قام عن السُّدَّةِ ونَزلَ عنها، فعَثَرَ، فوَقعَ على وَجهِه، فبَرَكَ عليه يُوسفُ وضَربَهُ بسِكِّينٍ كانت معه في خاصِرَتِه، وكان سعدُ الدَّولةِ واقِفًا، فجَرَحَهُ يُوسفُ أيضًا جِراحاتٍ، ونَهضَ ألب أرسلان فدَخَل إلى خَيمةٍ أُخرَى، وضَرَبَ بَعضُ الفَرَّاشِين يُوسفَ بِمِرْزَبَّةٍ على رَأسِه، فقَتَلَه وقَطَّعَهُ الأتراكُ، ولمَّا جُرِحَ السُّلطانُ قال: ما مِن وَجهٍ قَصدتُه، وعَدُوٍّ أَردتُه، إلَّا استَعنتُ بالله عليه، ولمَّا كان أَمسُ صَعدتُ على تَلٍّ، فارتَجَّت الأرضُ تحتي مِن عِظَمِ الجَيشِ وكَثرَةِ العَسكرِ، فقلتُ في نفسي: أنا أَملِكُ الدُّنيا، وما يَقدِر أَحَدٌ عَلَيَّ، فعَجَّزَني الله تعالى بأَضعفِ خَلْقِه، وأنا أَستَغفِرُ الله تعالى، وأَستَقيلُه من ذلك الخاطرِ. فتُوفِّي عاشرَ رَبيعٍ الأوَّلِ من السَّنَةِ، فحُمِلَ إلى مَرو ودُفِنَ عند أَبيهِ. تُوفِّي عن إحدى وأربعين سَنَةً، وكانت مُدَّةُ مُلكِه منذ خُطِبَ له بالسَّلْطَنَةِ إلى أن قُتِلَ تِسعَ سِنينَ وسِتَّةَ أَشهُر وأيامًا، ولمَّا وَصلَ خَبرُ مَوتِه إلى بغداد جَلسَ الوَزيرُ فَخرُ الدَّولةِ بن جهير للعَزاءِ به في صَحنِ السَّلامِ. تَركَ ألب أرسلان من الأولادِ ملكشاه، وإياز، ونكشر, وبوري برس, وأرسلان، وأرغو، وسارة، وعائشة، وبِنتًا أُخرى, وتَولَّى بعده ابنُه ملكشاه.
لَمَّا قَتَل بدر الدين بيدرا السلطانَ الأشرفَ بن قلاوون عاد بمن معه من الأمراء، ونزل بالدهليزِ وجلس في دست السلطة، وقام الأمراءُ فقَبَّلوا الأرضَ بين يديه وحلفوا له، وتلقَّب بالملك الأوحد وقيل المعظَّم، وقيل المَلِك القاهر، ثمَّ قبض بيدرا على الأميرِ بيسري والأميرِ بكتمر السلاح دار أمير جاندار، وقصد قتْلَهما ثم تركهما تحت الاحتياطِ لشفاعةِ الأمراء فيهما، وركب إلى الطرانة فبات بها وقد سار الأمراءُ والمماليكُ السلطانية ومعهم الأميرُ برغلي، وهم الذين كانوا بالدهليز والوطاق، ورَكِبوا في آثار بيدرا ومَن معه يريدون القبضَ عليه، فبلغ الأميرَ كتبغا ومن معه مقتلُ السلطانِ وسَلطنة بيدرا، فلَحِقَ بمن معه الأميرُ برغلي ومن معه من الأمراء والمماليك، وجدُّوا بأجمَعِهم في طلب بيدرا ومَن معه، وساقوا في تلك الليلة إلى الطرانة وقد لحِقَ بيدرا بسيف الدين أبي بكر بن الجمقدار نائبِ أمير جاندار، والأمير صارم الدين الفخري، والأمير ركن الدين بيبرس أمير جاندار، ومعهم الزردخاناه- خزينة الأسلحة- عند المساءِ من يوم السبت الذي قُتِلَ فيه السلطان الأشرف، فعندما أدركهم تقَدَّم إليه بيبرس أمير جاندار وقال له: يا خوند، هذا الذي فعلته كان بمشورة الأمراء؟ فقال: نعم، أنا قتلتُه بمشورتهم وحضورِهم، وهاهم كلهم حاضرون، ثم شرع يعَدِّدُ مساوئَ الأشرف ومخازيَه واستهتارَه بالأمراء ومماليكِ أبيه، وإهماله لأمور المسلمين، ووزارته ابن السلعوس، ونفور الأمراء منه لمَسكِه عز الدين الأفرم، وقتل سنقر الأشقر وطقصوا وغيره، وتأميره مماليكَه، وقِلَّة دينه وشُربه الخمرَ في شهر رمضان، وفِسْقه بالمردان، ثمَّ سأل بيدرا عن الأمير كتبغا فلم يَرَه، فقيل له: هل كان عند كتبغا من هذه القضية عِلمٌ؟ قال: نعم، هو أول من أشار بها، فلما كان يوم الأحد ثاني يومٍ من قَتْلِ الأشرفِ وافى الأميرُ كتبغا في طلبٍ كبيرٍ من المماليك السلطانية عِدَّتُه نحو الألفي فارس، وجماعة من الحلقة والعسكر ومعهم الأمير حسام الدين لاجين الأستادار الطرانة وبها بيدرا يريدون قتالَه، وميز كتبغا أصحابَه بعلائِمَ حتى يُعرَفوا من جماعة بيدرا، وهم أنَّهم جعلوا مناديلَ مِن رقابِهم إلى تحت آباطِهم فأطلق بيدرا حينئذ الأميرينِ بيسري وبكتمر السلاح دار، ليكونا عونًا له فكانا عونًا عليه، ورتَّبَ كتبغا جماعةً ترمي بالنشاب، وتقَدَّمَ بمن معه وحملوا على بيدرا حملةً منكرة، وقصد الأميرُ كتبغا بيدرا، وقال: يا بيدرا أين السلطان؟ ورماه بسَهمٍ وتبعه البقيَّةُ بسهامهم، فولى بيدرا بمَن معه وكتبغا في طلبِه حتى أدركه، وقُتِلَ بيدرا بعدما قُطِعَت يدُه ثمَّ كَتِفُه كما فَعَل بالأشرف، وحُمِلَت رأسُه على رمحٍ وبُعِثَ بها إلى قلعة الجبل، فطِيفَ بها القاهرة ومصر، ووُجِدَ في جيب بيدرا ورقةٌ فيها: ما يقول السادةُ الفقهاءُ في رجلٍ يَشرَبُ الخمرَ في شَهرِ رَمَضانَ، ويَفسُق بالمردان ولا يصلِّي، فهل على قاتِلِه ذَنبٌ أو لا؟ فكُتِبَ جوابُها: يُقتَلُ ولا إثمَ على قاتِلِه، وعندما انهزم بيدرا هرب لاجين وقرا سنقر، ودخلا القاهرةَ فاختفيا، وكان الذي وصل إلى قلعة الجبل بخبر مقتل السلطان الأشرف سيف الدين سنكو الدوادار، ولَمَّا بلغ الأميرَ علم الدين سنجر الشجاعي قتلُ السلطانِ، ضَمَّ الحراريقَ والمعادي وسائِرَ المراكِبِ إلى برِّ مِصرَ والقاهرة، وأمَرَ ألا يعدى بأحدٍ من الأمراء والمماليك إلا بإذنه، موصل الأمير زين الدين كتبغا ومَن معه من الأمراء والمماليك، بعد قتل بيدرا وهزيمة أصحابه، فلم يجدوا مركبًا يعدونَ به النيل، فأشار على من معه من الأمراء وهم حسام الدين لاجين الأستادار، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وسيف الدين برلغي وسيف الدين طغجي، وعز الدين طقطاي، وسيف الدين قطبة، وغيرهم أن ينزلوا في برِّ الجيزة بالخيام حتى يراسلوا الأميرَ سنجر الشجاعي، فوافقوه وضربوا الخيامَ وأقاموا بها، وبعثوا إلى الشجاعي فلم يمكِّنْهم من التعدية، وما زالت الرسل بينهم وبينه حتى وقع الاتفاقُ على إقامة المَلِك الناصِرِ محمَّد بن قلاوون، فبعَث عند ذلك الحراريقَ والمراكِبَ إليهم بالجيزة، وعدوا بأجمعهم وصاروا إلى قلعة الجبل في رابع عشر المحرم.