هو الشيخُ الفقيه محمد بن عبد العزيز بن محمد بن مانع الوهيبي التميمي النجدي. ولِدَ في مدينة عنيزة إحدى مدن القصيم سنة 1300 هـ، ولما بلغ السابعةَ أدخله والده الكتاتيبَ؛ ليتعلم بها القرآنَ، ولم يلبث والدُه أن توفِّي، فشرع في القراءةِ على عُلماء بلده، فقرأ على عمِّه الشيخ عبد الله، وعلى الشيخ صالح العثمان القاضي، ولما بلغ الثامنةَ عَشْرة من عمره سافر إلى بغداد، واتصل بالعلامة السيد محمود شكري الألوسي، فقرأ عليه وعلى ابن عمه السيد علي الألوسي، وقرأ على غيرِهما من مشاهير العلماء ببغداد، فقرأ في النحو والصرف والفقه، والفرائض والحساب، ثم توجَّه إلى مصر فأقام في الأزهر مدةً قرأ فيها على الشيخ محمد الذهبي، ثم سافر إلى دمشق الشام ولازم الشيخ جمال الدين القاسمي، وحضر دروسَ الشيخ بدر الدين محدِّث الشام، وحضر دروس العلامة الشيخ عبد الرزاق البيطار، ثم رجع إلى بغدادَ ولازم القراءةَ على العلامة محمود شكري الألوسي، فقرأ عليه كثيرًا من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وكثيرًا من الكتب والشروح والرسائل المختصرة، وفي هذه المدة دعاه بعضُ الأكابر من أهل بغداد؛ ليكونَ إمامًا له ويقرأ عليه كتبَ الحديث، فقرأ عليه بعضًا من صحيح البخاري، وجميعَ صحيح مسلم، والجزءَ الأوَّلَ مِن زاد المعاد لابن القيم، والجزءَ الأوَّلَ من مسند الإمام أحمد بن حنبل، والموطَّأ للإمام مالك، وكثيرًا من كتب التاريخ، وقرأ نزهةَ النظر للحافظ ابن حجر، ثم رجع إلى بلده مدينة عنيزة سنة 1329هـ وقرأ على قاضيها الرَّوض المُرْبِع، ثمَّ توجه إلى بلد الزبير سنة 1330هـ وقرأ على الفقيه الحنبلي المشهور في بلدة الزبير محمد العوجان في الفقه الحنبلي والفرائض والحساب، ثم دعاه مُقبل الذكير أحد تجار نجد وأعيانها -المقيمين في البحرين للتجارة- دعاه لمكافحة التنصير، وفتح له لهذا الغرض مدرسة لتعليم علوم الشريعة واللغة سنة 1330هـ، فأقام في البحرين أربعَ سنين شرح في أثنائها العقيدةَ السفارينية، ثم دعاه حاكم قطر عبد الله بن قاسم بن محمد بن ثاني، فتوجَّه إليها في شوال سنة 1334هـ فتولَّى القضاءَ والخطابة والتدريس، ورحل إليه كثيرٌ من الطلاب أخذوا عنه العلمَ في قَطَر، وأقام في قطر أربعًا وعشرين سنة تولى خلالها القضاءَ والفتيا، وتزوَّج في قطر وأنجب أبناءه الثلاثة: الشيخ عبد العزيز، وأحمد، وعبد الرحمن، وأنشأ في قَطَر أوَّلَ مدرسةٍ علمية سنة 1336هـ، واستمرَّت نحو سبعة عشر عامًا. وبَقِيَ في قَطَر إلى صَفَر سنة 1358هـ، فقَدِمَ الأحساءَ ومكث بها إلى شهر جمادى الآخرة، وفي هذه الأثناء قَدِمَ الأحساءَ معالي الوزير ابن سليمان وزير الملك عبد العزيز، فاتصل به وقابله وأشار عليه ابن سليمان أن يقابِلَ الملك عبد العزيز، فقَدِمَ عليه في مدينة الرياض فأكرمه وعيَّنه مدرسًا في الحرم المكي الشريف، فأقام في مكَّةَ واجتمع عليه كثيرٌ من طلاب العلم يقرؤون عليه في الفقه والحديث، والنحو والفرائض، منهم الشيخ عبد العزيز بن رشيد رئيس هيئة التمييز بنجد، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف الباهلي، والشيخ البصيلي، والشيخ ناصر بن حمد الراشد الرئيس العام لتعليم البنات، والشيخ عبد الله بن زيد بن محمود، ومن أبرز تلامذته: الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ علَّامة القصيم، وبعد قيامه بواجب التدريس بالمسجد الحرام عيَّنه الملك عبد العزيز زيادةً على ذلك رئيسًا لثلاث هيئات: هيئة تمييز القضايا، وهيئة الأمر بالمعروف، وهيئة الوعظ والإرشاد. وقام بهذه الأعمال إلى جانب قيامِه بالتدريس في المسجد الحرام بعد صلاتَي الفجر والمغرب، وفي عام 1364هـ عيَّنه الملكُ مديرًا للمعارف، وفي سنة 1366هـ أسند إليه رئاسةَ دار التوحيد، ولما شُكِّلت وزارةُ المعارف سنة 1373هـ وعُيِّن الأمير فهد بن عبد العزيز وزيرًا لها نُقِلَ الشيخ ابن مانع مستشارًا برتبة وكيل وزارة إلى عام 1377ه،ـ حيث طلبه حاكِمُ قطر، ولازم الشيخ علي بن الشيخ عبد الله بن قاسم بن ثاني إلى أن توفي رحمه الله ببيروت على إثر عملية جراحية أُجريت له، ونُقِل جثمانه إلى قَطَر ودُفِن بها، وخَلَّف ثلاثة أبناء: عبد العزيز، وأحمد، وعبد الرحمن, ومكتبةً كبيرة حافلة بنوادر الكتب، ومؤلفات كثيرة، منها: ((إقامة الدليل والبرهان بتحريم الإجارة على قراءة القرآن))، و ((تحديث النظر في أخبار الإمام المهدي المنتظر))، و ((إرشاد الطلاب إلى فضيلة العلم والعمل والآداب))، و ((الأجوبة الحميدة: رسالة تتعلق بالتوحيد))، و ((حاشية على دليل الطالب))، و ((سبل الهدى شرح قطر الندى))، وله ((الكواكب الدرية شرح الدرة المضيئة))، و ((القول السديد فيما يجب لله على العبيد)).
أمَرَ الملِكُ عبد العزيز بوضعِ نظامٍ لتولية العرش مِن بعدِه، فانعقد مجلِسَا الوكلاء والشورى، وأبرمَا قرارًا في 16 محرم 1352هـ الموافق 11/ 5 / 1933م بمبايعةِ كبير أبنائه الأمير سعود وليًّا للعهد،ثم أبرق الملِكُ على الأثرِ إلى سعود برقيةً جاء فيه: " تفهَمُ أنَّنا نحن والناس جميعًا ما نُعِز أحدًا ولا نذِلُّ أحدًا، وإنما المعِزُّ والمذِلُّ اللهُ هو سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا، ومن اغتَرَّ بغيره عياذَ اللهِ وقع وهلك، موقِفُك اليومَ غيرُ موقفك بالأمس؛ ينبغي أن تعقِدَ نيَّتَك على ثلاثةِ أمور: أولًا/ نية صالحة، وعزمٌ على أن تكونَ حياتُك وديدنك إعلاءَ كلمة التوحيد، ونصر دين الله، وينبغي أن تتَّخِذَ لنفسِك أوقاتًا خاصة لعبادة الله والتضَرُّع بين يديه في أوقات فراغك. تعبَّدْ إلى الله في الرخاء تجِدْه في الشدة، وعليك بالحرصِ على الأمر بالمعروف، والنهيِ عن المنكر، وأن يكون ذلك كلُّه على برهانٍ وبصيرة في الأمر، وصِدقٍ في العزيمة، ولا يصلُحُ مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدقُ، وإلا العَمَلُ الخفيُّ الذي بين المرء وربه. ثانيًا/ عليك أن تجِدَّ وتجتهِدَ في النظر في شؤون الذين سيولِّيك الله أمْرَهم بالنصحِ سرًّا وعلانيةً، والعدلِ في المحبِّ والمُبغَض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطنًا وظاهرًا، وينبغي ألَّا تأخُذَك في الله لومة لائم. ثالثًا/ عليك أن تنظُرَ في أمر المسلمين عامةً، وفي أمر أسرتِك خاصةً، اجعل كبيرَهم والدًا، ومتوسِّطَهم أخًا، وصغيرهم ولدًا، وهنْ نفسَك لرضاهم، وامحُ زلَّتَهم، وأقِل عَثرتَهم، وانصح لهم، واقضِ لوازِمَهم بقدر إمكانك، فإذا فهمت وصيتي هذه، ولازمت الصدق والإخلاص في العمل؛ فأبشر بالخير، وأوصيك بعلماء المسلمين خيرًا. احرص على توقيرِهم ومجالستِهم، وأخذِ نصيحتِهم. واحرِصْ على تعليم العِلمِ؛ لأنَّ الناس ليسوا بشيءٍ إلَّا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة. احفَظِ الله يحفظك. هذه مقدمة نصيحتي إليك، والباقي يصلك إن شاء الله في غير هذا".
هو حُسين بن طلال بن عبد الله بن الحسين، ثالثُ ملوك الأُردُنِّ، ينتهي نسبُه لآل البيت من الفرع الحَسَني، وُلد بعَمَّان سنةَ 1935م، وتلقَّى علومَه الأُولى بها، ثم انتقل للدراسة بكلية فكتوريا بالإسكندرية، ثم انتقلَ لإنجلترا، والتحق بكلية سانت هيرست العسكرية سنةَ 1950، وكان بصُحبة جَدِّه الملك عبد الله لحظةَ اغتياله سنةَ 1951م، وأُصيب في الحادث إصابةً طفيفةً، وبعد تنصيب أبيه طلال على عرش الأُردُنِّ بأيامٍ قليلةٍ قرَّرَ مجلس الأعيان عزلَه لعدم الصلاحية، وتمَّ انتخاب حُسين بن طلال ملكًا على الأُردُنِّ، وذلك تحت مجلس وصاية حتى يبلُغَ السنَّ القانونية «18سنة»، وأخذ الملك حُسين في تكريس نفوذه داخلَ الأُردُنِّ، فعزلَ الجنرال «جلوب» الإنجليزي عن قيادة الجيش الأُردُنِّيِّ سنةَ 1955م، ثم أنهى الانتدابَ البريطانيَّ سنةَ 1957م، ولكنْ ظلَّ على علاقةٍ وثيقةٍ ومتينةٍ جدًّا مع الإنجليز، ثم حاول إنشاءَ اتحاد عربي هاشمي مع ابن عمِّه ملكِ العراق فَيْصل الثاني، ولكنَّ هذا الاتحاد فشِلَ بسبب قيام الجمهورية في العراق، وبعد هزيمة 67 اقترحَ الملك حُسين أولَ مشروع للسلام معَ إسرائيلَ، ولكنَّه قوبِلَ بالرفض من اليهودِ والفِلَسْطينيين على حدِّ السواء، شارك الملك حُسين في كل مؤتمرات السلامِ التي عقَدَها العربُ معَ اليهودِ، وقد وقَّعَ معَ اليهود اتفاقَ وادي عربة سنةَ 1994م، وبموجِبِه أقامت الأُردُنُّ علاقاتٍ كاملةً مع إسرائيلَ، وكان الملك حُسين على عَلاقة متينة معَ الغربِ، وقد أُصيب بالسرطان سنةَ 1992م، وظلَّ يُعالَجُ لمُدَّة طويلةٍ، وقبلَ وَفاته بأيام عاد للأُردُنِّ من الخارج، وعزَلَ أخاه الأميرَ الحسنَ عن ولايةِ العهدِ، وعيَّنَ وَلَدَه عبدَ الله بدلًا منه، ثم مات في 21 شوال 1419هـ ـ 7 فبراير 1999م. وإثْرَ وَفاة الملك حُسين بن طلال، نُصِّبَ الأميرُ عبدُ لله بن حُسين ملكًا دستوريًّا، وعُيِّنَ الأميرُ حمزةُ بن حُسين وليًّا للعهد.
تولى خير الدين التونسي منصِبَ رئاسة الوزراء في الدولةِ العثمانيةِ. ولد خير الدين في القفقاس لعائلةِ تليش الأباظية الشركسية، حوالي عام 1820م. تعهَّده والي تونس الداي أحمد، وهيأ له فُرَصَ الاستزادة من العلوم، فأكَبَّ على دراسة الفنون العسكرية والسياسية، والتاريخ والعلوم الشرعية، وأتقن اللغاتِ العربيةَ والتركية والفرنسية. أصبح رئيسًا لمكتب العلوم الحربية بباردو عام 1840م، ثم أصبح رئيسًا لفرقة الفرسان في الجيش التونسي. وعيِّن مديرًا لِمَصرف الدراهم التونسي. وفي عام 1849م رقِّيَ إلى رتبة ومنصب أمير لواء الخيالة في تونس، وفي عام 1855م أنعَمَ عليه الباي المشير محمد باشا برتبة الفريق؛ لإنقاذه تونس من قرضٍ مالي ثقيل كاد الباي السابق أن يندفِعَ إليه. ثم عيَّنه وزيرًا للبحرية عام 1857م حيث أجرى عدَّةَ إصلاحات إدارية. وساهم في صياغةِ وإصدار قانون (عهد الأمان) التونسي عام 1857م. وشارك في وضع الدستور التونسي عام 1860م. وعند إنشاءِ مجلس الشورى التونسي المنتَخَب كان خير الدين باشا الرئيس الفعليَّ للمجلس من عام 1861م. اصطدم مع سياسة الباي الجديد محمد الصادق فقَدَّم استقالتَه من الوزارة ومِن رئاسة مجلس الشورى عام 1862م وفَرَض على نفسه العزلةَ السياسية لمدة تسع سنوات بين عامي 1862م و1869م. وكان من نتائج عزلته تلك تأليفُه الكتاب الشهير الذي أسماه ((أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)) والذي تمَّ طبعُه في تونس عام 1867 م. بعد ذلك شارك مندوبًا عن تونس في اللجنة المالية المختلطة المشكَّلة لتحصيل ديون الدُّول الأوروبية من تونس، فاستطاع الحدَّ من نفوذ اللجنة وتدخُّلِها في شؤون الدولة. وفي أكتوبر 1873م عيِّنَ وزيرًا أكبر لتونس (أي رئيسًا للوزراء) فسَنَحَت له فرصةُ تحقيق برامجه الإصلاحية التي طرحَها في كتابه (أقوم المسالك) واستطاع نقل تونس من حالة الكرب والضيق والفوضى إلى حالةٍ مِن الأمنِ والرخاء والنظام. وتصدى بحزمٍ للمطامع الأجنبية في بلادِه، وخاصة المطامح الفرنسية والإيطالية المتنافسة. ولكِنَّه فوجئ بمعاتبة الباي له وغضبه من سياسته في التحمُّسِ لإعانة الدولة العثمانية في حَربِها ضِدَّ روسيا، فقَدَّم استقالته من رئاسة الوزارة في يوليو1877م. وبعد استقالته ضَيَّق عليه الباي الخناقَ ومنعه من الاتصال بالناس، فكان معتقلًا في منزله. وقد سافر للعلاجِ ثم عاد إلى تونس وظَلَّ شِبهَ مُعتَقَل حتى استدعاه السلطانُ العثماني عبد الحميد الثاني فسافر إلى الأستانة في رمضان 1877م حيث استقبله السلطانُ وعَيَّنه وزير دولة بعد رفضِه منصب وزير العدل. ولكِنَّه فوجئ في صباح يوم 4 ديسمبر 1878م بتعيينه رئيسًا لوزراء الدولة العثمانية. وكانت الدولةُ العثمانية وقتَها في ضيقٍ وحَرَجٍ كبير؛ فالجيش الروسي يقِفُ على عتبات العاصمة استانبول، والأسطول البريطاني في مضيق البوسفور، والاقتصادُ متدهور، وهناك المشكلةُ الأرمينية، ومشاكِلُ في قبرص والبوسنة! فسارع خير الدين باشا إلى عقد اتِّفاقٍ مع الروسِ يضمَنُ مصالح المسلمين في بلغاريا وروملي الشرقية،كما انسحب الأسطولُ البريطاني مِن مَضيقِ البوسفور، وسَوَّى الخلافات مع النمسا، وحُلَّت مشكلة الأرمن، واستبدل بالخديويِّ إسماعيل ابنَه توفيقًا في مصر. وقد اختلف كثيرًا مع السلطان عبد الحميد الثاني ورجالِ حاشيته إبَّانَ توليه رئاسة الوزراء، فكان أن عُزِلَ مِن منصبه في شعبان 1296 هـ ( 1879 م) وعاش بعدها بعيدًا عن السياسة حتى توفِّي بعد عشر سنوات في الأستانة عام 1889م ودفِنَ في جامع أيوب، إلا أن الحكومة التونسية بادرت في عام 1968م إلى نقل رُفاته ودفنه في تونس تقديرًا لخِدماتِه، وقد أطلق عليه الشَّعبُ التونسي لقب ((أبو النهضة التونسية)).
هو أحمدُ بنُ أبي دُؤادَ بنِ جَريرٍ الإياديُّ، القاضي البَصريُّ، ثُمَّ البغداديُّ، الجَهْميُّ، وليَ قضاءَ القُضاةِ للمُعتَصِمِ والواثِقِ وبَعضِ أيَّامِ المتوكِّلِ . وُلِد سنةَ ستينَ ومائةٍ، وكان أبوه تاجرًا يَفِدُ إلى الشام، ثم وفد إلى العراق وأخذ ولَدَه هذا معه إلى العراق، فارتحل للبصرةِ، واتصل ابن أبي دؤاد بأصحاب واصلِ بنِ عطاء، وعنهم أخذ مذهَبَ الاعتزالِ، ثم اتَّصلَ بالمأمونِ فكان قاضيَ القُضاةِ، وتوفِّيَ سنةَ أربعينَ ومائتينِ، عن ثمانين سنةً ودُفِن بدارِه ببغدادَ، عامَلَه اللهُ بما يستَحِقُّ. وكان شاعرًا مُجيدًا، فصيحًا بليغًا، إلَّا أنَّه كان داعيةً إلى خَلقِ القُرآنِ. وقد كان يومَ المحنةِ مُؤَلِّبًا على أحمدَ بنِ حَنبَلٍ، وسببًا في شِدَّةِ تعذيبِه، وكان يقولُ: (يا أميرَ المؤمِنينَ، اقتُلْه، هو ضالٌّ مُضِلٌّ!) .قال ابنُ عساكِرَ: (وليَ ابنُ أبي دُؤادَ قضاءَ القُضاةِ للمُعتَصِمِ ثُمَّ للواثِقِ، وكان موصوفًا بالجودِ والسَّخاءِ، وحُسنِ الخُلُقِ ووُفورِ الأدَبِ، غيرَ أنَّه أعلَن بمَذهَبِ الجَهْميَّةِ، وحَمَل السُّلطانَ على امتحانِ النَّاسِ بخَلقِ القُرآنِ) .وحكى عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارميُّ دورَ ابنِ أبي دُؤادَ في إشعالِ فِتنةِ خَلقِ القُرآنِ، فقال: (أكرَهوا النَّاسَ عليه بالسُّيوفِ والسِّياطِ، فلم تَزَلِ الجَهْميَّةُ سنواتٍ يركَبونَ فيها أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ بقُوَّةِ ابنِ أبي دُؤادَ المحادِّ للهِ ولرَسولِه، حتى استُخلِف المتوكِّلُ -رحمةُ اللهِ عليه- فطمَس اللهُ به آثارَهم، وقَمَع به أنصارَهم، حتى استقام أكثَرُ النَّاسِ على السُّنَّةِ الأُولى، والمنهاجِ الأوَّلِ) .
هو الفقيهُ الشافعي الكبير أحمد بن عمر بن سُريج كان من عُظَماءِ الشَّافعيَّة، وأئمة المسلمين، وكان يقال له: "البازُ الأشهب"، ولي القضاءَ بشيراز، وكان يَفضُل على جميعِ أصحاب الإمام الشافعي، حتى على المُزَني، وإنَّ فِهرست كتُبِه تشتمل على أربعمائة مصنَّف، وقام بنُصرة مذهب الشافعي والرد على المخالفين، وفرَّع على كتُبِ محمد بن الحسن الحنفي. وقد عُدَّ من الفُقَهاءِ الذين أسهموا في نشرِ المذهب الشافعي في أكثرِ الآفاق، وله مؤلَّفاتٌ كثيرة لم يَصِلْ إلينا منها شيءٌ. تفَقَّه على يدِه أئمة أعلام، وحدَّث عنه أبو القاسم الطبراني، وأبو أحمد الغطريفي، وأبو الوليد حسان بن محمد، وآخرون. وكان يُقال له في عصره: "إنَّ الله بعثَ عُمَرَ بنَ عبد العزيز على رأسِ المائة من الهجرة، أظهر كُلَّ سُنَّة وأمات كلَّ بِدعة، ومَنَّ الله تعالى على رأس المائتينِ بالإمام الشافعي حتى أظهر السنَّة وأخفى البدعةَ، ومَنَّ الله تعالى بك على رأسِ الثلاثمائة حتى قَوِيَت كلُّ سُنَّة وضَعُفَت كلُّ بدعةٍ". قال الذهبي: " كان أبو العباس على مذهب السَّلَفِ، يؤمنُ بها ولا يُؤَوِّلها، ويُمِرُّها كما جاءت. وهو صاحب مسألة الدَّور في الحلف بالطلاق" قال الدارقطني: "كان فاضلًا لولا ما أحدَثَ في الإسلامِ مِن مسألةِ الدَّورِ في الطلاق" _ وتعني قولَ الرجل لامرأته: "إن وقعَ عليك طلاقي فأنت طالِقٌ قبله ثلاثًا"- وكان له مع فضائِلِه نظمٌ حَسَنٌ. توفي ببغداد، ودُفِنَ في حجرته بسويقة غالبٍ بالجانب الغربي بالقُرب من محلة الكرخ، وعمره سبع وخمسون سنة وستة أشهُر.
الكاتِبُ المَشهورُ صاحِبُ الخَطِّ المنسوبِ أبو الحَسَنِ عليُّ بنُ هلالٍ البَغداديُّ، المعروف بابنِ البَوَّاب؛ ويقال له "ابن الستري" أيضًا؛ لأنَّ أباه كان بوَّابًا، والبَوَّاب ملازِمٌ سِترَ البابِ، فلهذا نُسِبَ إليهما. كان شَيخُه في الكتابةِ ابنَ أسَدٍ الكاتِبَ المَشهورَ، وهو أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بنُ أسدِ بنِ عليِّ بنِ سَعيدٍ القارئ الكاتب البزَّاز البغدادي. قال ابن كثيرٍ: "وقد أثنى على ابنِ البوَّابِ غَيرُ واحد في دينِه وأمانته، وأمَّا خَطُّه وطريقتُه، فهي أشهرُ مِن أن نُنَبِّهَ عليها، وخَطُّه أوضَحُ تعريبًا من خط الوزيرِ أبي عليِّ بنِ مُقلةَ الكاتبِ المَشهورِ، ولم يكُنْ بعدَ ابنِ مُقلةَ أكتَبُ منه، وعلى طريقتِه النَّاسُ اليومَ في سائِرِ الأقاليمِ إلَّا القَليلَ". قال ابنُ خَلِّكانَ: "لم يوجَدْ في المتقَدِّمينَ ولا المتأخِّرينَ مَن كَتَبَ مِثلَه ولا قارَبَه، وإن كان أبو عليٍّ ابنُ مُقلةَ الوزيرُ أوَّلَ مَن نَقَل هذه الطريقةَ مِن خَطِّ الكوفيِّينَ، وأبرَزَها في هذه الصُّورةِ، وله بذلك فضيلةُ السَّبقِ، وخَطُّه أيضًا في نهايةِ الحُسنِ، لكِنَّ ابنَ البوَّابِ هَذَّبَ طريقةَ ابنِ مُقلةَ ونَقَّحَها وكَساها طلاوةً وبَهجةً. والكُلُّ مُعتَرِفٌ لابنِ البوَّابِ بالتفَرُّد، وعلى منوالِه يَنسجونَ، وليس فيهم من يَلحَقُ شَأوَه ولا يَدَّعي ذلك، مع أنَّ في الخَلقِ مَن يدَّعي ما ليس فيه، ومع هذا فما رأَينا ولا سَمِعْنا أنَّ أحدًا ادَّعى ذلك، بل الجميعُ أقَرُّوا له بالسَّابقةِ وعَدَمِ المشاركة". توفِّي ابنُ البوَّاب ببغداد، ودُفِنَ جوارَ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ.
الفَقيهُ الشافعيُّ أبو القاسمِ عبدُ الكَريمِ بنُ هوازن القُشيريُّ، النَّيسابوريُّ، مُصَنِّفُ ((الرِّسالة القُشيريَّة)) المشهورة وغيرَها، كان عَلَّامةً في الفِقْهِ والتَّفسيرِ والحَديثِ والأُصولِ والكِتابَةِ والأَدبِ والشِّعْرِ وعِلْمِ التَّصَوُّفِ، جَمعَ بين الشَّريعَةِ والحَقيقَةِ، أَصلُه من ناحِيَةِ أستوا من العَربِ الذين قَدِموا خُراسان، وُلِدَ في شَهرِ رَبيعٍ الأَوَّلِ سَنةَ 376هـ. تُوفِّي أَبوهُ وهو صَغيرٌ، فَقرأَ واشتَغلَ بالأَدبِ والعَربيَّةِ في صِباهُ، وكان أَوَّلًا من أَبناءِ الدُّنيا، فجَذَبَهُ أبو عليٍّ الدَّقَّاقُ فصارَ من الصُّوفِيَّةِ, وتَفَقَّه على بكرِ بنِ محمدٍ الطُّوسيِّ، وأَخذَ الكَلامَ عن ابنِ فورك، وصَنَّفَ ((التَّفسير الكَبير)) و((لَطائِف الإشارات))، وكان يَعِظُ ويَتَكلَّم بكَلامِ الصُّوفيَّةِ, وبعدَ وَفاةِ أبي عليٍّ الدَّقَّاقِ سَلَكَ مَسلَكَ المُجاهَدَةِ والتَّجريدِ وأَخذَ في التَّصنيفِ، وخَرجَ إلى الحَجِّ في رُفقَةٍ فيها الشيخُ أبو محمدٍ الجوينيُّ والدُ إمامِ الحَرمَينِ، وأَحمدُ بنُ الحُسينِ البيهقيُّ وجَماعةٌ من المَشاهيرِ، فسَمِعَ معهم الحَديثَ ببغدادَ والحِجازِ, وكان له في الفُروسِيَّةِ واستِعمالِ السِّلاحِ يَدٌ بَيضاءُ، وأمَّا مَجالِسُ الوَعْظِ والتَّذكيرِ فهو إمامُها، وعَقَدَ لِنَفسِه مَجلِسَ الإملاءِ في الحَديثِ. ذَكَرَهُ الخَطيبُ في تاريخِه قال: "قَدِمَ علينا في سَنةِ 448هـ، وحَدَّثَ ببغداد، وكَتَبنا عنه، وكان ثِقَةً، وكان يَقُصُّ، وكان حَسَنَ المَوعِظَةِ، مَلِيحَ الإشارةِ، وكان يَعرِف الأُصولَ على مَذهبِ الأَشعريِّ، والفُروعَ على مَذهبِ الشافعيِّ" وتُوفِّيَ صَبيحةَ يومِ الأحدِ قبلَ طُلوعِ الشمسِ سادس عشر ربيعٍ الآخر سَنةَ 465هـ بمَدينةِ نَيسابور، عن 89 عامًا, ودُفِنَ بالمدرسةِ تحت شَيخِه أبي عليٍّ الدَّقَّاقِ.
هو الأميرُ شِهابُ الدين، أبو الفوارِسِ سَعدُ بن محمد بن سعد بن صيفي التميمي الأديب الفقيه الشافعي، المعروف بالحيص بيص, ومعنى الحيص بيص: الشِّدَّةُ والاختلاطُ, قيل: إنَّه رأى الناسَ في شدَّة وحركةٍ، فقال: ما للنَّاسِ في حيصَ بَيصَ؟ فلزِمَه ذلك. وكان من فضلاءِ العالَم. كان قد سمع الحديثَ، ومدح الخلفاءَ والسلاطين والأكابر، وشِعرُه مشهورٌ، وله (ديوان) وترَسُّل. كان فصيحًا حسَن الشعر, بليغًا وافِرَ الأدَبِ، عظيمَ المنزلةِ في الدولتين العباسيَّة والسلجوقية. كان بديعَ المعاني، مليحَ الرسائِلِ، ذا خبرةٍ تامةٍ باللغة والبلاغة والأدب، وله يدٌ في المناظرة, وكان يناظِرُ على رأي الجمهور. كان لا يخاطِبُ أحدًا إلا بالكلام العربي. تفقَّه في مذهب الشافعي بالريِّ، وتكلَّم في مسائل الخلاف. ذكره ابن السمعاني في «ذيله» فقال: "له باعٌ في اللغة، وحِفظٌ كثيرٌ للشعرِ، وكان إمامًا في الرأي، حَسَن العقيدة". قال عبد الباقي بن زريق الحلبي الزاهد: "رأيتُه واجتمعتُ به، فكان صدرًا في كل علم، عظيمَ النفس، حسَنَ الشارة، يركَبُ الخيل العربية الأصيلة، ويتقلَّدُ بسيفين، ويحمِلُ حلقة الرمح، ويأخذ نفسَه بمآخِذِ الأمراء، ويتبادى في لفظِه، ويعقِدُ القاف, وكان أفصَحَ مَن رأيت". قال ابن كثير: "لم يكُنْ له في المراسلات بديلٌ، كان يتقعَّرُ فيها ويتفاصح جدًّا، فلا تواتيه إلا وهي مُعجرفة، وكان يزعم أنه من بني تميم، فسُئِل أبوه عن ذلك فقال ما سمعتُه إلَّا منه". توفي يوم الثلاثاء خامس شهر شعبان من هذه السنة، وله ثنتان وثمانون سنة، وصلِّي عليه بالنظامية، ودُفن بباب التبن، ولم يُعْقِب.
هو الشاعِرُ الكبير رئيسُ الشعراء، أبو الفتحِ مُحمَّدُ بنُ عبيد الله نشتكين بن عبد الله. الكاتِبُ المعروف بسبط ابن التعاويذي، الشاعِرُ المشهور، كان والده عبيدُ الله من غلمان بني المظفر، وكان اسمُه نشتكين فسَمَّاه ابنه أبو الفتح عبيد الله, وهو سبط أبي محمد المبارك بن علي بن نصر السراج الجوهري الزاهد المعروف بابن التعاويذي- نسبة إلى كتابته التعاويذ وهي الحروز- وإنما نُسِبَ إلى جَدِّه؛ لأنه كفله صغيرًا، ونشأ في حجره فنسب إليه. كانت ولادة أبي الفتح في العاشر من رجب يوم الجمعة سنة 519, وهو أحدُ فحول شعراء العربية، وشاعِرُ العراق في عصره. ومن أهل بغداد، وقد وُلِدَ وتوفِّيَ فيها. وَلِيَ بها الكتابةَ في ديوان المقاطعات. اشتهر بالمديح وبرع فيه. قال ابن خلكان: "كان أبو الفتح شاعر وقته، لم يكُنْ فيه مثلُه، جمع شِعرُه بين جزالة الألفاظ وعذوبتِها، ورِقَّة المعاني ودقَّتها، وهو في غاية الحُسنِ والحلاوة، وفيما أعتَقِدُ لم يكن قبله بمائتين سنة من يضاهيه، ولا يؤاخِذُني من يقف على هذا الفَصلِ؛ فإن ذلك يختَلِفُ بميل الطباع، ولله القائلُ: وللنَّاسِ فيما يَعشَقونَ مذاهِبُ" عمِيَ أبو الفتح في آخر عمره سنة 579، وله في عماه أشعارٌ كثيرة يرثي بها زمان شبابه، وكان قد جمع ديوان شعره بنفسه، ورتَّبه على أربعة فصول قبل العمى، وعَمِلَ له خطبة طريفة. توفي في ثاني شوال سنة أربع، وقيل ثلاث وثمانين وخمسمائة ببغداد، ودُفِنَ في باب أبرز ببغداد عاش خمسًا وستين سنة.
هو الشَّيخُ العالمُ المعَمَّر، مُسنِدُ الديار المصرية، أمين الدين: أبو القاسم سيد الأهل هبة الله بن علي بن سعود بن ثابت بن هاشم بن غالب الأنصاري، الخزرجي، المنستيري الأصل، المصري المولِد والدار، المعروف بالبوصيري، الكاتب الأديب. كانت ولادته سنة 506 بمصر، وقيل: بل ولد يوم الخميس خامس ذي القعدة سنة 500, وله سماعاتٌ عاليةٌ وروايات تفَرَّد بها وألحَقَ الأصاغِرَ بالأكابرِ في علُوِّ الإسناد، ولم يكنْ في آخر عصره في درجتِه مِثلُه، وعاش اثنتين وتسعين سنة. وكان مُسنِدَ دِيارِ مِصرَ في وقتِه، سمع مع السِّلَفي، وبقراءته من أبي صادق المديني، وأبي عبد الله محمد بن بركات السعيدي، وأبي الحسن علي بن الحسين الفراء، وسلطان بن إبراهيم، والخفرة بنت مبشر بن فاتك، وغيرهم. وانفرد بالسَّماع منهم. وأجاز له أبو الحسن الفرَّاء، وابن الخطَّاب الرازي، وقد سمع منهما، وسمع من أبي طاهر السِّلَفي, وحدَّث بمصر والإسكندرية، ورحل إليه المحدِّثون، وقُصد من البلاد. فسمع عليه النَّاسُ وأكثروا، وكان جده مسعود قَدِمَ من المنستير إلى بوصير، فأقام بها إلى أن عُرِفَ فَضلُه في دولةِ المصريِّينَ، فطُلِبَ إلى مصر، وكُتِبَ في ديوان الإنشاء، ووُلِدَ له علي والد أبي القاسم بمصر، واستقَرُّوا بها وشُهِروا. وكان أبو القاسمِ يسمى سيدَ الأهل أيضًا، لكِنَّ هبة الله أشهر، وتوفِّيَ في الليلة الثانية من صفر سنة 598، ودُفِنَ بسَفحِ المقطم. وهذا البوصيري غيرُ البوصيري صاحب البردة المتوفى سنة 697.
هو الإمام العلامة الحافظ المحقِّق شيخ الإسلام: أبو محمد زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد المنذري، الشامي الأصل، المصري، الشافعي. أصلُه من الشام وولد بمصر، وكان شيخَ الحديث بها مدةً طويلة، إليه الوِفادةُ والرحلة من سنين متطاولة، وقيل: إنه وُلِدَ بالشام في غرة شعبان، سنة 581. كان متينَ الديانة، ذا نسُك وورع وسَمت وجلالة, وسمِعَ الكثير ورحل وطلَب وعُني بهذا الشأن، حتى فاق أهلَ زَمانه فيه، قال الحافظُ الشريف عز الدين الحسيني: "درَّس شيخُنا الحافظ المنذري بالجامع الظافري، ثم وليَ مشيخةَ الدار الكامليَّة، وانقطع بها عاكفًا على العلم، وكان عديمَ النظير في علم الحديث على اختلافِ فنونه. كان ثقةً حُجَّةً متحرِّيًا زاهدًا, ثَبتًا إمامًا ورِعًا عالِمًا بصحيحِ الحديث وسقيمِه، ومعلوله وطرقه، متبحرًا في معرفة أحكامه ومعانيه ومُشكِله، قيمًا بمعرفة غريبه وإعرابه واختلافِ ألفاظه، قرأتُ عليه قطعة حسنة من حديثه، وانتفعتُ به كثيرًا". قال: الذهبي قال: شيخنا الدمياطي: "الحافظُ المنذر هو شيخي ومخرجي، أتيته مبتدئًا، وفارقته معيدًا له في الحديث" صنَّفَ وخرج، واختصر (صحيح مسلم)، و(سنن أبي داود وشرحه)، وله (كتاب الترغيب والترهيب) المشهور، وله كتاب (الجمع بين الصحيحين)، وله اليد الطولى في اللغة والفقه والتاريخ، توفي يوم السبت رابعَ ذي القعدة من هذه السنة بدار الحديث الكامليَّة بمصر، ودُفِن بالقرافة.
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة الناقِدُ في فنون العلوم: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ عماد الدين أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، من تلاميذ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ. كان مولِدُه في رجب سنة 705. توفي ولم يبلغِ الأربعين، وكان قد حَصَّل من العلومِ ما لا يَبلُغُه الشُّيوخُ الكبار، وتفَنَّنَ في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين، والتاريخ والقراءات، وله مجاميعُ وتعاليقُ مُفيدة كثيرة, وكان حافِظًا جيِّدًا لأسماءِ الرجال وطُرُقِ الحديث، عارفًا بالجَرحِ والتعديل، بصيرًا بعِلَلِ الحديث، حَسَن الفَهمِ له، جَيِّد المذاكرة، صَحيحَ الذِّهنِ مُستقيمًا على طريقةِ السَّلَفِ، واتِّباع الكِتابِ والسنَّة، مثابرًا على فِعلِ الخيرات، ومن مصنَّفاته كتاب العلل، وهو مؤلِّفُ كِتاب العقود الدريَّة في مناقب شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة، وله كتاب قواعد أصول الفقه، وفضائل الشام، والأحكام في الفقه، وغيرها كثير, وكان قد مَرِضَ قريبًا من ثلاثة أشهر بقُرحة وحُمَّى سُل، ثم تفاقم أمرُه وأفرط به إسهالٌ، وتزايد ضَعفُه إلى أن توفِّيَ يوم الأربعاء عاشرَ جمادى الأولى قبل أذانِ العصر، وكان آخِرَ كلامِه أنْ قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ الله، اللهُمَّ اجعَلْني من التوَّابينَ واجعَلْني من المتطَهِّرينَ، فصُلِّيَ عليه يومَ الخميس بالجامِعِ المظفري وحضر جنازتَه قُضاةُ البلد وأعيانُ الناس من العلماء والأمراء والتجَّار والعامة، وكانت جنازتُه حافلةً، ودُفِن بالروضة.
هو الإمام العلامة شيخ الإسلام مجتهد العصر نادرة الوقت فقيه الدنيا وخاتمة المجتهدين: سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان بن نصير بن صالح -وصالح أول من سكن بلقينة- بن شهاب بن عبد الخالق بن عبد الحق بن مسافر بن محمد الكناني البلقيني الشافعي، وُلِد في ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان 724 ببلقينة، وهي قرية في المحلة الكبرى بطنطا. حفظ القرآن وهو في السابعة من عمره. حفظ المحرر في الفقه، والكافية لابن مالك في النحو، ومختصر ابن الحاجب في الأصول، والشاطبية في القراءات. أقدمه أبوه إلى القاهرة وله اثنتا عشرة سنة، وأجاز له من دمشق الحافظ أبو الحجاج المزِّي، والحافظ الذهبي، وطلب العلم واشتغل على علماء عصره، وتفقَّه بجماعة كثيرة، وبرع في الفقه وأصوله، والعربية والتفسير، وغير ذلك، وأفتى ودرس سنين، وانفرد في أواخر عمره برئاسة مذهبه، وولي إفتاء دار العدل، ودرس بزاوية الشافعي المعروفة بالخشابية من جامع عمرو بن العاص، وولي قضاء دمشق عوضًا عن تاج الدين عبد الوهاب السُّبكي، فباشر مدة يسيرة، ثم تركه وعاد إلى مصر واستمرَّ بمصر يقرئ ويشتغل ويفتي بقية عمره، له مصنفات؛ منها: تصحيح المنهاج، ومحاسن الاصطلاح، وترجمان شعب الإيمان، وغيرها. توفي في يوم الجمعة عاشر ذي القعدة، وصُلي عليه بجامع الحاكم، ثم دُفِن بمدرسته التي أنشأها تجاه داره بحارة بهاء الدين قراقوش من القاهرة.
هو القائد أمير البحر طرغد باشا العثماني، يسمى عند النصارى درغوث، وعند العرب طرغول. من أشهر قادة البحر العثمانيين، خلَفَ خيرَ الدين في قيادة الأسطول العثماني في شمال إفريقيا، ولِدَ طرغد عام 1485م، في قرية تابعة للواء منتشة موغلة. التحق بالبحرية العثمانية كجنديٍّ بحري عاديٍّ في سن مبكرة جدًّا، ثم اندفع في شبابه إلى حياة البحر بدافع حب المغامرات، فاشتغل كملَّاح بسيط ثم مِدفَعي، ثم ذاع صيتُه، وأظهر تفوقًا ومقدرة عالية في الأعمال العسكرية البحرية، فوجَّه غزواته ناحية البحار الشرقية للبحر المتوسط ضِدَّ السفن البندقية, وسرعان ما انضمَّ إلى الأخوين عروج وخير الدين بربروسا, فخاض معارك بحرية ناجحة ضد النصارى الإسبان في البحر المتوسط. حتى أصبح الذراع الأيمن لخير الدين بربروسا أميرِ الأسطول العثماني، إلى أن خلَفَه في قيادة الأسطول بعد وفاته, وقد قام بغارةٍ كبيرة على شواطئ إسبانيا، تمكَّن خلالها من إنقاذ آلاف من الموركسيين المسلمين الغرباء في الأندلس. حاز طرغد شهرةً عظيمة في الحروب البحرية وخافت بأسَه جميعُ دول الإفرنج المعادية للدولة العثمانية، وحَفِظَ اسم البحرية العثمانية من السقوطِ بعد موت رئيسِها ومؤسِّسها خير الدين بربروسا في البحر المتوسط, وقد شارك طرغد في تعزيز الحماية العثمانية للجزائر وطرابلس الغرب من خطر الإسبان الذين يطمحون في استرجاعها والسيطرة عليها. توفي طرغد أثناء غزو جزيرة مالطة، وكان عمره حين توفي يناهز الثمانين عامًا، ودُفِن في طرابلس الليبية.