تحرَّكَ الفرنج لغزو ديار مصرَ؛ خوفًا من صلاح الدين ونور الدين محمود زنكي عندما بلغهم تمكُّنُه من ديار مصر وقطعُ آثار جند المصريين. فكاتبوا فرنجَ صقلية وغيرهم واستنجدوا بهم، فأمدوهم بالمالِ والسلاح والرجال، وساروا بالدبابات والمنجنيقات إلى دمياط، فنزلوا عليها في مستهَلِّ صفر بألف ومائة مركب، ما بين شين ومسطح وشلندي وطريدة، وأحاطوا بها برًّا وبحرًا، فأسرع صلاح الدين إلى دمياط وتحصَّنَ فيها، كما قام نور الدين محمود بالإسراع بغزو البلدانِ التي يسيطرون عليها، فحاصر الكرك، وأرسل كذلك نجدةً إلى صلاح الدين وكانت القوةُ تتحرك إثر القوة، وكان على رأسِ أحدِها والد صلاح الدين نجمُ الدين أيوب، واستمرَّ حصار الصليبيين لمدينة دمياط خمسين يومًا اضطروا بعدها لرفع الحصارِ عنها نتيجةَ الإمدادات التي كانت تصِلُ إلى دمياط من نور الدين محمود وشِدَّة مقاومة صلاح الدين، بالإضافة إلى دعم العاضد حاكم مصر الفاطمي، واستيلاء نور الدين على أجزاء من مملكة الصليبيين في بيت المقدس، ولِفَناءٍ وقع فيهم؛ وغرق من مراكبهم نحو الثلاثمائة مركب، فأحرَقوا ما ثَقُل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها، فغادروا دمياط, وتفرَّغَ صلاح الدين لتوطيد أقدامِه بمصر.
أخذت علاقة السلطان بدر أبو طويرق بالدولة العثمانية تزداد يومًا بعد يوم؛ ففي أواخر سنة 936 توقَّفت حملة القائد العثماني مصطفى بيرم المتَّجهة إلى الهند للتصدِّي للبرتغاليين في ميناء الشحر؛ بسبب رداءة الأجواء الملاحية، وعَقِبَ توقفها خرج الضابِطُ صفر سلمان إلى المدينة بعد أن استأذن من السلطان بدر أبو طويرق حاملًا معه خِلعةً وكساء قدَّمها هدية للسلطان بدر أبو طويرق نيابةً عن قائد الحملة مصطفى بيرم، وقد أحسن السلطان استقبالَهم وضيافتهم، وعند مغادرة الحملة لميناء الشحر في 4 محرم سنة 937 طلبوا من السلطان بدر أبو طويرق السماح لمركبٍ لهم قد تأخَّر في اللحاق بالحملة، ويحمِلُ نساءهم وأبناءهم بالبقاءِ في الشحر، وبوصول ذلك المركب إلى ميناء الشحر أنزل السلطان بدر أبو طويرق من فيه تحت رعايته بمدينة الشحر, ثم غادر مصطفى بيرم بحملته من ميناء الشحر إلى الهند، وأبقى مائةَ جندي من العثمانيين تحت قيادة الضابطِ صفر سلمان لمساعدة السلطان بدر أبو طويرق في حربِه التي كان يخوضُها مع أعدائه في حضرموت الداخل على أن يلحقوا به بعد ذلك، وفي 15 رجب من هذه السنة غادر صفر سلمان ومن تبقى معه من الجنود العثمانيين مدينة الشحر متجهًا إلى الهند.
عندما استردَّ الأمير عبد الله بن الشريف حسين واحةَ تربة (جنوب غربي نجد) التي خضعت مؤخرًا لسلطان الملك عبدالعزيز، فهجم جيشُ الإخوان بقيادة سلطان بن بجاد ومعه قبائل سبيع وعتيبة وخالد بن لؤي أمير الخرمة (من محافظات منطقة مكة المكرمة) على جيش الأمير عبد الله بن الحسين، بعد منتصف الليل من مختلف الجهات، الأمرُ الذي أصاب الأمير عبد الله بالارتباك، فلم يستطع أن يفعل شيئًا، فمزَّق الإخوان جيشَه على الرغم من كثرة عددِ جُندِه المدرَّب تدريبًا حديثًا على يد الإنجليز، وكثرة عتاده من الأسلحة الحديثة التي كانت بريطانيا قد زوَّدت الشريف حسين بها، وتجاوز عددُ القتلى خمسة آلاف قتيل، ولم ينجُ منهم إلا عدد قليل، منهم الأمير عبد الله بن الحسين، واستولى الإخوان على أسلحة ومؤن وأموال وعتادٍ كثير، ثم وصل عبد العزيز بجيشه إلى تُربة، فأقام بها خمسة عشر يومًا يديرُ شؤونها. أما الملك حسين بن علي فقد أفزعه ما حلَّ بجيشه في تُربة. وخاف من مواصلة الإخوان تقدُّمَهم نحو الطائف. فاتصلَ بالحكومة البريطانية يطلُبُ مساعدتَها، فحذَّرَتْه من التوغُّل في الحجاز، وقد برزت قوةُ الإخوان الضاربة لأول مرة في هذه المعركة.
بدَأَت الصِّداماتُ في السُّودان بين حُكومة النميريِّ الاشتراكيةِ وأنصارها مِن جِهةٍ، وبين حَرَكة المقاوَمة الشَّعبيةِ مِن جِهةٍ أخرى، وكان أوَّل الصِّداماتِ دُخول قُوَّات الأمْن إلى مَسجدِ عبدِ الرحمن المهدي الذي يَتجمَّع فيه الأنصارُ عادةً، فقُتِل ثلاثونَ رجلًا مِن الأمن في حِين قُتِل ألْفُ رجلٍ مِن الأنصارِ جَماعةِ المهديِّ، ثم رفَض الهادي زِيارةَ النميريِّ لجِزيرة "أبا" الواقعةِ في النِّيل الأبيض جَنوب الخرطومِ ويَملِكُها المهديُّ، وتجمَّعت قوَّاتُ جبهْة المقاومة الشَّعبيةِ في الجزيرةِ، قامت قُوَّات الحكومةِ بمُداهَمة جَزيرة "أبا" بالمدفعيةِ والمدرَّعات والطائراتِ، واشترَكَ فيها الطيرانُ المصريُّ، فقتَلَت أعدادًا كبيرةً من قُوَّات الجبهةِ، بل ومِن السُّكَّان أيضًا، حتى وصَل عددُ الضَّحايا إلى خمسةٍ وعشرين ألفَ قَتيلٍ، ثم أُذِيعَ بعدَ خمْسة أيامٍ عن مَقتلِ الهادي المهديِّ عندَ الحدودِ الشَّرقية مع الحبَشةِ أثناءَ مُحاولتِه الهربَ من البلادِ، وكانت القُوةُ العسكرية التي أرسَلَها النميريُّ إلى الجزيرةِ بقِيادةِ العميد أبي الذهب، ومعه قائدُ حامية كوستي، وبرُفْقته سِتُّ مائة جُنديٍّ، وبعد هذه المعركةِ عمِلَ الشُّيوعيون في الحكومةِ على جَرِّها لتَصفيةِ أعدائهم تَصفيةً جَسديةً؛ فعَمَّ القتْلُ في البلادِ وساد الخوفُ والذُّعرُ.
بلغ المهاجرين في الحَبشةِ أنَّ قُريشًا قد أسلمتْ، فرجعوا إلى مكَّة في شوَّالٍ من نفسِ السَّنةِ التي هاجروا فيها، فلمَّا كانوا دون مكَّة ساعةً من نهارٍ وعرفوا جلية الأمرِ رجع منهم مَنْ رجع إلى الحَبشةِ، ولم يدخلْ في مكَّة مِن سائرهِم أحدٌ إلَّا مُستخفِيًا، أو في جِوارِ رجلٍ من قُريشٍ. ثم اشتدَّ عليهِم وعلى المسلمين البلاءُ والعذابُ من قُريشٍ، وسَطَتْ بهِم عشائرُهُم، فقد كان صعبًا على قُريشٍ ما بلغها عَنِ النَّجاشيِّ من حُسنِ الجِوارِ، ولم يرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بُدًّا من أن يُشيرَ على أصحابهِ بالهجرةِ إلى الحَبشةِ مَرَّةً أُخرى. واستعدَّ المسلمون للهجرةِ مَرَّةً أُخرى، حاولتْ قُريشٌ إحباطَ عمليَّةِ الهجرةِ الثَّانيةِ بَيْدَ أنَّ المسلمين كانوا أسرعَ، فانحازوا إلى نَجاشيِّ الحَبشةِ قبلَ أن يُدركوا. هاجر مِنَ الرِّجالِ ثلاثةٌ وثمانون رجلًا، وثماني عشرةَ أو تسعَ عشرةَ امرأةً. فأرسلتْ قُريشٌ عَمرَو بنَ العاصِ، وعبدَ الله بنَ أبي رَبيعةَ قبلَ أن يُسلِما، وأرسلوا معهُما الهدايا المُستطرَفةَ للنَّجاشيِّ ولبَطارِقتِهِ، وبعد أن حضرا إلى النَّجاشيِّ قدَّما له الهدايا، ثمَّ كلَّماهُ فقالا له: أيُّها الملكُ، إنَّه قد ضَوَى إلى بلدِك غِلمانٌ سُفهاءُ، فارقوا دينَ قومهِم، ولم يدخلوا في دينِك، وجاءوا بدينٍ ابتدعوه، لا نعرفُه نحن ولا أنت، وقد بعثَنا إليك فيهِم أشرافُ قومهِم من آبائهِم وأعمامهِم وعشائرهِم؛ لِتردَّهُم إليهِم، فَهُمْ أعلى بهِم عينًا، وأعلمُ بما عابوا عليهِم. وعاتبوهُم فيهِ، وقالت البَطارِقةُ: صَدقا أيُّها الملكُ، فأسلِمْهُم إليهِما، فليردَّاهُم إلى قومهِم وبلادهِم. فأرسل النَّجاشيُّ إلى المسلمين، ودعاهُم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصِّدقِ كائنًا ما كان، فقال لهم النَّجاشيُّ: ما هذا الدِّينُ الذي فارقتُم فيه قومَكُم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دينِ أحدٍ من هذه المِلَلِ ؟ قال جعفرُ بنُ أبي طالبٍ -وكان هو المُتكلِّمُ عَنِ المسلمين: أيُّها الملكُ، كُنَّا قومًا أهلَ جاهليَّةٍ؛ نعبدُ الأصنامَ، ونأكلُ المَيتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطعُ الأرحامَ، ونُسِئُ الجِوارَ، ويأكلُ مِنَّا القويُّ الضَّعيفَ، وعدَّد له مَحاسنَ ما جاءهُم به صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قال: فصدَّقناهُ، وآمنَّا بهِ، واتَّبعناهُ على ما جاءنا بهِ من دينِ الله، فعبدنا الله وحدَه، فلم نُشركْ به شيئًا، وحرَّمنا ما حُرِّمَ علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذَّبونا وفَتنونا عن ديننا؛ لِيردُّونا إلى عِبادةِ الأوثانِ من عِبادةِ الله تعالى، وأن نَستحِلَّ ما كُنَّا نَستحِلُّ مِنَ الخبائثِ، فلمَّا قَهرونا وظَلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادِك، واخترناك على مَنْ سِواكَ، ورغِبنا في جِوارِك، ورَجوْنا ألَّا نُظْلَمَ عندك أيُّها الملكُ. فقال له النَّجاشيُّ: هل معك ممَّا جاء به عن الله من شيءٍ؟ فقال له جعفرٌ: نعم. فقال له النَّجاشيُّ: فاقْرأْهُ عليَّ، فقرأ عَليهِ صدرًا من: (سورة مريم) فبكى النَّجاشيُّ حتَّى اخْضَلَّتْ لِحيتُه، وبكتْ أساقِفتُه حتَّى أخْضَلُوا مصاحِفَهُم حين سمِعوا ما تلا عليهِم، ثمَّ قال لهم النَّجاشيُّ: إنَّ هذا والذي جاء به عيسى لَيخرجُ من مِشكاةٍ واحدةٍ، انطلقا، فلا والله لا أُسلِمُهُم إليكُما، ولا يُكادونَ -يُخاطِبُ عَمرَو بنَ العاصِ وصاحبَه- فخرجا، فلمَّا خرجا قال عَمرُو بنُ العاصِ لعبدِ الله بنِ أبي رَبيعةَ: والله لآتينَّهُ غدًا عنهُم بما أَسْتَأْصِلُ به خَضراءَهُم. فقال له عبدُ الله بنُ أبي رَبيعةَ: لا تفعلْ، فإنَّ لهم أرحامًا، وإنْ كانوا قد خالفونا. ولكنْ أصرَّ عَمرٌو على رأيِهِ. فلمَّا كان الغدُ قال للنَّجاشيِّ: أيُّها الملكُ، إنَّهم يقولون في عيسى ابنِ مريمَ قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النَّجاشيُّ يسألهُم عن قولِهم في المَسيحِ ففَزِعوا، ولكنْ أجمعوا على الصِّدقِ، كائنًا ما كان، فلمَّا دخلوا عَليهِ وسألهم، قال له جعفرٌ: نقولُ فيه الذي جاءنا به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: هو عبدُ الله ورسولُه ورُوحهُ وكَلِمتُه ألقاها إلى مريمَ العذراءِ البَتُولِ. فأخذ النَّجاشيُّ عودًا مِنَ الأرضِ ثمَّ قال: والله ما عَدا عيسى ابنُ مريمَ ما قلتَ هذا العودَ. فتَناخَرتْ بَطارِقتُه، فقال: وإنْ نَخَرْتُم . ثمَّ قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي -والشُّيومُ: الآمِنونَ بلسانِ الحَبشةِ- مَنْ سَبَّكم غَرِم، مَنْ سَبَّكم غَرِم، مَنْ سَبَّكم غَرِم، ما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا من ذهبٍ وإنِّي آذيتُ رجلًا منكُم -والدَّبْرُ: الجبلُ بلسانِ الحَبشةِ- ثمَّ قال لِحاشِيَتِهِ: رُدُّوا عليهِما هَداياهُما فلا حاجةَ لي بها، فوالله ما أخذَ الله مِنِّـي الرِّشـوةَ حين رَدَّ عليَّ مُلكي، فآخذُ الرِّشـوةَ فيــه، وما أطاع النَّاسَ فِيَّ فأُطيعَـهُم فيهِ. قالتْ أمُّ سَلمةَ: فخرجا من عندِه مَقبوحينَ مَردودًا عليهِما ما جاءا بهِ، وأقمنا عندهُ بخيرِ دارٍ مع خيرِ جارٍ.
لمَّا افتَتَح المسلمون بابَ لِيُون ثمَّ افتَتَحوا قُرى الرِّيفِ فيما بينها وبين الإسكندريَّة قريةً فقريةً، حتَّى انتهوا إلى بَلْهِيب -قرية يُقال لها: الرّيش- أرسل صاحبُ الإسكندريَّة الى عَمرِو بن العاصِ: إنَّني كنتُ أُخرِج الجِزيةَ إلى مَن هو أبغضُ إليَّ منكم: فارِسَ والرُّومِ، فإن أحببتَ الجِزيةَ على أن تَرُدَّ ما سَبَيْتُم مِن أرضي فعلتُ. فكتب عَمرٌو إلى عُمَرَ يَستأذِنهُ في ذلك، ورفعوا الحربَ إلى أن يَرِدَ كِتابُ عُمَرَ، فوَرَدَ الجوابُ مِن عُمَرَ: لَعَمْرِي جِزيةٌ قائمةٌ أَحَبُّ إلينا مِن غَنيمةٍ تُقَسَّم ثمَّ كأنَّها لم تكُن، وأمَّا السَّبْيُ فإن أعطاك مَلِكُهُم الجِزيةَ على أن تُخَيِّروا مَن في أيديكم منهم بين الإسلامِ ودِينِ قَومِه، فمَن اختار الإسلامَ فهو مِن المسلمين، ومَن اختار دِينَ قَومِه فضَعْ عليه الجِزيةَ، وأمَّا مَن تَفَرَّق في البُلدانِ فإنَّا لا نَقدِرُ على رَدِّهِم. فعرَض عَمرٌو ذلك على صاحبِ الإسكندريَّة، فأجاب إليه، فجمعوا السَّبْيَ، واجْتمعَت النَّصارى وخَيَّروهُم واحدًا واحدًا، فمَن اختار المسلمين كَبَّروا، ومَن اختار النَّصارى نَخَروا وصار عليه جِزيةٌ، حتَّى فَرَغوا. وكان مِن السَّبْيِ أبو مَريمَ عبدُ الله بن عبدِ الرَّحمن، فاختار الإسلامَ وصار عَرِّيفَ زُبيدٍ.
أبو محمَّدٍ طَلحةُ بن عُبيدِ الله بن عُثمانَ بن عَمرِو بن كعبِ بن سعدِ بن تَيْمِ بن مُرَّةَ بن كعبِ بن لُؤَيٍّ، أُمُّهُ: الصَّعْبَةُ بنتُ الحَضرميِّ، أُختُ العَلاءِ، أَسلمَت وأَسلَم طَلحةُ قديمًا، هو أحدُ العشرةِ المُبَشَّرين بالجنَّةِ، مِن السَّابقين الأوَّلين إلى الإسلامِ، دَعاهُ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ إلى الإسلامِ، آخَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بين طَلحةَ وبين أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ، أَبْلَى يومَ أُحُدٍ بَلاءًا عظيمًا، ووَقَى رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بِنَفْسهِ فاتَّقَى طَلحةُ بيَدِه عن وَجْهِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأصاب خِنْصَره فَشُلَّتْ، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (أَوْجَبَ طَلحةُ). وفيه قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (هذا ممَّن قَضى نَحْبَهُ). وقال أيضًا: (مَن سَرَّهُ أن يَنظُرَ إلى رجلٍ يَمشي على الأرضِ قد قَضى نَحْبَهُ فَلْيَنظُرْ إلى طَلحةَ). قُتل يوم الجمل فلمَّا وجَدَهُ عَلِيٌّ بعدَ المعركةِ في القَتْلَى أَجْلَسَهُ ومسَح التُّرابَ عن وَجهِه وقال: عَزيزٌ عَلَيَّ أن أراك مُجَدَّلًا تحت نُجومِ السَّماءِ أبا محمَّدٍ. ثمَّ بكى عَلِيٌّ وقال: وَدِدْتُ أنِّي مِتُّ قبلَ هذا بعشرين سَنةً.
كان الوَليدُ بن عبدِ الملك قد بَدَأَ بِتَأْسِيس البِناء للمَسجِد الأُمَوي في 87هـ إلى أن اكْتَمَل بِناؤُه في هذه السَّنَة, وكان أَصْلُ مَوضِع هذا الجامِع قَديمًا مَعْبَدًا بَنَتْهُ اليُونان الكُلْدَانِيُّون الذين كانوا يُعَمِّرون دِمَشْق، وهُم الذين وَضَعوها وعَمَّروها أوَّلًا، فَهُم أوَّلُ مَن بَناها، وقد كانوا يَعبدون الكَواكِب السَّبعَة المُتَمَيِّزَة، ثمَّ إنَّ النَّصارَى حَوَّلوا بِناءَ هذا المَعْبَد الذي هو بِدِمَشق مُعَظَّمًا عند اليُونان فجَعَلوه كَنيسَةَ يُوحَنَّا، وكان المسلمون والنَّصارَى يَدخُلون هذا المَعْبَد مِن بابٍ واحِد، وهو باب المَعْبَد الأَعلى مِن جِهَة القِبْلَة، مَكانَ المِحْراب الكَبير الذي في المَقْصورَة اليومَ، فيَنْصَرِف النَّصارَى إلى جِهَة الغَربِ إلى كَنيسَتِهم، ويَأخُذ المسلمون يَمْنَةً إلى مَسجِدِهم، ولا يَستَطيع النَّصارَى أن يَجْهَروا بِقِراءَة كِتابِهِم، ولا يَضْرِبوا بِناقُوسِهِم، إِجلالًا للصَّحابَة ومَهابَةً وخَوْفًا، ثمَّ قام الوَليدُ بِتَوسيعِها آخِذًا القِسْمَ النَّصراني وحَوَّلَه إلى مَسجِد كما هو معروف اليوم، وأَنْفَق في ذلك الأَموالَ الكَثيرَة جِدًّا، واسْتَعمَل العُمَّال والبَنَّائِين المَهَرَة, والمَقصود أنَّ الجامِع الأُمَوي لمَّا كَمُلَ بِناؤُه لم يكُن على وَجْهِ الأَرضِ بِناءٌ أَحْسَن منه، ولا أَبْهَى ولا أَجْمَل منه، بحيث إنَّه إذا نَظَر النَّاظِرُ إليه أو إلى جِهَةٍ منه أو إلى بُقْعَةٍ أو مَكانٍ منه تَحَيَّر فيها نَظَرُهُ لِحُسْنِه وجَمالِه، ولا يَمَلُّ نَاظِرُهُ؛ بل كُلمَّا أَدْمَنَ النَّظَرَ بانَت له أُعْجوبَة ليست كالأُخرَى.
هو الفُضيلُ بنُ عِياضِ بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي الخراساني، المجاوِرُ بحرم الله، وُلِدَ بسمرقند، ونشأ بأبيورد، وارتحلَ في طلَبِ العلم؛ قال الفضل بن موسى: كان الفضيلُ بنُ عياض شاطِرًا يقطَعُ الطَّريقَ بين أبيورد وسرخس، وكان سبَبُ توبته أنَّه عَشِقَ جارية، فبينا هو يرتقي الجُدران إليها، إذ سَمِعَ تاليًا يتلو {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...} [الحديد: 16] فلمَّا سَمِعَها، قال: بلى يا رَبِّ، قد آن، فرجع، فآواه الليلُ إلى خربةٍ، فإذا فيها سابلةٌ، فقال بعضُهم: نرحَلُ، وقال بعضهم: حتى نُصبحَ؛ فإنَّ فُضَيلًا على الطريق يقطَعُ علينا، قال: ففَكَّرتُ، وقلتُ: أنا أسعى باللَّيلِ في المعاصي، وقومٌ مِن المسلمينَ هاهنا، يخافونني، وما أرى اللهُ ساقني إليهم إلَّا لأرتَدِعَ، اللهمَّ إني قد تبتُ إليك، وجعلتُ توبتي مجاورةَ البيتِ الحرامِ. وقال ابن المبارك: ما بقِيَ على ظهرِ الأرضِ عندي أفضَلُ من الفُضَيل بن عِياضٍ، وقيل: مات- رحمه الله- في ست وثمانين ومئة. قال الذهبيُّ: وله نيِّفٌ وثمانون سنة، وهو حُجَّةٌ كبيرُ القَدرِ.
انقَرَضت دولةُ آلِ سامان على يدِ محمودِ بنِ سبكتكين، وإيلك الخان التركي، واسمُه أبو نصر أحمد بن علي، ولَقَبُه شمس الدولة، فأمَّا محمود فإنَّه مَلَك خُراسان، وبَقِيَ بيَدِ عبد الملك بنِ نوح ما وراء النَّهر، فلما انهزم من محمود قَصَدَ بُخارى واجتمع بها هو وفائِقُ وبكتوزون وغيرُهما من الأمراء والأكابر، فقَوِيَت نفوسُهم، وشَرَعوا في جمعِ العساكِر، وعَزَموا على العَودِ إلى خراسان، فاتَّفَق أن مات فائق، وكان موتُه في شعبان من هذه السنة، فلما مات ضَعُفَت نفوسهم، ووَهَنت قوَّتُهم، وبلغ خبَرُهم إلى إيلك الخان، فسار في جمعِ الأتراك إلى بخارى، وأظهر لعبدِ الملك المودَّة والموالاة، والحَمِيَّة له، فظَنُّوه صادقًا، ولم يحتَرِسوا منه، وخرج إليه بكتوزون وغيرُه من الأمراء والقُوَّاد، فلمَّا اجتمعوا قبَضَ عليهم، وسار حتى دخل بُخارى يوم الثلاثاء عاشِرَ ذي القَعدةِ، فلم يدرِ عبدُ الملك ما يصنَعُ لقِلَّةِ عدَدِه، فاختفى ونزل إيلك الخان دارَ الإمارة، وبثَّ الطَّلَب والعيونَ على عبد الملك، حتى ظَفِرَ به، فأودعه بافكند فمات بها، وكان آخِرَ ملوك السامانيَّة، وانقَضَت دولتُهم على يده، وكانت دولتُهم قد انتشرت وطَبَّقت كثيرًا من الأرض من حدود حلوان إلى بلاد الترك، بما وراء النهر، وكانت من أحسَنِ الدولِ سيرةً وعدلًا.
لَمَّا شاع صنيعُ الحاكِمِ في الأمورِ التي خرَقَ العاداتِ فيها، ودُعِيَ عليه في أعقابِ الصَّلواتِ وظُوهِرَ بذلك، أشفَقَ وخاف، وأمَرَ بعمارةِ دارِ العِلمِ وفَرَشَها، ونقل إليها الكُتُبَ العظيمةَ، وأسكَنَها مِن شُيوخِ السُّنَّة شَيخينِ، يُعرَفُ أحدُهما بأبي بكرٍ الأنطاكيِّ، وخلَعَ عليهما وقَرَّبَهما ورَسَم لهما بحضورِ مَجلِسِه ومُلازمتِه، وجمع الفُقَهاءَ والمُحَدِّثينَ إليها، وأمَرَ أن يُقرأَ بها فضائلُ الصَّحابة، ورَفَع عنهم الاعتراضَ في ذلك، وأظهَرَ المَيلَ إلى مذهَبِ الإمامِ مالكٍ والقَولَ به، ولَبِسَ الصُّوفَ في هذه السَّنةِ يومَ الجُمُعةِ عاشِرَ شَهرِ رَمَضان، ورَكِبَ الحِمارَ، وأظهَرَ النُّسُك وملأ كَفَّه دفاتِرَ، وخطَبَ بالنَّاسِ يومَ الجُمُعةِ وصلى بهم، ومنَعَ مِن أن يُخاطَبَ يا مولانا، ومِن تقبيلِ الأرضِ بينَ يديه، وأقام الرَّواتِبَ لِمَن يأوي المساجدَ مِن الفُقراءِ والقُرَّاء والغُرَباء وأبناءِ السَّبيل، وأجرى لهم الأرزاقَ، وأقام على ذلك ثلاثَ سنينَ، ثم بدا له بعد ذلك، فقَتَل الفقيهَ أبا بكرٍ الأنطاكيَّ والشيخَ الآخَرَ، وخَلْقًا كثيرًا آخَرَ مِن أهلِ السُّنَّةِ، لا لأمرٍ يقتضي ذلك، وفعَلَ ذلك كُلَّه في يومٍ واحد. وأغلق دارَ العِلمِ، ومنَعَ مِن جميعِ ما كان فعَلَه، وعاد إلى ما كان عليه أوَّلًا من قَتلِ العُلَماءِ والفُقَهاء، وأزيدَ.
كانت قلعةُ البيرة، وهي مُطِلَّة على الفرات من أرض الجزيرة، لشهاب الدين الأرتقي، وهو ابنُ عم قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تورتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان في طاعةِ نور الدين محمود بن زنكي، صاحِبِ الشام، فمات شهابُ الدين وملك القلعةَ بعده ولدُه وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلما كان هذه السنة أرسل صاحِبُ ماردين إلى عز الدين مسعود يطلبُ منه أن يأذن له في حَصْرِ البيرة وأخْذِها، فأذِنَ له في ذلك، فسار في عسكرِه إلى قلعة سميساط، وهي له، ونزل بها وسيَّرَ العسكر إلى البيرة، فحصرها، فلم يظفَرْ منها بطائل إلَّا أنهم لازموا الحصار، فأرسل صاحبُها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر، يطلب منه أن ينجدَه ويُرحِلَ العسكر المارديني عنه، ويكون هو في خدمته، كما كان أبوه في خدمة نور الدين، فأجابه إلى ذلك، وأرسل رسولًا إلى صاحِبِ ماردين يشفَعُ فيه، ويطلب أن يرحل عسكَره عنه، فلم يقبَلْ شفاعته، واشتغل صلاحُ الدين بالفرنج، فلما رأى صاحب ماردين طولَ مقام عسكره على البيرة، ولم يبلُغوا منها غرضًا، أمرهم بالرحيلِ عنها، وعاد إلى ماردين، فسار صاحبُ البيرة إلى صلاح الدين، وكان معه حتى عبر معه الفراتَ.
كان الأميرُ علاء الدين السلجوقي قد أقطع أرطغرل جزءًا كبيرًا من الأرضِ مقابِلَ الرومِ مكافأةً له مِن جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يكون ردءًا له من الروم، فاستقَرَّت هذه الأسَرُ التركمانية في تلك الناحية قريبًا من بحرِ مرمرة التابع للبحر الأسودِ قريبًا من مدينة بورصة، إلى أن توفي أرطغرل سنة 697 فخَلَفَه ابنُه عثمانُ أكبَرُ أولاده، الذي حَظِيَ أيضًا بقَبولِ الأمير علاء الدين السلجوقي، ويُعَدُّ عُثمانُ هذا هو أوَّلَ مؤسِّسٍ للدَّولةِ العثمانية؛ حيث بدأ يتوسَّعُ بإمارته فتمَكَّنَ سنة 698 من ضَمِّ قلعة حصار أو القلعة السوداء ممَّا زاد من إعجابِ الأمير علاء الدين به، فمنحه لقَبَ بيك، وأقَرَّه على الأراضي التي ضَمَّها إليه، كما أقرَّه على ضَربِ عُملةٍ باسمِه بالإضافة إلى ذِكرِ اسمِه في الخُطَبِ يوم الجمعة، ثم زاد من أمرِ عثمانَ أنَّ المغول لما أغاروا على علاء الدين سنة 699 ففَرَّ منهم وتوفِّيَ في العامِ نَفسِه وخُلِعَ ابنُه غياث الدين الذي قتلَتْه المغولُ أيضًا، فلم يَعُدْ أمام عثمان أيُّ سلطةٍ أعلى منه، فبدأ بالتوسُّعِ، فاتخذَ مِن مدينة يني شهر- أي: المدينة الجديدة- قاعدةً له، ولقَّبَ نفسَه باديشاه آل عُثمان، واتخذ رايةً (وهي نفسُ عَلَمِ تركيا اليومَ).
في يومِ الاثنينِ رابِعَ عشر شعبان اقتضى رأيُ الأمير يَلبغَا خَلْعَ السلطان، فوافقه الأمراء على ذلك، فخلعوه من الغدِ لاختلال عَقلِه، وسجنوه ببعضِ الدُّورِ السُّلطانية من القلعة، فكانت مُدَّةُ سلطنته سنتين وثلاثة أشهر وستة أيام، لم يكُنْ له سوى الاسم فقط، وتولى بعده السلطانُ الملك الأشرف زين الدين أبو المعالي شعبان بن الأمجد حسين بن الناصر محمد بن قلاوون السلطنة وعمره عشر سنين، ولم يَلِ أحَدٌ من بني قلاوون وأبوه لم يَلِ السَّلطنةَ سِواه، وكان من خَبَرِه أنَّ الأمير يلبغا جمعَ الأمراء بقلعة الجبل، حتى اتفقوا على خَلعِ السلطان المنصور، ثمَّ بَكَّروا في يوم الثلاثاء النصف من شعبان إلى القلعة وأحضروا الخليفةَ أبا عبد الله محمد المتوكل على الله وقضاة القضاة الأربع، وأعلموهم باختلالِ عَقلِ المنصور وعَدَمِ أهليَّتِه للقيام بأمور المملكة، وأنَّ الاتفاقَ وقع على خلعه فخلعوه، وأحضروا شعبانَ بن حسين وأفاضوا عليه خِلعةَ السلطنة، ولَقَّبوه بالملك الأشرف زين الدين أبي المعالي، وأركبوه بشِعارِ السلطة، حتى جلس على تخت الملك وحَلَفوا له، وقَبَّلوا الأرض على العادة، وكُتِبَ إلى الأعمال بذلك فسارت البُرُدُ في أقطار المملكة، وخُلِعَ على أرباب الوظائف.
بعد محاربة الصربِ للعثمانيين سنة 788, وحصولِهم على بعض النجاحِ نتيجةَ انشغال العثمانيين بالحرب مع علاء الدين أمير القرمان، ثم إنَّ أمير البلغار سيسمان تأهَّب للقيام بدوره في محاربة القوات العثمانيةِ، غيرَ أنَّه تفاجأ بها وقد داهمَتْه واحتلَّت بعضَ أجزاء بلاده، ففَرَّ إلى الشمالِ واعتصم في مدينة نيكوبلي القريبة من الحدود الرومانية، وجمع فلولَه مَرَّة أخرى وحارب العثمانيِّينَ إلَّا أنه باء بالهزيمةِ مَرَّة أخرى، ووقع أسيرًا، لكِنِ السلطانُ مراد الأولُ أحسَنَ إليه فأبقاه أميرًا على نصف بلاده، وضَمَّ الباقيَ إلى الدولة العثمانيَّةِ، فلما علم ملك الصرب لازار بهذا، انسحب بجيوشه نحو الغرب منضَمًّا إلى الألبانيين لمحاربة العثمانيينَ معهم، غيرَ أن الجيوش العثمانية أدركَتْه قبل وصوله إلى مبتغاه، والتقت معه في هذه السنة في معركة وسط سهل قوص أوه- إقليم كوسوفو- جنوبي يوغسلافيا، وكان القتالُ سِجالًا بين الطرفين، ثمَّ إنَّ صِهرَ لازار انضَمَّ إلى جانب العثمانيين بفرقته المؤلَّفة من عشرة آلاف مقاتل، فانهزم الصرب ووقع مَلِكُهم لازار أسيًرا جريحًا فقتلوه جزاءَ بما فعله بأسرى المسلمين، وبينما السلطان مراد الأول يتفقد الجرحى في أرض المعركة طَعَنه جريحٌ صِربي فقَتَله!