لمَّا مَلَكَ الفِرنجُ مَدينةَ المَهديَّة وفَعَلوا ما فَعَلوا في زويلة المَدينةِ المُجاوِرَةِ للمَهديَّةِ من القَتلِ والنَّهبِ، هَرَبَ منهم جَماعةٌ وقَصَدوا عبدَ المُؤمنِ صاحبِ المَغربِ، وهو بمراكش، يَستَجيرُونَه، فلمَّا وَصَلوا إليه ودَخَلوا عليه أَكرَمَهم، وأَخبَروهُ بما جَرَى على المسلمين، وأنه ليس من مُلوكِ الإسلامِ مَن يُقصَد سِواهُ، فبدَأَ بالاستِعدادِ للمَسيرِ, فلمَّا كان في صفر سَنةَ554هـ سار عن مراكش، فلم يَزَل يَسيرُ إلى أن وَصلَ إلى مَدينةِ تونس، فلمَّا نازَلَها أَرسلَ إلى أَهلِها يَدعوهُم إلى طاعَتِه، فامتَنَعوا، فقاتَلَهُم ثم نَزَلوا يَسأَلونَهُ الأَمانَ فأَجابَهُم إليه. ثم سار عبدُ المؤمن منها إلى المَهديَّةِ والأُسطولُ يُحاذِيه في البَحرِ، فوَصلَ إليها ثامنَ عشر رجب سَنةَ 554هـ، وكان حينئذٍ بالمَهديَّةِ أَولادُ مُلوكِ الفِرنجِ وأَبطالُ الفِرسانِ، وقد أَخلوا زويلةَ، فدَخلَ عبدُ المؤمنِ زويلةَ، وامتَلأَت بالعَساكرِ والسُّوقَةِ وانضافَ إليه من صنهاجة والعَربِ وأَهلِ البلادِ ما يَخرُج عن الإحصاءِ، وأَقبَلوا يُقاتِلون المَهديَّةَ مع الأَيامِ، فلا يُؤثِّر فيها لِحصَانَتِها وقُوَّةِ سُورِها وضِيقِ مَوقِعِ القِتالِ عليها، فعَلِمَ عبدُ المؤمنِ أن المَهديَّةَ لا تُفتَح بقِتالٍ بَرًّا ولا بَحرًا، لأن البحرَ دائرُ بأَكثرِها، فكأَنها كَفٌّ في البَحرِ، وزِندُها مُتَّصِلٌ بالبَرِّ، وليس لها إلا المُطاوَلَةِ، فتَمادَى الحِصارُ، وكانت الفِرنجُ تُخرِج شُجعانَهم إلى أَطرافِ العَسكرِ، فتَنال منه وتَعودُ سَريعًا؛ فأَمرَ عبدُ المؤمنِ أن يُبنَى سُورٌ من غَربِ المَدينةِ يَمنَعُهم من الخُروجِ، وأَحاطَ الأُسطولُ بها في البَحرِ، ورَكِبَ عبدُ المؤمنِ في شيني، ومعه الحَسنُ بنُ عَليٍّ الذي كان صاحِبَها، وطاف بها في البَحرِ، فهاله ما رأى من حَصانَتِها، وفي مُدَّةِ حِصارِه أَطاعَتهُ مجموعةٌ من المناطِقِ. ثم جاء أُسطولُ صاحبِ صِقلِّية فأَرسلَ إليهم مَلِكُ الفِرنجِ يَأمُرُهم بالمَجيءِ إلى المَهديَّةِ، فلمَّا قارَبَ أُسطولُ صِقلِّية المَهديَّةَ حَطُّوا شِراعَهم لِيَدخُلوا المِيناءَ، فخَرجَ إليهم أُسطولُ عبدِ المؤمنِ، ورَكِبَ العَسكرُ جَميعُه، ووَقَفوا على جانبِ البَحرِ، فاستَعظَم الفِرنجُ ما رَأوهُ من كَثرةِ عَساكرِ المُوَحِّدِين، ودَخلَ الرُّعبُ قُلوبَهم، فاقتَتَلوا في البَحرِ، فانهَزَمَت شواني الفِرنجِ، وتَبِعَهم المسلمون، فأَخَذوا منهم سبعَ شوان. ويَئِسَ أَهلُ المَهديَّةِ حينئذٍ من النَّجدَةِ، وصَبَروا على الحِصارِ سِتَّةَ أَشهُر، فنَزلَ حينئذٍ من فِرسانِ الفِرنجِ إلى عبدِ المؤمنِ عَشرةٌ وكان قُوتُهُم قد فَنِيَ حتى أَكَلوا الخَيْلَ, وسَألوا الأَمانَ لمن فيها من الفِرنجِ على أَنفُسِهم وأَموالِهم لِيَخرُجوا منها ويَعودُوا إلى بِلادِهم، فعَرَض عليهم الإسلامَ، ودَعاهُم إليه فلم يُجيبوا، ولم يَزالوا يَتَردَّدُون إليه أيامًا واستَعطَفوهُ بالكَلامِ اللَّيِّنِ، فأَجابَهُم إلى ذلك، وأَمَّنَهُم وأَعطاهُم سُفُنًا فرَكِبوا فيها وساروا، وكان الزَّمانُ شِتاءً، فغَرِقَ أَكثرُهم ولم يَصِل منهم إلى صِقلِّية إلا النَّفَرُ اليَسيرُ. ودَخلَ عبدُ المؤمن المَهديَّةَ بُكرَةَ عاشوراء من المُحرَّم سنةَ 555هـ، وسَمَّاها عبدُ المؤمن سَنةَ الأَخماسِ، وأَقامَ بالمَهديَّةِ عِشرينَ يَومًا، فرَتَّبَ أَحوالَها، وأَصلَح ما انثَلَمَ من سُورِها، ونَقَلَ إليها الذَّخائِرَ من القُوَّاتِ والرِّجالِ والعَدَدِ، واستَعمَلَ عليها أَحَدَ أَصحابِه، وجَعلَ معه الحَسنَ بن عليٍّ الذي كان صاحِبَها، وأَمَرَهُ أن يَقتَدِي بَرأيِه في أَفعالِه، وأَقطَعَ الحَسنَ بها أَقطاعًا، وأَعطاهُ دُورًا نَفيسةً يَسكُنُها، وكذلك فَعلَ بأَولادِه، ورَحلَ من المَهديَّةِ أوَّلَ صَفر من السَّنَةِ إلى بِلادِ المَغرِب.
قَدِمَ السلطان الملك الصالحُ نجم الدين أيوب من دمشق، وهو مريضٌ، لَمَّا بلغَه من حركةِ الفرنج، فنزل بأشموم طناح في المحرم، وجمع في دمياط من الأقواتِ والأسلحة شيئًا كثيرًا، وبعث إلى الأميرِ حسام الدين بن أبي علي نائبِه بالقاهرة، أن يجهِّزَ الشواني من صناعةِ مصر، فشرع في تجهيزِها، وسَيَّرَها شيئًا بعد شيء، وأمر الملك الصالح نجم الدين أيوب الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ أن ينزل على جيزةِ دمياط بالعساكرِ ليصيرَ في مقابلة الفرنج إذا قَدِموا فتحوَّل الأمير فخر الدين بالعساكر، فنزل بالجيزةِ تجاهَ دمياط، وصار النيلُ بينه وبينها، ثم في الساعة الثانية من يوم الجمعة لتسعٍ بَقِينَ مِن صفر وصلت مراكِبُ الفرنج البحرية، وفيها جموعُهم العظيمة بصحبة لويس التاسع ملك فرنسا، وقد انضَمَّ إليهم فرنجُ الساحل كله، فأرسَوا في البحر بإزاء المسلمين، وسَيَّرَ ملك الفرنج إلى الملك الصالحِ كتابًا يتهَدَّدُ فيه ويتوعَّدُه بقتله واحتلالِ مصر، فلمَّا وصل الكتاب إلى السلطان الملك الصالحِ وقرئ عليه، كتب الجوابَ فيه أنهم أصحابُ الحربِ والسيوفِ، وأنَّه كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله، وفي يوم السبت نزل الفرنجُ في البر الذي عسكَرَ فيه المسلمون، وضُرِبَت للويس التاسع خيمةٌ حمراء، فناوشهم المسلمون الحربَ، فلما أمسى الليل رحل الأميرُ فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بمن معه من عساكِرِ المسلمين، وقطع بهم الجسرَ إلى الجانب الشرقي، الذي فيه مدينةُ دمياط، وخلا البَرُّ الغربي للفرنج، وسار فخر الدين بالعسكر يريد أشموم طناح، فلما رأى أهلُ دمياط رحيل العسكر، خرجوا كأنما يسحبونَ على وجوهِهم طول الليلِ، ولم يبقَ بالمدينة أحدٌ البتة، وصارت دمياط فارغةً مِن الناس جملةً، وفروا إلى أشموم طناح مع العسكَرِ، وهم حفاةٌ عراةٌ جياعٌ فقراء حيارى بمن معهم من الأطفال والنساء، وساروا إلى القاهرة، فنهبهم الناسُ في الطريق، ولم يبقَ لهم ما يعيشون به فعُدَّت هذه الفعلة من الأمير فخر الدين من أقبَحِ ما يُشَنَّع به، وأصبح الفرنجُ يوم الأحد لسبعٍ بقين من صفر، سائرينَ إلى مدينة دمياط، فعندما رأوا أبوابها مفتحةً ولا أحد يحميها، خشُوا أن تكون مكيدة، فتمَهَّلوا حتى ظهر أنَّ النَّاسَ قد فروا وتركوها، فدخلوا المدينةَ بغير كلفة ولا مؤنة حصارٍ، واستولوا على ما فيها من الآلات الحربية، والأسلحة العظيمة والعُدَد الكثيرة، والأقوات والأزواد والذخائر، والأموال والأمتعة وغير ذلك، صَفْوًا، وبلغ ذلك أهلَ القاهرة ومصر، فانزعج الناس انزعاجًا عظيمًا، ويَئِسوا من بقاء كلمة الإسلامِ بديار مصر، لتمَلُّك الفرنجِ مدينة دمياط، وهزيمة العساكر، وقوَّة الفرنج بما صار إليهم من الأموالِ والأزواد والأسلحة، والحصن الجليل الذي لا يقدر على أخذه بقوة، مع شِدَّة مرض السلطان الصالح أيوب، وعَدَمِ حركته، وعندما وصلت العساكرُ إلى أشموم طناح، ومعهم أهل دمياط، اشتَدَّ حنق الملك الصالح أيوب على الكنانيين، وأمر بشنقهم فقالوا: وما ذنبُنا إذا كانت عساكِرُ السلطان جميعهم وأمراؤه هربوا وأحرَقوا الزردخاناه فلأي شيء نحن فشُنِقوا, فكانت نقمةُ السلطان عليهم أنهم خرجوا من المدينة بغيرِ إذنٍ حتى تسلَّمَها الفرنج، فكانت عِدَّةُ مَن شُنِقَ زيادة على خمسين أميرًا من الكنانيين، وتغيَّرَ السلطان على الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، وقامت الشناعةُ من كل أحدٍ على الأمير فخر الدين، فخاف كثيرٌ من الأمراء وغيرهم سطوةَ السلطان، وهَمُّوا بقتله، فأشار عليهم فخر الدين بالصبر، حتى يتبين أمر السلطان ومَرَضه.
هو أبو القاسِمِ إسماعيلُ بنُ عَبَّاد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني الوزيرُ المشهورُ بكافي الكُفاة، وزَرَ لمؤَيَّد الدولة بن رُكنِ الدولة بن بُوَيه. هو أوَّلُ مَن سُمِّيَ بالصَّاحِبِ؛ لأنَّه صَحِبَ مُؤَيَّد الدولة من الصِّبا، وسَمَّاه الصاحِبَ، فغَلَب عليه، ثمَّ سُمِّيَ به كلُّ مَن وَلِيَ الوَزارةَ بعده، وقيل: لأنَّه كان يصحَبُ أبا الفضل بن العَميدِ، فقيل له صاحِبُ ابن العميد، ثم خُفِّفَ فقيل: الصاحب. أصلُه من الطالقان، وكان نادرةَ دَهرِه وأعجوبةَ عَصرِه في الفضائِلِ والمكارم. أخذ الأدبَ عن الوزيرِ أبي الفضل بن العميدِ، وأبي الحُسَين أحمد بن فارس. وقد كان مِن العِلمِ والفضيلة والبراعةِ والكرمِ والإحسان إلى العُلَماءِ والفُقراء على جانبٍ عَظيمٍ، وكان صاحِبَ دُعابةٍ وطُرفةٍ في رُدودِه وتَعليقاتِه. لَمَّا توفِّيَ مُؤيدُ الدولة بُوَيه بجرجان في سنة 373، وَلِيَ بعده أخوه فَخرُ الدولة أبو الحسن، فأقَرَّه على الوزارة، وبالغ في تعظيمِه. قال الذهبي: "بقي في الوزارة ثمانيةَ عشَرَ عامًا، وفتح خمسينَ قلعة، وسَلَّمَها إلى فخر الدولة، لم يجتَمِعْ عشرةٌ منها لأبيه. وكان الصاحِبُ عالِمًا بفنون كثيرةٍ مِن العلم، لم يُدانِه في ذاك وزيرٌ، وكان أفضَلَ وُزَراءِ دَولةِ بني بُوَيه الديلمة، وأغزَرَهم عِلمًا، وأوسَعَهم أدبًا، وأوفَرَهم محاسِنَ". سمع الحديثَ مِن المشايخِ الجيادِ العوالي الإسنادِ، وعُقِدَ له في وقتٍ مَجلِسٌ للإملاءِ فاحتفَلَ النَّاسُ لحُضورِه، وحضره وجوهُ الأُمَراءِ، فلمَّا خرجَ إليهم لَبِسَ زِيَّ الفقهاء وأشهد على نَفسِه بالتَّوبةِ والإنابةِ ممَّا يعاينه مِن أمورِ السُّلطانِ، وذكَرَ للنَّاسِ أنَّه كان يأكُلُ مِن حين نشأ إلى يَومِه هذا من أموالِ أبيه وجَدِّه ممَّا وَرِثَه منهم، ولكِنْ كان يخالِطُ السُّلطانَ، وهو تائِبٌ ممَّا يُمارِسونَه، واتخذَ بناءً في داره سمَّاه بيت التوبة، ووضَعَ العُلَماءُ خطوطهم بصِحَّة تَوبتِه، وحين حدَّث استملى عليه جماعةٌ لكثرةِ مَجلسِه، توفي بالري وله نحوُ ستين سنة، ونُقِلَ إلى أصبهان، وله كتابُ المحيط في اللغة. قال عنه الذهبي: "كان شيعيًّا جَلدًا كآلِ بُوَيه، وما أظنُّه يَسُبُّ، لكِنَّه معتزليٌّ، قيل: إنَّه نال مِن البُخاريِّ، وقال: هو حَشْويٌّ لا يُعَوَّلُ عليه" .
نزل هولاكو بجيشِه المغولي بعدَ مذبحةِ بغداد حرَّان واستولى عليها ومَلَك بلادَ الجزيرة، ثم سيَّرَ ولده أشموط إلى الشامِ وأمره بقطعِ الفرات وأخْذ البلاد الشامية، وسيَّرَه في جمعٍ كثيف من التتار فوصَلَ أشموط إلى نهرِ الجوز وتل باشر، ووصل الخبَرَ إلى حلب من البيرة بذلك، وكان نائبُ السلطان صلاح الدين يوسف بحلب ابنه الملك المعظم توران شاه، فجفَل النَّاسُ بين يدي التتارِ إلى جهة دمشق وعظم الخطب، واجتمع الناسُ من كلِّ فجٍّ عند الملك الناصر بدمشق، واحترز الملك المعظَّم توران شاه بن الملك الناصر بحَلَب غاية الاحتراز، وكذلك جميعُ نوَّاب البلاد الحلبيَّة، وصارت حَلَب في غاية الحصانة بأسوارها المحكَمة البناءِ وكثرة الآلات، فلمَّا كان العشر الأخير من ذي الحِجَّة قصد التتارُ حَلَب ونزلوا على قريةٍ يقال لها سلميَّة وامتَدُّوا إلى حيلان والحادي، وسيَّروا جماعةً مِن عَسكَرِهم أشرفوا على المدينة، فخرج عسكرُ حلب ومعهم خلقٌ عظيم من العوام والسُّوقة، وأشرفوا على التتار وهم نازلونَ على هذه الأماكِنِ، وقد رَكِبوا جميعُهم لانتظار المسلمينَ، فلمَّا تحقَّق المسلمون كثرتَهم كَرُّوا راجعين إلى المدينة، فرسم المَلِكُ المعظَّم بعد ذلك ألا يخرُجَ أحد من المدينة، ولما كان غدُ هذا اليوم رحلت التتارُ من منازلهم طالبين مدينةَ حلب، واجتمع عسكرُ المسلمين بالنواشير وميدان الحصا وأخذوا في المشورة فيما يعتَمِدونه، فأشار عليهم الملك المعظَّم أنهم لا يخرجون أصلًا لكثرة التتار ولقوَّتهم وضعف المسلمين على لقائهم، فلم يوافِقْه جماعة من العسكر وأبوا إلَّا الخروج إلى ظاهر البلد لئلَّا يطمع العدو فيهم، فخرج العسكرُ إلى ظاهر حلب وخرج معهم العوامُّ والسوقة، واجتمع الجميعُ بجبل بانقوسا، ووصل جمع التتار إلى أسفَلِ الجبل فنزل إليهم جماعة من العسكر ليقاتِلوهم، فلما رآهم التتار اندفعوا بين أيديهم مكرًا منهم وخديعةً، فتبعهم عسكرُ حلب ساعةً من النهار، ثم كرَّ التتار عليهم فوَلَّوا منهزمينَ إلى جهة البلد والتتارُ في أثرهم، فلما حاذوا جبل بانقوسا وعليه بقية عسكر المسلمين والعوام اندفعوا كلُّهم نحو البلد والتتار في أعقابِهم، فقتلوا من المسلمينَ جمعًا كثيرًا من الجند والعوام، ونازل التتارُ المدينة في ذلك اليوم إلى آخره، ثم رحلوا طالبينَ أعزاز فتسَلَّموها بالأمانِ.
في يوم الثلاثاء سادس ربيع الأول تخبطت الأحوال بين السلطان وبين المماليك؛ فوقف طائفة من المماليك الجراكسة، وسألوا أن يقبض على الأمير تغري بردي، والأمير دمرداش، والأمير أرغون؛ من أجل أنهم من جنس الروم؛ وذلك أن السلطان اختص بهم، وتزوج ابنة تغري بردي، وأعرض عن الجراكسة، وقبض على إينال باي، فخاف الجراكسة من تقدُّم الروم عليهم، وأرادوا من السلطان إبعادهم، فأبى عليهم، فتحزبوا عليه واجتمعوا على الأمير الكبير بيبرس، وتأخروا عن الخدمة السلطانية، فتغيب في ليلة الأربعاء الأميران تغري بردي ودمرداش، وأصبح الناس يوم الأربعاء سابعه وقد ظهر الأمير يشبك الدوادار، والأمير تمراز، والأمير جركس المصارع، والأمير قانباي العلاي، وكانوا مختفين من حين الكسرة بعد وقعة السعيدية؛ وذلك أن الأمير بيبرس ركب سَحَرًا إلى السلطان وتلاحى معه طويلًا، وعرَّفه بمواضع الأمراء المذكورين، فاستقرَّ الأمر على مصالحة السلطان للجراكسة، وإحضار الأمراء المذكورين، والإفراج عن إينال باي وغيره، فانفضُّوا على ذلك، وصار العسكر حزبين، وأظهر الجراكسة الخلاف، ووقفوا تحت القلعة يمنعون من يقصد السلطان، وجلس الأمير الكبير بيبرس في جماعة من الأمراء بداره، وصار السلطان بالقلعة، وعنده عدة أمراء، وتمادى الحال يوم الخميس والجمعة والسبت، والناس في قلق، وبينهم قالةٌ وتشانيع وإرجافات، ونزل السلطان إلى باب السلسلة، واجتمع معه بعض الأمراء ليصلح الأمر، فلم يُفِدْ شيئًا، وكثرت الشناعة عليه، وباتوا على ما هم عليه، وأصبحوا يوم الأحد الخامس والعشرين وقد كثروا، فطلبوا من السلطان أن يبعث إليهم بالأمير تغري بردي والأمير أرغون، فلما بعثهما قبضوا عليهما، وأخرجوا تغري بردي منفيًّا في الترسيم إلى القدس، فلما كان عند الظهيرة فُقِدَ السلطان من القلعة، فلم يُعرَف له خبر، وسبب اختفائه أن النوروز كان في يوم السبت الرابع والعشرين ربيع الأول، فجلس السلطان مع عدة من خاصكيته لمعاقرة الخمر، ثم ألقى نفسه في بحرة ماء وقد ثَمِل، فتبعه جماعة وألقَوا أنفسهم معه في الماء، وسبح بهم في البحرة، وقد ألقى السلطان عنه جلباب الوقار، وساواهم في الدعابة والمجون، فتناوله من بينهم شخص، وغمه في الماء مرارًا، كأنه يمازِحُه ويلاعبه، وإنما يريدُ أن يأتيَ على نفسه، وما هو إلا أن فُطِن به فبادر إليه بعض الجماعة -وكان روميًّا- وخلصه من الماء، وقد أشرف على الموت، فلم يُبدِ السلطان شيئًا، وكتم في نفسِه، ثم باح بما أسرَّه؛ لأنه كان لا يستطيع كتمان سر، وأخذ يذم الجراكسة -وهم قوم أبيه، وشوكة دولته، وجُلُّ عسكره- ويمدح الروم، ويتعصَّبُ لهم، وينتمي إليهم، فإنَّ أمه شيرين كانت رومية، فشقَّ ذلك على القوم، وأخذوا حِذرَهم، وصاروا إلى الأمير الكبير بيبرس ابن أخت الظاهر واستمالوه، فخاف السلطان وهم أن يفرَّ، فبادره الأمير بيبرس وعنَّفه، وما زال به حتى أحضر الأمراء من الإسكندرية ودمياط، وأظهر الأمراء المختفين، فاجتمع الأضداد، واقترن العدي والأنداد، ثم عادوا إلى ما هم عليه من الخلاف بعد قليل، وأعانهم السلطان على نفسه بإخراج يشبك بن أزدمر، وأزبك، فأبدوا عند ذلك صفحات وجوههم، وأعلنوا بخلافه، وصاروا إلى إينال باي بن قجماس ليلة الجمعة، وسعوا فيما هم فيه، ثم دسُّوا إليه سعد الدين بن غراب كاتب السر، فخيَّله منهم، حتى امتلأ قلبه خوفًا، فلما علم ابن غراب بما هو فيه من الخوف، حسَّن له أن يفِرَّ، فمال إليه، وقام وقت الظهر من بين حرمه وأولاده، وخرج من ظهر القلعة من باب السر الذي يلي القرافة، ومعه الأمير بيغوت، فركبا فرسين قد أعدهما ابن غراب، وسارا مع بكتمر مملوك ابن غراب، ويوسف بن قطلوبك صهره أيضًا، إلى بركة الحبش، ونزلا وهما معهما في مركب، وتركوا الخيل نحو طرا وغيبوا نهارهم في النيل، حتى دخل الليل، فساروا بالمركب إلى بيت ابن غراب، وكان فيما بين الخليج وبركة الفيل، فلم يجدوه في داره، فمروا على أقدامهم حتى أووا في بيت بالقاهرة لبعض معارف بكتمر مملوك ابن غراب، ثم بعثوا إلى ابن غراب فحول السلطان إليه وأنزله عنده بداره، من غير أن يعلم بذلك أحد.
أمر المهديُّ ببناء القصورِ في طريق مكَّة، وأمر بتوسيعِ القُصور التي كان بناها السفَّاح، كما قام بتجديد الأميال والبِرَك ومصانع المياه، وحفر الرَّكايا؛ كلُّ ذلك تسهيلًا للمسافرينَ في طُرُقِهم، كما أمرَ أن تُقصَّرَ كُلُّ المنابرِ إلى قَدْرِ ارتفاعِ مِنبرِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يُزادَ على ذلك.
سار أَسدُ بن عبدِ الله القَسري أَميرُ خُراسان بجُيوشِه إلى مَدينَة خُتَّل فافْتَتَحها، وتَفرَّقت في أَرضِها جُنودُه يَقتُلون ويَأسِرون ويَغنَمون، فجاءَت العُيونُ إلى مَلِك التُّركِ خاقان أنَّ جَيشَ أَسَد قد تَفرَّق في بِلادِ خُتَّل، فاغْتَنَم خاقان هذه الفُرصَة فرَكِب مِن فَوْرِه في جُنودِه قاصِدًا إلى أَسَد، وتَزَوَّد خاقان وأَصحابُه سِلاحًا كَثيرًا، وقَديدًا ومِلحًا، وساروا في خَلْقٍ عَظيمٍ، وجاء إلى أَسَد فأَعلَموه بِقَصدِ خاقان له في جَيشٍ عَظيمٍ كَثيفٍ، فتَجهَّز لذلك وأَخَذ أُهْبَتَهُ، فأَرسَل مِن فَوْرِه إلى أَطرافِ جَيشِه، فلَمَّها وأَشاعَ بَعضُ النَّاس أنَّ خاقان قد هَجَم على أَسدِ بن عبدِ الله فقَتلَه وأَصحابَه، لِيَحصُل بذلك خِذلانٌ لِأَصحابِه، فلا يَجتَمِعون إليه، فرَدَّ اللهُ كَيدَهم في نُحورِهم، وجَعَل تَدميرَهم في تَدبيرِهم، وذلك أنَّ المسلمين لمَّا سَمِعوا بذلك أَخَذتهم حَمِيَّةُ الإسلام وازدادوا حَنَقًا على عَدوِّهم، وعَزَموا على الأَخذِ بالثَّأرِ، فقَصَدوا المَوضِعَ الذي فيه أَسَد، فإذا هو حَيٌّ قد اجتَمعَت عليه العَساكِر مِن كُلِّ جانِب، وسار أَسَد نحو خاقان حتَّى أتى جَبَل المِلْح، وخاض نَهرَ بَلْخ ففاجَأَهُم التُّركُ مِن وَرائِهم وقَتَلوا منهم عَددًا ثمَّ بَقوا عِدَّةَ أَشهُر كذلك حتَّى الْتَقوا مَرَّةً أُخرى وَكَرَّ عليهم المسلمون وأَعمَلوا فيهم، وكان الحارثُ بن سُريج الذي خَرَج على عاصِم قد الْتَجَأ إلى خاقان التُّرك وحارَب معه وقد هَرَبا سَوِيًّا مِن هذه الحَرب وغَنِمَ المسلمون الكَثيرَ مِن أَموالِهم وأَمتِعَتِهم ودَوابِّهم.
في السَّابِعِ من المحَرَّم قُرِئَ سجِلٌّ في جوامِعِ مِصرَ يأمُرُ الحاكِمُ العُبَيديُّ اليهودَ والنَّصارى بشَدِّ الزُّنَّار ولُبس الغيار، وشعارُهم السَّوادُ شِعارُ العباسيِّينَ، وقرئ سجِلٌّ في الأطعِمةِ بالمَنعِ مِن أكلِ المُلوخيَّةِ المُحبَّبة لِمُعاويةَ بنِ أبي سُفيان، والبَقلة المسمَّاة بالجرجيرِ المَنسوبة إلى عائشةَ رَضِيَ الله عنها، وفيه المنعُ مِن عَجنِ الخُبزِ بالرِّجلِ، والمنعُ مِن ذَبحِ البَقَرِ التي لا عاقبةَ لها إلَّا في أيَّامِ الأضاحي، وما سواها مِن الأيَّامِ لا يُذبَحُ منها إلَّا ما لا يصلُحُ للحَرثِ، وفيه التَّنكيرُ على النخَّاسينَ والتشديدُ عليهم في المَنعِ مِن بَيعِ العَبيدِ والإماءِ لأهلِ الذِّمَّة، وإصلاحُ المكاييلِ والموازينِ، والنَّهيُ عن البخس فيهما، والمنعُ مِن بَيعِ الفقاعِ وعَمَلِه البتَّةَ؛ لِما يُؤثَرُ عن عَليٍّ رَضِيَ الله عنه مِن كراهةِ شُربِ الفقاعِ، وضُرِبَ في الطُّرُقاتِ بالأجراس ونودِيَ أنْ لا يدخُل الحَمَّامَ أحَدٌ إلَّا بمِئزَرٍ؛ وأنْ لا تَكشِف امرأةٌ وَجهَها في طريقٍ ولا خَلْفَ جِنازةٍ، ولا تتبَرَّج. ولا يُباع شَيءٌ مِن السَّمَك بغيرِ قِشرٍ، ولا يَصطاده أحدٌ مِن الصَّيادينَ، فقد كان الحاكِمُ شابًّا متهَوِّرًا مُتقَلِّبَ المِزاجِ جِدًّا، يَمنَعُ اليومَ ما كان أباحَه بالأمسِ، ويُبيحُ اليومَ ما منَعَه بالأمسِ، فلم يكُنْ مِن الحُكَّامِ مَن هو أشَدُّ منه تذبذُبًا، وقد أمَرَ بقَتلِ الكِلابِ، فقُتِلَ منها ما لا يُحصى، حتى لم يبقَ منها بالأزِقَّةِ والشَّوارِعِ شَيءٌ، وطُرِحَت بالصَّحراءِ وبشاطئِ النيلِ، وأمَرَ بكَنسِ الأزِقَّةِ والشَّوارِعِ وأبوابِ الدُّورِ في كلِّ مكانٍ، ففُعِلَ ذلك, ونودِيَ في القاهرةِ لا يَخرُج أحَدٌ بعدَ المَغرِب إلى الطَّريقِ ولا يَظهَر بها لِبَيعٍ ولا شِراءٍ فامتثَلَ النَّاسُ لذلك.
الكاتِبُ المَشهورُ صاحِبُ الخَطِّ المنسوبِ أبو الحَسَنِ عليُّ بنُ هلالٍ البَغداديُّ، المعروف بابنِ البَوَّاب؛ ويقال له "ابن الستري" أيضًا؛ لأنَّ أباه كان بوَّابًا، والبَوَّاب ملازِمٌ سِترَ البابِ، فلهذا نُسِبَ إليهما. كان شَيخُه في الكتابةِ ابنَ أسَدٍ الكاتِبَ المَشهورَ، وهو أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بنُ أسدِ بنِ عليِّ بنِ سَعيدٍ القارئ الكاتب البزَّاز البغدادي. قال ابن كثيرٍ: "وقد أثنى على ابنِ البوَّابِ غَيرُ واحد في دينِه وأمانته، وأمَّا خَطُّه وطريقتُه، فهي أشهرُ مِن أن نُنَبِّهَ عليها، وخَطُّه أوضَحُ تعريبًا من خط الوزيرِ أبي عليِّ بنِ مُقلةَ الكاتبِ المَشهورِ، ولم يكُنْ بعدَ ابنِ مُقلةَ أكتَبُ منه، وعلى طريقتِه النَّاسُ اليومَ في سائِرِ الأقاليمِ إلَّا القَليلَ". قال ابنُ خَلِّكانَ: "لم يوجَدْ في المتقَدِّمينَ ولا المتأخِّرينَ مَن كَتَبَ مِثلَه ولا قارَبَه، وإن كان أبو عليٍّ ابنُ مُقلةَ الوزيرُ أوَّلَ مَن نَقَل هذه الطريقةَ مِن خَطِّ الكوفيِّينَ، وأبرَزَها في هذه الصُّورةِ، وله بذلك فضيلةُ السَّبقِ، وخَطُّه أيضًا في نهايةِ الحُسنِ، لكِنَّ ابنَ البوَّابِ هَذَّبَ طريقةَ ابنِ مُقلةَ ونَقَّحَها وكَساها طلاوةً وبَهجةً. والكُلُّ مُعتَرِفٌ لابنِ البوَّابِ بالتفَرُّد، وعلى منوالِه يَنسجونَ، وليس فيهم من يَلحَقُ شَأوَه ولا يَدَّعي ذلك، مع أنَّ في الخَلقِ مَن يدَّعي ما ليس فيه، ومع هذا فما رأَينا ولا سَمِعْنا أنَّ أحدًا ادَّعى ذلك، بل الجميعُ أقَرُّوا له بالسَّابقةِ وعَدَمِ المشاركة". توفِّي ابنُ البوَّاب ببغداد، ودُفِنَ جوارَ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ.
سار شِهابُ الدين الغوري، مَلِك غزنة، إلى بلاد الهند، وقَصَد بلاد أجمير، وتعَرَّف بولاية السوالك، واسمُ ملكهم كولة، وكان شجاعًا شهمًا، فلما دخل المُسلِمونَ بلاده ملكوا مدينةَ تبرندة، وهي حِصنٌ منيع عامِرٌ، وملكوا شرستي، وملكوا كورام، فلما سَمِعَ مَلِكُهم كولة جمَعَ العساكِرَ فأكثَرَ، وسار إلى المسلمين، فالتقوا، وقامت الحربُ على ساق، وكان مع الهند أربعة عشر فيلًا، فلما اشتَدَّت الحربُ انهزَمَت ميمنةُ المسلمين وميسرتهم، فقال لشهاب الدين بعضُ خواصه: قد انكسرت الميمنةُ والمَيسرةُ، فانجُ بنَفسِك لا يَهلِك المُسلِمون، فأخذ شهاب الدين الرمحَ وحمل على الهنود، فوصَلَ إلى الفِيَلة، فطعن فيلًا منها في كَتِفِه، وجُرحُ الفيل لا يندَمِلُ، فلما وصل شهابُ الدين إلى الفِيَلة زَرَقه بعضَ الهنود بحَربةٍ، فوَقَعَت الحربةُ في ساعده، فنَفِذَت الحربة من الجانِبِ الآخر، فوقع حينئذٍ إلى الأرض، فقاتل عليه أصحابُه ليخلِّصوه، وحرصت الهنود على أخْذِه، وكان عنده حَربٌ لم يُسمَعْ بمِثلِها، وأخذه أصحابُه فرَكَّبوه فَرَسَه وعادوا به منهزمينَ، فلم يَتبَعْهم الهنود، فلما أبعدوا عن موضعِ الوقعة بمقدار فرسخٍ أُغمِيَ على شهاب الدين من كثرة خروج الدمِ، فحمله الرجالُ على أكتافهم في محفةِ اليد أربعة وعشرين فرسخًا، فلما وصل إلى لهاوور أخذ الأمراء الغورية، وهم الذين انهَزَموا ولم يثبتوا، وعَلَّقَ على كلِّ واحد منهم عليقَ شَعيرٍ، وقال: أنتم دوابُّ، ما أنتم أمراءُ! وسار إلى غزنة، وأمر بعضَهم فمشى إليها ماشيًا، فلمَّا وصل إلى غزنة أقام بها ليستريحَ النَّاسُ.
بعد سيطرة فرديناند على بسطة أهم مدن شرق غرناطة التي كانت تحت حكم الأمير أبي عبد الله محمد بن سعد الزغل خرج الأمير الزغل من مدينة وادي آش تابعًا لصاحب قشتالة، فلما لحقه بايعه ودخل في ذمتة وتحت طاعته على أن يعطيه مدينة وادي آش وكل مدينة وحصن وقرية كانت تحت طاعته وحكمه، فأجابه إلى مطلبه ورجع معه إلى وادي آش وهو فرح مسرور، فدخلها العدو وقبض قصَبَتها واستولى عليها في العشر الأُوَل من شهر صفر، ودخل في ذمته جميع فرسان الأمير الزغل وجميع قواده، وصاروا له عونًا على المسلمين وطوَّعوا له جميع البلاد والقرى والحصون التي كانت تحت طاعتِهم من مدينة المرية إلى مدينة المنكب، ومن مدينة المنكب إلى قرية البذول، فقبض صاحب قشتالة ذلك كله من غير قتال ولا حصار ولا تعب ولا نصب، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وجعل في كل قصبة قائدًا نصرانيًّا مع جماعة من النصارى يحكم في ذلك الموضع، وفي هذا الشهر خلصت جميع بلاد الأندلس لصاحب قشتالة، ودخلت تحت طاعته وتدجن-داهن- جميع أهلها ولم يبقَ للمسلمين في الأندلس غير مدينة غرناطة وما حولها من القرى خاصة، وزعم كثير من الناس أن الأمير محمد بن سعد الزغل وقواده باعوا صاحب قشتالة هذه القرى والبلاد التي كانت تحت طاعتهم وقبضوا منه ثمنها، وذلك على وجه الانتقام من ولد أخيه الأمير أبي عبد الله الصغير وقواده؛ لأنهم كانوا في غرناطة ولم يكن تحت طاعتهم غيرها، فأراد بذلك قطع علائق غرناطة؛ لتهلك كما هلك غيرها, ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أعلنت بريطانيا عام 1318هـ / 1900م قيام محمية نيجيريا الشمالية، وعَيَّنت مندوبًا ساميًّا مِن قِبَلها، وفي عام 1333هـ / 1914م جاء الحاكم الإنجليزي لوغارد، فحكم البلاد حكمًا ثنائيًّا بين نيجيريا الشمالية ونيجيريا الجنوبية، وجعل من الجنوبيةِ مُستعمَرةً، ومن الشمالية محميَّةً، وكانت تحاوِلُ أن تنصِّرَ عددًا من الناس يتسَلَّمون الحكم من بعدها، وقد برز قُبَيل الحرب العالمية الثانية ناندي أزيكوي الذي قدَّم أثناء الحرب العالمية الثانية مذكِّرةً للحكومة البريطانية يطالب فيها بتوحيد أجزاء نيجيريا كلِّها، وإنهاء الاستعمار، وتأسيس إدارة وطنية للحصول على الاستقلال، وبعد الحرب العالمية الثانية جرى تطور سريع في الحياة الدستورية؛ ففي عام 1365هـ / 1946م صدر دستور وحَّد القسمين، وأقام مجالسَ نيابية، وفي شوال 1376هـ / أيار 1957م قرَّر المجلس النيابي الاتحادي بالإجماع المطالبةَ باستقلال نيجيريا بعد عامين، واستقلَّ الإقليمُ الشمالي في رمضان 1378هـ / آذار 1959م. وفي رجب 1379هـ / كانون الثاني 1960م أثار رئيسُ الوزراء قضيةَ قرار الاستقلال مُطالبًا منحَ الاستقلال لنيجيريا في ربيع الثاني 1380هـ / تشرين الأول 1960م، واتُّخذ القرارُ بالإجماع، وهكذا أصبح اتحاد نيجيريا دولةً مستقلة ضمن رابطة الشعوب البريطانية، وبقيت الدولةُ تحت رئاسة بريطانيا، وعُيِّن ناندي حاكِمًا للبلاد، وفي ربيع الثاني 1383هـ / أيلول 1963م وافق المجلسُ النيابي النيجيري على دستور جمهوريٍ يُعلِن عن قيام جمهورية اتحادية ضمن رابطة الشُّعوب البريطانية.
هو نور مُحمَّد تراقي أوَّلُ رئيسٍ لأفغانستانَ بعدَ الانقِلابِ الشُّيوعيِّ على مُحمَّد داود. وُلِدَ تراقي عامَ 1335هـ 1917م في قريةِ (ميدو) في ولاية غَزْنة، وسافَرَ في 1353هـ / 1934م إلى الهِنْد، وبَقِيَ في بومباي 4 سنواتٍ، وهناك اعتنَقَ الفِكْر الشيوعيَّ، وعندما رجَعَ إلى بلادِهِ عَمِلَ في مُؤسَّسة السُّكَّر التِّجاريَّةِ بوزارةِ الماليَّة، والتَحَقَ أيضًا بجامعةِ كابلَ، ثم ابتُعِثَ إلى أمريكا كمُلحَقٍ ثَقافيٍّ سنةَ 1373هـ، وبقي هناك مُدَّة أربَعِ سنواتٍ، ثم عاد إلى أفغانستانَ، وأسَّسَ عام 1385هـ / 1965م أوَّلَ نواةٍ للحِزْب الشُّيوعي الأفغانيِّ، وكان اللقاءُ الأوَّلُ في بيتِهِ، وانتُخِبَ أمينًا عامًّا للحِزْب بالإجماعِ، وفَشِلَ في الانتخاباتِ العامَّةِ التي جَرَتْ، وتسلَّمَ الحُكمَ نتيجةَ انقِلابٍ على الرئيس مُحمَّد داود، وتسلَّم تراقي رئاسةَ الجُمهوريةِ في جُمادى الأولى 1398هـ / نيسان 1978م واحتفَظَ لنفسه برئاسةِ الحُكومةِ، وعيَّنَ بابرك كارمل نائِبَهُ، واشتدَّتْ في عَهدِهِ أعمالُ العُنفِ في البلادِ، وجرتِ الدِّماءُ، وساد الإرهابُ، وخاف الناسُ، أمَرَ نورُ محمد تراقي بإخراج مُحمَّد داود من السجن، وقُتِلَ هو بعد قَتلِ أبنائِهِ الـ 29 أمامه، كما قَتَل جميعَ مُستشاريه ورجال حُكومتِهِ، كان محمد تراقي يُتقِن لُغةَ الأوردو، واللغةَ الإنجليزيَّةَ إضافةً إلى لُغتِهِ البَشْتو، وألَّفَ عددًا من الكُتُب، منها: (البقرةُ الصَّفْراء)، و (تعالَوْا لنبدأَ العَمَلَ)، و (اللَّحْم المُجفَّفُ)، وكُلُّها استِهْزاءٌ بالإسلامِ. وينتمي هو إلى قَبيلةِ البَشْتو، وكانت نهايةُ محمد تراقي على يَدِ صديقِهِ ورَفيقِهِ حفيظ الله أمين إثْرَ عَودتِهِ من (هافانا) عاصمةِ كوبا.
الفَقيهُ الشافعيُّ أبو القاسمِ عبدُ الكَريمِ بنُ هوازن القُشيريُّ، النَّيسابوريُّ، مُصَنِّفُ ((الرِّسالة القُشيريَّة)) المشهورة وغيرَها، كان عَلَّامةً في الفِقْهِ والتَّفسيرِ والحَديثِ والأُصولِ والكِتابَةِ والأَدبِ والشِّعْرِ وعِلْمِ التَّصَوُّفِ، جَمعَ بين الشَّريعَةِ والحَقيقَةِ، أَصلُه من ناحِيَةِ أستوا من العَربِ الذين قَدِموا خُراسان، وُلِدَ في شَهرِ رَبيعٍ الأَوَّلِ سَنةَ 376هـ. تُوفِّي أَبوهُ وهو صَغيرٌ، فَقرأَ واشتَغلَ بالأَدبِ والعَربيَّةِ في صِباهُ، وكان أَوَّلًا من أَبناءِ الدُّنيا، فجَذَبَهُ أبو عليٍّ الدَّقَّاقُ فصارَ من الصُّوفِيَّةِ, وتَفَقَّه على بكرِ بنِ محمدٍ الطُّوسيِّ، وأَخذَ الكَلامَ عن ابنِ فورك، وصَنَّفَ ((التَّفسير الكَبير)) و((لَطائِف الإشارات))، وكان يَعِظُ ويَتَكلَّم بكَلامِ الصُّوفيَّةِ, وبعدَ وَفاةِ أبي عليٍّ الدَّقَّاقِ سَلَكَ مَسلَكَ المُجاهَدَةِ والتَّجريدِ وأَخذَ في التَّصنيفِ، وخَرجَ إلى الحَجِّ في رُفقَةٍ فيها الشيخُ أبو محمدٍ الجوينيُّ والدُ إمامِ الحَرمَينِ، وأَحمدُ بنُ الحُسينِ البيهقيُّ وجَماعةٌ من المَشاهيرِ، فسَمِعَ معهم الحَديثَ ببغدادَ والحِجازِ, وكان له في الفُروسِيَّةِ واستِعمالِ السِّلاحِ يَدٌ بَيضاءُ، وأمَّا مَجالِسُ الوَعْظِ والتَّذكيرِ فهو إمامُها، وعَقَدَ لِنَفسِه مَجلِسَ الإملاءِ في الحَديثِ. ذَكَرَهُ الخَطيبُ في تاريخِه قال: "قَدِمَ علينا في سَنةِ 448هـ، وحَدَّثَ ببغداد، وكَتَبنا عنه، وكان ثِقَةً، وكان يَقُصُّ، وكان حَسَنَ المَوعِظَةِ، مَلِيحَ الإشارةِ، وكان يَعرِف الأُصولَ على مَذهبِ الأَشعريِّ، والفُروعَ على مَذهبِ الشافعيِّ" وتُوفِّيَ صَبيحةَ يومِ الأحدِ قبلَ طُلوعِ الشمسِ سادس عشر ربيعٍ الآخر سَنةَ 465هـ بمَدينةِ نَيسابور، عن 89 عامًا, ودُفِنَ بالمدرسةِ تحت شَيخِه أبي عليٍّ الدَّقَّاقِ.