لَمَّا استولى عبدُ المؤمن بنُ علي قائدُ المُوحِّدينَ على مراكش، أحضَرَ اليهودَ والنَّصارى، وقال: إنَّ الإمامَ المَهديَّ أمَرَني ألَّا أُقِرَّ النَّاسَ إلَّا على مِلَّةٍ واحدةٍ وهي الإسلامُ، وأنتم تَزعُمونَ أنَّ بعد الخَمسِمئة عام يظهَرُ مَن يُعضِّدُ شريعتَكم، وقد انقَضَت المُدَّةُ، وأنا مُخَيِّرُكم بين ثلاثٍ: إمَّا أن تُسلِموا، وإمَّا أن تَلحَقوا بدارِ الحَربِ، وإمَّا أن أضرِبَ رِقابَكم، فأسلم منهم طائِفةٌ، ولَحِقَ بدار الحَربِ أخرى. وأخرَبَ عبدُ المؤمِنِ الكنائسَ والبِيَعَ ورَدَّها مساجِدَ، وأبطل الجِزيةَ، وفعل ذلك في جميعِ ولاياتِه.
سار الإمامُ تركي بن عبد الله غازيًا من الرياض بجميعِ غَزوِه من نواحي رعاياه، ونزل الرمحية -الماء المعروف في العرمة- وأقام فيها نحو 40 يومًا ووفد عليه كثيرٌ من رؤساء العُربان من أهل الشمال، وأتاه كثيرٌ مِن الهدايا من رؤساءِ الظفير والمنتفق وغيرهم، وأتى إليه مكاتباتٌ من علي باشا والي بغداد، ثم بعث الإمام عمالَه لعُربان نجد يقبِضون منهم الزكاةَ، فكُلُّهم سَمِعوا وأطاعوا وأدَّوا الزكاة سوى العجمان، ثم رحل إليهم من موضِعِه الذي كان فيه، فلما بلغهم قدومُه عليهم، دفعوا الزكاةَ لعُمَّالِه.
تشكَّلت المحاكمُ العسكرية لمحاكَمةِ وزير الدفاعِ في الحكومة المصرية الجديدة أحمد عرابي وأنصارِه. وفي يوم 3 ديسمبر 1882م صدرَ الحُكمُ بإعدام عرابي، ومحمود سامي البارودي، وعلي فهمي، وعبد العال حلمي، وغيرهم. واستُبدِلَ بالحُكمِ النفيُ المؤبَّدُ إلى جزيرة سيلان (سيريلانكا حاليًّا) مع تجريدِهم مِن الرُّتَب العسكرية ومصادَرةِ أملاكهم. كما حُكِمَ على محمد عبده وغيرِه بالنَّفيِ خارج مصر، وسُجِنَ الكثير من المصريين. وبذلك انتهت الثورةُ العرابيةُ، وبدأ الاحتلالُ البريطانيُّ لمصر الذي استمر أكثَرَ من سبعين عامًا!
في ثالث عشر المحرم دخل السلطان الظاهر بيبرس إلى دمشق، وسبق العساكر إلى بلاد حلب، فلما توافدت إليه أرسل بين يديه الأميرَ بدر الدين الأتابكي بألف فارس إلى البلستين بتركيا، فصادف بها جماعةً مِن عسكر الروم فرَكِبوا إليه وحَمَلوا إليه الإقاماتِ، وطلب جماعةٌ منهم أن يدخلوا بلادَ الإسلام فأذِنَ لهم، فدخل طائفةٌ منهم بيجار وابن الخطير، فرسم لهم أن يدخلوا القاهرةَ فتلقَّاهم الملك السعيد بركة بن السلطان بيبرس، ثم عاد السلطان من حَلَبَ إلى القاهرة، فدخلها في ثاني عشر ربيع الآخر، ثم ركِبَ السلطان من مِصرَ في العساكر فدخل دمشق في سابع عشر شوال، فأقام بها ثلاثةَ أيام، ثم سار حتى دخل حلب في مستهَلِّ ذي القعدة، فأقام بها يومًا ورسم لنائب حلب أن يقيم بعسكَرِ حَلَب على الفراتِ لحِفظِ المنائر، وسار السُّلطان الظاهر بيبرس فقطع الدربند في نصف يوم، ووقع سنقر الأشقر في أثناء الطريقِ بثلاثة آلاف من المغول فهزمهم يوم الخميسِ تاسع ذي القعدة وصَعِدَ العسكر على الجبالِ فأشرفوا على وطأة البلستين، فرأوا التتار قد رتَّبوا عسكرهم وكانوا أحدَ عَشَرَ ألف مقاتل، وعَزَلوا عنهم عسكَرَ الروم خوفًا من مخامرتهم، فلمَّا تراءى الجمعان حملت ميسرةُ التتار فصَدَمت رماح السلطان، ودخلت طائفةٌ منهم بينهم فشقُّوها، وساقت إلى الميمنة، فلما رأى السلطان ذلك أردف المسلمينَ بنفسه ومن معه، ثم لاحت منه التفاتةٌ فرأى الميسرة قد كادت أن تتحطَّمَ فأمر جماعةً من الأمراء بإردافها، ثم حمل العسكرُ جميعُه حملةً واحدة على التتار فترجَّلوا إلى الأرض عن آخرهم، وقاتلوا المسلمينَ قتالًا شديدًا، وصبر المسلمون صبرًا عظيمًا، فأنزل اللهُ نَصرَه على المسلمين، فأحاطت بالتتارِ العساكرُ مِن كل جانب، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وقتل من المسلمين أيضًا جماعةً، وأسر جماعةً من أمراء المغول، ومن أمراءِ الروم، وهرب حاجِبُ السلطان السلجوقي, فنجا بنفسه، ودخل قيسارية بفلسطين في بكرة الأحد ثاني عشر ذي القعدة، وأعلم أمراءُ الروم مَلِكَهم بكسرةِ التتار على البلستين، وأشار عليهم بالهزيمةِ فانهزموا منها وأخلوها، فدخلها الملكُ الظاهر وصلى بها الجمعةَ سابع ذي القعدة، وخُطِبَ له بها، ثم كرَّ راجعًا مؤيَّدًا منصورًا، وسارت البشائِرُ إلى البلدان ففرح المؤمنون يومئذ بنصر الله، ولما بلغ خبَرُ هذه الوقعة ملكَ التتار أبغا بن هولاكو جاء حتى وقف بنفسه وجيشِه، وشاهد مكان المعركة ومَن فيها من قتلى المغول، فغاظه ذلك وأعظَمَه وحنق على البرواناه؛ إذ لم يُعلِمه بجليَّة الحال، وكان يظنُّ أمر الملك الظاهر دون هذا كلِّه، واشتد غضَبُه على أهل قيسارية وأهلِ تلك الناحية، فقتَلَ منهم قريبًا من مائتي ألف، وقيل قتل منهم خمسمائة ألف من قيسارية وأرزن الروم، وكان في جملةِ مَن قُتِلَ القاضي جلال الدين حبيب، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون.
تجَدَّدَت الفِتنةُ ببغدادَ بينَ السُّنَّة والشِّيعة، وكان سبَبُ ذلك أنَّ الوزيرَ أبا القاسم عليَّ بنَ أحمد الملَقَّب بالمذكور أظهَرَ العَزمَ على الغَزاة، واستأذن الخليفةَ في ذلك، فأَذِنَ له، وكُتِبَ له منشورٌ من دار الخلافة، وأعطى عَلَمًا، فاجتمَعَ له لفيفٌ كثيرٌ، فسار واجتاز ببابِ الشعير، وطاق الحراني، وبين يديه الرِّجالُ بالسِّلاحِ، فصاحوا بذِكرِ أبي بكرٍ وعُمَرَ، رَضِيَ الله عنهما، وقالوا: هذا يومُ مُعاوية، فنافَرَهم أهلُ الكَرخِ ورَمَوهم، وثارت الفِتنةُ، ونُهِبَت دورُ اليَهودِ؛ لأنَّهم قيل عنهم إنَّهم أعانوا أهلَ الكَرخِ، فلمَّا كان الغدُ اجتمع السُّنَّةُ من الجانِبَينِ، ومعهم كثيرٌ مِن الأتراكِ، وقصدوا الكَرخَ، فأحرقوا وهَدَّموا الأسواق، وأشرف أهلُ الكَرخِ على خُطَّةٍ عظيمة. وأنكَرَ الخليفةُ ذلك إنكارًا شديدًا، ونَسَب إليهم تخريقَ عَلامتِه التي مع الغزاةِ، فركب الوزيرُ فوَقَعَت في صَدرِه آجُرَّة، فسَقَطَت عِمامَتُه، وقُتِلَ مِن أهل الكرخِ جماعةٌ، وأُحرِقَ وخُرِّبَ في هذه الفتنةِ سُوقُ العَروسِ، وسوقُ الصَّفَّارين، وسوقُ الأنماط، وسوق الدقَّاقين، وغيرها، واشتد الأمرُ، ووقع القتالُ في أصقاع البلَدِ مِن جانبيه، وقَتَلَ أهلَ الكَرخِ، ونهر طابق، والقَلَّائين– صَنعتُهم القَليُ-، وباب البصرة، وفي الجانب الشَّرقيِّ أهل سوقِ الثلاثاء، وسُوق يحيى، وباب الطاق، والأساكفة، والرهادرة، ودرب سليمان، فقُطِعَ الجِسرُ ليُفَرَّقَ بين الفريقين، ودخل العَيَّارون– والعيارون: لُصوصٌ يَمتَهِنونَ النَّهبَ والدعارةَ - البلدَ، وكَثُرَ الاستقفاءُ بها ليلًا ونهارًا. وأظهر الجندُ كراهةَ المَلِك جلالِ الدَّولة، وأرادوا قَطعَ خُطبتِه، ففَرَّقَ فيهم مالًا وحَلَفَ لهم فسَكَنوا، ثم عاودوا الشَّكوى إلى الخليفةِ منه، وطَلَبوا أن يأمُرَ بقَطعِ خُطبتِه، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، فامتنع حينئذ جلالُ الدَّولة من الجلوس، ودامت هذه الحالُ إلى عيدِ الفِطرِ، ثمَّ حدث في شوال فتنةٌ بين أصحابِ الأكْيِسة وأصحابِ الخِلعانِ، وهما شيعةٌ، وزاد الشَّرُّ، ودام إلى ذي الحِجَّة، فنودي في الكَرخِ بإخراجِ العَيَّارين، فخرجوا، واعتَرَض أهلُ باب البصرة قومًا مِن قُمٍّ أرادوا زيارةَ مَشهدِ عليٍّ والحُسَين، فقَتَلوا منهم ثلاثةَ نَفَر، وامتنَعَت زيارةُ مَشهَدِ موسى بنِ جَعفَر.
هو الشاعر والناقد أبو الحسن حازم بن محمد بن حازم الأنصاري القرطاجني. ولد سنة 608هـ )1211م) في قرطاجنة وإليها نسب، ونشأ في أسرة ذات علم ودين، فأبوه كان فقيهًا عالِمًا، تولى والده قضاء قرطاجنة أكثر من أربعين عامًا، وقد عني بولده حازم فوجهه إلى طلب العلم مبكرًا. وبعد أن سقطت قرطاجنة ومرسية في أيدي القشتاليين للمرة الأولى سنة 640هـ (1243م) غادر عدد كبير من العلماء والأدباء الأندلس، ووجهوا شطرهم إما إلى بلاد المشرق الإسلامي أو إلى بلاد المغرب، وكان حازم القرطاجني ممن استقر به المقام في مراكش، والتحق بحاشية حاكم الموحدين أبي محمد عبد الواحد الملقب بالرشيد، وكان بلاطه عامرًا بالأدباء والشعراء، ثم ما لبث أن ترك مراكش إلى تونس، واتصل بسلطانها أبي زكريا الحفصي، فعرف له فَضلَه وعِلمَه، فقَرَّبه منه، وعيَّنه كاتبًا في ديوانه. ولما توفِّي أبو زكريا الحفصيُّ خلفه ابنه أبو عبد الله محمد المستنصر، وكان على شاكلة أبيه في احترامِ العلماء والأدباء وتقديرهم؛ ولهذا وجد حازم القرطاجني في ظِلِّ حُكمِه كل عناية وتقدير، وكان المستنصِرُ يثق به وبذوقه الأدبي، فكان يدفع إليه ببعض المؤلفات ليرى فيها رأيه ويقرر مستواها العلمي. وظل حازم القرطاجني في تونس ولم يغادرها، محاطًا بكل عناية من حكام الدولة الحفصية، موزعًا وقته بين العمل في الديوان وعقد حلقات العلم لتلاميذه، حتى تُوفِّي في ليلة السبت 24 من رمضان من هذه السنة.
هو العلامة قاضي القضاة بدر الدين أبو الثناء- وقيل أبو محمد- محمود ابن القاضي شهاب الدين أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود العينتابي الحنفي، قاضي قضاة الديار المصرية، وعالِمُها ومؤرِّخُها، وُلِدَ بعينتاب في رمضان سنة 762، ونشأ بها، وتفقه بوالده بعد حفظه القرآن الكريم، ثم رحل إلى حلب ثم القاهرة، إلى أن تولى فيها النظر في الأحباس- الأوقاف- ثم القضاء، كان مقربًا جدًّا من السلطان الأشرف برسباي، كان فقيهًا أصوليًّا نحويًّا، لغويًّا، وأفتى ودرَّس سنين، وصنف التصانيف المفيدة النافعة، وكتب التاريخ، ومن أشهر مصنفاته "عمدة القاري في شرح صحيح البخاري"، أما في التاريخ فاشتهر بكتابه الكبير "عقد الجُمان في تاريخ أهل الزمان"، وله "مصطلح الحديث ورجاله"، وله "شرح الهداية في الفقه الحنفي" وله "شرح الكنز في الفقه الحنفي" أيضًا وله "شرح سنن أبي داود" وله أكثر من كتاب في سير بعض السلاطين المماليك الشراكسة الذين عاصرهم. وله منظومة في سيرة الملك المؤيد شيخ, وكان نظمه منحطًّا إلى الغاية، وربما يأتي به بلا وزن، وقد جرد شيخُ الإسلام ابن حجر العسقلاني منها الأبياتَ الركيكة، والتي بلا وزن، فبلغت نحو أربعمائة بيت في كتاب، وسماه: "قذى العين من نظم غرابِ البين"، وكان بينهما منافسة. توفي في ليلة الثلاثاء رابع ذي الحجة، ودفن من الغد بمدرسته التي أنشأها تجاه داره بالقرب من جامع الأزهر.
أُطلِعَ صالح رايس- والي الجزائر من قِبَل العثمانيين- على تلك المؤامرةِ التي كانت تُحاك ضِدَّ الدولة العثمانية بين ملكِ المغرب السلطانِ الشيخ المهدي أبي عبد الله محمد السعدي والإسبان، والتي كان هدفُها طردَ العثمانيين من الجزائر؛ لأنَّه طالما أن الدولة في الجزائر معناه خطرٌ على إسبانيا، فبعث صالح رايس للباب العالي يخبرُه بشأن تلك المحادثات، فكان جوابُ السلطان سليمان سريعًا وحاسمًا بوجوبِ مهاجمة وهران قبل أن تسفِرَ المحادثات بين الجانبين السعدي والإسباني عن نتيجةٍ عملية، فأرسل السلطانُ سليمان أربعين سفينة لمساعدة رايس في الاستيلاءِ على وهران والمرسى الكبير، ومنذ ذلك الوقت كانت الهجرةُ والتجنيدُ الطوعي من مختلِفِ أنحاء الدولة العثمانية، فاستعَدَّ صالح رايس لفتح وهران، وضَمَّ أسطوله الى جانب أسطول السلطان، وصار لديه نحو سبعين سفينة، واجتمع لديه من الجند ما يقارب من أربعين ألف جندي، وكان ينوي من إتمام زحفه هذا بالمسير الى مراكش للقضاء على الفِتَن والاضطرابات وإخضاعها لسلطانه، ولكن القَدَر لم يمهِلْه، فتوفِّي صالح رايس بالطاعون في شهر رجب 963هـ وقام القائد يحيى بإكمال خطة صالح رايس، فأبحر نحو وهران، وفي الطريق وصلت الأوامر السلطانية بتعيين حسن قورصو لمنصب بيلرباي، ووصلت الجيوش البرية والبحرية إلى وهران، وحوصرت حصارًا شديدًا، إلَّا أنها لم تُفتحْ رغم استعدادات العثمانيين الكبيرة؛ وذلك بسبب النجدات المتواصلة التي كانت تبعثُها إسبانيا إلى المدينة المحاصَرة.
عزم الحاكِمُ الخالدي عريعر بن دجين وحلفاؤه الهجومَ على الدرعية والقضاء على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي كانت تحت حمايةِ محمد بن سعود أميرِ الدرعية. فأمر الشيخُ والأمير جميعَ أتباعِهم في بلدان نجدٍ بالاستعداد والتحصُّن، وبنى عبد العزيز بن محمد على الدرعية سورينِ عليهما البروج, فلمَّا بدأ عريعر بالخروجِ ومعه أهل الأحساءِ وبنو خالد وأهل سدير والوشم والرياض والخرج، ويعاوِنُهم في ذلك كلُّ من ناصب الدَّعوةَ أو دولةَ الدرعية العداءَ، فأناخ أهلُ الوشم وسدير والمحمل ورئيسُهم ابن عدوان على حريملاء، وأخذوا يقاتلون أهلها ثلاثة أيام، فقُتِل منهم رجال ولم ينالوا أيَّ نصر, فرحلوا عنها وطلبوا من عريعر أن يمدَّهم بجيوش من عنده فأمَدَّهم بآل عبيد الله من بني خالد وبفريقٍ من عنزة ورئيسهم ابن هذال، فأناخوا جميعًا على حريملاء مرة أخرى وأحاطوا بها ودخَلَها منهم ثلاثُ فِرَقٍ، فخرج إليهم أهل البلد وقاتلوهم وطردوهم مهزومين، وقتلوا منهم عشرة رجالٍ، وأصابوا كثيرين بجراحٍ، ولحقوهم بعد هذا النصر إلى حيث كانوا مُنيخين، فلما رأوهم مُقبلين عليهم ولَّوا على الأعقاب مُدبرين إلى أن وصلوا إلى عريعر بن دجين وجماعته, ثم هجموا جميعًا على الجبيلة فجاء المددُ من الدرعية للجبيلة، وأحاطوا بالمتحالفين حتى ألجؤوهم إلى الفرار بعد أن قتلوا منهم 60 رجلًا، بينما قُتل من أهل الجبيلة والمدد 10 رجال فقط.
في بدايةِ عَهدِ الملك عبد العزيز كان التعليمُ في معظم أنحاء الجزيرة العربية -عدا منطقتي الحجاز والأحساء اللَّتينِ كانتا تخضعان للحكم العثماني- يعتَمِدُ على النظام التقليدي (الكتاتيب)، ولم يكن في نجدٍ وما حولها أيُّ مدرسة نظامية، وإنما حلقات لدراسة العلوم الشرعية، والتاريخ واللغة في المساجد والجوامع والكتاتيب التي يُعلَّم فيها الأطفال في المنازل القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وتمَّ فتحُ أول مدرسة في الرياض على يدِ الشيخ عبد الله آل الشيخ بعد أن عاد إلى نجدٍ من الحجاز، ثم ظهرت مدارسُ العلماء في منازلهم يهتمُّون فيها بحفظ القرآن الكريم، وتعلُّم أصول الفقه، والحديث، والعقيدة، والتاريخ، والسيرة، ويتخرج الطلبةُ من هذه المدارس على أساسِ العمَلِ في القضاء، وبعد ضَمِّ الحجاز أُعجِبَ الملك عبد العزيز بنظام التعليم الحجازي، فأسَّس في هذا العام إدارةَ المعارف العامة التي جَلَبت المعلمين من الدول العربية، وتأسَّس في نفس العام 12 مدرسة حكومية وأهلية في الرياض وما حولها، ثم انتشرت في المدنِ الكبيرة، وما إن حَلَّ عقدُ السبعينيات الهجري حتى أصبح عددُ المدارس الابتدائية 90 مدرسة، و10 مدارس ثانوية، و50 مدرسة في القرى يَدرُسُ فيها 16 ألف طالب، ثم توسَّع التعليمُ في المملكة بتوسُّع مناهجه وأساليبه، وفتح مدارس لتعليم البنات، وإرسال البعثات الطلابية للخارج، واستقدام الكفاءات العربية والأجنبية، وأُنشِئَت كلية الشريعة في مكة عام 1365هـ.
تطَلَّعَ بنو بُوَيه الديلم الشِّيعيَّة إلى السيطرةِ على العراقِ مَقَرِّ الخلافة، وقيل: إنَّ أصلَهم يرجِعُ إلى ملوك ساسان الفارسيِّين الذين شُرِّدوا، فاتَّخَذوا من إقليمِ الديلم الواقع في المنطقة الجبليَّة جنوبيَّ بَحرِ قزوين ملجأً لهم ومقرًّا, وسُمُّوا بالدَّيلمة؛ لطُولِ مُجاورتِهم الدَّيلم. تزعَّم أبو شجاع بُوَيه قبائلَ البُويهيِّينَ سنة 322 - 329 والذى ينتهي نسَبُه إلى الملك الفارسي يزد جرد، وقد أنجب ثلاثة من الذكور، هم: أبو الحسن علي (عماد الدولة)، وأبو على الحسن (ركن الدولة)، وأبو الحسين أحمد (معز الدولة). وكانت بدايةُ الدولة البويهيَّة باستيلاءِ أبي الحسن عليِّ بن بويه على أرجان وغيرها، وقد دخل أبو الحسن علي على شيراز سنة 322، وجعلها عاصمةً لدولته الجديدة، كما دخل فارسَ، وأرسل إلى الخليفةِ الراضي أنَّه على الطاعة. واستولى أبو الحُسَين أحمد بن بويه سنة 326 على الأهواز، وكاتبه بعضُ قواد الدولة العباسيَّة، وزيَّنوا له التوجُّهَ نحو بغداد، وفى سنة 334هـ/ 946م، اتَّجه أبو الحسين أحمد بن بويه نحو بغداد بقُوَّة حربيَّة، فلما جاءت الأخبارُ بأنَّه قد أقبل في الجيوشِ قاصِدًا بغداد، اختفى ابن شيرزاد والخليفة المستكفي بالله، فأقبل أحمدُ بن بويه في جحافِلَ عظيمةٍ مِن الجيوش، فلمَّا اقترب من بغداد بعَثَ إليه الخليفة المستكفي بالله الهَدايا والإنزالات، وقال للرَّسول: أخبِرْه أني مسرور به، وأنِّي إنما اختفيتُ مِن شَرِّ الأتراك، وبعث إليه بالخِلَع والتُّحَف، ودخل أحمدُ بن بويه بغداد في جمادى الأولى وافتتَحَها في سهولةٍ ويُسرٍ، فلم تستطِعْ حامَيتُها التركيةُ مُقاومَتَه، ففَرَّت إلى الموصل، نزل الحسينُ بنُ احمد بن بويه بباب الشماسية، ودخَلَ مِن الغَدِ إلى الخليفة فبايعه, ولقَّبَه الخليفةُ المستكفي بمُعِزِّ الدولة، ولقَّبَ أخاه عليًّا عماد الدولة، ولَقَّبَ أخاه الحسن ركن الدولة، وأمر أن تُكتَبَ ألقابهم على الدَّراهم والدنانير، ولكِنَّ أبا الحسين أحمد بن بويه مُعِزَّ الدولة لم يكتَفِ بهذا اللقب الذي لا يزيدُ على كونِه أميرَ الأمراء. وأصَرَّ على ذِكرِ اسمِه مع اسم الخليفةِ في خُطبةِ الجُمعة، وأن يُسَكَّ اسمُه على العملة مع الخليفة. نزل معزُّ الدولة بدار مؤنس الخادم، ونزل أصحابُه من الديلم بدور الناس، فلقِيَ الناس منهم ضائقةً شديدة، وأمَّنَ مُعِزُّ الدولة ابن شيرزاد، فلما ظهر استكتَبَه على الخَراجِ، ورتَّبَ للخليفة نفقاتِه خَمسةَ آلافِ درهم في كلِّ يومٍ.
جَرَت فِتنةٌ بين السُّنَّة والرافضة، سَبَبُها أنَّ بعضَ الهاشميِّينَ قصد أبا عبدِ اللهِ مُحَمَّدَ بنَ النُّعمانِ المعروفَ بابنِ المُعَلِّم، كان فقيهَ الشِّيعةِ في مسجِدِه بدرب رباح، فعَرَض له بالسَّبِّ، فثار أصحابُه له، واستنفَرَ أصحاب الكَرخِ، وصاروا إلى دار القاضي أبي محمَّدٍ الأكفاني والشيخ أبي حامدٍ الإسفرايينيِّ، وجَرَت فِتنةٌ عظيمة طويلة، وأحضَرَت الشِّيعةُ مُصحَفًا ذكَروا أنَّه مُصحَفُ عبدِ الله بن مسعود، وهو مخالِفٌ للمصاحِفِ كُلِّها، فجمَعَ الأشرافُ والقُضاةُ والفُقَهاءُ في يومِ جُمُعة لليلة بَقِيَت من رجب، وعُرِضَ المُصحَفُ عليهم فأشار الشيخ أبو حامدٍ اللإسفراييني والفُقَهاء بتحريقه، ففعل ذلك بمحضَرٍ منهم، فغَضِبَ الشيعةُ مِن ذلك غضبًا شديدًا، وجعلوا يَدعونَ ليلةَ النِّصفِ مِن شعبان على مَن فعَلَ ذلك ويَسُبُّونَه، وقصَدَ جماعةٌ مِن أحداثِهم دارَ الشَّيخِ الإسفرايينيِّ ليُؤذوه، فانتقل منها إلى دار القطن، وصاحوا يا حاكِمُ يا منصورُ، وبلغ ذلك الخليفةَ فغَضِبَ وبَعَث أعوانَه لنُصرةِ أهلِ السُّنَّة، فحُرِّقَت دورٌ كثيرة مِن دُورِ الشِّيعة، وجَرَت خطوبٌ شديدة، وبعث عميدُ الجيوشِ إلى بغداد لينفيَ عنها ابنَ المُعَلِّم فقيه الشيعة، فأُخرِجَ منها ثمَّ شُفِّعَ فيه، ومنَعَ القُصَّاصَ مِن التعَرُّضِ لذِكرِ الشَّيخَينِ، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنهم، وعاد الشيخُ أبو حامد الإسفرايينيِّ إلى داره على عادتِه.
بايع أهلُ بغداد إبراهيمَ بن المهدي بالخلافة، ولقَّبوه المبارك، وخلعوا المأمون، وبايعه سائِرُ بني هاشم، فكان المتولِّي لأخذ البيعةِ المطَّلِب بن عبدالله بن مالك، فكان الذي سعى في هذا الأمر السِّندي، وصالحًا صاحِبَ المصلَّى، ونَصيرًا الوصيفَ، وغيرَهم؛ غضبًا على المأمونِ حين أراد إخراجَ الخلافة من ولَدِ العباس، ولِتَركِه لباسَ آبائِه من السَّواد. فلما فرغَ مِن البيعةِ وعد الجُندِ رِزقُ سِتَّة أشهر، ودافَعَهم بها فشَغَّبوا عليه، فأعطاهم لكلِّ رجلٍ مائتي درهم، وكتب لبعضِهم إلى السَّوادِ بقيَّة مالهم حنطةً وشعيرًا فخرجوا في قبضها فانتهبوا الجميعَ، وأخذوا نصيبَ السُّلطانِ وأهلِ السواد، واستولى إبراهيمُ على الكوفة والسوادِ جميعِه، وعسكَرَ بالمدائن، واستعمل على الجانبِ الغربيِّ مِن بغداد العباسَ بنَ موسى الهادي، وعلى الجانب الشرقيِّ منها إسحاقَ بن موسى الهادي.
كان الوزيرُ ابن العلقمي يجتَهِدُ في صرف الجيوش وإسقاطِ اسمِهم من الديوان، فكانت العساكِرُ في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء ومن هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلِهم إلى أن لم يبقَ سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتارَ وأطمعهم في أخذِ البلاد، وسَهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقةَ الحال، وكشَفَ لهم ضعف الرجال، وذلك كلُّه طمعًا منه أن يزيل السُّنَّة بالكُلِّيَّة، وأن يُظهِرَ البِدعةَ الرَّافضية، وأن يقيمَ خليفةً مِن الفاطميِّينَ، وأن يُبيدَ العلماء والمُفتين- والله غالبٌ على أمرِه- كانت الفِتَنُ قد استعرت بين السُّنة والرافضة في بغداد حتى تجالَدوا بالسيوف، وشكا أهلُ باب البصرة إلى الأمير ركن الدين الدويدار والأمير أبي بكر بن الخليفة فتَقَدَّما إلى الجند بنَهبِ الكرخ، فهَجَموه ونهبوا وقتلوا، وارتكبوا من الشنعة العظائم، فحنق ابنُ العلقمي ونوى الشرَّ، وأمر أهل الكرخ بالصَّبرِ والكف. فمالأ- قبَّحَه اللهُ- على الإسلامِ وأهلِه المغولَ الكَفَرةَ وزَعيمَهم هولاكو، حتى فعل ما فعل بالإسلامِ وأهلِه، خاصة في بغداد- عليه من الله ما يستحقُّ- كان قدوم هولاكو بجنوده كلها- وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشرَ المحرم من هذه السنة، وجاءت إليهم أمدادُ صاحب الموصل يساعِدونَهم على أهل بغداد, وميرته وهداياه وتُحَفه، وكل ذلك خوفًا على نفسه مِن التتار، ومصانعةً لهم، وقد سُتِرَت بغداد ونُصِبَت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة، فأحاطوا ببغدادَ مِن ناحيتها الغربيَّة والشرقية، وجيوش بغداد في غايةِ القِلَّة ونهاية الذِّلَّة، لا يبلغونَ عَشرةَ آلاف فارس، وهم وبقيَّة الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتِهم وذلك كلُّه عن آراء الوزيرِ ابن العلقميِّ الرافضي، الذي دبَّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيعِ، الذي لم يؤرخ أبشَعُ منه منذ بُنِيَت بغداد، وكان أوَّلَ مَن برز إلى التتار هو، فخرج بأهلِه وأصحابِه وخَدَمِه وحَشَمِه، فاجتمع بالسلطانِ هولاكو خان- لعنه الله- ثم عاد فأشار على الخليفةِ بالخروجِ إليه والمثول بين يديه لتقَعَ المصالحة على أن يكون نِصفُ خراج العراق لهم ونِصفُه للخليفة، فخرج الخليفةُ في سبعمائة راكبٍ مِن القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتَرَبوا من منزل السلطان هولاكو خان حُجِبوا عن الخليفةِ إلا سبعة عشر نفسًا، فخَلَص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزِلَ الباقون عن مراكبهم فنُهِبَت وقُتِلوا عن آخرهم، وأُحضِرَ الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال: إنَّه اضطرب كلامُ الخليفة من هَولِ ما رأى من الإهانةِ والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صُحبَتِه خوجه نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفةُ تحت الحوطة والمصادرة، فأحضَرَ مِن دار الخلافة شيئًا كثيرًا مِن الذهب والحُلِيِّ والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرَّافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو ألَّا يصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلحُ على المناصفة لا يستمِرُّ هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحَسَّنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفةُ إلى السلطان هولاكو أمر بقَتلِه، ويقال: إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصيرُ عند هولاكو قد استصحبه في خدمَتِه لما فتح قلاع ألموت التي للإسماعيلية، وانتزعها من أيديهم، وانتخب هولاكو الطوسيَّ ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قَدِمَ هولاكو وتهيبَ مِن قَتلِ الخليفة هَوَّن عليه الوزير ذلك فقتلوه، فباؤُوا بإثمِه وإثم من كان معه من ساداتِ العُلَماءِ والقُضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحَلِّ والعقد ببلاده، ومالوا على البلد فقَتَلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبَّان، ودخل كثيرٌ من الناس في الآبار وأماكِنِ الحشوش، وقنى الوسَخِ، وكَمَنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعةُ مِن الناس يجتمعون إلى الخانات ويُغلِقونَ عليهم الأبواب فتفتحها التتارُ إمَّا بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلونَ عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنةِ فيقتلونهم بالأسطُحِ، حتى تجري الميازيب من الدماءِ في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!! وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبُط، ولم ينجُ منهم أحد سوى أهل الذمَّة من اليهود والنصارى ومَن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفةٌ مِن التجَّار أخذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالًا جزيلةً حتى سَلِموا وسَلِمَت أموالهم، وعادت بغدادُ بعد ما كانت آنَسَ المدن كلِّها كأنها خرابٌ ليس فيها إلا القليلُ مِن الناس، وهم في خوفٍ وجوعٍ وذِلَّة وقلة! وكان دخولهم إلى بغداد في أواخِرِ المحرم، وما زال السيف يقتُلُ أهلَها أربعينَ يومًا، وكان الرجلُ من بني العباس يُستدعى به مِن دار الخلافة فيخرج بأولادِه ونسائه فيُذهَبُ به إلى مَقبرةِ الخَلَّال تجاه المنظرة فيُذبَحُ كما تُذبَحُ الشاة، ويؤسَرُ من يختارون من بناتِه وجواريه، وتعطَّلَت المساجد والجمع والجمعات مدة شهورٍ ببغداد، ولما انقضى الأمرُ المقَدَّر وانقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاويةً على عروشها ليس بها أحَدٌ إلا الشاذُّ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطَرُ فتغيرت صُوَرُهم وأنتنت من جِيَفِهم البلد، وتغيَّرَ الهواء فحصل بسببه الوباءُ الشديد حتى تعدى وسرى في الهواءِ إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير من تغيُّرِ الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاءُ والوَباءُ والفَناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولما نودي ببغداد بالأمانِ خرج من تحت الأرضِ مَن كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نُبِشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضُهم بعضًا، فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباءُ الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقَهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمرِ الذي يعلَمُ السر َّوأخفى، اللهُ لا إلهَ إلا هو له الأسماءُ الحسنى. حكى جمال الدين سليمان بن عبد الله بن رطلين قال: "لما قُتِلَ الخليفة, وأَطلَقَ المغول السبعة عشر الذين كانوا معه وكان أبي معهم، قُتِلَ منهم رجلان وطلب الباقونَ بيوتهم فوجدوها بلاقِعَ. فأتوا المدرسةَ المغيثية، وقد كُنتُ ظَهرتُ مِن مخبئي, فبقيت أسألُ عن أبي، فدُلِلْتُ عليه، فأتيتُه وهو ورفاقه، فسَلَّمت عليهم، فلم يعرفني أحدٌ منهم، وقالوا: ما تريد؟ قلت: أريدُ فخر الدين ابن رطلين. وقد عرفتُه، فالتفَتَ إليَّ وقال: ما تريد منه؟ قلت: أنا ولَدُه. فنظر إليَّ وتحقَّقني، فلما عرفني بكى!!". كان رحيل هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر مُلكِه، وفوَّضَ أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوَّضَ إليه الشحنكية بها وإلى الوزير ابن العلقمي الذي مات بعد أشهرٍ من هذه الحادثةِ غَمًّا وكَمَدًا, فولي بعده الوزارة ولدُه عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه اللهُ بأبيه في بقيَّة هذا العام.
كان الفرنجُ قد بَنَوا حِصنًا منيعًا يقارِبُ بانياس، عند بيت يعقوب، بمكان يُعرَف بمخاضة الأحزان؛ وقد حفروا فيه بئرًا وجعلوه لهم عينًا، وسلموه إلى الداوية، فلمَّا سمع صلاح الدين بذلك كتب إلى الفرنج يأمرهم بتخريبِ هذا الحصن الذي بنوه للداوية فامتنعوا إلا أن يبذُلَ لهم ما غرموه عليه، فبذل لهم ستين ألفَ دينار فلم يقبلوا، ثم أوصلهم إلى مائة ألف دينار، فقال له ابنُ أخيه تقي الدين عمر: ابذُلْ هذا إلى أجنادِ المسلمين وسِرْ إلى هذا الحصن فخرِّبْه، فأخذ بقولِه. فسار صلاح الدين من دمشق إلى بانياس، وأقام بها، وبثَّ الغاراتِ على بلاد الفرنج، ثم سار إلى الحصن ليخَرِّبَه ثم يعود إليه عند اجتماع العساكر، فلما نازل الحصن قاتل من به من الفرنجِ، ثم عاد عنه، ولم يفارِقْ بانياس بل أقام بها وخَيلُه تُغيرُ على بلاد العدو، وأرسل جماعةً مِن عسكره مع جالبي الميرة، فلم يشعُروا إلا والفرنجُ مع مَلكِهم قد خرجوا عليهم، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرِّفونه الخبر، فسار في العساكِرِ مُجِدًّا حتى وافاهم في القتال، فقاتل الفرنجُ قتالًا شديدًا، وحملوا على المسلمينَ عِدَّةَ حملات كادوا يزيلونَهم عن مواقفهم، ثم أنزل الله نَصْرَه على المسلمين، وهَزم المشركين، وقُتِلَت منهم مقتلة عظيمة، ونجا ملكُهم فريدًا وأُسِرَ منهم كثير، من أعيانهم ومقَدَّميهم، ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس من موضعِ المعركة، وتجهَّز للدخول إلى ذلك الحِصنِ ومحاصرته، فسار إليه وأحاط به، وقَوِي عزمُه على فتحه بعد هزيمة الفرنج، وبثَّ العساكر في بلد الفرنج للإغارة عليهم، ففعلوا ذلك، وجمع المسلمونَ مِن الأخشاب والزَّرجُون-وهي قضبان الكرم- شيئًا كثيرًا ليجعله متارِسَ لمجانيق الفرنج, ثم أشار جاولي الأسدي بالزحف أولًا فقَبِلَ رأيه، وأمَرَ فنودي بالزحف على الحصن، والجِدِّ في قتال من فيه، فزحفوا واشتد القتالُ، وعظم الأمرُ، فألح المسلمون في القتال؛ خوفًا من وصول الفرنج وإزاحتهم عنه، وأدركهم الليلُ، فلما كان الغد أصبحوا وقد نَقَبوا الحصن، وعمَّقوا النقب، وأشعلوا النيران فيه، وانتظروا سقوطَ السور، فسَقَط يوم الخميس لسِتٍّ بقين من ربيع الأول، ودخل المسلمونَ الحصن عَنوةً, فغنموا جميع ما فيه، وقد كان فيه مائة ألف قطعة من السلاح ومِن المأكل شيءٌ كثير، وأخَذَ منه سبعَمائة أسير، فقَتَل بعضَهم وأرسل الباقي إلى دمشق، وأطلقوا من كان به من أُسارى المسلمين، وأقام صلاحُ الدين بمكانه حتى هَدَم الحصن، وعفى أثَرَه، وألحقَه بالأرض. ثم عاد إلى دمشق مؤيَّدًا منصورا، غيرَ أنه مات من أمرائِه عشرة بسبب ما نالهم من الحرِّ والوباء في مدَّةِ الحصار، وكانت أربعة عشر يومًا.