انضَمَّت لالا فاطمة إلى المقاومة، وشاركت بجانب الشريفِ بوبغلة في المقاومة والدفاع عن منطقةِ جرجرة، فقاومت لالا فاطمة نسومر الاستعمارَ الفرنسي مقاومةً عنيفةً أبدت خلالَها شجاعةً وبطولة متفرِّدتين حتى توفِّيَت في سبتمبر 1863م؛ فقد شاركت في صَدِّ هجمات الفرنسيين عن ولاية "أربعاء ناث إيراثن" التابعة لولاية تيزي وزو شرقي الجزائر، فقطعت عليهم طريقَ المواصلات؛ ولهذا انضَمَّ إليها عددٌ من قادة الأعراش وشيوخِ القرى، فراحت تناوِشُ جيوش الاحتلال وتهاجِمُها، ويقال إنها هي التي فتكت بالخائِنِ سي الجودي، وأظهرت في إحدى المعارك شجاعةً قوية، وأنقَذَت الشريف بوبغلة الموجود في قرية سومر إثرَ المواجهة الأولى التي وقعت في قرية تزروتس بين قوات الجنرال ميسات والسكان، إلا أن هؤلاء تراجعوا بعد مقاومةٍ عنيفة؛ لغياب تكافؤ القوى عُدَّةً وعَدَدًا، وكان على الجنرال أن يجتازَ نقطتين صعبتين؛ هما: ثشكيرت، وثيري بويران، وفي هذا المكان كانت لالا فاطمة نسومر تقودُ مجموعة من النساء واقفاتٍ على قمة قريبة من مكان المعركة، وهن يحمِّسن الرجال بالزغاريد والنداءات المختلفة؛ مما جعل الثوارَ يستميتون في القتال. شارك الشريف بوبغلة في هذه المعركة وجُرِحَ، فوجد الرعايةَ لدى لالا فاطمة. كما حقَّقت لالا فاطمة انتصاراتٍ أخرى ضد الفرنسيين بنواحي (إيللتي وتحليجت ناث وبورجة وتوريتت موسى، تيزي بوايبر) ممَّا أدى بالسلطات الفرنسية إلى تجنيدِ جَيشٍ معتبر مكوَّن من 45 ألف مقاتل بقيادة الماريشال راندون، وبمؤازرة الماريشال ماك ماهون الذي أتاه بالعتادِ مِن قسطنطينة ليقابِلَ جيش لالا فاطمة الذي لا يتعدى 7000 مقاتل، وعندما احتدمت الحربُ بين الطرفين اتَّبع الفرنسيون أسلوب الإبادة بقتل كل أفراد العائلات دون تمييزٍ ولا شفقةٍ، وفي 19 ذي القعدة 1273هـ / 11 جولاي 1857م ألقِيَ القبض على لالا فاطمة، فحُكِمَ عليها بالإقامة الجبرية بـ(تورثاثين) بمنطقة العيساوية.
خرجت الفرنج فارسُها وراجِلُها من وراء خنادقهم في عكا، وتقَدَّموا إلى المسلمين، وهم كثيرٌ لا يُحصى عددهم، وقصدوا نحوَ عسكر مصر، ومُقَدَّمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريونَ قد ركبوا واصطَفُّوا للقاء الفرنج، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنجُ خيامَهم، ونَهَبوا أموالهم، فعطف المصريُّون عليهم، فقاتلوهم مِن وَسطِ خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجَّهت طائفة من المصريين نحو خنادِقِ الفرنج، فقطعوا المَدَد عن أصحابِهم الذين خرجوا، وكانوا متَّصِلينَ كالنمل، فلما انقطعت أمدادُهم ألقَوا بأيديهم، وأخَذَتْهم السيوفُ مِن كل ناحية، فلم ينج منهم إلا الشَّريدُ، وقُتِلَ منهم مقتلة عظيمة، يزيد عددُ القتلى على عشرة آلاف قتيل، وكانت عساكِرُ الموصل قريبةً من عسكر مصر، وكان مُقَدَّمُهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضًا على الفرنج، وبالغوا في قتالِهم، ونالوا منهم نيلًا كثيرًا، ولَمَّا جرى على الفرنج هذه الحادثة خَمَدت جمرتُهم، ولانت عريكتُهم، فلما كان بعد يومين أتت الفرنجَ أمدادٌ في البحر فعادت نفوسُهم فقَوِيَت واطمأنَّت، وأخبرهم أن الأمدادَ واصلة إليهم يتلو بعضُها بعضًا، فتماسكوا وحَفِظوا مكانهم، ثمَّ إن الكند هري نصَبَ منجنيقًا ودباباتٍ وعرادات، فخرج مَن بعكا من المسلمين فأخذوها، وقَتَلوا عندها كثيرًا من الفرنج؛ ثم إنَّ الكند هري بعد أخْذِ مجانيقه أراد أن ينصِبَ منجنيقًا، فلم يتمَكَّنْ من ذلك؛ لأن المسلمينَ بعكا كانوا يمنعونَ مِن عَمَلِ ستائِرَ يستَتِرُ بها مَن يرمي من المنجنيق، فعمل تلًّا من تراب بالبعد من البلد، ونَصَبوا وراءه منجنيقين، وصار التلُّ سترة لهما، وكانت الميرةُ قد قلَّت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمُرُهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخَّرَ إنفاذها، فسَيَّرَ إلى نائبه بمدينةِ بيروت في ذلك، فسَيَّرَ سفينةً عظيمة مملوءةً مِن كل ما يريدونه، وأمَرَ مَن بها فلَبِسوا ملبسَ الفِرنجِ وتَشَبَّهوا بهم ورفعوا عليها الصُّلبانَ، فلَمَّا وصلوا إلى عكا لم يشُكَّ الفِرنجُ أنَّها لهم، فلم يتعَرَّضوا لها، فلما حاذت ميناء عكَّا أدخلها مَن بها، ففرح بها المسلمون، وانتَعَشوا وقَوِيَت نفوسُهم، وتبلَّغوا بما فيها إلى أن أتَتْهم الميرةُ من الإسكندرية، ثم في حادي عشر شوال، خرج النصارى في عددٍ كالرمل كثرةً وكالنارِ جَمرةً، فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقالَ المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثةِ فراسِخَ عن عكَّا، وكان قد عاد إليه فَرقٌ مِن عساكِرِه لَمَّا هلك ملك الألمان، ولَقِيَ الفرنج على تعبئة حسنة، فسار الفرنجُ شَرقيَّ نهرٍ هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكِرَ الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية- جالش كلمة فارسية تعني تحدي- وأمطروا عليهم من السِّهام ما كاد يستُرُ الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربيَّ النهر، ولَزِمَهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنجُ قد تجمعوا، ولزم بعضُهم بعضًا، فلما كان الغدُ عادوا نحو عكا ليعتَصِموا بخندَقِهم، والجالشيةُ في أكتافهم يقاتلونهم تارةً بالسيوف وتارةً بالرماح وتارةً بالسهام، فلما بلغ الفرنجُ خَندَقَهم، ولم يكُنْ لهم بعدها ظهورٌ منه، عاد المسلمون إلى خيامِهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقًا كثيرًا، وفي الثالث والعشرين من شوال كَمَن جماعة من المسلمين، فخرج لهم الفرنجُ في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا الكمينَ، فخرجوا عليهم فلم يُفلِتْ من الفرنج أحد, واشتَدَّ الغلاء عليهم, ثم زاد الأمرُ شِدَّةً عليهم عند هيجانِ البَحرِ وانقطاعِ المراكِبِ في فصل الشتاء, فأرسى الفرنجُ مراكِبَهم بصور؛ خوفًا عليها على عادتِهم في صور في فَصلِ الشتاء, فانفتح الطريقُ إلى عكا في البَحرِ، فأرسل أهلُها إلى صلاح الدين يَشكُونَ ما نزل بهم، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين، فشكى مِن ضَجَرِه بطول المقام والحرب، فأمر صلاح الدين بإنفاذِ نائبٍ وعسكَرٍ إليها بدلًا منهم وأمَرَ أخاه العادِلَ بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبَلِ حيفا وجمَعَ المراكبَ والشواني- سفن حربية كبيرة- وبَعَث العساكر إليها شيئًا فشيئًا، كلما دخلت طائفةٌ خرج بدلها، فدخل عشرون أميرًا بدلا من ستين, وعادت مراكِبُ الفرنج بعد انحسارِ الشتاء فانقطعت الأخبارُ عن عكا وعنها، وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسلان مقَدَّم الأسدية، وابن عز الدين جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أوَّلَ سنة سبع وثمانين.
هو أبو بكرٍ مُحمَّدُ بنُ الحَسَن بن عبد الله بن مَذْحِج بنِ محمد بن عبد الله بن بشر الزبيدي الإشبيليُّ نَزيلُ قرطبة؛ كان واحِدَ عَصرِه في علم النحو وحِفظِ اللغة، وكان أخبَرَ أهلَ زمانِه بالإعراب والمعاني والنوادر، إلى علمِ السِّيَر والأخبار، ولم يكُنْ بالأندلس في فنه مثلُه في زمانه، وله كتُبٌ تدُلُّ على وفورِ عِلمِه؛ منها "مختصر كتاب العين" وكتاب "طبقات النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس" و "لحن العامة" و "الواضح في العربية" و "الأبنية في النحو" ليس لأحد مثله. واختاره الحَكَمُ المنتصِرُ بالله صاحِبُ الأندلس لتأديب ولَدِه ووليِّ عَهدِه هِشام المؤيَّد بالله، فكان هو الذي عَلَّمَه الحسابَ والعربيَّة، ونفعه نفعًا كثيرًا، ونال أبو بكر الزبيديُّ منه دُنيا عريضةً، وتولَّى قضاء إشبيليَّة وخُطَّة الشرطة، وحَصَّل نعمةً ضَخمةً لَبِسَها بنوه من بعده زمانًا. وكان يستعظِمُ أدبَ المؤيَّد بالله أيَّامَ صِباه، ويصِفُ رجاحتَه وحِجاه، ويزعم أنَّه لم يجالِسْ قَطُّ من أبناء العُظَماءِ مِن أهل بيتِه وغيرِهم في مِثلِ سِنِّه أذكى منه ولا أحضَرَ يَقظةً وألطفَ حِسًّا وأرزَنَ حِلمًا. توفي يوم الخميس مُستهَلَّ جُمادى الآخرة بمسقَطِ رأسه إشبيليَّة، ودُفِنَ ذلك اليومَ بعد صلاة الظهر، وصلَّى عليه ابنه أحمد، وعاش ثلاثًا وستين سنة، رَحِمَه الله تعالى.
هو أبو منصورٍ موهوبُ بنُ أحمدَ بنِ محمَّدِ بنِ الحَسَن بن الخضر الجواليقي البغداديُّ النحويُّ اللُّغويُّ. إمامُ الخليفةِ المقتفي, وكان إمامًا في فُنونِ الأدب. وُلِدَ في ذي الحجة سنة 465, ونشأ بباب المراتِبِ، قرأ على أبي زكريَّا سبع عشرة سنة, فانتهى إليه عِلمُ اللغة فأقرأها، ودرَّسَ العربيَّةَ في النظاميَّةِ بعد أبي زكريَّا مُدَّةً، فلما وَلِيَ المُقتفي اختَصَّ بإمامتِه في الصَّلاةِ, وكان المقتفي يقرأُ عليه شيئًا من الكُتُبِ. كان الجواليقي دَيِّنًا، ثقةً، وَرِعًا، غزيرَ الفَضلِ، وافِرَ العَقلِ، مَليحَ الخَطِّ، كثيرَ الضَّبطِ. صَنَّف التصانيفَ وانتشرت عنه، وشاع ذِكْرُه. قال ابن الجوزي: "كان غزيرَ الفَضلِ مُتواضِعًا في مَلبَسِه ورياستِه، طويلَ الصَّمتِ لا يقولُ الشَّيءَ إلَّا بعدَ التَّحقيقِ والفِكرِ الطَّويلِ، وكثيرًا ما كان يقولُ: لا أدري، وكان مِن أهلِ السُّنَّةِ. سَمِعتُ منه كثيرًا مِن الحديثِ وغَريبِ الحديثِ، وقرأتُ عليه كتابَه المُعرب وغيرَه من تصانيفِه، وقطعةً مِن اللُّغةِ". توفِّي سَحرةَ يوم الأحد مُنتصَفَ مُحَرَّم، وحضر للصَّلاةِ عليه الأكابِرُ، كقاضي القضاة الزينبي، وهو الذي صلَّى عليه، وصاحِبُ المخزنِ، وجماعةُ أربابِ الدولةِ، والعُلَماءُ والفُقَهاءُ، ودُفِنَ بباب حرب عند والدِه, وقد توفِّيَ وله من العمر 74 عامًا, ومن أشهَرِ كتبه "المعرَّب من كلامِ العَجَم" و"شَرحُ أدبِ الكاتِبِ" و "كِتابُ العَروض" و "التَّكملة فيما تلحَنُ فيه العامَّةُ".
هو السلطان غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام بن الحسين بن الحسن الغوري، صاحِبُ غزنة وبعض خراسان وفيروزكوه ولهاوور ودهلي من الهند. كان ملِكًا عادِلًا، وللمال باذِلًا، محسِنًا إلى رعيته، رؤوفًا بهم في حُكمِه وسياسته. قَرَّبَ العلماء، وأحَبَّ الفضلاء، كان غياثُ الدين مظفرًا منصورًا في حروبِه، لم تنهَزِمْ له رايةٌ قط، وكان قليلَ المباشرة للحروب، وإنما كان له دَهاءٌ ومَكرٌ، وكان جَوادًا، كثيرَ الصَّدَقاتِ والوقوفِ بخراسان؛ بنى المساجِدَ والمدارِسَ بخراسان لأصحابِ الشافعي، وبنى الخانكاهات في الطُّرُق، وأسقط المكوس، وكان رَحِمه الله، ينسَخُ المصاحف بخَطِّه ويَقِفُها في المدارس التي بناها، ولم يَظهَرْ منه تعصب على مذهب، ويقول: "التعصب في المذاهِبِ مِن المَلِك قَبيحٌ" إلَّا أنه كان شافعيَّ المذهب، فهو يميلُ إلى الشافعيةِ مِن غَيرِ أن يُطمِعَهم في غيرِهم، ولا أعطاهم ما ليس لهم، لم يتعرضْ لمالِ أحدٍ. وكان مَن مات بلا وارث تصَدَّق بما خَلَّفَه. وكان فيه فَضلٌ وأدب. امتدت أيامُه، وأسَنَّ ومَرِضَ بالنقرس مُدَّة. توفي في السابع والعشرين من جمادى الأولى، ودُفِنَ بتربة له إلى جانبِ جامع هراة, وأُخفِيَت وفاته، وكان أخوه شهاب الدين بطوس، عازمًا على قَصدِ خوارزم شاه، فأتاه الخبَرُ بوفاة أخيه، فسار إلى هراة، فلما وصل إليها جلَسَ للعزاء بأخيه في رجب، وأظهرت وفاته حينئذٍ، وخَلَّف غياث الدين من الولد ابنًا اسمُه محمود، لُقِّبَ بعد موت أبيه غياثَ الدين.
هو شَيخُ الطائفة الشاذليَّة الزاهد أبو الحَسَن علي بن عبد الله بن عبد الجبَّار بن تميم المغربي الشاذلي المالكي، نزيلُ الإسكندرية، مؤسِّس الطريقة الصوفيَّة المشهورة بالشاذليَّة، ولد في غمارة قرب سبتة بالمغرب، وفيها نشأ وتعلم، رافق أبا القاسم الجُنَيد البغداديَّ الصوفيَّ، فأخذ عنه التصوفَ، ثم اتخذ في تونس رباطًا له في جبل وبدأ ينشُرُ أفكاره في بلدة شاذلة القريبةِ مِن رباطه فكَثُرَ أتباعه، ثم نُفِيَ إلى مصر واستقَرَّ في الإسكندرية، وتبعه خلقٌ كثير في مصر والشام. قال الذهبي: "وقد انتسَبَ في بعض مؤلفاته في التصوُّف إلى علي بن أبي طالب، وكان الأولى به تركَه هذا الانتسابَ وتَرْكَ كثيرٍ ممَّا قاله في تواليفِه من الحقيقة، وهو رجلٌ كبيرُ القدر، كثيرُ الكلام، عالي المقام. له شِعرٌ ونَثرٌ فيه متشابهات وعبارات، يُتكَلَّف له في الاعتذار عنها. ورأيت شيخنا عمادَ الدين قد فتَرَ عنه في الآخر، وبَقِيَ واقفًا في عباراته، حائرًا في الرجل؛ لأنه كان قد تصَوَّف على طريقتِه، وكان الشاذلي ضريرًا، ولخلقٍ فيه اعتقاد كبير". له تصانيف منها (عمدة السالك على مذهب الإمام مالك) وله (التسلي والتصبر على ما قضاه الله من أحكام التجبر والتكبر) وله أحزابٌ خاصة به، منها (الحزب الكبير) أو حزب البِرِّ، وحزب البحر، وحزب الإخفاء، وحزب النصر، وحزب الطمس على عيون الأعداء، وحزب اللطف وغيرها، توفي في حميترة من صحراء عيذاب في صعيد مصر، وفيها دفن.
قاضي القُضاةِ العالِمُ شَيخُ الإسلام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخِ الإمام الزاهد أبي إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن حازم بن صخر الكناني الحموي الأصل، وُلِدَ ليلة السبت رابع ربيع الآخر سنة 639 بحماة، وسَمِعَ الحديثَ واشتغل بالعلم، وحصَّل علومًا متعَدِّدة، وتقَدَّم وساد أقرانَه، وباشر تدريسَ القيمرية، ثم وليَ الحُكمَ والخَطابة بالقُدسِ الشريف، ثم نُقِلَ منه إلى قضاء مصر في الأيام الأشرفية، ثم وليَ قضاء الشامِ وجُمِعَ له معه الخطابةُ ومشيخةُ الشيوخِ وتدريسُ العادليَّة وغيرها مدة طويلة، كل هذا مع الرياسةِ والديانةِ والصِّيانةِ والوَرَع، وكَفِّ الأذى، وله التصانيفُ الفائقة النافعة، أشهَرُها تذكِرةُ السامع والمتكَلِّم في أدب العالم والمتعلم، وله غرر البيان في مبهمات القرآن، والمنهل الرَّوِيِّ في الحديث النبويِّ، وغيرها، وجمع له خطباً كان يخطُبَ بها، ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية بعد وفاة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، فلم يَزَل حاكِمًا بها إلى أن كُفَّ بَصَرُه وكَبِرَ وضَعُفَت أحواله، فاستقال فأقيل، ورُتِّبَت له الرَّواتِبُ الكثيرة الدارَّة إلى أن توفي ليلة الاثنين بعد عشاء الآخرة حادي عشرين جمادى الأولى، وقد أكمل أربعًا وتسعين سنة وشهرًا وأيامًا، وصُلِّيَ عليه من الغَدِ الظهر بالجامع الناصري بمصر، ودُفِنَ بالقرافة، وكانت جنازتُه حافلةً هائلةً رحمه الله.
هو الشيخُ محمد بن سالم الحفناوي الشافعي الخلوتي الصوفي, شيخُ الأزهر, وهو شَريفٌ حُسيني من جهة أم أبيه، وهي السيدة ترك ابنة السيد سالم بن محمد بن علي بن عبد الكريم بن السيد برطع, وينتهي نسَبُه إلى الإمام الحسين رضي الله عنه، وكان والده مستوفيًا عند بعض الأمراء بمصر، وكان غايةً من العفاف، ولِدَ على رأس المائة بعد الألف ببلده حفنا بالقصر, وهي قريةٌ من أعمال بلبيس، وبها نشأ، والنسبةُ إليها حفناوي، وغلبت عليه النسبة حتى صار لا يُذكَرُ إلا بها، وقرأ بها القرآن إلى سورة الشعراء، ثم حجزه أبوه بإشارة الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي وعمره أربع عشرة سنة بالقاهرة، فأكمل حفظ القرآن، ثم اشتغل بحفظ المتون، فحفظ ألفية ابن مالك، والسلم، والجوهرة، والرَّحَبية، وغير ذلك. وأخذ العلم عن علماء عصره، واجتهد ولازم دروسهم حتى تمهَّر، وأقرأ ودرَّس وأفاد في حياة أشياخه وأجازوه بالإفتاء والتدريس، فأقرأ الكتب الدقيقة كالأُشموني، وجمْع الجوامع، والمنهج، ومختصر السعد، وغير ذلك من كتب الفقه والمنطق والأصول والحديث, وأصبح شيخًا للطريقة الخلوتية يقصده المريدين, كما تولى مشيخةَ الأزهر عشر سنوات. توفي يوم السبت الموافق 27 من ربيع الأول عام 1181هـ، عن عمر يناهز الثمانين عامًا، ودُفن في اليوم التالي بعد الصلاةِ عليه في الجامع الأزهر في مشهد حافل.
وُلِد محمَّدُ بنُ سُرورٍ الصَّبَّانُ عامَ 1316هـ الموافِق 1898م في مدينةِ القُنْفُذةِ بالمَمْلَكةِ العَرَبيَّةِ السُّعوديَّةِ أيَّامَ حُكمِ الأشرافِ، ثمَّ انتَقَل والِدُه بأُسْرَتِه إلى جُدَّةَ عامَ 1320هـ، ثمَّ اتَّجَهوا إلى مَكَّةَ المُكَرَّمةِ واستقَرُّوا بها. وكان زَعيمَ الحرَكةِ الأدَبيَّةِ في الجَزيرةِ العَرَبيَّةِ، ورائِدَ الأُدَباءِ والمثَقَّفينَ في مكَّةَ المُكَرَّمةِ، أَسَّس أوَّلَ مَكتبةٍ لبَيعِ الكُتُبِ في مكَّةَ المُكَرَّمةِ وسَمَّاها (المَكْتَبة الحِجازيَّة)
عيَّنه المَلِكُ عَبدُ العزيزِ آلُ سُعودٍ رئيسًا لكُتَّابِ بَلَديَّةِ مَكَّةَ المكَرَّمةِ عامَ 1343هـ، ثمَّ سِكِرْتِيرًا للمَجلِسِ الأهليِّ، وترَقَّى في الوَظائِفِ الحُكوميَّةِ حتَّى عُيِّنَ وَزيرًا للماليَّةِ في عَهدِ المَلِكِ سُعودٍ، وفي عامِ 1382هـ عيَّنه المَلِكُ فَيصَلٌ أمينًا عامًّا لرابِطةِ العالَمِ الإسلاميِّ بمكَّةَ المُكَرَّمةِ.
أنشَأَ عَددًا مِنَ الشَّرَكاتِ؛ منها: الشَّرِكةُ العَرَبيَّةُ للطَّبعِ والنَّشْرِ، وشَرِكةُ الفَلاحِ للسَّيَّاراتِ، والشَّرِكةُ العَرَبيَّةُ للصَّادِراتِ، والشَّرِكةُ العَرَبيَّةُ للتَّوفيرِ والاقتِصادِ، وشَرِكةُ مُصحَفِ مَكَّةَ.
قام بطباعةِ عَدَدٍ مِنَ الكُتُبِ على نَفَقتِه الخاصَّةِ؛ منها: (الطُّرُقُ الحُكميَّةُ) و (مدارِجُ السَّالِكينَ) كلاهما لابنِ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ، (العِقدُ الثَّمين في تاريخِ البَلَدِ الأَمين) و (شِفاءُ الغَرام بأخبارِ البَلَدِ الحرام) كِلاهما للفاسيِّ، (مُختارُ الصِّحاحِ لأبي بكرٍ الرَّازي)، (تفسيرُ معاني كَلِماتِ القُرآنِ لمحمَّد حَسَنين مخلوف)، وغَيرُها مِنَ الكُتُبِ.
تُوُفِّيَ رَحِمه اللهُ في القاهِرةِ، ونُقِل جُثمانُه إلى مكَّةَ المُكَرَّمةِ، وصُلِّيَ عليه بالمَسجِدِ الحرامِ، ودُفِنَ في مَقبَرةِ المُعَلَّاةِ.
وُلد أبو الحسن النِّدْوي بقرية تكية، مديرية رائي بريلي، بالهندِ عام 1332هـ/ 1913م، وتعلَّم في دار العلومِ بالهندِ (ندوة العلماء)، والتحق بمدرسة الشيخ أحمد علي في لاهور، حيث تخصَّص في علم التفسير، كان الشيخ ماتُريديًّا نشيطًا للعمل الإسلامي، سواءٌ في الهند، أو خارجَها، وقد شارَكَ -رحمه الله- في عدد من المؤسَّسات والجمعيات الإسلامية، ومنها تأسيسُ المجمَع العِلمي بالهندِ، وتأسيس رابطة الأدب الإسلامي، كما أنَّه عضوُ مجمَع اللغة العربية بدِمَشق، وعضوُ المجلس التنفيذي لمعهد ديوبند، ورئيس مجلس أمناء مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية، ويُعَدُّ من أشهَرِ العُلماء المسلمينَ في الهندِ، وله كتاباتٌ وإسهاماتٌ عديدةٌ في الفكر الإسلامي، فله من الكتب: ((موقف الإسلام من الحضارة الغربية))، ((السيرة النبوية))، ((من روائع إقبال))، ((نظرات في الأدب))، ((من رجالات الدعوة))، ((قصص النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال))، وبلغ مجموع مؤلَّفاته وتَرْجماته 700 عنوانًا، منها 177 عنوانًا بالعربية، وقد تُرجم عددٌ من مؤلَّفاته إلى الإنجليزية، والفرنسية، والتركية، والبنغالية، والإندونيسية، وغيرها من لغات الشعوب الإسلامية الأخرى، وكانت وَفاتُه -رحمه الله- يومَ الجمُعة في شهر رمضانَ المبارك أثناءَ اعتكافِه بمسجِدِ قَريتِه "تكية" بمديرية "راي باريلي" في شمال الهندِ، وجرى دَفنُه مساءَ نفس اليوم في مَقبرةِ أُسرته بالقرية في حضورِ الأقاربِ، والأهالي، وبعض مسؤولي ندوة العلماء التي ظلَّ مرتبِطًا بها طيلةَ حياتِه الحافلة بالدعوة طوالَ 86 عامًا.
خَرَج عبدُ اللَّه بنُ أُنيسٍ رَضي اللهُ عنه من المدينةِ يومَ الإثنَينِ لخمسٍ خَلَونَ من المُحرَّمِ على رأس خمسةٍ وثلاثين شهرًا من مُهاجَرِ رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَلَغَ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ سُفيانَ بنَ خالِدِ بن نُبَيحٍ الهُذليَّ ثم اللِّحيانيَّ -وكان يَنزِل عُرْنةَ وما والاها في أُناسٍ من قومِه وغيرِهم- يُريد أن يَجمَعَ الجُموعَ إلى رسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضَوَى إليه بَشَرٌ كثيرٌ من أفناءِ الناسِ.
قال عبدُ اللَّه بنُ أُنيسٍ رضي اللَّه تعالى عنه: دَعاني رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: "إنَّه بَلَغني أنَّ سفيانَ بنَ خالدِ بنِ نُبَيحٍ يَجمَع لي الناسَ ليَغزوَني وهو بنَخلةَ أو بعُرْنةَ فأْتِه فاقْتُلْه". فقلتُ: يا رسول اللَّه، صِفْهُ لي حتى أعرِفَه. فقال: "آيةُ ما بَينَك وبَينَه أنَّك إذا رَأيتَه هِبتَه وفَرِقْتَ منه، ووَجَدْتَ له قُشَعْريرةً، وذَكَرْتَ الشَّيطانَ". قال عبد اللَّه: كنتُ لا أهابُ الرِّجالَ، فقلت: يا رسول اللَّه، ما فَرِقتُ من شيءٍ قطُّ. فقال: "بَلَى؛ آيةُ ما بَينَك وبَينَه ذلك: أن تَجِدَ له قُشَعْريرةً إذا رَأيتَه". قال: واستَأذَنتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أقولَ. فقال: "قُلْ ما بَدا لَكَ". وقال: "انتَسِبْ لخُزاعةَ". فأخَذتُ سَيفي ولم أزِدْ عليه وخرجتُ أعتَزي لخُزاعةَ حتى إذا كنتُ ببَطنِ عُرْنةَ لَقيتُه يمشي ووراءه الأحابيشُ. فلمَّا رَأيتُه هِبتُه وعَرَفتُه بالنَّعتِ الذي نَعَت لي رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقلتُ: صَدَقَ اللَّهُ ورسولُه، وقد دخل وقتُ العَصرِ حين رَأيتُه، فصَلَّيتُ وأنا أمشي أُومي برَأسي إيماءً. فلمَّا دَنَوتُ منه قال: "مَنِ الرَّجلُ؟". فقلتُ: "رجلٌ من خُزاعةَ سَمِعتُ بجَمعِكَ لمُحمَّدٍ فجِئتُكَ لأكونَ مَعَك عليه". قال: "أجلْ؛ إنِّي لَفي الجَمعِ له". فمَشَيتُ معه وحدَّثتُه فاستَحلَى حديثي وأنشَدتُه وقلتُ: "عَجَبًا لِمَا أحدَثَ مُحمَّدٌ مِن هذا الدِّينِ المُحدَثِ، فارَقَ الآباءَ وسَفَّه أحلامَهم". قال: "لم ألْقَ أحَدًا يُشبِهُني ولا يُحسِنُ قِتالَه". وهو يتوكَّأُ على عصًا يَهُدُّ الأرضَ، حتى انتَهَى إلى خِبائِه وتفرَّق عنه أصحابُه إلى منازِلَ قَريبةٍ منه، وهم يُطيفون به. فقال: هَلُمَّ يا أخا خُزاعةَ. فدَنَوتُ منه. فقال: اجلِسْ. فجَلَستُ معه حتى إذا هَدَأ الناسُ ونامَ اغتَرَرْتُه. وفي أكثرِ الرِّواياتِ أنه قال: فمَشَيتُ معه حتَّى إذا أمكَنني حَمَلتُ عليه السَّيفَ فقَتَلتُه وأخذتُ رأسَه. ثم أقبلتُ فصَعِدتُ جَبَلًا، فدَخَلتُ غارًا وأقبَلَ الطلبُ من الخيلِ والرجالِ تَمعَجُ في كلِّ وجهٍ وأنا مُكتَمِنٌ في الغارِ، وأقبل رجلٌ معه إداوَتُه ونعلُه في يدِهِ وكنتُ خائفًا، فوضع إداوَتَه ونعلَه وجلس يَبولُ قَريبًا من فَمِ الغارِ، ثم قال لأصحابِه: ليس في الغارِ أحدٌ، فانصَرَفوا راجِعين، وخرجتُ إلى الإداوةِ فشَرِبتُ ما فيها وأخذتُ النَّعلَين فلَبِستُهما. فكنتُ أسير الليلَ وأكمُنُ النهارَ حتى جِئتُ المدينة، فوَجَدتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجد، فلمَّا رآني قال: "أفلَحَ الوَجهُ". فقلت: وأفلَحَ وَجهُكَ يا رسول اللَّه". فوَضَعتُ الرَّأسَ بين يَدَيه وأخبَرتُه خَبَري، فدَفَع إليَّ عصًا وقال: "تَخَصَّرْ بِها في الجَنَّةِ؛ فإنَّ المُتخَصِّرين في الجَنَّةِ قَليلٌ".
فكانتِ العصا عند عبدِ اللَّه بن أُنَيسٍ حتى إذا حضَرَته الوفاةُ أوصى أهلَه أن يُدرِجوا العصا في أكفانِه. ففَعَلوا ذلك. قال ابنُ عُقبةَ: "فيَزعُمون أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ بقتلِ عبدِ اللَّه بنِ أُنيسٍ سُفيانَ بنَ خالِدٍ قبلَ قُدومِ عبدِ اللَّه بنِ أُنَيسٍ رضي اللَّه تعالى عنه".
لَمَّا كان في مستهَلِّ شَهرِ ربيع الآخر نزل السلطانُ من قلعة الجبل وعَدَّى إلى بر الجيزة ليتوجه إلى الصيدِ بالبحيرة، بعد أن ألزم الأمراءَ أن يجعلوا- في الشواني التي نجز عملها برسم الغُزاة- العِدَد والسلاحَ والرجالَ على هيئة القِتالِ؛ لِيَنظُرَ السلطان والنَّاس، ثم سار السلطان والأتابك يلبغا بالعساكِرِ مِن بر الجيزة يريدون البحيرةَ حتى نزلوا في ليلة الأربعاء سادسَ شهر ربيع الآخر بالطرانة وباتوا بها، وكانت مماليكُ يلبغا قد نَفِرَت قلوبُهم منه؛ لكثرةِ ظُلمِه وعَسفِه وتنوُّعِه في العذاب لهم على أدنى جُرمٍ، فاتفق جماعةٌ من مماليك يلبغا تلك الليلة على قَتْلِه من غير أن يُعلِموا المَلِكَ الأشرفَ هذا بشَيءٍ مِن ذلك، وركبوا عليه نِصفَ الليل، ورؤوسُهم من الأمراء: آقبغا الأحمدي الجلب، وأسندمر الناصري، وقجماس الطازي، وتغري برمش العلائي، وآقبغا جاركس أمير سلاح، وقرابغا الصرغتمشي، في جماعةٍ مِن أعيان اليلبغاوية، ولَبِسوا آلة الحرب وكبَسوا في الليل على يلبغا بخيمتِه بغتةً وأرادوا قتله، فأحسَّ بهم قبل وصولِهم إليه، فركِبَ فَرَس النوبةِ بخواصِّه من مماليكه، وهرب تحت الليل، وعَدَّى النيل إلى القاهرة، ومنع سائرَ المراكب أن يعدُّوا بأحد، واجتمع عنده من الأمراء طيبغا حاجِبُ الحجَّاب، وأيبك البدري أمير آخور، وجماعة الأمراء المقيمين بالقاهرة، وأمَّا مماليك يلبغا فإنَّهم لَمَّا عَلِموا بأن أستاذهم نجا بنَفسِه وهرب، اشتدَّ تخَوُّفُهم من أنَّه إذا ظَفِرَ بهم بعد ذلك لا يُبقي منهم أحدًا، فاجتمع الجميعُ بمن انضاف إليهم من الأمراءِ وغيرِهم وجاؤوا إلى المَلِك الأشرَفِ شعبان وهو بمُخَيَّمِه أيضًا بمَنزِلِه بالطرانة وكَلَّموه في مُوافَقَتِهم على قتالِ يلبغا فامتنع قليلًا ثم أجاب لِما في نفسه من الحزازةِ مِن حَجْرِ يلبغا عليه، وعدم تصَرُّفه في المملكة، وركِبَ السلطان بمماليك يلبغا وخاصكيَّته، فأخذوه وعادوا به إلى جهة القاهرة، وقد اجتمع عليه خلائِقُ من مماليك يلبغا وعساكر مصر، وساروا حتى وصلوا إلى ساحِلِ النيل ببولاق التكروري تجاه بولاق والجزيرة الوسطى، فأقام المَلِكُ الأشرف ببولاق التكروري يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة، فلم يجدوا مراكِبَ يعدون فيها، وأما يلبغا فإنَّه لما علم أن الملك الأشرف طاوع مماليكَه وقَرَّبهم، أنزل من قلعة الجبل آنوك ابنَ الملك الأمجد حسين أخي الملك الأشرف شعبان وسَلْطَنَه ولَقَّبَه بالملك المنصور، وذلك بمُخَيَّمِه بجزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطانيَّة تجاه بولاق التكروري، حيث الملك الأشرف نازلٌ بمماليك يلبغا بالبر الشرقي والأشرف بالبر الغربي، فسَمَّتْه العوامُ سُلطان الجزيرة، ثمَّ في يوم الجمعة حضر عند الأتابك يلبغا الأمير طغيتمر النظامي والأمير أرغون ططر، فإنهما كانا يتصَيَّدان بالعباسة وانضافا بمن معهما إلى يلبغا فقَوِيَ أمره بهما، وعَدَّى إليه أيضًا جماعة من عند الملك الأشرف، وهم: الأمير قرابغا البدري، والأمير يعقوب شاه، والأمير بيبغا العلائي الدوادار، والأمير خليل بن قوصون، وجماعة من مماليك يلبغا الذين أمَّرَهم مثل: آقبغا الجوهري، وكمشبغا الحموي، ويلبغا شقير، في آخرين، واستمَرَّ الأتابك يلبغا وآنوك بجزيرة الوسطى، والملك الأشرف ومماليك يلبغا ببولاق التكروري، إلى أن حضر إلى الأشرفِ شَخصٌ يُعرَفُ بمحمد ابن بنت لبطة رئيس شواني السلطان، وجَهَّز للسلطانِ مِن الغربان التي عَمَّرَها برسم الغزاة نحو ثلاثينَ غُرابًا برجالها وكَسَر بروقها، وجعلها مثل الفلاةِ لأجلِ التَّعدية، فنزل فيها جماعةٌ مِن الأمراء ومن مماليك يلبغا ليعَدُّوا فيها إلى الجزيرة، فرمى عليهم يلبغا بمكاحِلِ النفط، وصار هؤلاء يرمون على يلبغا بالسهام فيردونَهم على أعقابِهم، وأخذ يلبغا ومن معه يرمون أيضًا النِّفطَ والنشاب، والأشرفيَّة لا يلتفتون إلى ذلك، بل يزيدونَ في سب يلبغا ولَعْنه وقتاله، وأقاموا على ذلك إلى عَصرِ يوم السبت، وقد قَوِيَ أمر الملك الأشرف وضَعُفَ أمر يلبغا، ثم اتفق رأيُ عساكر الملك الأشرف على تعدية المَلِك الأشرف من الورَّاق، فعدى وقتَ العَصرِ من الوراق إلى جزيرة الفيل وتتابعَتْه عساكره، فلما صاروا الجميعُ في بر القاهرة، وبلغ ذلك يلبغا، هرب الأمراءُ الذين كانوا مع يلبغا بأجمعهم وجاؤوا إلى الملك الأشرف وقَبَّلوا الأرض بين يديه، فلمَّا رأى يلبغا ذلك رجع إلى جهة القاهرة، ووقف بسوقِ الخيل من تحت قلعة الجبل، ولم يبقَ معه غير طيبغا حاجِبِ الحجَّاب الذي كان أولًا أستاداره، فوقف يلبغا ساعةً ورأى أمْرَه في إدبار، فنزل عن فَرَسِه بسوق الخيل تجاه باب الميدان، وصلَّى العصر، وحلَّ سَيْفَه وأعطاه للأميرِ طيبغا الحاجب، ثم نزل وقصَدَ بَيتَه بالكبش فرجمته العوامُّ مِن رأس سويقة منعم إلى أن وصل حيثُ اتجه، وسار الملك الأشرف شعبان بعساكره، حتى طلع إلى قلعةِ الجَبَلِ في آخر نهار السبت، وأرسل جماعةً منِ الأمراء إلى يلبغا، فأخذوه من بيتِه ومعه طيبغا الحاجِبُ، وطلعوا به إلى القلعةِ بعد المغرب، فسُجِنَ بها إلى بعدِ عشاء الآخرة، فلما أُذِّنَ للعشاء جاء جماعةٌ من مماليك يلبغا مع بعض الأمراء، وأخذوا يلبغا من سجنه وأنزلوه من القلعةِ، فلما صار بحدرة القلعة أحضروا له فَرَسًا ليركَبَه، فلما أراد الركوب ضَرَبه مملوكٌ مِن مماليكه يسمَّى قراتمر فأرمى رأسَه، ثم نزلوا عليه بالسيوفِ حتى هَبَروه تهبيرًا، وأخذوا رأسَه وجعلوها في مِشعَلِ النار إلى أن انقَطَع الدم، فلما رآه بعضُهم أنكره وقال: أخفيتُموه، وهذه رأسُ غَيرِه فرفعوه من المِشعَل، ومَسَحوه ليُعَرِّفوه أنَّه رأس يلبغا بسلعةٍ كانت خلفَ أذنه، فعند ذلك تحقَّقَ كُلُّ أحد بقتله، وأخذوا جثَّتَه فغَيَّبوها بين العروستين، فجاء الأميرُ طشتمر الدوادار فأخذ الرأسَ منهم في الليل، واستقصى على الجثَّةِ حتى أخذها، وحَطَّ الرأس على الجثة، وغَسَّلها وكفَّنَها وصلى عليه في الليل، ودفنه بتربتِه التي أنشأها بالصحراء بالقربِ مِن تربة خوند طغاى أم آنوك زوجة الناصر محمد بن قلاوون.
تمكَّن الإمام فيصل خلال هذا العامِ مِن القبض على فلاح بن حثلين وقطع رأسَه في الأحساء على إثرِ قَطعِه الطريقَ على حاجِّ الأحساء والقطيف والبحرين، وكذلك تمكَّنَ من مشعان بن هذال لَمَّا أخذ الحدرة ولم يمتَنِعْ بعدها إلا خمسين يومًا حتى اقتصَّ منه، وكذلك هادي بن مذود لما أخذها لم يحُلْ عليه الحول، وقطع الله أصله ونسْلَه على يد الإمام، وكذلك ما جرى على الدبادية -وهم فرع من مطير- قتَلَهم مرةً واحدةً لَمَّا فعلوا بأهل سدير ما فعلوا بحَفرِ الباطن، وما جرى على عُربان السويلمات من القَتلِ والأخذ لَمَّا قطعوا طُرُق المسلمين.
كان ابتِداءُ أَمرِ المُلَثَّمِينَ، وهُم عِدَّةُ قَبائلَ يُنسَبون إلى حِمْيَر، أَشهرُها: لَمْتُونَة، ومنها أَميرُ المُسلمين يُوسف بن تاشفين، وجدالة ولمطة، وكان أوَّلُ مَسيرِهم مِن اليَمنِ، أيَّامَ أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، فسَيَّرَهُم إلى الشَّامِ وانتَقَلوا إلى مصر، ودَخَلوا المغربَ مع موسى بن نُصير، وتَوجَّهوا مع طارقِ إلى طَنجة، فأَحَبُّوا الانفِرادَ، فدَخلوا الصَّحراءَ واستَوطَنوها، فلمَّا كان هذه السَّنَة تَوجَّه رجلٌ منهم، اسمُه الجوهر -من قَبيلةِ جدالة- إلى إفريقية طالِبًا للحَجِّ، وكان مُحِبًّا للدِّينِ وأَهلِه، فلمَّا انصَرَف مِن الحَجِّ قال للفَقيهِ: ابعَثْ معي مَن يُعَلِّمُهم شَرائعَ الإسلام. يعني قَومَه في الصَّحراء، فأَرسَل معه رَجُلًا اسمُه: عبدُ الله بن ياسين الكزولي، وكان فَقِيهًا صالحًا، فلم يَقبَلوهُ فرَحَلَا عنهم، فانتهى الجوهرُ وابنُ ياسين إلى جدالة -قَبيلةِ الجوهر- فدَعاهُم عبدُ الله بن ياسين والقَبائلَ الذين يُجاوِرُونَهم إلى حُكمِ الشَّريعةِ، فمِنهم مَن أَطاعَ، ومِنهم مَن أَعرضَ وعَصى، ثم إنَّ المُخالِفين لهم تَحيَّزوا وتَجمَّعوا، فقال ابنُ ياسين للذين أطاعوا: قد وجَبَ عليكم أن تُقاتِلوا هؤلاء الذين خالَفوا الحَقَّ، وأَنكَروا شَرائعَ الإسلامِ، واسْتَعَدُّوا لِقِتالِكُم، فأَقِيموا لكم رايَةً، وقَدِّموا عليكم أَميرًا. فأَتَيَا أبا بكرِ بن عُمرَ، فعَقَدوا له البَيْعَةَ، وسَمَّاهُ ابنُ ياسين أَميرَ المُسلِمين، وعادوا إلى جدالة، وجَمَعوا إليهم مَن حَسُنَ إِسلامُه، وحَرَّضَهم عبدُ الله بن ياسين على الجِهادِ في سَبيلِ الله، وسَمَّاهُم مُرابِطين، وتَجَمَّع عليهم مَن خالَفَهُم، فلم يُقاتِلهُم المُرابِطون؛ بل استعان ابنُ ياسين وأبو بكرِ بن عُمرَ على أولئك الأَشرارِ بالمُصلِحينَ مِن قَبائلِهم، فاستَمالُوهم وقَرَّبوهُم حتى حَصَّلُوا منهم نحوَ ألفي رَجُلٍ مِن أَهلِ البَغْيِ والفَسادِ، فتَركُوهم في مَكانٍ، وخَنْدَقوا عليهم، وحَفَظوهُم، ثم أَخرجوهُم قَومًا بعدَ قَومٍ، فقَتَلوهُم، فحينئذٍ دانت لهم أَكثرُ قَبائلِ الصَّحراءِ، وهابوهُم، فقَوِيَت شَوكةُ المُرابِطين.
وُلد أبو القاسم الخوئي في ليلة النصف من شهر رجبٍ سنةَ 1317هـ الموافق 19/11/1899م، في مدينة خوي من إقليم أذربيجانَ في إيرانَ، ويُنسَب إلى عائلةٍ ذات أُصول عَلَويَّة (موسوية)، نسبة إلى (موسى الكاظم)، قام الخوئي وهو ابن الثالثةَ عَشْرةَ بالهجرة إلى العراق للالتحاق بوالده علي أكبر الموسوي الخوئي الذي كان قد هاجَر قبلَه إلى النجَف، وبدأ الخوئي بدراسة علوم العربية، والمنطق، والأصول، والفقه، والتفسير، والحديث، وقد تتلمذ على يد شخصيات معروفة في الفقه الجعفري، مثل الشيخ فتح الله المعروف بشيخ الشريعة، والشيخ مهدي المازندراني، والشيخ ضياء الدين العراقي، وبعد نَيْله درجةَ الاجتهاد شغَلَ منبرَ التدريس لمدَّة تمتدُّ إلى أكثرَ من سبعين عامًا، ولذا لُقِّب بـ "أستاذ العلماء والمجتهدين". فقام الخوئي بالتدريس في مدارس النجَف، واختير مرجِعًا أعْلى للطائفة الشيعية بعد وفاة المرجِع الأعْلى محسن الحكيم عام 1969م، ولقد تتلمذ على يديه عددٌ كبيرٌ من علماء الشيعة المنتشرين في المراكز والحوزات العلميَّة الدينيَّة الشيعيَّة في أنحاء العالم، ومنهم علي البهشتي في العراق، وميرزا جواد التبريزي في إيران، ومحمد باقر الصدر في العراق، وقد ألَّف الخوئي عَشَرات الكتب منها: ((أجود التقريرات في أصول الفقه))، و((البيان في علم التفسير))، و((نفحات الإعجاز في علوم القرآن)). و((معجم رجال الحديث))، و((تفصيل طبقات الرواة في علم الرجال))، و((منهاج الصالحين في بيان أحكام الفقه))، وغيرها، وقد آلَت إليه مرجعيَّةُ الطائفة الشيعية في العالـم بعد وفاة السيِّد الحكيم سنة 1390هـ، وتمكَّن من المحافَظة على وجود واستمرار استقلاليَّة الحوزة العلميَّة في النجَف الأشرَف، وكان قد شارَك في دعم الانتفاضة الشعبيَّة التي حدَثَت في العراق سنة 1411هـ، فاعتقلَتْه السُّلْطات الحاكمة بعد إخماد الانتفاضة، ثم أَطْلَقت سراحَه، وكانت وفاتُه في عصر يوم السبت 8 صفر 1413هـ / الثامن من آب 1992م، في مسكنه في الكوفة، ومنعت السُّلْطات الحاكمة العراقية أن يُقام له تشييعٌ عامٌّ، فدُفن ليلًا في مَقْبرته الخاصة في جامع الخضراء في النجَف.