الموسوعة التاريخية

عدد النتائج ( 3793 ). زمن البحث بالثانية ( 0.017 )

العام الهجري : 1437 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 2016
تفاصيل الحدث:

وُلِدَ محمد زهران علوش في مدينةِ دوما التابعةِ للغُوطةِ الشَّرقية في ريفِ دِمَشقَ عامَ 1971. وسلَكَ دَرْبَ العلمِ منذ الصِّغرِ اقتداءً بوالِدِه، فقرَأَ القرآنَ الكريمَ على والِدِه وعلى بعضِ شُيوخ بلَدِه، وتلقَّى التعليمَ الشَّرعيَّ عليهم، ثم التحَقَ بكليَّة الشَّريعة في جامعة دمشق وتخرَّج فيها. ثمَّ سافَرَ إلى المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّة، وأكمل الدِّراسةَ في الجامعةِ الإسلاميَّة بالمدينة المنوَّرة في كليَّةِ الحديثِ الشَّريفِ والدراساتِ الإسلاميَّةِ، ثمَّ بعد التخرُّجِ فيها عاد إلى بلَدِه، ودرَسَ الماجستير في كليَّةِ الشَّريعةِ بجامعةِ دِمَشقَ. وخلالَ فترةِ وُجودِه في السُّعودية درَس على عددٍ مِن عُلماءِ الشَّريعة فيها، وعاد إلى سوريَّة ليعملَ في مجالِ المُقاوَلاتِ، إلى جانبِ نشاطِه في الدَّعوةِ السَّلفيَّة، وسبَّبَتْ له النَّشاطاتُ الدَّعَويةُ التي كان يمارِسُها مُلاحَقاتٍ أمنيَّةً عديدةً، بدأَتْ عامَ 1987 وانتهَتْ بتوقيفِه بدايةَ سنةِ 2009 من قِبَل أحدِ أفرُعِ المخابراتِ السُّوريَّةِ، ثمَّ أُودِعَ في سِجنِ صيدنايا العسكريِّ الأوَّلِ، إلى أنْ أُطلقَ سَراحُه في يونيو عام 2011، وَفقَ مرسومِ عفوٍ رئاسيٍّ عامٍّ صدَرَ وقتَها مع بداياتِ الحربِ الأهليَّةِ السُّوريَّةِ عامَ 2011، وشارك بعدها في العمَلِ المسَلَّح، منذُ أوائِلِ انطلاقتِه في أواخرِ عامِ 2011، وأسَّس "سَرِيَّةَ الإسلامِ" التي تطوَّرَت إلى "لواءِ الإسلامِ" وأخيرًا إلى "جيشِ الإسلامِ". وكان على رأسِ قيادةِ جيشِ الإسلامِ الذي يمتدُّ في مناطِقَ مُعَيَّنةٍ مِن سوريَّةَ حتى مقَتَلِه، وكان (علوش) يركِّزُ على التَّربيةِ العَقَديَّةِ للمجاهدين في صُفوفِ جَيشِه، بالإضافةِ إلى تمارينِ اللَّياقةِ البَدَنيَّة والتدريباتِ العَسكريَّة. وقُتِلَ -رحِمَه الله- في غارةٍ جويَّةٍ عنيفةٍ استهدَفت اجتماعًا للتنظيمِ في الغُوطةِ الشرقيَّةِ شرقَ مدينةِ دِمَشقَ في اليومِ الرابعَ عشَرَ من هذا الشهرِ، وقُتِلَ معه خَمْسةٌ من قادةِ جيشِ الإسلام؛ أحدُهم قياديٌّ أمنيٌّ، وذلك أثناءَ التَّحضيرِ لتنفيذِ هجومٍ على مواقِعَ لحزبِ اللهِ اللُّبنانيِّ وقوَّاتِ النِّظامِ السُّوريِّ. ويُعَدُّ "جيش الإسلام" من التَّنظيماتِ المسَلَّحةِ المُهمَّةِ ضِدَّ النظامِ السوريِّ.

العام الهجري : 658 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1260
تفاصيل الحدث:

لمَّا بلغ الملك المظفَّر سيف الدين قُطز صاحِبَ مِصرَ أنَّ التتارَ قد فعلوا بالشَّامِ ما فعلوه، وقد نهَبوا البلاد كلَّها حتى وصلوا إلى غزَّة، وقد عزم كتبغانوين نائب هولاكو في الشام على الدخولِ إلى مصر، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرفَ صاحِبَ حمص والمجير بن الزكي، فأشاروا عليه بأنَّه لا قِبَل له بالمظفَّر حتى يستَمِدَّ هولاكو فأبى إلا أن يناجزه سريعًا، فبادرهم  المظفَّر قطز قبل أن يبادِروه ويبرز إليهم وقد اجتمعت الكلمةُ عليه، فبعد قدومِ الصاحب كمال الدين بن العديم رسولًا من الشام يطلبُ النَّجدةَ على التتار، جمعَ قُطز الأمراءَ‍ والأعيان، وحضر معهم الشيخُ عز الدين بن عبد السلام والقاضي بدر الدين السنجاري، وجلس المَلِكُ المنصور في دَست السلطنة، فاعتمدوا على ما يقولُه الشيخ عز الدين، فكان خلاصته: "إذا طرق العدوُّ البلادَ وجب على العالمَ كُلِّهم قتالُهم، وجاز أن يؤخَذَ مِن الرعيَّة ما يُستعانُ به على جهادِهم، بشرط ألَّا يبقى في بيتِ المال شيءٌ، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائِصِ والآلاتِ، ويَقتَصِر كل منكم على فَرَسِه وسلاحِه، ويتساووا في ذلك هم والعامَّة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاءِ ما في أيدي الجُندِ مِن الأموال والآلاتِ الفاخرةِ فلا"، ثم بعد أيامٍ يسيرةٍ قَبَضَ على المنصور علي بن المعز وقال: هذا صبيٌّ والوقت صعبٌ، ولا بد من أن يقوم رجلٌ شجاع ينتصب للجهادِ فقبض عليه، وتسلطَنَ وتلقَّبَ بالملك المظفر. ثم قَدِمَ الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري من دمشق مهاجرًا إلى مصرَ؛ لخدمة الملك المظفر سيف الدين قطز, فدخل القاهرةَ يوم السبت ثاني وعشرين ربيع الأول سنة ثمان وخمسين، فركب المظفَّر للقائه وأنزله في دارِ الوَزارة وأقطعه قَصبةَ قيلوب لخاصَّتِه، وأشار عليه بيبرس بملاقاة التتار وقَوَّى جأشَه وحَرَّك عزائمه وحرَّضَه على التوجه للقائهم, فخرج المظفَّر قطز يوم الاثنين خامس عشر شعبان بجميع عساكِرِ مِصرَ مع ما انضاف إليهم من العَرَب وغيرهم لقصدِ التتار الذين بالشَّامِ، فلما وصل إلى مرج عكا بلغ بكتبغانوين، مُقَدَّمَ عسكر التتار بالشام خروجُ الملك المظفَّر، وكان في بلد حمص فتوجَّه إلى الغور، وبعث الملك المظفر للأمير ركن الدين البندقداري  في عسكرٍ ليتجَسَّس خبَرَ التتار،  فلما وقعت عينُه عليهم كتب للملك المظفر يعلِمُه بوصولهم ثمَّ انتهز الفرصةَ في مناوشتهم، فلم يزل يستدرجُهم تارة بالإقبال وتارة بالإحجام حتى وافى بهم إلى المَلِك المظفَّر على عين جالوت فكانت الوقعةُ التي أيَّدَ الله بها المُسلِمينَ على التتارِ،  وأخَذَ بها منهم ثأرَ أهلِ الوَبَر والمَدَر، وحاقَ بهم مَكرُ السَّيفِ، وحكَمَ فيهم الحَتفُ بالحَيفِ، وقَتَلوهم وأخذوهم ومعهم مَلِكُهم كتبغانوين، فقُتِلَ وأُخِذَ رأسُه وأُسِرَ ابنه، وكانت الوقعةُ بين المسلمين والتتار  على ((عين جالوت)) يومَ الجمعة خامس وعشرين من شهر رمضان المعظَّم، ووصل الخبَرُ إلى دمشق في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فانهزم بتلك الليلة من كان بدمشقَ مِن التتار وأيل سبان نائب الملك وأتباعهم، وتبعهم النَّاسُ وأهل الضياع ينهبونهم ويقتلونَ مَن ظَفِروا به، فلله الحمدُ والشُّكر, ودخل السلطانُ الملك المظفَّر إلى دمشق يوم الأحد رابع شوال، فأقام بها إلى أن خرج منها طالبًا للدِّيار المصرية, ومن العجائِبِ أن التتار كُسِروا وأُهلِكوا بأبناء جنسِهم المماليكِ، وهم من التركِ!! وعَمِل الشيخُ شهاب الدين أبو شامة في ذلك شِعرًا:
غلبَ التَّتارُ على البلادِ فجاءهم
مِن مِصرَ تركيٌّ يجودُ بنَفسِه
بالشَّامِ بدَّدَهم وفَرَّق شَملَهم
ولكلِّ شَيءٍ آفةٌ مِن جِنسِه
وقد قاتل الملكُ المنصورُ صاحِبُ حماة مع المَلِك المظفَّر قِتالًا شَديدًا، وكذلك الأميرُ فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكَر، وقد أُسِرَ من جماعة كتبغانوين المَلِك السعيد بن العزيز بن العادل فأمَرَ المظفَّر بضَرب عُنُقِه، واستأمن الأشرفُ صاحِبُ حمص، وكان مع التَّتارِ وقد جعله هولاكو خان نائبًا على الشام كُلِّه، فأمنه الملك المظفَّر ورَدَّ إليه حمص، وكذلك ردَّ حماة إلى المنصور وزاده المَعَرَّة وغيرها، وأطلق سلمية للأميرِ شَرَف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتَّبَع الأميرُ بيبرس البندقداري  وجماعةٌ من الشجعان التتارَ يقتُلونَهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفَهم إلى حَلَب، وهرب مَن بدمشقَ منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلونَ فيهم ويفتِكونَ الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارةُ، ولله الحمدُ على جبرِه إيَّاهم بلُطفِه فجاوبتها دقُّ البشائر من القلعة، وفرح المؤمنون بنصر الله فرحًا شديدًا، وأيَّدَ اللهُ الإسلامَ وأهله تأييدًا وكَبَت الله النصارى واليهودَ والمنافقين، وظهر دينُ الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمونَ إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصَّليبُ فانتَهَبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النَّارَ فيما حولها، فاحترق دُورٌ كثيرةٌ إلى النصارى، وملأ اللهُ بيوتَهم وقبورَهم نارًا، وأُحرِقَ بعضُ كنيسةِ اليعاقبة، وهمَّت طائفةٌ بنَهبِ اليهود، فقيل لهم إنَّه لم يكن منهم من الطغيانِ كما كان من عَبَدة الصُّلبان، وقَتَلَت العامَّة وسطَ الجامِعِ شَيخًا رافضيًّا كان مُصانِعًا للتتار على أموالِ النَّاسِ يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيثَ الطويَّة مشرقيًّا ممالئًا لهم على أموالِ المسلمين- قبَّحه الله- وقَتَلوا جماعةً مِثلَه من المنافقين، فقُطِعَ دابِرُ القَومِ الذين ظَلَموا والحمدُ لله رب العالَمينَ.

العام الهجري : 754 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1353
تفاصيل الحدث:

كَثُرَ عَبَثُ العُربان ببلاد الصعيد بقيادة الأحدب محمد بن واصل شيخ عرك، فجمع جمعًا كبيرًا، وتسمَّى بالأمير، فقَدِمَ الخبر في شعبان بأنهم كَبَسوا ناحيةَ ملوي، وقتلوا بها نحو ثلاثمائة رجل، ونهبوا المَعاصِرَ، وأخذوا حواصِلَها وذَبحوا أبقارَها، وأنَّ عَرَب منفلوط والمراغة وغيرهم قد نافقوا، وقَطَعوا بعض الجسور بالأشمونين، فوقع الاتفاقُ على الركوب عليهم بعد تخضيرِ الأراضي بالزراعة، وكُتِبَ إلى الولاة بتجهيز الإقامات برًّا وبحرًا، فأخذَ العرب حِذْرَهم، فتفَرَّقوا واختَفَوا، وقَدِمَت طائفة منهم إلى مصر، فأُخِذوا، وكانوا عشرة، فقُبِضَ ما وجد معهم من المال، وحَمل الأمير جندار، فإنهم كانوا فلَّاحيه، وأُتلِفوا، فلما برز الحاجُّ إلى بركة الحجَّاج ركب الأمير شيخو، وضرب حلقةً على الركب، ونادى مَن كان عنده بدويٌّ وأخفاه، حَلَّ دَمُه، وفَتَّش الخيام وغيرها، فقَبض على جماعة، فقتل بعضهم وأفرج عن بَعضٍ، ثمَّ لما عاد السلطان إلى الجيزة كُبِسَت تلك النواحي، وحُذِّرَ الناس من إخفاء العربان، فأُخِذَ البحري والبري، وقُبِضَت خيول تلك النواحي وسيوفُ أهلها بأسْرِها، وعُرِضَت الرجال، فمن كان معروفًا أُفرج عنه، ومن لم يعرف أقِرَّ في الحديد وحُمِل إلى السجنِ، ورُسِمَ أنَّ الفلاحين تبيعُ خُيولَهم بالسوق، ويوردون أثمانَها ممَّا عليهم من الخراجِ فبِيعَت عِدَّةُ خيول، وأُورِدَ أثمانها للمُقطِعين، والفَرَس الذي لم يُعرَف له صاحِبٌ حُمِلَ إلى إسطبل السلطان، وكُتِبَ للأمير عز الدين أزدمر، الكاشِفِ بالوجه البحري، أن يركَبَ ويكبِسَ البلادَ التي لأرباب الجاه، والتي يأويها أهلُ الفسادِ، فقَبَض على جماعةٍ كثيرة ووسَّطَهم، وساق منهم إلى القاهرةِ نحو ثلاثمائة وخمسين رجلًا، ومائة وعشرين فرسًا، وسلاحًا كثيرًا، ثم أحضَرَ الأميرُ أزدمر من البحيرة ستمائة وأربعين فرسًا، فلم يبقَ بالوجه البحري فرس، ورُسِمَ لقضاة البر وعُدولِه بركوب البغال والأكاديش، ثم كُبِسَت البهنسا وبلاد الفيوم، فركِبَ الأميران طاز وصرغتمش، بمن معهما إلى البلاد، وقد مَرَّ أهلها، واختفى بعضهم في حفائِرَ تحت الأرض، فقبضوا النِّساء والصبيان، وعاقبوهم حتى دلوهم على الرجال، فسَفَكوا دماء كثيرين، وعُوِقَب كثيرٌ من الناس بسبب من اختفى، وأُخِذَت عدة أسلحة، فحَشَد الأحدب بن واصل شيخ عرك جموعَه، وصَمَّم على لقاء الأمراء، وحَلَف أصحابه على ذلك، وقد اجتمع معه عرَبُ منفلوط، وعَرَبُ المراغة وبني كلب وجهينة وعرك، حتى تجاوزت فرسانُه عشرة آلاف فارس تحمِلُ السلاح، سوى الرجَّالة المعَدَّة، فإنَّها لا تعَدُّ ولا تحصى لكثرتِها، ثم رحل الأمير شيخو عن أسيوط، وبعث الأمير مجد الدين الهذبانى ليؤمِّنَ بنى هلال أعداء عرك، ويُحضِرَهم ليقاتلوا عرك أعداءَهم، فانخدعوا بذلك، وفَرِحوا به، وركبوا بأسلحتِهم، وقَدِموا في أربعمائة فارس، فما هو إلا أن وصلوا إلى الأمير شيخو فأمر بأسلحَتِهم وخيولهم فأُخِذَت بأسْرِها، ووضَعَ فيهم السَّيفَ، فأفناهم جميعًا، ثم قاتلوا العَرَبَ الباقين على دفَعات يقتلونهم، وأسَروا منهم الكثيرَ واستَرَقُّوا الأولادَ والحريم، وهلك من العرب خلائقُ بالعطش، ما بين فرسان ورجَّالة وجَدَّ المجَرَّدون في طلبهم، فسَلَبوهم، وصَعِدَ كثيرٌ منهم إلى الجبال، واختَفَوا في المغائر، فقَتَلَ العسكرُ وأَسَر، وسبى عددًا كثيرًا، وارتَقَوا إلى الجبال في طَلَبِهم، وأضرَموا النيران في أبواب المغائر، فمات بها خلقٌ كثير من الدخان، وخرج إليهم جماعةٌ، فكان فيهم من يُلقي نَفسَه من أعلى الجبل ولا يُسَلِّم نَفسَه، ويرى الهلاكَ أسهَلَ مِن أخذ العدوِّ له، فهلك في الجبالِ أُمَمٌ كثيرة وقُتِلَ منهم بالسيف ما لا يُحصى كثرةً، حتى عُمِلَت عدة حفائر ومُلِئَت من رمَمِهم، وأَنتَنَت البرِّيَّةُ من جِيَفِ القتلى ورِمَمِ الخَيلِ، وكان الأحدَبُ قد نجا بنفسِه، فلم يُقدَرْ عليه، ومن حينئذ أَمِنَت الطرقات برًّا وبحرًا، فلم يُسمَعْ بقاطع طريق بعدها، ووقع الموتُ فيمن تأخَّرَ في السجون من العُربان، فكان يموتُ منهم في اليوم من عشرين إلى ثلاثين، حتى فَنُوا إلا قليلًا، وفي شهر ربيع الأول قَدِمَ الأحدب محمد بن واصل، شيخ عرك من بلاد الصعيد، طائعًا، وكان من خَبَرِه أنه لما نجا وقت الهزيمة، وأُخِذَت أمواله وحَرَمُه، ترامى بعد عَودِ العسكر على الشَّيخِ المعتقد أبى القاسم الطحاوي، فكتب الشيخ في أمره إلى الأمير شيخو، يسأل العفوَ عنه وتأمينَه، على أنَّه يقومُ بدَركِ البلاد، ويلتَزِمُ بتحصيل جميع غِلالِها وأموالِها، وما يحدُثُ بها من الفَسادِ فإنَّه مُؤاخَذٌ به، وأنَّه يقابِلُ نواب السلطان من الكُشَّاف والولاة، فكُتِب له أمانٌ سُلطاني، وكُوتِبَ بتطييب خاطِرِه وحضوره آمنًا، فسار ومعه الشيخ أبو القاسم، فأكرم الأمراءُ الشَّيخَ، وأكرموا لأجله الأحدَبَ، وكان دخولُه يومًا مشهودًا، وتمثَّل الأحدَبُ بين يدي السلطان، وأنعم عليه السلطانُ وألبسه تشريفًا وناله من الأمراءِ إنعامٌ كثيرٌ، وضَمِنَ منهم درك البلاد على ما تقدَّمَ ذِكرُه، فرُسِمَ له بإقطاعٍ، وعاد الأحدب إلى بلاده بعد ما أقام نحو شهرٍ.

العام الهجري : 662 العام الميلادي : 1263
تفاصيل الحدث:

لمَا خلا بالُ السلطان الظاهر بيبرس من هَمِّ المَلِك المغيث صاحب الكرك، توجَّهَ بكليته إلى الفرنجِ؛ فإنَّهم كانوا قد شرعوا في التعَلُّل وطلبوا زرعين- وهي قرية في سهل زرعين بصفد-  فأجابَهم السلطان بأنكم تعوَّضتُم عنها في الأيام الناصرية ضِياعًا من مرج عيون، وهم لا يزدادونَ إلا شكوى، وآخِرَ الحال طلب الفرنجُ من والي غزة كتابًا بتمكينِ رُسُلِهم إذا حضروا، فكتب لهم الكتابَ، وتواصلت بعد ذلك كتُبُهم، ووردت كتبُ النواب بشكواهم، وأنهم اعتمدوا أمورًا تفسِخُ الهدنة فلمَّا صار السلطان في وسط بلادِهم وردت عليه كتُبُهم، هذا وقد أمَرَ السلطان ألا ينزِلَ أحد في زرع الفرنجِ ولا يُسَيِّب فرسًا، ولا يؤذي لهم ورقةً خضراء، ولا يتعَرَّض إلى شيء من مواشيهم ولا إلى أحد من فلَّاحيهم، وكانت كتبهم أولًا تَرِدُ بندمهم على الهدنة وطلَبِهم فَسْخَها، فلما قرب السلطانُ منهم صارت تَرِدُ بأنهم باقون على العَهدِ مُتمَسِّكون بأذيال المواثيق، وفي اليوم الذي قُبِضَ فيه على الملك المغيث، أمَرَ السلطان بإحضار بيوت الفرنجيَّة، وقال: ما تقولون؟ قالوا: نتمَسَّك بالهدنة التي بيننا، فقال السلطان: لم لا كان هذا قبلَ حُضورنا إلى هذا المكان، وبالجملة فأنتم أخذتم هذه البلاد من المَلِك الصالح إسماعيل لإعانةِ مملكة الشام، وطاعةِ مَلِكِها ونصرته والخروجِ في خدمته، وإنفاقِ الأموال في نجدتِه، وقد صارت بحمد الله مملكةُ الشام وغيرها لي، وما أنا محتاج إلى نصرتكم ولا إلى نجدَتِكم، ولم يبقَ لي عدو أخافه، فرُدُّوا ما أخذتموه من البلاد، وفكُّوا أسرى المسلمين جميعهم، فإني لا أقبل غير ذلك، فلما سمع رسل الفرنج هذه المقالةَ بُهِتوا، وقالوا: نحن لا ننقُضُ الهدنة، وإنما نطلُبُ مَراحِمَ السلطان في استدامتِها، ونحن نزيل شكوى النواب، ونخرجُ مِن جميع الدعاوى ونفُكُّ الأسرى، ونستأنف الخِدمةَ، فقال السلطان: كان هذا قبل خروجي من مصرَ، في هذا الشتاءِ وهذه الأمطارِ، ووصول العساكرِ إلى هنا، وانفَصَلوا على هذه الأمور، فأمر السلطانُ بإخراجهم وألَّا يَبِيتوا في الوطاق، ووجَّه الأمير علاء الدين طيبرس إلى كنيسة الناصرة، وكانت أجلَّ مواطِنِ عباداتهم ويزعُمونَ أنَّ دينَ النصرانية ظهَرَ منها، فسار إليها وهدمها، فلم يتجاسَرْ أحدٌ من الفرنج أن يتحَرَّك، ثمَّ وجه السلطانُ الأمير بدر الدين الأيدمري في عسكر إلى عكا، فساروا إليها واقتَحَموا أبوابها وعادوا، ثم ساروا ثانيًا، وأغاروا على مواشي الفرنجِ، وأحضروا منها شيئًا كثيرًا إلى المخَيَّم، ثم ركب السلطان وجَرَّد من كل عشرة فارسًا، واستناب الأميرَ شجاع الدين الشبلي المهمندار- من يقوم بضيافة الرسل الواردين على السلطان- في الدهليز السلطاني، وساق من منزلة الطور نصف الليل، فصبَّحَ عكَّا وأطاف بها من جهة البر، وندب جماعةً لحصار برج كان قريبًا منه فشرعوا في نقبه، وأقام السلطانُ على ذلك إلى قريبِ المغرب وعاد، وكان قصدُه بذلك كشْفَ مدينة عكا؛ فإنَّ الفرنج كانوا يزعمونَ أن أحدًا لا يجسُرُ أن يقرب منها، فصاروا ينظرُونَ من أبواب المدينة ولا يستطيعون حركة، ولما عاد السلطان إلى الدهليز ركب لما أصبح، وأركب ناس معه، وساق إلى عكا، فإذا الفرنجُ قد حفروا خندقًا حول تل الفضول، وجعلوا معاثر في الطريق، ووقفوا صفوفًا على التلِّ، فلما أشرف السلطانُ عليهم رتَّب العسكرَ بنفسه، وشرع الجميعُ في ذكرِ الله وتهليلِه وتكبيرِه، والسلطان يحثُّهم على ذلك حتى ارتفعت أصواتهم، وللوقت رُدِمَت الخنادقُ بأيدي غلمان العساكِرِ وبمن حضر من الفقراءِ المجاهدين، وصَعِد المسلمون فوق تل الفُضول، وقد انهزم الفرنجُ إلى المدينة، وامتَدَّت الأيدي إلى ما حول عكا من الأبراج فهُدِمَت، وحُرِقَت الأشجارُ حتى انعقد الجوُّ من دخانها، وساق العسكرُ إلى أبوابِ عكا، وقَتَلوا وأسروا عِدَّةً مِن الفرنجِ، والسلطان قائمٌ على رأس التل يعملُ في أخذِ رأي المدينة، والأمراءُ تحمِلُ على الأبواب واحدًا بعد واحد، ثم حملوا حملةً واحدة ألقوا فيها الفرنجَ في الخنادق، وهلك منهم جماعةٌ في الأبواب، فلما كان آخرُ النهار ساق السلطانُ إلى البرج الذي نُقب، وقد تعلَّقَ حتى رُمِيَ بين يديه، وأُخِذَ منه أربعةٌ من الفرسان ونيف وثلاثون راجلًا، وبات السلطان على ذلك، فلما أصبح عاد على بلاد الفرنجِ وكشفها مكانًا مكانًا، وعبر على الناصرةِ حتى شاهد خرابَ كنيستِها وقد سوَّى بها الأرض، وصار إلى الصفَّة التي بناها قبالة الطور، فوافاها ليلًا وجلس عليها، وأحضر الشموع التي بالمنجنيقات ونصب عليها خمسة، ورحل السلطان من الطور يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة، وسار إلى القدسِ فوافاه يوم الجمعة عشرة، وكشف أحوال البلدِ وما يحتاج إليه المسجِدُ من العمارة، ونظر في الأوقاف وكتب بحمايتِها، ورتَّبَ برسم مصالح المسجد في كل سنة خمسة آلاف درهم وأمر ببناء خان خارج البلد، ونقل إليه من القاهرة باب القصر المعروف بباب العيد، ونادى بالقدس ألا ينزل أحدٌ في زرع.

العام الهجري : 381 العام الميلادي : 991
تفاصيل الحدث:

لَمَّا مات سعدُ الدَّولةِ الحَمدانيُّ صاحِبُ حَلَب، سار الوزيرُ أبو الحسن المغربي من مَشهدِ عليٍّ إلى العزيز بمصرَ، وأطمَعَه في حلب، فسيَّرَ جيشًا وعليهم منجوتكين أحدُ أمرائه إلى حلب، فسار إليها في جيش ٍكثيفٍ فحَصَرها، وبها أبو الفضائلِ ولؤلؤٌ، فكتبا إلى بسيل مَلِكِ الرومِ يستَنجِدانِه، وهو يقاتِلُ البلغار، فأرسل بسيل إلى نائِبِه بأنطاكيةَ يأمُرُه بإنجاد أبي الفضائل، فسار في خمسينَ ألفًا، حتى نزل على الجسرِ الجديدِ بالعاصي، فلمَّا سَمِعَ منجوتكين الخبَرَ سار إلى الرومِ؛ ليلقاهم قبل اجتماعِهم بأبي الفضائلِ، وعبَرَ إليهم العاصي، وأوقعوا بالرُّومِ فهزموهم ووَلَّوا الأدبارَ إلى أنطاكيةَ، وكثُرَ القتلُ فيهم، وسار منجوتكين إلى أنطاكيةَ، فنهب بلَدَها وقُراها وأحرَقَها، وأنفذ أبو الفضائِلِ إلى بلَدِ حَلَب، فنَقَل ما فيه من الغِلالِ، وأحرق الباقيَ إضرارًا بعساكِرِ مِصرَ، وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها، فأرسل لؤلؤٌ إلى أبي الحسَنِ المغربي فبذل لهم مالًا ليَرُدُّوا منجوتكين عنهم هذه السَّنَة، بعِلَّةِ تَعَذُّرِ الأقوات، ففعلوا ذلك، وكان منجوتكين قد ضَجِرَ مِن الحرب، فأجابهم إليه وسار إلى دمشق، ولَمَّا بلغ الخبَرُ إلى العزيز، غَضِبَ وكتب بعَودِ العَسكرِ إلى حلب، وإبعاد المغربيِّ، وأنفذ الأقواتَ مِن مِصرَ في البحرِ إلى طرابلس، ومنها إلى العَسكرِ، فنازل العسكَرُ حَلَب، وأقاموا عليها ثلاثةَ عشَرَ شهرًا، فقَلَّت الأقواتُ بحَلَب، وعاد أبو الفضائِلِ إلى مراسلةِ مَلِك الرومِ والاعتضاد به، وقال له: متى أخِذَت حلب أخِذَت أنطاكية وعَظُم عليك الخَطبُ، وكان قد توسَّطَ بلادَ البلغار، فعاد وجَدَّ في السَّيرِ، وكان الزَّمانُ ربيعًا، وعسكَرُ مِصرَ قد أرسل إلى منجوتكين يعَرِّفُه الحال، وأتَتْه جواسيسُه بمِثلِ ذلك، فسار كالمنهَزِم عن حَلَب، ووصل مَلِكُ الرُّومِ، فنزل على باب حَلَب، وخرج إليه أبو الفضائلِ ولؤلؤ، وعاد إلى حَلَب، ورحَلَ بسيل إلى الشام، ففتح حِمصَ وشيزر ونهبَهما، وسار إلى طرابلس فنازَلَها، فامتنعت عليه، وأقام عليها نيفًا وأربعينَ يومًا، فلما أيِسَ منها عاد إلى بلادِ الروم، ولَمَّا بلغ الخبَرُ إلى العزيز عَظُم عليه، ونادى في النَّاسِ بالنَّفيرِ لِغَزوِ الروم، وبرز من القاهرةِ، وحدث به أمراضٌ مَنَعتْه، وأدركه الموتُ.

العام الهجري : 399 العام الميلادي : 1008
تفاصيل الحدث:

كان الحاكِمُ بأمرِ اللهِ العُبَيديُّ حالُه مُضطربةٌ في الجَورِ والعَدلِ، والإخافةِ والأمنِ، والنُّسُك والبِدعة, ومذهَبُه في الرَّفضِ مَعروفٌ. ولقد كان مضطرِبًا فيه، فكان يَأذَنُ في صلاةِ التَّراويحِ ثمَّ ينهي عنها، وكان يرى بعِلمِ النُّجومِ ويُؤثِرُه، ويُنقَلُ عنه أنَّه منع النِّساءَ مِن التصرُّفِ في الأسواقِ، ومنَعَ مِن أكلِ الملوخيَّا. ورُفِعَ إليه أنَّ جماعةً مِن الرَّوافِضِ تعرَّضوا لأهلِ السنَّةِ في التراويحِ بالرَّجمِ، وفي الجنائِزِ، فكتب في ذلك سجِلًّا قُرِئَ على المِنبَرِ بمِصرَ في رمضان، ورَدَ فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّ أميرَ المؤمنينَ يتلو عليكم آيةً مِن كِتابِ اللهِ المُبينِ: {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} مضى أمسُ بما فيه، وأتى اليومُ بما يَقتَضيه. معاشِرَ المُسلِمينَ نحنُ الأئِمَّة، وأنتم الأمَّة. لا يحِلُّ قَتلُ مَن شَهِدَ الشَّهادَتينِ ولا يحلُّ عروةً بين اثنين تجمَعُها هذه الأخوَّة، عصم اللهُ بها من عَصَم، وحرَّم لها ما حرَّم، مِن كُلِّ مُحرًّمٍ مِن دمٍ ومالٍ ومَنكَحٍ، الصَّلاحُ والأصلَحُ بين الناسِ أصلَحُ، والفَسادُ والإفسادُ مِن العبَّادِ يُستقبَحُ. يُطوى ما كان فيما مضى فلا يُنشَر، ويُعرَض عَمَّا انقضى فلا يُذكَر. ولا يُقبَلُ على ما مرَّ وأدبَر من إجراءِ الأمورِ على ما كانت عليه في الأيَّام الخاليةِ؛ أيَّامَ آبائِنا الأئمَّة المُهتَدين. سلامُ الله عليهم أجمعين، يصومُ الصَّائِمونَ على حِسابِهم ويُفطِرون، ولا يُعارضُ أهل الرُّؤية فيما هم عليه صائِمون ويُفطِرون، وصلاةُ الخمسين للذين بما جاءهم فيها يُصَلُّون، وصلاةُ الضحى وصلاة التراويح لا مانِعَ لهم منها ولا هم عنها يُدفَعون، ويُخَمِّسُ في التكبير على الجنائِزِ المُخَمِّسون، ولا يُمنَعُ مِن التربيع عليها المُرَبِّعون؛ يُؤذِّنُ بحيَّ على خيرِ العَمَلِ المُؤذِّنون، ولا يُؤذَى مَن بها لا يُؤَذِّنون؛ لا يُسَبُّ أحَدٌ مِن السَّلَف، ولا يُحتَسَب على الواصِفِ فيهم بما يَصِف، والحالِفُ منهم بما حلف؛ لكُلِّ مُسلمٍ مُجتَهِدٍ في دينه اجتهادٌ، وفي يوم عيد الغديرِ مُنِعَ النَّاسُ مِن عَمَلِه". ودَرَسَت كنائِسُ كانت بطريقِ المكس وكنيسة بحارة الرُّوم من القاهرةِ ونُهِبَ ما فيها، وقُتِلَ في هذه الليلة كثيرٌ مِن الخَدَم والصَّقالبة والكُتَّاب، بعد أن قُطِعَت أيديهم بالسَّاطورِ على خشبةٍ مِن وسط الذِّراعِ.

العام الهجري : 755 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1354
تفاصيل الحدث:

بعد ما حدث بمصرَ مِن فتنة أهل الذمَّةِ وما جرى من إلزامِهم بالشروط العُمَريَّة وزيادةٍ، وما جرى من هدمٍ للكنائس المُحدَثة وغيرها، فلما كان في أُخرَيات رجب بلغ الأميرَ صرغتمش أنَّ بناحية شبرا الخيام كنيسةً فيها أصبع الشهيدِ التي ترمى كلَّ سنةٍ في النيل زعمًا منهم أنَّها تعمل على زيادةِ الخير والماء فيه، ويعملون في هذا اليوم عيدًا معروفًا بعيد الشهيد يحدُثُ فيه من المُنكرَات والفواحِش الكثير ممَّا يُستحيا مِن ذِكرِه، فتحدَّث مع السلطان فيه، فرسم بركوبِ الحاجِبِ والوالي إلى هذه الكنيسةِ وهَدْمِها، فهُدِمَت ونُهِبَت حواصِلُها، وأخِذَ الصندوق الذي فيه أصبعُ الشهيد، وأُحضِرَ إلى السلطان وهو بالميدان الكبير قد أقام به فأُضرِمَت النارُ، وأُحرِقَ الصندوق بما فيه، ثم ذرى رماده في البحر، وكان يومَ رُمِي هذا الأصبع في النيلِ مِن الأيام المشهودة؛ فإن النصارى كانوا يجتمعون من جميعِ الوجه البحري ومن القاهرة ومصر في ناحية شبرا، وتركَبُ الناس المراكِبَ في النيل، وتُنصَب الخيم التي يتجاوَزُ عَدَدُها الحَدَّ في البر، وتُنصَب الأسواق العظيمة، ويُباع من الخَمرِ ما يؤدُّون به ما عليهم من الخَراج، فيكونُ من المواسم القبيحة، وكان المظفَّرُ بيبرس قد أبطله أيام سَلطنَتِه، فأكذب اللهُ النصارى في قولِهم أنَّ النيل لا يزيدُ ما لم يُرمَ فيه أصبعُ الشهيد، وزاد تلك السنة حتى بلغ إلى أصبعٍ مِن ثمانية عشر ذراعًا، ثم سعت الأقباطُ حتى أعيدَ رَميُه في الأيام الناصرية، فأراح اللهُ منه بإحراقه، وأَخَذ عبَّاد الصليب في الإرجاف بأنَّ النيل لا يزيد في هذه السنة، فأظهر الله تعالى قُدرَتَه، وبيَّن للنَّاسِ كَذِبَهم، بأن زاد النيلُ زيادة لم يُعهَدْ مِثلُها قبل ذلك، فإنه انتهى في الزيادة إلى أصابع من عشرين ذراعًا، فقيل خمسة، وقيل سبعة، وقيل عشرون أصبعًا، من عشرين ذراعًا، ففسدت الأقصابُ والنيلة ونحوها من الزراعات، وفَسَدت الغلال التي بالمطامير والأجران والمخازن، وتقطَّعت الجسور التي بجميع النواحي؛ قبليِّها وبحريها، وتعطَّلت أكثَرُ الدواليب وتهَدَّمت دور كثيرة مما يجاوِرُ النيل والخلجان، وغَرِقَت البساتين، وفاض الماء حتى بلغ قنطرة قديدار، فكانت المراكِبُ تَصِلُ من بولاق إليها، ويركب الناسُ في المراكب من بولاق إلى شبرا ودمنهور.

العام الهجري : 755 الشهر القمري : شوال العام الميلادي : 1354
تفاصيل الحدث:

بعد أن اتَّفَق الأمراءُ بأن يكون الأمرُ كُلُّه للسلطان وأنَّه هو الذي يديرُ السَّلطنةَ بنَفسهِ مِن رأيه، استبَدَّ بالأمر وقَرَّبَ إليه الأمير طاز، وكان قد شُغِفَ بأخيه جنتمر كثيرًا، واستبعد الأميرَ شيخون كليًّا، بل زاد الأمرُ أنَّ السلطان قد اتفق مع إخوة طاز على أن يقبِضَ عليه وعلى صرغتمش يومَ العيد، وكان طاز قد توجَّه إلى البُحيرة في هذه الأيام للصيدِ، بعد ما قرر مع السلطان ما ذُكر، فركب السلطانُ في يوم الأحد أوَّلَ شوال لصلاة العيد في الإسطبل على العادةِ، وقَرَّر مع كلتاي وجنتمر وأصَرَّ على ما يفعلونَه، وأمَرَ بمائة فرس فشُدَّت وأوقِفَت، فلم يحضُرْ شيخو صلاةَ العيد، وكان قد بلغه جميعُ ما تقرر من نيَّة السلطان القبضَ عليه، فباتوا ليلة الاثنين على حَذَر، وأصبحوا وقد اجتمع مع الأميرِ شيخو من الأمراء صرغمتش وطقطاي، ومَن يلوذ بهم، وركبوا إلى تحت الطبلخاناه، ورسموا للآصر علم بضَرب الكوسات، فضُرِبت حربيًّا، فركب جميعُ العسكر تحت القلعة بالسلاحِ وصَعِدَ الأمير تنكربغا والأمير أسنبغا المحمودي إلى القلعة، وقبضا على السلطانِ الصالح صلاح الدين وسَجَناه مقيَّدًا، فزال ملكُه في أقل من ساعةٍ، وصَعِدَ الأمير شيخو ومن معه من الأمراء إلى القلعة، وأقامت أطلابُهم على حالها تحت القلعة، وقَبَضَ الأميرُ شيخو على إخوة الأمير طاز، واستشار فيمن يقيمُه للسلطنة، وصَرَّح هو ومن معه بخلع المَلِك الصالح صلاح الدين، فكانت مدة سلطنته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، فاقتضى رأي الأمير شيخو وسائر الأمراء إعادة السلطان الناصر حسن؛ لِما كان يبلغُهم عنه من ملازمتِه في مُدَّةِ حَبسِه للصلوات الخمس والإقبال على الاشتغالِ بالعِلم ِ،حتى إنَّه كتب بخَطِّه كِتابَ دلائل النبوة للبيهقي، فاستدَعَوا الخليفة وقُضاة القضاة، وأحضَروا السلطان من مَحبَسِه، وأركَبوه بشعار المملكة، ومشى الأمراء كلهم وسائر أرباب الدولة في رِكابِه، حتى جلَسَ على تخت الملك، وبايعه الخليفةُ، فقَبَّلوا له الأرضَ على العادة، وذلك في يوم الاثنين ثاني شهر شوال، وبات الأمراءُ في الأشرفية من القلعة، وسُجِنَ المَلِكُ الصَّالِحُ صلاح الدين حيث كان أخوه الملك الناصر حسن مَسجونًا!!

العام الهجري : 1329 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1911
تفاصيل الحدث:

كانت إيطاليا تطمَحُ بالسيطرة على طرابلس، وخاصةً بعد أن احتلَّت فرنسا تونس عام 1299هـ وبدأت إيطاليا تعقِدُ الاتفاقات السياسية مع الدول الأوربية الأخرى، مثل إسبانيا وفرنسا وإنجلترا والنمسا، ثم انصرفت إلى تهيئة الوضعِ داخِلَ ليبيا، فعَمِلَت على شراء الأراضي وإنشاء المشروعات الزراعية، وإرسال البعثات النصرانية الكاثوليكية، وفتح المدارس الإيطالية، وتأسيس شركات النقل بين البلدين، ومسْح السواحل بحجَّة البحث عن الإسفنج البحري، وفي عام 1238هـ قدمت إيطاليا إنذارًا للدولة العثمانية اتهمتها بعرقلة المساعي لتحضير الشعب الليبي، ولا تريد إضاعة الوقت بالمفاوضات،وإنما قررت احتلالَ ذلك الجزء من شمالي إفريقيا، واحتَجَّ الباب العالي لدى الدول الأوربية التي كانت على علمٍ مُسبق ومدبَّر بالموضوع، وأعلنت الدولةُ العثمانية رفضَ الإنذار غيرَ أن إيطاليا حاصرت سواحل طرابلس وبرقة؛ كي لا يصِلَ إليها أي مساعدة من تركيا، وكذا حاصرت إنجلترا الحدود البرية من جهة مصر رغم تظاهرها بالحياد، وبدأ الأسطول الإيطالي في السابع من شوال 1329هـ / 30 أيلول 1911م بقصف مدينة درنة، وفي اليوم التالي قُصِفَت طرابلس وتمَّ إنزال القوات التي احتلت طرابلس وبنغازي والخمس، ولم ينقَضِ الشهر حتى احتل الطليان طرابلس وبنغازي ودرنة، وعرفت البلاد باسم ليبيا، وأعلنت روما ضمَّ هذا الجزء من شمالي إفريقيا إليها، وبدأت المقاومة تشتد حتى ألجأت المستعمرين إلى الساحلِ، وتقدَّم العثمانيون بقيادة عزيز المصري، والمتطوِّعون بقيادة أنور باشا وأخيه نوري وعمه خليل، والسكان ومنهم السنوسيون، ووصلوا إلى طرابلس وانتصروا على الطليان في بنغازي، وهدَّدت إيطاليا باحتلال استانبول، فأرسلت بارجتين حربيتين إليها، واحتَلَّت بعض الجزر وضربت ميناءَ بيروت واضطرت الدولة إلى عقدِ معاهدة مع إيطاليا وانسحبت من ليبيا وتركت المجاهدين وحدَهم بالميدان، وحدثت معاهدةُ السلم عام 1329هـ ولم تعترف الدولة العثمانية بالاحتلال الإيطالي، وإنما تعهدت بسحب موظفيها وجنودها، وصدر قرار سلطاني بإعطاء ليبيا الاستقلال الذاتي، وتعهدت إيطاليا بإعطاء الحرية الدينية والعفو العام وقَبول ممثل عثماني، ولم تنفذ إيطاليا أيَّ بند من بنود الاتفاقية!!

العام الهجري : 1400 الشهر القمري : صفر العام الميلادي : 1980
تفاصيل الحدث:

الحربُ السُّوفيتية في أفغانستانَ، أو الغزوُ السُّوفيتيُّ لأفغانستانَ؛ هو اسمٌ يُطلَق على حرْبٍ دامتْ عشْرَ سنواتٍ، كان هَدَف السُّوفيت المعلَنُ دعْمَ الحكومة الأفغانيةِ الصَّديقة للاتِّحاد السُّوفيتيِّ، والتي كانت تُعاني مِن هَجَمات الثوَّار المعارضِينَ للسُّوفيت، والذين حَصَلوا على دَعْمٍ مِن مجموعةٍ من الدول المناوئةِ للاتحادِ السُّوفيتي، مِن ضِمْنها الولاياتُ المتحدة الأمريكيةُ، والسُّعودية، وباكستانُ، والصِّين. أدخَلَ السُّوفيت قوَّاته في 25 ديسمبر 1979، وقد بدَأَ التدخل الرُّوسي -أو الاحتلال الرُّوسي- مع الرئيس الجديد بابرك كارمل الذي ما كان سِوى دُميةً يُحرِّكها الروسُ، بينما هم يَصُولون ويَجُولون في أفغانستان كما يَشاؤون.
دخَلَ كارمل أفغانستانَ مع القوات الرُّوسية على متن دبَّابة رُوسية من نوع (تي 72)، وكانوا قد سَبَقوه وهو ما يَزال في مُوسكو يُذِيع بَياناتِه على الشعبِ الأفغاني، فاجتازوا نهْرَ جَيحون ممارسينَ الإرهابَ بكلِّ صُوره وأشكالِه، ثم بدَأَ النقلُ الجويُّ الضخم؛ حيث وصَلَ أكثرُ من 300 طائرةِ نقْلٍ ضخمةٍ لنقْلِ الجنود والعَتادِ والمؤنِ إلى كابُلَ، وهاجمت القواتُ الرُّوسية قصرَ الأمانِ ومحطةَ الإذاعةِ، كما جرَّدت وَحدات الجيشِ الأفغاني من سِلاحِها، ثم تَلا ذلك إرسالُ الجيشِ الأربعين الرُّوسي، فتوزَّعت قوَّاته على العواصم الإقليميةِ، ثم نُوقِش مَوضوعُ هذا التدخُّل في هيئة الأُمَمِ، مع المطالَبةِ بالانسحابِ الفوريِّ وغيرِ المشروط، ولكنْ دُون جَدْوى؛ فكالعادةِ عندما يكونُ الأمرُ متعلِّقًا بدولةٍ إسلامية لا يُحرِّكون ساكنًا! واسْتنكَرَت الدولُ الإسلامية هذا التدخُّل السافرَ، ولكنَّ القوَّات الروسيةَ تابعَت تَزايُدَها، فوصَلَ عددُها إلى 75 ألفًا، وأخذَتْ تَستعمِل الغازاتِ السامةَ ضدَّ المجاهدين، وحتى ضدَّ السُّكَّان المحلِّيين، فكَثُرَ اللاجِئون إلى باكستانَ، ولم يَنْقَضِ عام 1400هـ حتى كان عددُ الضحايا المسلمينَ مليونَ شخصٍ، ثم وصَل عددُ القواتِ الروسيةِ بعدَ سنتينِ إلى 150 ألفًا، وتمَّ عقْدُ اتفاقيةٍ مع كابُلَ مُدَّتها خمسُ سنواتٍ، تعهَّدَت فيها موسكو بتأمينِ الخُبراءِ والمعدَّاتِ والتدريبِ؛ حيث لم تَنسحبِ القواتُ السُّوفيتيةُ التي بلَغ عددُها في أفغانستانَ 110 آلاف جُنديٍّ، إلا بمُوجِب اتفاقِ جِنيف الذي وُقِّع في 14 إبريل 1988م، وفي 15 فِبراير 1989م انسحَبَت كافَّة قُوَّات الرُّوس بعد أنْ فَقَدوا 15 ألفَ جُنديٍّ.

العام الهجري : 622 الشهر القمري : رمضان العام الميلادي : 1225
تفاصيل الحدث:

هو الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد في عاشر رجب، سنة 553.كان أبيض معتدل القامة، تركيَّ الوجه، مليح العينين، أنور الجبهة، أقنى الأنف، خفيف العارضين، أشقر، رقيق المحاسن، نَقشُ خاتمه: رجائي من الله عَفوُه. وبويع في أول ذي القعدة سنة 575، وكانت خلافته ستًّا وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يومًا، فلم يلِ الخلافةَ أطولَ مدة منه إلَّا ما قيل عن المستنصر بالله العُبيدي، صاحب مصر، فإنَّه ولي ستين سنة، ولا اعتبارَ به، فإنَّه ولي وله سبع سنين، وكذا ولي الأندلس عبد الرحمن الناصر خمسين سنة. كان المستضيء والد الناصر قد تخوَّف منه فحَبَسَه، ومال إلى أخيه أبي منصور، وكان ابن العطار وكبراء الدولة ميلهم إلى أبي منصور، وكانت حظية المستضيء بنفشا والدة الناصر, والمجد بن الصاحب وطائفة مع الناصر، فلما بويع قبض على ابن العطار، وقتله, ثم سحب في الشوارع ميتًا، وطغى ابن الصاحب إلى أن قُتِل. قال الموفق عبد اللطيف: كان الناصر شابًّا مرحًا عنده ميعة الشباب، يشقُّ الدروب والأسواق أكثر الليل، والناس يتهيبون لقياه، وكان الرفضُ قد ظهر بسبب ابن الصاحب، ثم انطفأ بهلاكه وظهر التسنن، ثم زال, وقد خطب الناصر بولاية العهد لولده الأكبر أبي نصر، ثم ضيَّق عليه لما استشعر منه، وعيَّن أخاه، وأخذ خطًّا باعتراف أبي نصر بالعجز، أفسد ما بينهما النصير بن مهدي الوزير، وأفسد قلوب الرعية والجند على الناصر وبَغَّضَه إلى الملوك، وزاد الفساد، ثم قبض على الوزير، وتمكن بخراسان أيام الناصر خوارزمشاه محمد بن تكش وتجبَّرَ واستعبد الملوك وأباد الأمم من الترك والخطا، وظلم وعسف، وقطع خطبة الناصر من بلاده، ونال منه، وقصد بغداد، وجمع الناصرُ الجيش وأنفق الأموال، واستعد، فجاءت الأخبار إلى خوارزمشاه أن التتر قد حشدوا، وطمعوا في بلاده، فكرَّ إليهم وقصدهم فقصدوه وكثروه إلى أن مزَّقوه، وبلبلوا لبَّه وشتتوا شمله، وملكوا الأقطار، وصار أين توجَّه وجد سيوفَهم متحكمة فيه، وتقاذفت به البلاد، فشَرَّق وغرب، وأنجدَ وأسهَل، وأصحَرَ وأجبَلَ، والرعب قد زلزل لبه، فعند ذلك قضى نحبه. وقد جرى له ولابنه جلال الدين منكوبرتي عجائب. قال الموفق: "لم يزل الناصر في عز وقمع الأعداء، ولا خرج عليه خارجيٌّ إلا قمعه، ولا مخالفٌ إلا دمغه، ولا عدوٌّ إلا خُذِل، كان شديد الاهتمام بالمُلك، لا يخفى عليه كبيرُ شيء من أمور رعيته، أصحاب أخباره في البلاد، حتى كأنه شاهد جميعَ البلاد دفعة واحدة، كانت له حِيَل لطيفة، وخُدَع لا يفطِنُ إليها أحد، يوقع صداقةً بين ملوك متعادين، ويوقع عداوةً بين ملوك متوادين ولا يفطِنون. إلى أن قال: ولما دخل رسولُ صاحب مازندران بغداد كانت تأتيه كل صباح ورقة بما فعل في الليل، فصار يبالغ في التكتم، واختلى ليلة بامرأة فصبحته ورقة بذلك، فتحيَّرَ، وخرج لا يرتاب أن الخليفة يعلم الغيب, وجاءه مرة رسول لخوارزم شاه فحبس أشهرًا ثم أعطي عشرة آلاف دينار فذهب وصار مناصحًا للخليفة. وكان الناصرُ إذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع. قلت (الذهبي): أظنُّه كان مخدومًا من الجنِّ, وما تحت هذا الفعل طائلٌ، فكلُّ مخدوم وكاهن يتأتى له أضعاف ذلك. قال الموفق عبد اللطيف: وفي وسط ولايته اشتغل بروايةِ الحديث، واستناب نوابًا يروونَ عنه، وأجرى عليهم جراياتٍ، وكتب للملوك والعلماء إجازات، وجمع كتابًا سبعين حديثًا وصل على يد السهروردي إلى حلب فسمعه الظاهر، وجماهير الدولة وشرحته. قلت (الذهبي): ممن يروي عن الناصر بالإجازة عبد الوهاب بن سكينة، وابن الأخضر، وقاضي القضاة ابن الدامغاني، وولي عهده الظاهر بأمر الله, والملك العادل، وبنوه، وشيخانا: محمود الزنجاني، والمقداد القيسي. قال ابن النجار: "شرفني الناصر بالإجازة، ورويت عنه بالحرمين ودمشق والقدس وحلب، وبغداد وأصبهان، ونيسابور ومرو وهمذان", قال الموفق: "وكان الناصرُ قد ملأ القلوب هيبةً وخيفةً، حتى كان يرهبُه أهل الهند، وأهل مصر، فأحيا هيبة الخلافة، لقد كنت بمصر وبالشام في خلوات الملوك والأكابر إذا جرى ذكره خفضوا أصواتَهم إجلالًا له". قال ابن النجار: "دانت السلاطين للناصر، ودخل في طاعتِه مَن كان من المخالفين، وذُلِّلت له العتاة والطغاة، وانقهرت بسيفه الجبابرة، واندحض أعداؤه، وكثُر أنصاره، وفتح البلاد العديدة، ومَلَك من الممالك مالم يملكْه أحد ممن تقدمه من الخلفاء والملوك، وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين, وبعث صلاح الدين الأيوبي برايته وترسه للخليفة دليلًا على تبعيته- وكان أسد بني العباس تتصدع لهيبته الجبال، وتذل لسطوته الأقيال، وكان حسن الخلق أطيف الخلق، كامل الظرف، فصيحًا بليغًا، له التوقيعات المسددة والكلمات المؤيدة، كانت أيامه غرة في وجه الدهر، ودرة في تاج الفخر" وكان لا يخلو من قبح السيرة في رعيته، والتعدي على أموالهم، كما اتهم بخراب العراق في أيامه، وأنه هو من أطمع التتار بالبلاد من كثرة ما فعله وما تلهى به، بقي الناصر لدين الله في آخر عمره ثلاث سنين عاطلًا عن الحركة بالكلية، وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصارًا ضعيفًا، ثم أصابه دوسنطاريا (وهو مرض عدم استطاعة التبول) عشرين يومًا، ومات في شهر رمضان، وكان عمره نحو سبعين سنة تقريبًا، وقد كانت سنة 585 الخطبة للأمير أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله بولاية العهد في العراق وغيره من البلاد، ثم بعد ذلك خلعه الخليفةُ من ولاية العهد، وأرسل إلى البلاد في قطعِ الخطبة له، وإنما فعل ذلك لأنه كان يميل إلى ولَدِه الصغير علي، فاتفق أن الولد الصغير توفي سنة 612، ولم يكن للخليفة ولد غير ولي العهد، فاضطر إلى إعادته، إلا أنه تحت الاحتياط والحجر لا يتصرف في شيءٍ، فلما توفي أبوه وليَ الخلافة، وأحضر الناس لأخذ البيعة، وتلقَّب بالظاهر بأمر الله، وعلم أنَّ أباه وجميع أصحابه أرادوا صرفَ الأمر عنه، فظهر وولي الخلافة بأمر الله لا بسعي أحدٍ، ولَمَّا ولي الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنَّة العُمَرين.

العام الهجري : 872 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1467
تفاصيل الحدث:

هو السلطان الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم بن عبد الله الناصري المؤيدي، تسلطن في يوم الأحد التاسع عشر رمضان بعد أن أجمع أمراء المماليك على خلع السلطان المؤيد أحمد بن إينال واختاروا الأمير الكبير خشقدم؛ لأنه ليس من جنس المماليك؛ فهو رومي ورجل غريب ليس له شوكة، ومتى أردوا خلعه أمكنهم ذلك، فلما كان يومُ قرروا خلع المؤيد الجمعة السابع عشر رمضان وقت الزوال طُلِبَ الخليفة المستنجد بالله يوسف والقضاة والأعيان، وقد حضر جميع الأمراء في الإسطبل السلطاني بباب السلسلة بالحراقة، وبويع بالسلطنة، وكان قد بويع بها من بكرة يوم السبت ثامن عشر شهر رمضان قبل قتال الملك المؤيد أحمد، ولقب بالملك الظاهر، وكنِّي بأبي سعيد، ويذكر أن الذي جلبه إلى الديار المصرية خواجا ناصر الدين وسِنُّه يوم ذلك دون البلوغ، فاشتراه الملك المؤيَّد شيخ، وجعله كتابيًّا سنين كثيرة، ثم أعتقه وجعله من جملة المماليك السلطانية. بدأ المرض بالسلطان الظاهر خشقدم من يوم عاشوراء وتزايد يومًا بعد يوم إلى أن أصبح يوم السبت عاشر شهر ربيع الأول، فلم يكن بعد أذان الظهر إلا بنحو ساعة رمل لا غير ومات السلطان بقاعة البيسرية، بعد أذان الظهر بدرجات، وفي حال وفاته طلعت جميع الأمراء إلى القلعة، وأخذوا في تجهيز السلطان الملك الظاهر خشقدم، وغسَّلوه وكفَّنوه، وصلَّوا عليه بباب القلة من قلعة الجبل، كل ذلك قبل أن تبايع العساكِرُ يلباي الإينالي بالسلطنة، وذلك أن الأمراء الأكابر بمقعد الإسطبل السلطاني عند الأمير آخور الكبير، وجلس الأتابك يلباي وهو أتابك العساكر وخشداش- زميل- السلطان في صدر المجلس وبإزائه الأمير تمربغا أمير مجلس، وهو متكلِّم القوم، ولم يحضر قرقماس أمير سلاح لإقامته بساحل النيل، وحضر جماعة من أمراء الألوف، وكبير الظاهرية الخشقدمية يوم ذاك خيربك الدوادار الثاني، وأخذوا في الكلام إلى أن وقع الاتفاق بينهم على سلطنة الأتابك يلباي، ورضي به عظيم الأمراء الظاهرية الكبار الأمير تمربغا أمير مجلس، وكبير الظاهرية الصغار الخشقدمية خيربك الدوادار، وجميع من حضر، وكان رضا الظاهرية الكبار بسلطنة يلباي بخلاف الظن، وكذلك الظاهرية الصغار، ثم تكلم بعضهم بأن القوم يريدون من الأمير الكبير أن يحلف لهم بما يطمئن به قلوبهم وخواطرهم، فتناول المصحف الشريف بيده، وحلف لهم يمينًا بما أرادوه، ثم حلف الأمير تمربغا أمير مجلس، كل ذلك كان قبل وفاة السلطان، ولما صلِّيَ على السلطان الظاهر خشقدم بباب القلة، وحُمل نعشه، وعلى نعشِه مرقعة الفقراء، ساروا به إلى أن أوصلوه إلى تربته ومدرسته التي أنشأها بالصحراء بالقرب من قبة النصر، ودُفن بالقبة التي بالمدرسة، وكانت مدة سلطنته ست سنين وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا، ثم لما عادوا من الصلاة على الملك الظاهر خشقدم جلسوا عند باب الستارة وقتًا هينًا، وإذا بالأمير خيربك خرج من باب الحريم ومعه جماعة من خشداشيته وأخذوا الأتابك يلباي وأدخلوه من باب الحريم، ومضوا به إلى القصر السلطاني، وخاطبوه بالسلطنة، فامتنع امتناعًا هينًا، فلم يلتفتوا إلى كلامِه، وأرسلوا إلى الأمراء أحضروهم إلى القصر من خارج، فدخل الأمراء قبل أن يحضر الخليفة والقضاة، وطال جلوسُهم عنده، وقبَّل الأمراء الأرض قبل المبايعة، وهم في هرج لإحضار الخليفة والقضاة إلى أن حضروا بعد مشقة كبيرة، وتكاملوا بعد أن فرغ النهار، وقد أخذوا في بيعته وسلطنته، ولبَّسوه خِلعة السلطنة بالقصر، وجلس على تخت الملك من غير أن يركب فرسًا بأبهة الملك على العادة، وقبَّل الأمراء الأرض بين يديه وتمَّ أمره، ونودي بسلطنته، وتلقب بالملك الظاهر أبي نصر يلباي الإينالي، ويُذكَر أن أصله شركسي الجنس، جلبه الأمير إينال ضضع من بلاد الشراكس إلى الديار المصرية في عدة مماليك، فاشتراه الملك المؤيد شيخ قبل سنة 820، وأعتقه وجعله من جملة المماليك السلطانية.

العام الهجري : 618 العام الميلادي : 1221
تفاصيل الحدث:

بعد ما فعل المغول في سمرقند ما فعلوه أخذ جنكيزخان يرسِلُ السَّرايا إلى البلدانِ فأرسل سريةً إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة، وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه، ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنَعِ القلاع، بحيث إن المسلمين لم يفتحوها إلَّا في سنة تسعين من أيام سليمان بن عبد الملك، ففتحها هؤلاء في أيسَرِ مُدَّة ونهبوا ما فيها وقتَلوا أهاليها كلَّهم وسَبَوا وأحرقوا، ثمَّ ترحلوا عنها نحو الريِّ فدخلوها على حينِ غفلةٍ مِن أهلها فقَتَلوهم وسَبَوا وأسروا، ثم ساروا إلى همذان فمَلَكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا، ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقَتَلوا من أهلها نحوًا مِن أربعين ألفًا، ثم تيمَّموا بلاد أذربيجان فصالحَهم مَلِكُها أزبك بن البهلوان على مالٍ حَمَله إليهم لشُغلِه بما هو فيه من السُّكرِ وارتكابِ السيئات والانهماك على الشَّهواتِ، فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف مقاتل، فلم يقفوا بين أيديهم طرفةَ عين حتى انهزمت الكرج, ثم أقبَلوا إليهم مرَّةً أخرى بحدِّهم وحديدِهم، فكسرَتْهم التتار في وقعة ثانية أقبَحَ هزيمة وأشنَعَها، وانقضت هذه السنةُ وهم في بلاد الكرج، فلما رأوا منهم ممانعةً ومقاتلة يطول عليهم بها المقام عَدَلوا إلى غيرهم، وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحَهم أهلها بمال، ثم ساروا إلى مراغة فحَصَروها ونصبوا عليها المجانيقَ وتترسوا بالأسارى من المسلمين، وعلى البلد امرأةٌ ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا من أهله خلقًا لا يعلم عدتَهم إلا الله عز وجل، وغنموا منه شيئًا كثيرًا، وسَبَوا وأسروا على عادتهم, ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعًا، وقال أهل تلك النواحي هذا أمر عصيب، وكتب الخليفةُ إلى أهل الموصل والمَلِك الأشرف صاحب الجزيرة يقول: إني قد جهَّزتُ عسكرًا فكونوا معه لقتالِ هؤلاء التتار، فأرسل الأشرفُ يعتذر إلى الخليفة بأنه متوجِّه نحو أخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قد دهم المسلمين هناك من الفرنج، وأخْذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم له على أخذ الديار المصرية قاطبة، فكتب الخليفة إلى مظفَّر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي عشرة آلاف مقاتل، فلم يَقدَم عليه منهم ثمانمائة فارس ثم تفَرَّقوا قبل أن يجتمعوا، ولكنَّ الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحَهم أهلُها وترك عندهم التتار شحنة، ثم اتفقوا على قتلِ شحنتِهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرًا وقتلوا أهلَها عن آخرهم، ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقًا كثيرًا وجمًّا غفيرا، وحرقوها وكانوا يفجُرون بالنساء ثم يقتلونهنَّ ويشقون بطونهنَّ عن الأجنَّة ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضًا كسرة فظيعة، ثم فتحوا بلدانًا كثيرة يقتلون أهلها ويسبون نساءها ويأسرون من الرجالِ ما يقاتلون بهم الحصون، يجعلونَهم بين أيديهم ترسًا يتقون بهم الرميَ وغيره، ومن سلم منهم قتلوه بعد انقضاء الحرب، ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالًا عظيمًا فكسروهم وقصدوا أكبَرَ مدائن القبجاق وهي مدينة سوداق وفيها من الأمتعة والثياب والتجائر شيءٌ كثير جدًّا، ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتَقَوا معهم فكسرتهم التتار كسرةً فظيعةً جدًّا، ثم ساروا نحو بلقار في حدود سنة620, ففرغوا من ذلك كلِّه ورجعوا نحو مَلِكهم جنكيزخان، هذا ما فعلته هذه السرية المغربة، وكان جنكيزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة وأخرى إلى فرغانة فملكوها، وجهز جيشًا آخر نحو خراسان فحاصروا بلخ فصالحهم أهلُها، وكذلك صالحوا مدنًا كثيرة أخرى، حتى انتهوا إلى الطالقان فأعجزتهم قلعتها وكانت حصينةً فحاصروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكيزخان فقَدِمَ بنَفسِه فحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى فتحها قهرًا، ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصةً وعامة، ثم قصدوا مدينةَ مرو مع جنكيزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم فاقتتلوا معه قتالًا عظيمًا حتى انكسر المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعةً ثم غدروا به وبأهل البلد فقتلوهم وغَنِموهم وسلبوهم وعاقبوهم بأنواع العذاب، حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان، ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو، ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهدَ علي بن موسى الرضا، وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابًا، ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسَرَهم ثم عادوا إلى ملكهم جنكيزخان، وأرسل جنكيزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحوا البلد قهرًا فقتلوا من فيها قتلًا ذريعًا، ونهبوها وسبوا أهلها وكسروا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها ثم عادوا إلى جنكيزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة، واستنقذ منهم خلقًا من أسارى المسلمين، ثم كتب إلى جنكيزخان يطلب منه أن يبرز بنفسِه لقتاله، فقصده جنكيزخان فتواجَها وقد تفَرَّق على جلال الدين بعضُ جيشه ولم يبق بدٌّ من القتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يُعهَد قبلها مثلها من قتالهم، ثم ضَعُف أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة.

العام الهجري : 648 الشهر القمري : محرم العام الميلادي : 1250
تفاصيل الحدث:

كان لسقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين سنة642 هـ (1244م) صدى كبير في أوروبا فأخذت أوروبا تجَهِّزُ لحملة صليبيةٍ جديدةٍ كبيرةٍ هي الحملةُ الصليبية السابعة للاستيلاءِ على مصر, حيثُ إنهم أدركوا بعد هزيمةِ حَملتِهم الصليبية الخامسةِ على مصر، ثم هزيمتهم في معركة الحربيَّة عند غزة، وضياع بيت المقدس منهم، أنَّ مِصرَ هي التي تمثل مركزَ قُوَّة المسلمين وقلعة التصدِّي لطموحاتِهم في الاستيلاءِ على بيتِ المقدسِ والشَّرق, وكان لويس التاسع ملك فرنسا الذي عُرِفَ لاحقًا بالقديس لويس، من أشد المتحمِّسين لقيام تلك الحملة، فراح يروِّجُ لها في أنحاء أوروبا. خرج لويس التاسع قاصدًا الديار المصرية في جموعٍ عظيمة فسار عن بلاده بأموالٍ جزيلة وأُهبة عظيمة، وأرسى بعكَّا وانبثَّ أصحابُه في جميع بلاد الساحل. فلمَّا استراحوا جاؤوه حاشدينَ حافلين وساروا في البحرِ إلى دمياط ومَلَكوها بغيرِ تَعَب ولا قتالٍ؛ لأنَّ أهلَها لَمَّا بلَغَهم ما الفرنجُ عليه من القوة والكثرة والعُدَّة الكاملة هالهم أمرُهم فرحلوا عنها مخفِّين. فوصل إليها الفرنجُ ولَقُوها خالية عن المقاتلين مليئةً بالأرزاق والسِّلاح، فدخلوها وغَنِموا ما فيها من الأموال. وكان الملكُ الصالح أيوب بن الملك الكامل صاحبُ مصر يومئذ بالشَّامِ يحاصر مدينة حمص. فلمَّا سَمِعَ بمقدم الفرنج رحل عن حمصَ وسار مسرعًا إلى الديار المصرية ومرض في الطريقِ وعند وصوله إلى المنصورة وافاه مقدَّمو دمياط الذين أخلوها منهزمين، فلما قيل له ما صنعوا لأنَّهم فرُّوا عنها من غير أن يباشروا حربًا وقتالًا، عظم ذلك عليه فأمر بصَلبِهم وكانوا أربعة وخمسين أميرًا فصُلِبوا كما هم بثيابِهم ومناطِقِهم وخفافِهم. ثم مات من الغدِ في الخامس عشر من شعبان. وتولَّى تدبير المملكة الأمير عزُّ الدين المعروف بالتركمانيِّ، وهو أكبر المماليك الترك. وكان مرجعه في جميع ذلك ممَّا يعتمده من الأمور إلى حظيَّة الملك الصالح أيوب المسمَّاة شجرة الدرِ،ّ وكانت تركية داهيةَ الدَّهرِ لا نظير لها في النساءِ حُسنًا، وفي الرجال حزمًا. فاتفقا على تمليك الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح. وكان يومئذٍ بحِصن كيفا من ديارِ بكر, فسار إلى الدِّيار المصريَّة وبايعوه وحَلَفوا له وسَلَّموا إليه مُلكَ أبيه. وفي مطلع سنة 648 سيَّرَ لويس التاسع ألفي فارس نحو المنصورة ليجسَّ بهم ما عليه المصريون من القوَّة. فلَقِيَهم طرفٌ مِن عسكر المسلمينَ فاقتتلوا قتالًا ضعيفًا فانهزم المسلمون بين أيديهم فدخل الفرنجُ المنصورةَ ولم ينالوا منها نيلًا طائلًا؛ لأنهم حَصلوا في مضايق أزقَّتِها وكان العامَّةُ يقاتلونهم بالحِجارة والآجُرِّ والتراب وخيولهم الضَّخمة لم تتمكَّن من الجولان بين الدُّروبِ، وكان القائد لعسكر المسلمين فخر الدين عثمان المعروف بابن شيخ الشيوخ أحد الأمراء المصريين شيخًا كبيرًا، أحاط به الفرنجُ وهو في الحمام يصبغُ لحيَتَه فقتلوه هناك. وعادوا إلى لويس التاسع وأعلموه بما تمَّ لهم مع ذلك العسكر وبالمدينة. فزاد طمعه وطمَعُ من معه من البطارقة ظانِّينَ أنه إذا كان الالتقاء خارج الجدران بالصحراء لم يكن للمسلمين عليهم مقدرة. فعبَّى جيوشه وسار بهم طالبًا احتلال أرض مصر. فصبر المصريون إلى أن عبر الفرنج الخليجَ مِن النيل المسمى أشموم طناح وهو بين البرَّين: برِّ دمياط وبرِّ المنصورة. في ليلة الأربعاء الثالث من محرم رحل الفرنج بأسرِهم من منزلتهم وانحدرت مراكِبُهم في البحر قبالةَ المسلمين، فركب المسلمونَ أقفيَتَهم، بعد أن عَدَّوا برَّهم واتبعوهم، فطلع صباحُ نهار يوم الأربعاء وقد أحاط بهم المسلمون، وبَلَوا فيهم سيوفَهم، واستولوا عليهم قتلًا وأسرًا، وكان معظمُ الحرب في فارسكور، فبلغت عدة القتلى عشرةَ آلاف في قَولِ المقِلِّ، وثلاثين ألفًا في قولِ المكثر، وأُسِرَ من خيَّالة الفرنج ورجالتهم المقاتلة، وصناعهم وسُوقتِهم، ما يناهِزُ مائة ألف إنسان، وغَنِمَ المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرةً، واستُشهِدَ من المسلمين نحو مائة رجل، وأبلت الطائفةُ البحرية لاسيما بيبرس البندقداري في هذه النوبة بلاءً حسنًا، وبان لهم أثرٌ جميل، والتجأ الملك الفرنسيُّ وعِدَّة من أكابر قومه إلى تل المنية، وطلبوا الأمانَ فأمَّنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي، ونزَلوا على أمانه، وأُخِذوا إلى المنصورة، فقُيِّد الملك الفرنسي بقيدٍ مِن حديدٍ واعتُقِلَ في دار القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان كاتبِ الإنشاء، التي كان ينزل بها من المنصورةِ ووكَلَ بحفظه الطواشي صبيح المعظمي، واعتُقِلَ معه أخوه، وأجرى عليه راتبًا في كل يوم، وتقَدَّم أمر الملك المعظم توران شاه لسيف الدين يوسف بن الطودي أحد من وصل معه من بلاد الشرق بقَتلِ الأسرى من الفرنج، وكان سيفُ الدين يُخرِجُ كُلَّ ليلة منهم ما بين الثلاثمائة والأربعمائة ويَضرِبُ أعناقَهم ويرميهم في البحر، حتى فَنُوا بأجمعهم، ورحل السلطانُ من المنصورة، ونزل بفارسكور وضرب بها الدهليزَ السلطاني، وعَمِلَ فيه برجًا من خَشَبٍ.

العام الهجري : 852 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1449
تفاصيل الحدث:

هو أمير المؤمنين في الحديث قاضي القضاة، شيخُ الإسلام، حافظ العصر، رحلة الطالبين، مفتي الفِرَق، شهاب الدين أبو الفضل أحمد ابن الشيخ نور الدين علي بن محمد بن علي بن أحمد بن حجر، المصريُّ المولدِ والمنشأِ والدار والوفاة، العسقلانيُّ الأصلِ، الشافعيُّ، قاضي قضاة الديار المصرية وعالِمُها وحافظها وشاعرها، ولد في 23 شعبان بالقاهرة سنة 773. مات والده وهو حَدَث السن، فكفَلَه بعض أوصياء والده إلى أن كبرَ وحفظ القرآن الكريم، واشتغل بالمتجر، وتولَّع بالنظم، وقال الشعر الكثير المليح إلى الغاية, ثم حَبَّب الله إليه طلبَ الحديث فأقبل عليه وسَمِعَ الكثير بمصر وغيرها، ورحل وانتقى، وحصَّل وسَمِع بالقاهرة من شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، والحافظين ابن الملقِّن والعراقي، وأخذ عنهم الفقه، ورحل إلى اليمن بعد أن جاور بمكة، وأقبل على الاشتغال والتصنيف، وبرع في الفقه والعربية، وصار حافظَ الإسلام، علَّامة في معرفة الرجال واستحضارهم، والعالي والنازل مع معرفةٍ تامة بعلل الأحاديث وغيرِها. وصار هو المعوَّلَ عليه في هذا الشأن في سائر أقطار الأرض، وقدوةَ الأمة، علَّامة العلماء، حجَّة الأعلام، مُحيي السنة، انتفع به الطلبة وحضر دروسَه جماعة من علماء عصره وقضاة قضاتِه، وقرأ عليه غالبُ فقهاء مصر، وأملى بخانقاه بيبرس نحوًا من عشرين سنة, ولَمَّا عُزِل عن منصب القضاة بالشيخ شمس الدين محمد القاياتي انتقل إلى دار الحديث الكاملية ببين القصرين، واستمَرَّ على ذلك، وناب في الحكم في ابتداء أمرِه عن قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني مدة طويلة، ثم عن الشيخ ولي الدين العراقي، ثم تنزَّه عن ذلك وتولى مشيخة خانقاه بيبرس الجاشنكير في دولة الملك المؤيد شيخ، وصار إذ ذاك من أعيان العلماء، وتصدر للإقراء والتدريس إلى أن ولَّاه الملك الأشرف برسباي قضاءَ القضاة الشافعية بالديار المصرية عوضًا عن قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني بعد عزلِه، وذلك في السابع والعشرين محرم سنة 827، فاستمَرَّ في المنصب ثم عُزِلَ عن القضاء وأعيد إليه، ثم عُزِلَ وأعيد أكثر من مرة. إلى أن طلب وأعيد عوضًا عن الشيخ ولي الدين محمد السفطي، وذلك في يوم الاثنين ثامن ربيع الآخرة سنة 852, وكان لولايته في هذه المرة يوم مشهود، فدام في المنصب إلى أن عزل نفسه في الخامس والعشرين جمادى الآخرة من هذه السنة، وولي من الغد عوضَه قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني، وهذه آخِرُ ولايته للقضاء, وانقطع شيخ الإسلام ابن حجر في بيته ملازمًا للاشغال والتصنيف إلى أن توفي بعد أن مرض أكثر من شهر. قال ابن تغري بردي: "كان رحمه الله حافِظَ المشرق والمغرب، أميرَ المؤمنين في الحديث، انتهت إليه رئاسةُ علم الحديث من أيام شبيبتِه بلا مُدافَعةٍ، بل قيل: إنه لم يَرَ مِثلَ نفسه، قلتُ: وهذا هو الأصح. وكان ذا شيبةٍ نيرة ووقار وأبَّهة، ومهابة، هذا مع ما احتوى عليه من العقل والحكمة والسكون والسياسة، والدربة بالأحكام ومداراة الناس قبل أن يخاطب الشخصَ بما يكره، بل كان يحسِنُ لمن يسيء إليه ويتجاوز عمن قَدَر عليه, وكانت صفته ذا لحيةٍ بيضاء ووجه صبيحٍ، للقِصَرِ أقرب، وفي الهامةِ نحيف، جيدِّ الذكاء، عظيم الحذق لمن ناظره أو حاضره، راويةً للشعر وأيامِ من تقدمه وعاصره، فصيح اللسان، شجيَّ الصوت، هذا مع كثرة الصوم ولزوم العبادة، واقتفائِه طرق من تقَدَّمه من الصلحاء السادة، وأوقاته للطلبة مقسمة تقسيمًا لمن ورد عليه آفاقيًّا كان أو مقيمًا، مع كثرة المطالعة والتأليف والتصدي للإفتاء والتصنيف. وأما مصنفاته فإن أسماءها تستوعب مجلدًا كاملًا صغير الحجم" مات رحمه الله ولم يخلِّفْ بعده مثله شرقًا ولا غربًا، ويكفيه شهرة أنه مؤلِّفُ كتاب: "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" الذي لا يكاد يستغني عنه أحد، وله "تغليق التعليق" وكتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" وكتاب "تقريب التهذيب" و "تهذيب التهذيب" و "لسان الميزان" و "بلوغ المرام في أدلة الأحكام"، وفي التاريخ: "رفع الإصر عن قضاة مصر" وكتاب "الإعلام فيمن ولي مصر في الإسلام" وغيرها من الكتب, وكلها تدل على سعة علمه في الحديث والرجال والعلل والفقه والخِلاف؛ مما أكسبه اسم الحافظ بحقٍّ. توفي في ليلة السبت الثامن والعشرين ذي الحجة، وصلِّيَ عليه بمصلاة المؤمني، وحضر السلطان الظاهر جقمق الصلاةَ عليه، ودفِنَ بالقرافة، ومشى أعيان الدولة في جنازته من داره بالقاهرة من باب القنطرة إلى الرملة، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية، حتى قال بعض الأذكياء: إنه حزر من مشى في جنازته نحو الخمسين ألف إنسان، وكان لموته يومٌ عظيم على المسلمين، وحتى على أهل الذمَّةِ.