لما فتح أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي حضرة فاس، تاقت نفسُه إلى الاستيلاء على المغرب الأوسط، وكان يعزُّ عليه استيلاء الترك العثمانيين عليه، مع أنهم أجانبُ عن هذا الإقليم ودُخَلاء فيه، فيَقبُحُ بأهلِه وملوكه أن يتركوهم يغلبون على بلادِهم، لا سيما وقد فرَّ إليهم عدوٌّ من أعدائه، وهو أبو حسون الوطاسي، فرأى محمد الشيخ من الرأي وإظهار القوة في الحربِ أن يبدأَهم قبل أن يبدؤوه، فنهض من فاس قاصدًا تلمسان في جموعِه إلى أن نزل عليها وحاصرها تسعة أشهر وقُتِلَ في محاصرتها ولدُه الحران وكان نائبًا من أنيابه وسيفًا من سيوفه، ثم استولى محمد الشيخ على تلمسان ودخلها يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، ونفى الترك عنها وانتشر حكمُه في أعمالها إلى وادي شلف، واتسعت خطةُ مملكته بالمغرب ودانت له البلاد، ثم كرَّت عليه الأتراك وأخرجوه من تلمسان، فعاد إلى مقرِّه فاس، ثم عاود غزو تلمسان حين بلغه قيامُ رعاياها على الترك وانحصار الترك بقصبتها، فأقام مرابطًا عليها أيامًا، فامتنعت عليه وأقلع عنها ولم يعاودْ غزوها بعد ذلك وخَلُص أمرُها إلى العثمانيين.
هو السلطان سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح. ولِدَ سليم الثاني في 6 رجب سنة 930 وهو ابن روكسلان الروسية. تولَّى المُلك بعد موت أبيه سليمان القانوني, ولم يكن السلطان سليم متصفًا بما يؤهِّله للقيام بحفظ فتوحات أبيه، فضلًا عن إضافة شيء إليها! وكان لوجود الوزير الطويل محمد باشا صقللي المدرَّب على الأعمال الحربية والسياسية دور كبير في حفظ الدولة، فحُسنُ سياسته وعِظَم اسم الدولة ومهابتها في قلوب أعدائها حَفِظَتْها -بعد فضل الله- من السقوط مرةً واحدة. وفي عهد سليم تكبَّدت الدولة هزيمةً ساحقة أمام التحالف الأوربي الصليبي في معركة ليبانتو سنة 979 فقدت بعدها الدولةُ هيبتها العسكرية في البحر المتوسط. توفِّيَ في السابع والعشرين من شهر شعبان، بعد أن دام في الحكم ثمانية أعوام، ثمَّ تولى ابنه مراد الثالث الخلافة، ثم أمر بقتل إخوته الخمسةِ؛ خوفًا من نزاعِه على الملك.
على الرغم من معاهدة 1210ه بين الجزائر والولايات المتحدة، فإن السفنَ العثمانية التابعة لإيالة (ولاية) طرابلس بدأت في التعَرُّضِ للسفن الأمريكية التي تدخُلُ البحر المتوسط، وترتَّب على ذلك أن أرسَلَت الولايات المتحدة أسطولًا حربيًّا إلى ميناء طرابلس، هاجمت سفينتا حرب أمريكيتان تملك 35 مدفعًا السفُنَ الموجودةَ في ميناء طرابلس في ليبيا، إلَّا أن إحدى السفينتين (فلادليفيا) التي كانت تعدُّ أكبر سفينة في العالم في ذلك الوقتِ جنحت في المياه الضَّحلةِ في ميناء طرابلس، وتم أسرُ طاقَمِها المكون من 300 بحَّار، وطالب حاكِمُ طرابلس قرة مانلي يوسف باشا الولاياتِ المتحدة بدفع ثلاثة ملايين دولار تقَدَّم لهم كتعويضاتٍ قبلَ إطلاق سراح السفينة وطاقمِها، وطالب في نفس الوقت محمد حمودة باشا والي تونس الولاياتِ المتحدة بعشرة آلاف دولار سنويًّا. وظلت الولايات المتحدة تدفَعُ هذه الضريبة حمايةً لسفنها حتى سنة 1227هـ حيث سدَّد القنصل الأمريكي في الجزائر 62 ألف دولار ذهبًا، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي تسَدَّد فيها الضريبة السنوية.
وقَّع مصطفى النحاس -وهو رئيس الوزراء- ووزير الداخلية، ووزير الصحة: المعاهدةَ مع إنجلترا والتي عُرِفَت بمعاهدة 1936 وتنُصُّ على إنهاء الاحتلال العسكري والوصاية البريطانية، مع استثناء بعض القواعد العسكرية للدفاع عن وادي النيل وقناة السويس ضِدَّ أي عدوان خارجي، ووضْع الأراضي المصرية وطرق مواصلاتها ومطاراتها وموانيها تحت تصرُّف الجيش البريطاني في حالةِ قيام حرب، وتخلِّي إنجلترا عن المصالح الأجنبية، وتعهُّد إنجلترا بقَبولِ مِصرَ في عضوية عصبة الأمم، وإبقاء السودان شركةً بين مصر وإنجلترا، وتعهَّد الطرفانِ بعدم عقدِ معاهدة سياسية تتعارَضُ مع مضمون هذه المعاهدة، ومُدَّة المعاهدة عشرون سنة، ويعاد النظرُ بعدها فيها. وعاد مصطفى النحاس من لندن إلى مصر وبدأ يروِّجُ المعاهدةَ ويدعو إلى تأييدها، وأطلق عليها اسمَ معاهدة الشرف والاستقلال. فانشَقَّ أحمد ماهر وفهمي النقراشي عن حزب الوفدِ وشَكَّلا الهيئةَ السعديةَ، وألقيت قنبلةٌ على دُورٍ للسينما يرتادُها ضباط إنجليز ذهب ضحيَّتَها عددٌ من القتلى، وتعرَّض النحَّاسُ لمحاولة اغتيالٍ.
تعتَبرُ الثورة الفلسطينية الكبرى في عام 1936م من أشَدِّ الثورات على اليهود وأعوانهم الإنجليز، وكانت ذاتَ طابَعٍ إسلامي واضِحٍ، وتركَّزت العمليات في شمالي فلسطين ولواء نابلس؛ حيث إن جماعة عز الدين القسَّام كان وجودها مكثفًا هناك، فقاموا باغتيال الحاكم البريطاني لمنطقة الجليل "أندروز"، وكان فوزي القاوقجي هو قائد عام الثورة، وتولَّى منطقة القدس عبد القادر الحسيني الذي قُتِلَ في معركة القسطل، واشتعلت الثورة في كافة أنحاء فلسطين حتى أعلنت بريطانيا أنَّ خسائِرَها بلغت مليوني جنيه استرليني، كما استدعت قوات إضافية من مصر، وأسهمت الطائرات والدبابات والأسلحة الفتاكة الأخرى في قمع الثورة، وهجر اليهودُ مستعمراتِهم وتجَمَّعوا في تل أبيب، ونُفِّذَت في هذه الثورة آلافُ العمليات العسكرية، ولم تهدأ الثورة حتى توسطت بريطانيا عند أصدقائها من الملوك والرؤساء العرب، وبعدها استعانت بريطانيا بسُدس جَيشِها الإمبراطوري بقيادةِ أقوى العسكريِّين، وعادت تحتلُّ فلسطين جزءًا جزءًا في حربٍ شرسة استخدموا فيها الطيرانَ والدباباتِ وكلَّ التقنيات العسكرية الحديثة التي يعرفونَها!
أثناء إقامة المفتي الحاج أمين الحسيني في ألمانيا بعد فراره من الإنجليز أيامَ الحرب العالمية الثانية سَمِعَ بالمآسي التي حلَّت بالشعب البوسني المسلم عندما تصارعت عليه القوميتان الكرواتية والصربية؛ حيث اجتمع بزعماء بوسنة وهرسك، وبعد البحثِ معهم ومع قيادة القوات الألمانية في كيفية المحافظةِ على حياة البشناق (البسنويين) ومَنْع وقوع المذابح فيهم، وافقت الحكومة الألمانية على تجنيد الشبَّان منهم وتسليحهم للدفاعِ عن أنفسِهم وعائلاتهم، كذلك اتَّفق المفتي مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة لتوزيعهم على وحدات الفِرَق البوسنية الذين زاد عددُهم عن 100 ألف مقاتل، وقد أنشأ المعهد واختير له عدد من علماء البشناق؛ لتوجيه أولئك الأئمة، وأنشأ المفتي كذلك بالاتفاق مع الألمان معهدًا آخر في (دردسن)؛ لتخريج الأئمة الأذربيجانيين والقوقازيين وغيرهم، وبذلك زاد عدد المجندين في بلاد المحور من عرب وبوسنيين وأذربيجانيين وغيرهم على مائتي ألف مقاتل، استطاعوا أن يمنعوا المجازِرَ عنهم وعن جميع مُسلِمي البلقان وشرق أوروبا.
بعد الحَربِ العالمية الثانية أصبحت دولةُ ساحل العاج ضِمنَ الاتحاد الفرنسي، وانتُخِبَت أول جمعية وطنية عام 1366هـ / 1947م وبعد عشر سنوات تشكَّلَت فيها أوَّلُ حكومة تتمَتَّعُ بالاستقلال الذاتي، ثم وافقت على دستور ديغول المعروف، فحصلت على الاستقلال الداخلي في 1378هـ / 1958م فأُعلِنَت الجمهوريةُ ضِمنَ مجموعة الشعوب الفرنسية، ثم مع الحزب الديمقراطي لساحل العاج حصلَ على الاستقلال التام في 14 صفر 1380هت / 7 آب، وانتُخِبَ زعيم الحزب فيلكس هوفويه بوانييه رئيسًا للجمهورية. ومع أنَّ أكثر السكان من المسلمين إلَّا أن الوظائف كانت من اختصاصِ النصارى، ولم يكن يُسمَح بتعليم اللغة العربية حتى في الكتاتيب المُلحَقة بالمساجد، واستأنفت الدولةُ علاقاتها مع اليهود في فلسطين، وأعلن الرئيسُ العاجي عام 1406هـ رغبةَ البلاد بأن تُعرَفَ دوليًّا باسمها الفرنسي "كوت دي فوار" وليس بالترجمة العربية، وقد قُبِلَ هذا الطلب فيما بعدُ لدى الأمم المتحدة، وبنى الرئيس على نفقته كاتدرائية ضخمة في ياموسوكرو.
ما إنْ أُعلِنَ وقفُ إطلاق النارِ في حرْب 6 أكتوبر / تشْرين الأول بقَرارِ رقم 338 مِن الأُمَم المتحِدة في 22 أكتوبر، حتى تمَّ عقْدُ قِمَّة عربيةٍ في الجزائرِ من 26 - 28 تشْرين الثاني، وحضَرَتْه 16 دولةً عربية بمُبادرةٍ من سُوريا ومصرَ، وقاطعَتْه العراقُ ولِيبيا، وكانت القضيةُ الرئيسةُ التي تمَّ طرْحُها في القمةِ هي: "الصُّلح مع إسرائيلَ" بشروط؛ حيث صَدَر عن المؤتمر بَيانٌ خِتاميٌّ ومجموعةٌ من القراراتِ؛ أهمُّها:- إقرارُ شَرْطينِ للسلام مع إسرائيلَ:
الأوَّل: انسحابُ إسرائيلَ من جميعِ الأراضي العربيَّة المحتلَّة، وفي مُقدِّمتها القدسُ.
والثاني: استعادةُ الشعْب الفِلَسطيني حُقوقَه الوطنيةَ الثابتة.
ومن القرارات: تَقديم جميعِ أنواع الدَّعْم المالي والعسْكري لِلجبهتينِ السُّورية والمصريةِ؛ مِن أجْل استمرار نِضالِهما ضدَّ العدُوِّ الصُّهيوني. استمرارُ استخدامِ سلاحِ النِّفط العَرَبي ورفْعُ حظْرِ تَصدير النِّفط للدُّول التي تَلتزِم بتأْييدها القضيةَ العربيَّة العادلةَ. وتَوجيه تَحيةِ تَقديرٍ للدُّول الإفريقيةِ التي اتَّخذت قراراتٍ بقطْعِ عَلاقاتها مع إسرائيلَ.
تُوفيَ جورج حبش في العاصمة الأردنية عمَّانَ، والذي كان أحدَ أبرزِ قادة الثورة الفِلَسْطينية المعاصرة، وأحدَ مؤسِّسي حركة القوميِّين العرب، وُلد في مدينة "اللد" عامَ 1926م، لعائلةٍ من الروم الأرثوذوكس، وهاجَرَ في حرب 1948م من فِلَسْطينَ، درس في كلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرَّج فيها عامَ 1951 مُتخصِّصًا في طب الأطفال، فعمِل في العاصمة الأردنية عمَّانَ، والمخيَّماتِ الفِلَسْطينية، وفي عام 1952م عمِلَ على تأسيس حركة القوميِّين العرب، التي كان لها دورٌ في نشوءِ حَرَكاتٍ أُخرى في الوطن العربي، وظلَّ يعمَلُ في مجال دراسته حتى عام 1957م، فرَّ بعدَها من الأُردُنِّ إلى العاصمة السورية دِمَشق، وصدرت بحقِّه عدَّةُ أحكامٍ بين الأعوام 1958م، و1963م، انتقَلَ بعدَها من دِمَشْق إلى بيروتَ، وفي ديسمبر من عام 1967م أسَّس الجبهة الشعبية لتحرير فِلَسْطينَ، والتي قامت على مبادئ الماركسية اللينينية، أسَّسها مع مصطفى الزبري وآخرين، وظلَّ حبش أمينًا عامًّا لها حتى عام 2000م، حيث ترك موقعَه طوعًا، أو لمرضه ليخلفَه فيه مصطفى الزبري.
في هذه السنة عمَّ البلاء وعظُمَ العزاء بجنكيزخان المسمى بتموجين وقيل (تمرجين) لعنه الله تعالى، ومن معه من التتر قبَّحهم الله أجمعين، واستفحل أمرُهم واشتد إفسادُهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها، فمَلَكوا في سنة واحدة وهي هذه السنة سائر الممالك المشرق، وقهروا جميع الطوائفِ التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة ما لا يحَدُّ ولا يُوصَفُ، وبالجملة فلم يدخُلوا بلدًا إلا قتلوا جميعَ من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيرًا من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنَّهبِ إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى إنهم كانوا يجمعون الحريرَ الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عَجَزوا عن تخريبه يحرقونه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين فيقاتِلون بهم ويحاصِرون بهم، وإن لم ينصحوا في القتال قَتَلوهم. وقد بسط ابن الأثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطًا حسنًا مفصلًا، فقال: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهونُ عليه ذكرُ ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًّا، إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيتُ أنَّ تَرْك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا فصلٌ يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلِها، عمت الخلائقَ وخَصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالمَ منذ خلق الله آدمَ وإلى الآن، لم يُبتَلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادثِ ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب بيت المقدس، وما بيتُ المقدس بالنسبة إلى ما خرَّب هؤلاء الملاعين من البلاد؟ ولعلَّ الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقَرِضَ العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجَّال فإنه يبقي على من اتَّبَعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يُبقُوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشَقُّوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنَّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإنَّ قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها الأفاعيل، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكًا، وتخريبًا وقتلًا ونهبًا، ثم يجاوزونَها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصِدون بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونه، ويقتلون أكثَرَ أهلها ولم ينجُ منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله، ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنَه، ولم يسلَمْ غير قلعته التي بها مُلكُهم، وعبَروا عندها إلى بلد اللان، واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلًا ونهبًا وتخريبًا، ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددًا، فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم، وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد، هذا ما لم يطرق الأسماعَ مثلُه، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملِكْها في سنة واحدة، إنما ملَكَها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا، بل رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأطيبه وأحسنه عمارة، وأكثره أهلًا وأعدلهم أخلاقًا وسيرة في نحو سنة، ولم يتَّفِق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقِّب وصولهم إليه. ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومَها لا غير، وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفِرُ الأرض بحوافرها، وتأكل عروقَ النبات لا تعرفُ الشعير، فهم إذا نزلوا منزلًا لا يحتاجون إلى شيءٍ مِن خارجه. وأمَّا ديانتهم، فإنهم يسجدون للشمسِ عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا، فإنهم يأكلون جميعَ الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحًا بل المرأة يأتيها غيرُ واحد من الرجال، فإذا جاء الولدُ لا يَعرِف أباه. وإنما استقام لهم هذا الأمرُ لعدم المانع؛ لأن السلطان خوارزم شاه محمدًا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك، واستقَرَّ في الأمور، فلما انهزم من التتر في العام الماضي وضَعُف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدرى أين ذهب، وهلك في بعض جزائر البحر، خلت البلادُ ولم يبق لها من يحميها؛ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] وإلى الله تُرجَع الأمور."
هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العَلَمُ العلَّامةُ الفقيهُ الحافِظُ الزاهِدُ العابِدُ القدوةُ شيخُ الإسلامِ: تقيُّ الدين أبو العباس أحمد بن شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد ابن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثمَّ الدمشقي، وكان مولِدُه يومَ الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة 661، وقَدِمَ مع والده وأهلِه إلى دمشقَ وهو صغير، فسَمِعَ الحديثَ وقرأ بنفسِه الكثيرَ، وطلب الحديثَ وكُتُبَ الطبقاتِ والأثباتِ، ولازم السَّماعَ بنفسه مُدَّةَ سنين، وقَلَّ أن سَمِعَ شَيئًا إلَّا حَفِظَه، ثم اشتغل بالعلومِ، وكان ذكيًّا كثيرَ المحفوظ، فصار إمامًا في التفسير وما يتعلَّق به عارفًا بالفقه، فيقال: إنه كان أعرَفَ بفقه المذاهِبِ مِن أهلِها الذي كانوا في زمانِه وغيره، وكان عالِمًا باختلاف العلماء، عالِمًا في الأصول والفروعِ، والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النَّقليَّة والعقلية، وما قُطع في مجلسٍ، ولا تكَلَّمَ معه فاضِلٌ في فنٍّ مِن الفنونِ إلَّا ظَنَّ أنَّ ذلك الفَنَّ فَنُّه، ورآه عارفًا به متقِنًا له، وأما الحديثُ فكان حامِلَ رايتِه حافظًا له مميِّزًا بين صحيحِه وسقيمِه، عارفًا برجاله متضَلِّعًا من ذلك، وله تصانيفُ كثيرة وتعاليقُ مُفيدة في الأصولِ والفروع، كمُلَ منها جملةٌ وبُيِّضَت وكُتِبَت عنه وقُرِئَت عليه أو بَعضُها، وجملةٌ كبيرةٌ لم يُكمِلْها، وأثنى عليه وعلى علومِه وفضائِلِه جماعةٌ من عُلَماءِ عَصرِه، وأمَّا أسماءُ مُصَنَّفاتِه وسيرته وما جرى بينه وبين الفُقَهاءِ والدولة وحَبسُه مراتٍ وأحوالُه، فلا يُحتَمَلُ ذِكرُ جَميعِها في هذا الموضِعِ، توفِّيَ في ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة بقلعةِ دمشق بالقاعةِ التي كان محبوسًا بها، وحضر جمعٌ كثيرٌ إلى القلعة، وأُذِنَ لهم في الدخول عليه، وجَلَس جماعة عنده قبل الغُسلِ واقتصروا على مَن يُغَسِّلُه، فلما فُرِغَ مِن غُسلِه أُخرِجَ ثم اجتمع الخَلقُ بالقلعة والطريقِ إلى الجامعِ، وامتلأ بالجامع أيضًا وصَحنِه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى باب اللبادين والغوارة، وحضرت الجنازةُ في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووُضِعَت في الجامع، والجندُ قد احتاطوا بها يحفَظونَها من النَّاسِ مِن شِدَّة الزحام، وصُلِّيَ عليه أولًا بالقلعة، تقدَّمَ في الصلاة عليه أولًا الشيخ محمد بن تمام، ثم صُلِّيَ عليه بالجامِعِ الأمويِّ عَقيبَ صلاة الظهر، وقد تضاعَفَ اجتِماعُ الناس ثم تزايد الجَمعُ إلى أن ضاقت الرِّحابُ والأزِقَّة والأسواق بأهلِها ومَن فيها، ثم حُمِلَ بعد أن صُلِّيَ عليه على الرؤوس والأصابع، وخرج النَّعشُ به من باب البريد واشتدَّ الزحامُ وعَلَت الأصواتُ بالبُكاء والنَّحيب والترحُّم عليه والثَّناء والدعاء له، وألقى الناسُ على نعشِه مناديلَهم وعمائِمَهم وثيابَهم، وذهبت النِّعالُ مِن أرجُلٍ, وبالجملةِ كان يومُ جنازته يومًا مشهودًا لم يُعهَدْ مثلُه بدمشقَ إلَّا أن يكون في زمَنِ بني أمية حين كان الناسُ كثيرين، وكانت دار الخلافة، ثم دُفِنَ عند أخيه قريبًا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكِنُ أحدًا حصرُ من حضر الجِنازةَ، وتقريبُ ذلك أنَّه عبارةٌ عمَّن أمكنه الحضورُ من أهل البلَدِ وحواضِرِه ولم يتخلَّفْ مِن الناس إلا القَليلُ مِن الصغار والمخَدَّرات، وما تخلَّفَ أحدٌ من أهل العلمِ إلَّا النفرُ اليسير تخلَّف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاثةُ أنفس: وهم ابنُ جملة، والصدر، والقفجاري، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداتِه فاختَفَوا من الناس خوفًا على أنفُسِهم، بحيث إنَّهم علموا متى خرجوا قُتِلوا وأهلَكَهم الناس، ورُئيَت له مناماتٌ صالحةٌ عَجيبةٌ، ورُثِيَ بأشعارٍ كثيرة وقصائِدَ مُطَوَّلة جدًّا، وقد أُفرِدَت له تراجِمُ كثيرة، وصَنَّف في ذلك جماعةٌ من الفضلاء وغيرهم، ويدُلُّ على علمِه وفَضلِه مُصَنَّفاتُه، كالتفسير، ومنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل، وفتاويه التي جُمِعَت، وغيرها كثير، كان جريئًا قويًّا لا يخاف في الله لومةَ لائم، حثَّ الناسَ والأمراء على جهاد التتار، بل ذهب بنفسه لمقابلةِ مَلِكهم قازان حين جاء ليدخُلَ دمشق وقال له: أنت تدعي أنك مسلم فلمَ جئت تغزو بلاد الإسلامِ؟ وغير ذلك من المواقف المشَرِّفة، مثل وقت استفتاه السلطان الناصر محمد بن قلاوون في قَتْلِ الفقهاء والقضاة الذين كانوا ضِدَّه يومَ خَلَع نفسَه وكانوا مع المظفَّر بيبرس، وكان منهم من آذى الشيخَ نَفسَه، فلم يُفْتِ له الشيخُ بأذِيَّتِهم، بل بيَّنَ له حُرمةَ وقَدرَ العُلَماءِ، وقال: إنَّه لا ينتصر لنفسِه، وكلُّ من آذاه فهو في حِلٍّ، وهذا من تمامِ فَضلِه وحُسنِ خُلُقِه، وله الأثرُ الكبيرُ في مُناظرة أهلِ البِدَع والعقائِدِ الفاسدة بما أحيا اللهُ على يديه ممَّا اندرس بين النَّاسِ منها، فكان بحَقٍّ مُجَدِّدًا للدين، فرحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
لَمَّا قُتِلَ الذين كانوا يمُدُّون الزنجَ بالميرة، وقُطِعَت تلك الإمدادات واشتَدَّ الحصار على الزنج، ولَمَّا فرغ الموفَّقُ من شأن مدينة صاحبِ الزنج، وهي المختارة، واحتاز ما كان بها من الأموالِ وقَتَل من كان بها من الرجال، وسَبى من وجد فيها من النِّساء والأطفال، وهرب صاحِبُ الزنج عن حومةِ الحرب والجِلاد، وسار إلى بعضِ البلاد طريدًا شريدًا بشَرِّ حال؛ عاد الموفَّق إلى مدينتِه المُوفَّقيَّة مُؤيَّدًا منصورًا، وقَدِمَ عليه لؤلؤة غلام أحمد بن طولون مُنابذًا لسيِّده سميعًا مطيعًا للمُوَفِّق، وكان ورودُه عليه في ثالث المحرم من هذه السنة، فأكرمه وعَظَّمه وأعطاه وخَلَع عليه وأحسَنَ إليه، وبعثه طليعةً بين يديه لقتالِ صاحب الزنج، وركِبَ الموفَّق في الجيوش الكثيفة الهائلة وراءه، فقصدوا الخبيث وقد تحصَّنَ ببلدة أخرى، فلم يزل به محاصِرًا له حتى أخرجه منها ذليلًا، واستحوذ على ما كان بها من الأموالِ والمغانم، ثمَّ بعث السرايا والجيوشَ وراء حاجِبِ صاحب الزنج، فأسروا عامَّة من كان معه من خاصَّته وجماعتِه، منهم سليمان بن جامع، فاستبشر الناسُ بأسره وكبَّرُوا الله وحَمِدوه؛ فرحًا بالنصر والفتح، وحمل الموفَّقُ بمن معه حملةً واحدة على أصحابِ الخبيث فاستحَرَّ فيهم القتل، وما انجلت الحربُ حتى جاء البشيرُ بقتل صاحب الزنج في المعركةِ، وأُتي برأسِه مع غلامِ لؤلؤة الطولوني، فلما تحقَّق الموفَّق أنَّه رأسُه بعد شهادة الأمراء الذين كانوا معه من أصحابِه بذلك، خَرَّ ساجدًا لله، ثم انكفأ راجعًا إلى الموفَّقيَّة، ورأسُ الخبيثِ يُحمَلُ بين يديه، وسليمانُ معه أسير، فدخل البلدَ وهو كذلك، وكان يومًا مشهودًا، وفرح المسلمون بذلك في المغارب والمشارق، ثم جيء بأنكلاني ولد صاحب الزنج، وأبان بن علي المهلبي مُسَعِّر حربِهم مأسورينِ، ومعهم قريبٌ من خمسة آلاف أسير، فتم السرورُ وهرب قرطاس الذي رمى الموفَّق بصدره بذلك السَّهم إلى رامهرمز، فأُخِذَ وبُعِثَ به إلى الموفَّق فقتله أبو العباس أحمد بن الموفَّق، واستتاب مَن بقي من أصحابِ صاحب الزنج وأمَّنَهم الموفَّق، ونادى في الناس بالأمان، وأن يرجِعَ كُلُّ من كان أُخرِجَ من دياره بسبَبِ الزنج إلى أوطانِهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد وقَدَّمَ ولده أبا العباس بين يديه، ومعه رأسُ الخبيث يُحمَلُ لِيَراه الناس، فدخلها لثنتي عشرة ليلةً بقيت من جمادي الأولى من هذه السنة، وكان يومًا مشهودًا، وانتهت أيامُ صاحب الزنج المُدَّعي الكذَّاب- قبَّحه الله- واسمُه محمد بن علي، وقد كان ظهورُه في يوم الأربعاء لأربعٍ بَقِين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكُه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، ولله الحمدُ والمنَّة، وقد قيل في انقضاء دولة الزنجِ وما كان من النصرِ عليهم أشعارٌ كثيرة.
كانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجه، فاستخلف عليها إنسانًا يقال له محمد الأصبهاني، وخرج في العام الماضي، فعصى الأصبهاني على قراجه، ثم قُتل محمد الأصبهاني، قتَلَه غلامٌ لقراجه، فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها، فلما سمع مُعين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش ذلك، وكان بينهما حرب، أرسل كلٌّ منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران، ويُعلِمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه، وسارا فاجتمعا على الخابور وتحالفا، وسارا إلى لقاء الفرنج، فالتقوا على نهر البليخ، وكان المصاف بينهم هناك فاقتتلوا، فأظهر المسلمون الانهزام، فتبعهم الفرنج نحو فرسخين، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا، وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم، ووصلوا إلى الأموال العظيمة؛ لأن سواد الفرنج كان قريبًا، وكان بيمند صاحبُ أنطاكية، وطنكري صاحِبُ الساحل، قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم إذا اشتدت الحرب، فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين، وسوادهم منهوبًا، فأقاما إلى الليل وهربا، فتبعهما المسلمون، وقتلوا من أصحابهما كثيرًا، وأسَروا كذلك، وأفلتا في ستة فرسان، وكان القمص كبير القساوسة- بردويل، صاحب الرها، قد انهزم مع جماعةٍ من قمامصتهم، وخاضوا نهر البليخ، فوَجِلت خيولهم، فجاء تركماني من أصحاب سقمان فأخذهم، وحمل بردويل إلى خيم صاحبه، وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند، فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج، ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل، فقالوا لجكرمش: أي منزلة تكون لنا عند الناس، وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا؟ وحَسَّنوا له أخذَ القُمص، فأنفذ فأخذ القمص من خيم سقمان، فلما عاد سقمان شقَّ عليه الأمر، وركب أصحابُه للقتال، فردَّهم، وقال لهم: لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغَمِّهم باختلافنا، ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين. ورحل لوقته، وأخذ سلاح الفرنج، وراياتهم، وألبس أصحابَه لُبسَهم، وأركبهم خيلَهم، وجعل يأتي حصون شيحان، وبها الفرنج، فيَخرُجون ظنًّا منهم أن أصحابهم نُصِروا، فيقتُلهم ويأخذ الحصن منهم، فعل ذلك بعدة حصون. وأما جكرمش فإنه سار إلى حران فتسلمها، واستخلف بها صاحبه. وسار إلى الرها، فحصرها خمسة عشر يومًا، وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان، ففاداه بخمسة وثلاثين دينارًا، ومائة وستين أسيرًا من المسلمين، وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل!
سار سِنجر إلى لقاء التُّرك، فعبَرَ إلى ما وراء النَّهرِ، فشكا إليه محمودُ بنُ محمد خان من الأتراك القارغلية، فقَصَدهم سنجر، فالتجؤوا إلى كوخان الصيني ومَن معه من الكُفَّار، وأقام سنجر بسمرقند، فكتب إليه كوخان كتابًا يتضَمَّنُ الشَّفاعةَ في الأتراكِ القارغلية، ويَطلُبُ منه أن يعفوَ عنهم، فلم يُشَفِّعْه فيهم، وكتَبَ إليه يدعوه إلى الإسلامِ ويتهَدَّدُه إن لم يُجِبْ عليه، ويتوعَّدُه بكَثرةِ عساكرِه، ووَصْفِهم، وبالَغَ في قتالِهم بأنواعِ السِّلاحِ، حتى قال: وإنَّهم يَشُقُّونَ الشَّعرَ بسِهامهم، فلم يرْضَ هذا الكتابَ وزيرُه طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، فلم يُصغِ إليه، وسَيَّرَ الكِتابَ، فلمَّا قُرئَ الكِتابُ على كوخان أمَرَ بنَتفِ لحيةِ الرَّسولِ، وأعطاه إبرةً، وكَلَّفَه شَقَّ شَعرةٍ مِن لحيَتِه فلم يَقدِرْ أن يفعَلَ ذلك، فقال: كيف يَشُقُّ غَيرُك شَعرةً بسَهمٍ وأنت عاجِزٌ عن شَقِّها بإبرةٍ؟ وقيل: سَبَبُ المعركة أنَّ سنجرَ كان قَتَلَ ابنًا لخوارزم شاه أتسز بن محمد، فبعث خوارزم شاه إلى الخطا، وهم مِن الأتراك المجوس بما وراءَ النهر، وحَثَّهم على قَصدِ مملكةِ السُّلطان سنجر، فساروا في ثلاثمئة ألف فارسٍ بقيادة مَلِكِهم كوخان، وسار إليهم سنجر في عساكِرِه، واستعَدَّ كوخان للحَربِ، وعنده جنودُ الترك والصين والخطا وغيرهم، وقصد السُّلطانُ سنجر، فالتقى العسكرانِ بما وراءَ النَّهرِ بمَوضعٍ يقال له قطوان، وكانا كالبَحرينِ العَظيميَنِ، وطاف بهم كوخان حتى ألجأهم إلى وادٍ يقالُ له درغم، وكان على ميمنةِ سِنجر الأميرُ قماج، وعلى مَيسَرتِه ملك سجستان، والأثقالُ وراءهم، فاقتتلوا خامِسَ صَفَر, وكانت الأتراكُ القارغليَّة الذين هربوا من سنجر مِن أشَدِّ النَّاسِ قِتالًا، ولم يكُنْ ذلك اليومَ مِن عَسكَرِ السُّلطان سنجر أحسَنُ قتالًا من صاحِبِ سجستان، فانجَلَت الحربُ عن هزيمة المسلمين، فقُتِلَ منهم ما لا يُحصى مِن كَثرتِهم، واشتمل وادي درغم على عشرةِ آلاف من القتلى والجرحى، ومضى السُّلطانُ سنجر مُنهَزِمًا، وأُسِرَ صاحب سجستان والأميرُ قماج وزوجةُ السُّلطان سنجر، وهي ابنةُ أرسلان خان، فأطلَقَهم الكُفَّارُ، ولَمَّا انهزم سنجر قَصَد خوارزم شاه مدينةَ مَروٍ، فدخلها مُراغمةً للسُّلطانِ سنجر، وقَتَل جمعًا مِن أهلها، وقَبَضَ على أبي الفضل الكرماني الفقيهِ الحنفي وعلى جماعةٍ مِن الفقهاء وغيرِهم من أعيانِ البَلَدِ، وممَّن قُتِلَ الحسامُ عُمَرُ بن عبد العزيز بن مازة البُخاري الفقيهُ الحنفي المشهور. ولم يكُنْ في الإسلامِ وَقعةٌ أعظَمُ من هذه ولا أكثَرُ مِمَّن قُتِلَ فيها بخراسان، واستقَرَّت دولة الخطا والترك الكُفَّار بما وراء النهر، وبَقِيَ كوخان إلى رَجَب من سنة 537 فمات فيه.
فتح نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم من الفرنج؛ وسببُ ذلك أن نور الدين لَمَّا عاد منهزمًا من البقيعة، تحت حصن الأكراد، مِن قبلُ، واتَّفَق مسير بعض الفرنج مع مَلِكِهم في مصر، فأراد أن يقصِدَ بلادهم ليعودوا عن مصرَ، فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود، صاحِبِ الموصل وديار الجزيرة، وإلى فخر الدينِ قرا أرسلان، صاحبِ حصن كيفا، وإلى نجمِ الدين ألبي، صاحبِ ماردين، وغيرِهم من أصحاب الأطراف يستنجِدُهم؛ فأما قطب الدين فإنه جمعَ عسكَرَه وسار مجِدًّا، وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه؛ وأما نجم الدين فإنه سيَّرَ عسكرًا، فلما اجتمعت العساكرُ سار نحو حارم فحصرها ونصبَ عليها المجانيق وتابَعَ الزحف إليها، فاجتمع من بقيَ بالساحل من الفرنج، فجاؤوا في حَدِّهم وحديدِهم، ومُلوكِهم وفُرسانِهم، وقِسِّيسِيهم ورهبانهم، وأقبلوا إليه مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلون، وكان المُقَدَّم عليهم البرنس بيمند: صاحب أنطاكية، وقمص: صاحب طرابلس وأعمالِها، وابن جوسلين، وهو من مشاهير الفرنج، والدوك، وهو مُقَدَّم كبيرٌ من الروم، وجمعوا الفارِسَ والراجِلَ، فلمَّا قاربوه رحلَ عن حارم إلى أرتاح؛ طمعًا أن يَتبَعوه فيتمَكَّنَ منهم؛ لبُعدِهم عن بلادِهم إذا لَقُوه، فساروا، فنزلوا على غمر ثم عَلِموا عجزَهم عن لقائه، فعادوا إلى حارم، فلما عادوا تَبِعَهم نورُ الدين في أبطال المسلمينَ على تعبئةِ الحرب، فلما تقاربوا اصطفُّوا للقتال، فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنةِ المسلمين، وفيها عسكَرُ حلب وصاحِبُ الحصن، فانهزم المسلمون فيها، وتبِعَهم الفرنج، فقيل كانت تلك الهزيمةُ من الميمنة على اتِّفاق ورأيٍ دَبَّروه، فكان الأمرُ على ما دبَّروه؛ فإن الفرنج لَمَّا تبعوا المنهزمين عطف زينُ الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلًا وأسرًا، وعاد خيَّالتهم، ولم يُمعِنوا في الطلَبِ خوفًا على راجِلِهم، فعاد المنهَزِمون في آثارهم، فلما وصل الفرنجُ رأوا رجالهم قتلى وأسرى، فسُقِطَ في أيديهم، ورأوا أنهم قد هلكوا وبَقُوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب، فاشتدَّت الحربُ، وقامت على ساق، وكثُرَ القتل في الفرنج، وتمَّت عليهم الهزيمة، فعدل حينئذ المسلمون من القتل إلى الأسر، فأسَروا ما لا يُحَدُّ، وفي جملة الأسرى صاحِبُ أنطاكية، والقمص، صاحب طرابلس، وكان شَيطانَ الفرنج، وأشَدَّهم شكيمةً على المسلمين، والدوك مقدم الروم، وابن جوسلين، وكانت عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل. ثم سار إلى حارم فملكها في شهر رمضان من السنة، وبثَّ سراياه في أعمال أنطاكية، فنَهَبوها وأسروا أهلها، وباع البرنس بمال عظيم وأسرى من المسلمين.