قَدِمَ الخَبَرُ بنفاقِ عُربان الوجه القبلي، وقَطْعِهم الطُّرُقات على الناس، وامتدادِ الفِتَن بينهم نحو شهرينِ قُتِلَ فيها خلقٌ عظيم، وأنَّ عَربَ الفيومِ أغار بعضُهم على بعض، وذبحوا الأطفالَ على صدورِ أمَّهاتهم، فقُتِلَ بينهم قتلى كثيرٌ، وأخربوا ذاتَ الصفا، ومنعوا الخراجَ في الجبال، وقطعوا المياهَ حتى شَرِقَ أكثَرُ بلاد الفيوم، فلم يلتَفِت أمراءُ الدولة لذلك؛ لشُغلِهم بالصَّيدِ ونحوه، وفيه قَدِمَ الخَبَرُ بكثرة فساد العشير ببلاد الشام، وقَطْعِهم الطرقات؛ لقلة حُرمةِ الأمير طقزدمر نائب الشام، فانقطعت طرقات طرابلس وبعلبك، ونُهِبَت بلادهما، وامتَدَّت الفتنةُ بين العشير زيادة على شهر، قُتِلَ فيها خلق كثير، وأضرموا النارَ على موضع احترقَ فيه زيادةٌ على عشرين امرأة.
في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين جمادى الأولى قدم غزاة المسلمين في البحر، وكان من خبرهم أنهم انحدروا في النيل من ساحل بولاق إلى دمياط، ثم ركبوا بحر الملح من دمياط وساروا في جزيرة قبرص، فقام لهم متملكها بزوادتهم، ومروا إلى العلايا فأمدهم صاحبها بطائفة في غرابين -نوع من المراكب- ومضوا إلى رودس، وقد استعد أهلها لقتالهم، فكانت بينهم محاربة طول يومهم، لم يكن فيها حسم، وقُتِلَ من المسلمين اثنا عشر من المماليك، وجُرح كثير، وقُتِل وجُرح من الفرنج كثير، فلما خلص المسلمون بعد جهد مروا بقرية من قرى رودس، فقتلوا وأسروا ونهبوا ما فيها، وقدموا دمياط، ثم ركبوا النيل إلى القاهرة، وأسفر وجه الأمراء أنهم لم يكن لهم طاقة بأهل رودس.
هو جمال الدين أبو المحاسن يوسف ابن الأمير سيف الدين تغري بردي بن عبد الله الظاهري الحنفي، ولد في القاهرة سنة 813، كان أبوه من مماليك الظاهر برقوق ومن أمراء جيوشه، بل صار نائب دمشق في آخر حياته وتوفي فيها، وتفقه ابنه جمال الدين وقرأ الحديث وبرع في التاريخ، وامتاز به واشتهر بتآليفه التاريخية التي منها: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ومنها حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور، وله المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، وهو معجم تراجم، وله نزهة الرأي في التاريخ، وله كتب أخرى في غير التاريخ، مثل: نزهة الألباب في اختلاف الأسماء والألقاب، والبحر الزاخر في علم الأوائل والأواخر، وغيرها من المصنفات. توفي بالقاهرة
هو الشيخُ صباحُ الأول بن جابر الصباح في الكويت، وهو من عشيرة الشملان من بني عتبة من جُميلة من عنزة من ربيعة: جد أمراء آل الصباح؛ حُكَّام الكويت، وأولُ من حكم الكويت بعد تأسيسها. يُرَجَّح أنَّ أصله من الهدار من منطقة الأفلاج في نجدٍ، وقد بُنِيت الكويت في عهده، وفي مذكرات خالد الفرج: أنَّ الكويت حديثةُ البناء، كان موضِعُها يسمى "القرين"، وكانت السلطة في القرين لبني خالد، ورئيسُهم في أواخر القرن الحادي عشر للهجرة براك بن غرير الحميدي، فبنى براك قصرًا في القرين، والقصر في اصطلاح ذلك الزمن هناك يسمى "الكوت". وقد خلَّف صباح الأول خمسةَ ذكور، هم: عبد الله (وهو الذي حكم الكويت بعده)، وسلمان، ومالج، ومحمد، ومبارك.
هو الأميرُ إبراهيم بن سليمان بن عفيصان أميرُ الأحساء، ومِن أبرزِ قادةِ وأمراء الدولة السعودية الأولى حقَّق عددًا من الانتصاراتِ في معاركَ مع خصومِ الدَّولةِ خاصَّةً في مناطِقِ شرقيَّ الجزيرة العربية, وقد تولَّى ابن عفيصان إمرةَ عددٍ مِن البلدان التي خضعت لحُكمِ الدولة السعودية؛ فقد تولى إمارةَ الأحساء في عهد الإمامِ عبد العزيز بن محمد بعد أن تمكَّن من فتحِها سنة 1210هـ/ 1795م، ثم أصبح إبراهيم أميرَ البحرين بعد أن أرسلَه الإمامُ عبد العزيز لمساعدة آلِ خليفة في التخلُّصِ من حُكمِ سلطان بن سعيد حاكمِ عمان، ثمَّ أميرَ قطر، ثم أمير عمان، ثمَّ أمير المدينة المنورة، ثم أخيرًا أميرًا لعنيزة إلى أن توفِّي فيها هذا العامَ
كانت مدينةُ صور تحت حكم الفاطميين العُبيديين بمصر، ولم تَزَل كذلك إلى سنة 506، وكان الفرنجُ قد حصروها، وضَيَّقوا عليها، ونهبوا بلدَها غير مرة، فتجهَّز ملكُ الفرنج، وجمع عساكِرَه ليسيرَ إلى صور، فخافهم أهلُ صور، فأرسلوا إلى أتابك طغتكين، صاحب دمشق، يطلُبون منه أن يُرسِلَ إليهم أميرًا من عنده يتولاهم ويحميهم، ويكونُ البلد له، وقالوا له: إن أرسلتَ إلينا واليًا وعسكرًا، وإلا سلَّمْنا البلد إلى الفرنج؛ فسيَّرَ إليهم عسكرًا، وجعل عندهم واليًا اسمه مسعود، وكان شهمًا شجاعًا عارفًا بالحرب ومكايدها، وأمدَّه بعسكر، وسير إليهم ميرة ومالًا فرَّقَه فيهم، وطابت نفوس أهل البلد، ولم تُغَيَّر الخطبة للآمر بن المستعلي الفاطمي، صاحب مصر، ولا السكة، وكتب إلى الأفضل بمصر يعرِّفُه صورة الحال، ويقول: متى وصل إليها من مصر من يتولاها ويذُبٌّ عنها، سلَّمتُها إليه، ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة، فشكره الأفضل على ذلك، وأثنى عليه، وصوب رأيه فيما فعله، وجهز أسطولًا، وسيَّره إلى صور، فاستقامت أحوال أهلها. ولم يزل كذلك إلى سنة 516 بعد قتل الأفضل، فسُيِّرَ إليها أسطول على جاري العادة، وأمروا المقَدَّم على الأسطول أن يُعمِلَ الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل طغتكين، ويقبض عليه، ويتسلَّم البلد منه. وكان السببُ في ذلك أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر العبيدي، صاحب مصر، بما يعتَمِدُه من مخالفتهم، والإضرار بهم، ففعلوا ذلك، وسار الأسطول فأرسى عند صور، فخرج مسعودٌ إليه للسلام على المقدَّم عليه، فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقَدَّم اعتقله ونزل البلد، واستولى عليه، وعاد الأسطول إلى مصر وفيه الأمير مسعود، فأُكرِمَ وأُحسِنَ إليه وأُعيد إلى دمشق، وأما الوالي من قِبَل المصريين فإنه طيَّب قلوبَ الناس، وراسل طغتكين يخدمه بالدعاء والاعتضاد، وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل صور من مسعود، فأحسن طغتكين الجواب، وبذل من نفسه المساعدةَ، ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قَوِيَ طمعهم فيها، وحدَّثوا نفوسهم بملكها، وشرعوا في الجمع والتأهُّب للنزول عليها وحَصْرها، فسمع الوالي بالخبر، فعلمَ أنَّه لا قوة له ولا طاقة على دفع الفرنج عنها؛ لقلة مَن بها من الجند والميرة، فأرسل إلى الآمر العُبيدي بذلك، فرأى أن يرُدَّ ولاية صور إلى طغتكين، صاحب دمشق، فأرسل إليه بذلك، فملك صور، ورتب بها من الجندِ وغيرهم ما ظنَّ فيه كفاية، وسار الفرنجُ إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة، وضيَّقوا عليهم، ولازموا القتال، فقَلَّت الأقوات، وسَئِمَ من بها القتالَ، وضَعُفَت نفوسهم وسار طغتكين إلى بانياس ليقرُبَ منهم، ويذُبَّ عن البلد، ولعل الفرنج إذا رأوا قُرْبَه منهم رحلوا، فلم يتحركوا، ولزموا الحصار، فأرسل طغتكين إلى مصر يستنجِدُهم، فلم ينجدوه، وتمادت الأيام وأشرف أهلها على الهلاك، فراسل حينئذ طغتكين، صاحب دمشق، الفرنجَ, وقرَّر الأمر على أن يُسَلِّمَ المدينةَ إليهم، ويُمَكِّنوا مَن بها من الجند والرعية من الخروجِ منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها، فاستقرَّت القاعدةُ على ذلك، وفُتِحت أبواب البلد، وملكه الفرنجُ، وفارقه أهلُه، وتفرَّقوا في البلاد، وحملوا ما أطاقوا، وتركوا ما عجزوا عنه، ولم يَعرِض الفرنجُ لأحد منهم، ولم يبقَ إلا الضعيف عجز عن الحركة، وملك الفرنج البلدَ في الثالث والعشرين من جمادى الأولى، وكان سقوط صور بيد الفرنج وهنًا عظيمًا على المسلمين؛ فإنَّه من أحصنِ البلادِ وأمنَعِها.
عَهِدَ الحافظ إلى ولده سليمان، وكان أسَنَّ أولاده وأحبَّهم إليه، وأقامه ليسُدَّ مكان الوزير، فمات بعد ولاية العهد بشهرين، ثم جعل ابنه حيدرة أبا تراب وليَّ عهده ونصبه للنظر في المظالم، فشَقَّ ذلك على أخيه أبي علي حسن؛ لأنه كان يروم ذلك؛ لكثرة أمواله وأولاده وحواشيه وموكبه، بحيث كان له ديوان مفرد. وما زالت عقارب العداوة تدب بينهما حتى وقعت الفتنة بين الطائفية الجيوشية أصحاب حسن، وكان مائلًا لنصرة أهل السنة، والطائفة الريحانية أصحاب حيدرة يميل لنصرة الإسماعيلية، وكانت شوكة الريحانية قوية والجند يشنؤونهم خوفًا منهم، فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين، والتقى العسكران؛ فقتل بينهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل. فكانت أول مصيبة نزلت بالدولة العبيدية بمصر من فَقْدِ رجالها ونقص عدد عساكرها، ولم يسلم من الريحانية إلا من ألقى نفسه في بحر النيل من ناحية المقس. واستظهر حسن وصار الأمر إليه، فانضم له أوباش العسكر وزعَّارهم، وفرَّق فيهم الزرد وسماهم صبيان الزرد، وصاروا لا يفارقونه ويحفون به إذا ركب، ويلازمون داره إذا نزل، فقامت قيامةُ الناس، وقبَضَ على ابن العساف وقَتَله واختفى منه الحافظ وحيدرة، وجَدَّ في طلب حيدرة. وهتك بالأوباش الذين اختارهم حرمة القصر وخرق ناموسه من كونه نغَّص على أبيه وأخيه، وصاروا يحسِّنون له كل رذيلة، ويحرِّضونه على أذى الناس، فأخذ الحافظ في تلافي الأمر مع حسن لينصلح؛ وعهد إليه بولاية العهد في يوم الخميس لأربع بقين من شهر رمضان، وأركبه بالشعار، ونُعِت بولي عهد المؤمنين. وكتب له بذلك سجلًّا قرئ على المنابر، فلم يزده ذلك إلا شرًّا وتعدِّيًا، فضيق على أبيه وبالغ في مضرته. فسير الحافظ وفيَّ الدولة إسحاق، أحد الأستاذين المحنكين، إلى الصعيد ليجمع ما قدر عليه من الريحانية، فمضى واستصرخ على حسن، وجمع من الأمم ما لا يعلمه إلا الله، وسار بهم، فبلغ ذلك حسنًا فجهز إليه عسكرًا عرمرمًا وخرج؛ فالتقى الجمعان، وهبت ريح سوداء في وجوه الواصلين، وركبهم عسكر حسن، فلم يفلت منهم إلا القليل، وغرق أكثرهم في البحر وقُتلوا، وأُخذ الأستاذ إسحاق وأُدخل إلى القاهرة على جمل برأسه طرطور لبد أحمر. فلما وصل بين القصرين رُمي بالنشاب حتى مات، ورُمي إليهم من القصر الغربي أستاذ آخر فقتلوه، وقُتِل الأمير شرف الأمراء، فاشتدت مصيبة الدولة بفقد من قُتل من الأمراء الذين كانوا أركان الدولة، وهم أصحاب الرأي والمعرفة، فوهت واختلت لقلة الرجال وعدم الكفاءة، ومن حينِ قَتلَ حسن الأمراءَ تخوَّفه باقي الجند ونفرت نفوسُهم منه؛ فإنه كان جريئًا عنيفًا بحاثًا عن الناس، يريد إقلاب الدولة وتغييرها لتقدُّم أصحابه، فأكثر من مصادرة الناس. أورد الذهبي في تاريخه خبر الخلاف بين الأخوين بقوله: "جاءت الأخبار من مصر بخلف ولدَيِ الحافظ لدين الله عبد المجيد، وهما: حيدرة، والحسن. وافترق الجند فرقتين؛ إحداهما مائلة إلى الإسماعيلية، والأخرى إلى مذهب السنة. فاستظهرت السنة، وقتلوا خلقًا من أولئك، واستحرَّ القتل بالسودان، واستقام أمر ولي العهد حسن، وتتبَّع من كان ينصر الإسماعيلية من المقدَّمين والدعاة، فأبادهم قتلًا وتشريدًا".
هو أبو المعالي محمد بن الملك العادل، الملقب بالملك الكامل ناصر الدين، ولد سنة 576، وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود، وإليه أوصى العادل لعلمه بشأنه وكمال عقله، وتوفُّر معرفته، ملك مصر ثلاثينَ سنة، وكانت الطرقاتُ في زمانه آمنة، والرعايا متناصفة، لا يتجاسَرُ أحد أن يظلم أحدًا، وكانت له اليد البيضاء في رد ثغرِ دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ عليه الفرنج، فرابطهم أربعَ سنين حتى استنقذه منهم، وكان يومُ أخْذِه له واسترجاعه إياه يومًا مشهودًا، مع أنه هو من سلم القدسَ مرة أخرى للفرنج بصلحٍ معهم. قال ابن خلكان: "رأيت الكامل والأشرف، وكانا يركبان معًا ويلعبان بالكرةِ في الميدان الأخضر الكبير كلَّ يوم، ولقد كنت أرى من تأدب كل واحد منهما مع الآخر شيئًا كثيرًا، ثمَّ وقعت بينهما وحشة، وخرج الأشرفُ عن طاعة الكامل، ووافقَته الملوكُ بأسرها على الخروج على الملك الكامل، ولم يبقَ مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحبِ الكرك؛ فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية. فتحالفوا وتحزَّبوا واتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل" لما استراح خاطرُ الملك الكامل من جهة الفرنج تفرَّغ للأمراء الذين كانوا متحاملين عليه فنفاهم عن البلاد، وبدَّد شملهم وشَرَّدَهم، ثم دخل إلى القاهرة, وشرع في عمارة البلاد وبنى بها دار حديث ورتَّب لها وقفًا جيدًا، واستخرج الأموال من جهاتها، وكان سلطانًا عظيم القدر جميل الذكر محبًّا للعلماء متمسكًا بالسنة النبوية، حسن الاعتقاد معاشرًا لأرباب الفضائل، حازمًا في أموره، لا يضع الشيءَ إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار، وكانت تبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء، ويشاركهم في مباحثاتهم، ويسألهم عن المواضع المشكلة من كل فنٍّ، وهو معهم كواحد منهم. في سنة 629 قصد آمد، وأخذها مع حصن كيفا من الملك المسعود ركن الدين مودود بن الملك الصالح, قال ابن خلكان: "لقد رأيتُه بدمشق في سنة 633 عند رجوعه من بلاد الشرق واستنقاذه إياها من يد علاء الدين بن كيخسرو السلجوقي صاحب بلاد الروم، في خدمته يومئذ بضعةَ عشر ملكًا، منهم أخوه الملك الأشرف. ولم يزَلْ في علو شأنه وعظم سلطانه إلى أن مَرِضَ بعد أخذ دمشق ولم يركَبْ بعدها", وقد تملك الكامل دمشق سنة 635 مدة شهرين بعد وفاة الأشرف صاحبها، ثم أخذته أمراض مختلفة، من ذلك سعال وإسهال ونزلة في حلقه، ونقرس في رجليه، فاتفق موتُه في بيت صغير من دار القصبة، وهو البيت الذي توفِّيَ فيه عمه الملك الناصر صلاح الدين، ولم يكن عند الكامل أحد عند موته من شدة هيبته، بل دخلوا فوجدوه ميتًا، وقيل: بل حدث له زكام، فدخل في ابتدائه إلى الحمام، وصبَّ على رأسه الماء الحار، فاندفعت المراد إلى معدته، فتورم وعرضت له حمى، فنهاه الأطباء عن القيء، وحذروه منه، فاتفق أنه تقيأ لوقته، في آخر نهار الأربعاء حادي عشر شهر رجب، وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين من رجب من هذه السنة، ودفن بالقلعة حتى كملت تربته التي بالحائط الشمالي من الجامع، فنقل إليها ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان من هذه السنة، وكان قد عهد لولده العادل- وكان صغيرًا- بالديار المصرية، وبالبلاد الدمشقية، ولولده الصالح أيوب ببلاد الجزيرة، فأمضى الأمراء ذلك، فأما دمشق فاختلف الأمراء بها.
في نصف المحرَّمِ اتَّفَق أنَّه كان للنصارى مجتَمَعٌ بالكنيسة المعَلَّقة بمصر، واستعاروا من قناديلِ الجامِعِ العتيق جملةً، فقام في إنكارِ ذلك الشيخ نور الدين علي بن عبد الوارث البكري (وهو من أعداء شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة الذين كانوا قد سَعَوا في أذاه، مع أنَّ شيخَ الإسلام شَفَع فيه أيضًا لما طُلب من جهته)، وجمَعَ مِن البكريَّة وغيرِهم خلائِقَ، وتوجَّه إلى المعلقة وهَجَم على النصارى وهم في مجتَمَعِهم وقناديلُهم وشموعُهم تُزهِرُ، فأخرقَ بهم وأطفأ الشموعَ وأنزل القناديلَ، وعاد البكريُّ إلى الجامع، وقصد القومةَ، وجمع البكريُّ الناسَ معه على ذلك، وقصد الإخراقَ بالخطيب، فاختفى منه وتوجَّه إلى الفخر ناظِرِ الجيش وعَرَّفه بما وقع، وأنَّ كريمَ الدين أكرم هو الذي أشار بعاريَّة القناديلِ، فلم يَسَعْه إلَّا موافقَتُه، فلمَّا كان الغَدُ عرَّفَ الفَخرُ السلطانَ بما كان، وعَلِمَ البكري أنَّ ذلك قد كان بإشارة كريم الدين، فسار بجَمعِه إلى القلعة واجتمع بالنائِبِ وأكابر الأمراء، وشَنَّع في القول وبالغَ في الإنكار، وطلب الاجتماعَ بالسلطان، فأحضر السُّلطانُ القضاة والفُقهاءَ وطلب البكريَّ، فذكر البكريُّ من الآيات والأحاديث التي تتضَمَّنُ معاداة النَّصارى، وأخذ يحُطُّ عليهم، ثم أشار إلى السلطانِ بكلامٍ فيه جفاءٌ وغِلظةٌ حتى غَضِبَ منه عند قولِه: أفضَلُ المعروفِ كَلِمةُ حَقٍّ عند سلطان جائر، وأنت وَلَّيت القبطَ المسالمةَ، وحَكَّمْتَهم في دولتك وفي المسلمين، وأضعْتَ أموال المسلمين في العمائِرِ والإطلاقاتِ التي لا تجوز، إلى غير ذلك، فقال السلطانُ له: ويلك! أنا جائِرٌ؟ فقال: نعم! أنت سَلَّطتَ الأقباط على المسلمين، وقَوَّيت دينَهم، فلم يتملَّكِ السلطانُ نفسَه عند ذلك، وأخذ السَّيفَ وهَمَّ بضربه، فأمسك الأميرُ طغاى يده، فالتَفَت السلطان إلى قاضي القضاة زين الدين بن مخلوف، وقال: هكذا يا قاضي يتجَرَّأُ عليَّ؟ أيش يجبُ أفعل به؟ قل لي!، وصاح به، فقال له ابن مخلوف: ما قال شيئًا يُنكَرُ عليه فيه، ولا يجِبُ عليه شيء، فإنه نقل حديثًا صحيحًا، فصرخ السلطانُ فيه وقال: قمْ عني!، فقام مِن فَورِه وخرج، فقال صدر الدين بن المرحل- وكان حاضرًا- لقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي: يا مولانا! هذا الرجل تجرَّأ على السلطانِ، وقد قال الله تعالى آمرًا لموسى وهارون حين بعَثَهما إلى فرعون {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فقال ابن جماعة للسلطان: قد تجرَّأَ ولم تبقَ إلَّا مَراحِمُ مولانا السُّلطان، فانزعج السلطانُ انزعاجًا عظيمًا، ونهض عن الكرسي، وقَصَد ضربَ البكريِّ بالسَّيف، فتقدَّم إليه طغاي وأرغون في بقية الأمراء، وما زالوا به حتى أمسك عنه، وأمر بقَطعِ لسانه، فأخرج البكريُّ إلى الرحبة، وطُرِحَ إلى الأرض، والأميرُ طغاي يشير إليه أن يستغيثَ، فصرخ البكريُّ وقال: أنا في جيرةِ رسول الله، وكررها مرارًا حتى رقَّ له الأمراء، فأشار إليهم طغاي بالشَّفاعة فيه، فنهضوا بأجمَعِهم وما زالوا بالسلطانِ حتى رسم بإطلاقِه وخروجِه مِن مصر، وأنكر الأميرُ أيدمر الخطيري كونَ البكري قوى نفسَه أولًا في مخاطبة السلطان، ثمَّ إنَّه ذل بعد ذلك، ونسب إلى أنَّه لم يكن قيامُه خالصًا لله.
في يومِ الخميس خامِس رجب كانت الفتنةُ بالإسكندرية وملَخَّصُها أنَّ بعض تجار الفرنج فاوض رجلًا من المسلمينَ وضَرَبه بخُفٍّ على وجهه، فثار المسلمون بالإفرنجيِّ وثار الفرنجُ لتحميه، فوقع الشَّرُّ بين الفريقين، واقتتلوا بالسلاحِ، فركب ركن الدين الكركي متولِّي الثغر، فإذا النَّاسُ قد تعصبوا وأخرجوا السلاحَ، وشهدوا على الفرنجيِّ ممَّا يوجب قَتْلَه، وحملوه إلى القاضي وغُلِّقَت أسواق المدينة وأبوابها، فلما كان بعد عشاء الآخرة فُتِحَت الأبواب ليدخُلَ من كان خارِجَ البلد، فمِن شِدَّة الزحام قُتِلَ عَشرةُ أنفس، وتَلِفَت أعضاء جماعة، وذهبت عمائمُ وغيرها لكثير منهم، وتبيَّنَ للكركي تحامُلُ الناس على الفرنج، فحمَلَ بنفسه وأجنادِه عليهم ليدفَعَهم عن الفرنج، فلم يندفِعوا وقاتلوه إلى أن هَزَموه، وقصدوا إخراج الأمراء المعتَقَلين بالثغر، بعدما سُفِكَت بينهما دماءٌ كثيرة، فعند ذلك بادر الكركي بمطالعة السلطانِ بهذه الحادثة، فسَرَّح الطائر بالبطائِقِ يُعلِمُ السلطان، فاشتَدَّ غضبه، وخشي السلطانُ خُروجَ الأمراءِ مِن السجن، وأخرج السلطانُ الوزير مغلطاي الجمال وطوغان شاد الدواوين، وسيف الدين ألدمر الركني أمير جندار، في جماعةٍ مِن المماليك السلطانيَّة، ومعهم ناظر الخاص إلى الإسكندرية، ومعهم تذاكِرُ مما يُعمَلُ مِن تتَبُّع أهل الفساد وقَتْلِهم، ومُصادرة قَومٍ بأعيانهم، وتغريمِ أهل البلد المالَ، والقبض على أسلحة الغزاة، ومَسْك القاضي والشهود، وتجهيز الأمراء المسجونين إلى قلعة الجَبَل، فساروا في عاشِرِه، ودخلوا المدينة، وجلس الوزيرُ والناظر بديوان الخُمُس وفرض الوزيرُ على الناس خمسَمائة ألف دينار، وقَبَض على جماعةٍ مِن أذلهم ووسطِهم، وقطع أيديَ بَعضِهم وأرجُلَهم، وتطَلَّب ابن رواحة كبيرَ دار الطراز ووسطه، من أجلِ أنَّه وُشِيَ به أنه كان يُغري العامَّةَ بالفرنج ويَمُدُّهم بالسلاح والنفقة، فحَلَّ بالناس من المُصادرة بلاء عظيم، وكتب السلطانُ كتُبًا ترد شيئًا بعد شيءٍ تتضَمَّنُ الحثَّ على سفك دماء المفسدين وأخذ الأموال، والوزير يجيبُ بما يُصلِحُ أمْرَ الناس، ثم استدعى الوزير بالسلاح المعَدِّ للغزاة، فبلغ ستةَ آلاف عدة، وضعها كُلَّها في حاصل وخَتَم عليها، واستمَرَّ نحو العشرين يومًا في سَفكِ دماء وأخذِ أموال، حتى جمع ما يُنَيِّف على مائتين وستين ألف دينار، وقُدِّمَ الوزير عماد الدين محمد بن إسحاق بن محمد البلبيسي قاضي الإسكندرية لِيُشنَق، ثم أخره، وكاتب السلطانَ بأنه كَشَف عن أمرِه فوجد ما نُقِلَ عنه غيرُ صحيح، وبعث الوزير المسجونينَ إلى قلعة الجبل في طائفةٍ معهم لحِفظِهم، فقَدِموا في الثامن عشر، وقدم الوزيرُ من الإسكندرية بالمال، وجلس في آخر رجب بالمال بقاعةِ الوزارة المستجَدَّة بالقلعة، وقد سكنها، وحفر النظار والمستوفون من خارج الشباك، فنفذ الوزيرُ الأمور، وصرفَ أحوال الدولة، وفي أول شعبان قَدِمَت رسل بابا الفرنج من مدينةِ رومة بهديَّة، وكتاب فيه الوصيَّةُ بالنصارى وأنَّه مهما عُمِلَ بهم بمصرَ والشام عاملوا مَن عندهم من المسلمين بمِثلِه، فأجيبوا وأُعيدوا، ولم تَقدَمْ رسُلٌ من عند البابا إلى مصر منذ أيام الملك الصالحِ نجمِ الدين أيوب.
في العاشِرِ مِن ذي الحجة قُبِضَ على صاحب اليمن المَلِك المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر أبو سعيد المنصوري عمر بن رسول, وسَبَبُ ذلك أن الشريف ثقبة بن رميثة لَمَّا بلَغَه استقرار أخيه الشريف عجلان في إمرة مكَّة، توجَّهَ إلى اليمن، وأغرى المَلِكَ المجاهد علي صاحب اليمن بأخذِ مَكَّة وكسوةِ الكَعبةِ، فتجَهَّز المجاهد، وسار يريد الحَجَّ في جحفل كبير بأولادِه وأمه حتى قَرُب من مكة، وقد سبق حاجُّ مصر، فلَبِسَ عجلان آلة الحرب، وعَرَّف أمراءَ مِصرَ ما عزم عليه صاحِبُ اليمن، وحَذَّرَهم غائلَتَه، فبعثوا إليه بأنَّ "من يريدُ الحَجَّ إنما يدخُلُ مكَّةَ بذِلَّةٍ ومسكنة، وقد ابتَدَعْتَ من ركوبك والسِّلاحُ حولك بدعةً لا يمكِنُك أن تدخُلَ بها، وابعَثْ إلينا ثقبة ليكونَ عندنا حتى تنقَضِيَ أيام الحج، ثم نُرسِلُه إليك" فأجاب المجاهِدُ إلى ذلك، وبعث ثقبةَ رهينةً، فأكرمه الأمراء، وأركبوا الأميرَ طقطاي في جماعة إلى لقاء المجاهد، فتوجَّهوا إليه ومنعوا سلاحداريته من المشيِ معه بالسلاح، ولم يمكِّنوهم من حَملِ الغاشية، ودخَلوا به مكة، فطاف وسَمَّى، وسَلَّم على الأمراء واعتذر إليهم، ومضى إلى منزلِه وصار كل منهم على حَذَرٍ حتى وقفوا بعرفةَ، وعادوا إلى الخيفِ مِن مِنًى، وقد تقرَّر الحال بين الشريف ثقبة وبين المجاهِدِ عليٍّ أنَّ الأمير طاز إذا سارا من مكة أوقعاه بأميرِ الركبِ ومن معه، وقبضا على عجلان، وتسَلَّمَ ثُقبةُ مكَّةَ، فاتَّفَق أن الأمير بزلار رأى وقد عاد من مكَّة إلى منًى خادِمَ المجاهِدِ سائرًا، فبعث يستدعيه فلم يأتِه، وضرب مملوكَه- بعد مفاوضةٍ جَرَت بينهما- بحربةٍ في كتِفِه فماج الحاجُّ، وركب بزلار وقتَ الظهر إلى طاز فلم يَصِلْ إليه حتى أقبَلَت الناس جافلةً تُخبِرُ بركوب المجاهد بعسكَرِه للحرب، وظهرت لوامِعُ أسلحتهم، فركب طاز وبزلار والعسكَرُ، وأكثَرُهم بمكة، فكان أوَّلُ من صدم أهلَ اليمن الأميرَ بزلار وهو في ثلاثين فارسًا، فأخذوه في صدورِهم إلى أن أرمَوه قُربَ خَيمةٍ، ومَضَت فرقةٌ منهم إلى جهة طاز، فأوسع لهم، ثم عاد عليهم، ورَكِبَ الشريف عجلان والناس، فبعث طاز لعجلان "أنِ احفَظِ الحاجَّ، ولا تدخل بيننا في حَربٍ، ودَعْنا مع غريمنا"، واستمَرَّ القتال بينهم إلى بعد العصر، فركِبَ أهلَ اليَمَنِ الذلَّةُ، والتجأ المجاهِدُ إلى دهليزه، وقد أحيط به وقُطِعَت أطنابه، وألقَوه إلى الأرضِ، فمَرَّ المجاهِدُ على وجهِه ومعه أولادُه، فلم يجِدْ طريقًا، وعاد بمن معه وهم يصيحونَ: "الأمانَ يا مسلمين" فأخذوا وزيره، وتمَزَّقَت عساكره في تلك الجبال، وقُتِلَ منهم خلق كثير، ونُهِبَت أموالهم وخيولُهم حتى لم يبقَ لهم شيء، وما انفصل الحالُ إلى غروب الشمس، وفَرَّ ثُقبة بعُربه، وأخذ عبيدُ عجلان جماعةً من الحجَّاج فيما بين مكَّةَ ومِنًى، وقتلوا جماعةً، فلما أراد الأميرُ طاز الرحيل من مِنًى سَلَّمَ أم المجاهد وحريمه لعجلان، وأوصاه بهِنَّ وركب الأمير طاز ومعه المجاهِدُ مُحتَفظًا به، وبالغَ في إكرامِه، وصَحِبَ معه أيضًا الأمير بيبغا روس مقيدًا، وبعث الأمير طنطاي مبشرًا، ولَمَّا قدم الأمير طاز المدينةَ النبويةَ قَبَضَ على الشريفِ طفيل.
قَدِمَ الخبر بأن إسكندر بن قرا يوسف نزل قريبًا من مدينة تبريز، فبرز إليه أخوه جهان شاه، المقيم بها من قِبَل القان معين الدين شاه رخ بن تيمورلنك المغولي ملك المشرق، فكانت بينهما وقعة انهزم فيها إسكندر إلى قلعة يلنجا من عمل تبريز، فنازله جهان شاه وحصره بها، وأن الأمير حمزة بن قرا يلك متملك ماردين وأرزنكان أخرج أخاه ناصر الدين علي باك من مدينة آمد، وملكها منه، فقلق السلطان من ذلك، وعزم على أن يسافر بنفسه إلى بلاد الشام، وكتب بتجهيز الإقامات بالشام، ثم أبطل ذلك، ثم رسم بخروج تجريدة إلى بلاد الشام، وعيَّن من الأمراء المقدمين ثمانية، وكتب لنائب الشام الأمير أينال الجكمى أن يتوجه بمن معه صحبة الأمراء إلى حلب، ويستدعوا حمزة باك بن قرا يلك صاحب ماردين وأرزنكان، فإن قدم إليهم خلع عليه بنيابة السلطة فيما يليه، وإلا مشوا بأجمعهم عليه وقاتلوه وأخذوه، ثم رحل الأمراء المجرَّدون من أبلستين، ومعهم نواب الشام وعساكرها من غزة إلى الفرات، وجميع تركمان الطاعة، وتوجهوا في جمع كبير يريدون مدينة آقشهر، حتى نزلوا عليها وحصروها، وكان من خبرهم أن العسكر المجرد لما قصد مدينة آقشهر تلقَّاهم سلطان أحمد بن قليج أرسلان صاحب تلى صار وقد رغب في الطاعة السلطانية، وسار معهم حتى نازلوا مدينة أقشهر في أول ذي الحجة، فهرب متملكها حسن الأيتاقى في ليلة الثلاثاء ثانيه إلى قلعة برداش، فملك العسكر المدينة وقلعتها، وقبضوا على عدة من أعيانها، وبعثوا بسلطان أحمد بن قليج أرسلان على عسكر، فملك قلعتي فارس وتمشلي، فأقروه على نيابة السلطة بهما، وساروا لمحاصرة حسن بقلعة برداش ففر منها إلى قلعة بزطلش، فنزل من العسكر عليها حتى أخذها في الثامن عشر الأمير قرقماس أمير سلاح، بعد أن قاتل أهلها بضعة عشر يومًا، ثم هدمها حتى سوَّى بها الأرض، وقد فرَّ منها حسن أيتاقي، ثم سار الأمير قرقماس بمن معه مع بقية العساكر يريدون أرزنكان، فقدم عليهم الأمير مرزا بن الأمير يعقوب ابن الأمير قرا يلك رسولًا من أبيه يعقوب صاحب أرزنكان وكماخ، وقد خرج عن أرزنكان ونزل كماخ، وقدم مع مرزا زوجة أبيه وعدة من القضاة والأعيان بأرزنكان، يسألون العفو عن الأمير يعقوب وإعفاءه من قدومه إليهم، وأن يُجهَّز لنيابة السلطنة بأرزنكان الأمير جهان كير ابن الأمير ناصر الدين علي باك بن قرا يلك، فأُجيبوا إلى ذلك كله، وخُلِع على الأمير مرزا، ودُفِع إليه خِلعة لأبيه الأمير يعقوب، وأُعيد وصحبته الأمير جهان كير، وقد خُلِع عليه بنيابة أرزنكان، وساروا وقد جهز إلى أرزنكان بالأمير سودون النوروزى دوادار نائب حلب، ومعه نائب دوركى ونائب بهنسنى، فتسلموا أرزنكان بلا مانع، وأقاموا بها، ثم توجه القاضي معين الدين عبد اللطيف ابن القاضي شمس الدين الأشقر كاتب السر بحلب، حتى حلف أهل أرزنكان بالإقامة على طاعة السلطان، ثم سارت العساكر من أقشهر في الثاني والعشرين حتى نزلت على أرزنكان، وعسكروا هناك، فخرج إليهم أهلها، وباعوا عليهم ما أرادوا منهم، وفُتِحت أبواب المدينة، والعساكر يدخل منها المدينة من أراد ذلك، من غير ضرر ولا نهب، واستمروا على ذلك إلى آخر الشهر.
هو السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق العلائي الظاهري الشركسي، السلطان الرابع والثلاثون من ملوك الترك، والعاشر من الجراكسة، ويذكر في أصله أنه أخذ من بلاده صغيرًا فاشتراه خواجا كزلك وجلبه إلى الديار المصرية، فابتاعه منه الأتابك إينال اليوسفي، وقيل: ولده أمير علي بن إينال وهو الأصح، وربَّاه عنده، فطلبه الملك الظاهر منه في سرحة سرياقوس، وأخذه وأعطاه لأخيه جاركس، وقد اختلفت الأقوال في أمر عتقه؛ فمن الناس من قال: إن أمير علي كان أعتقه قبل أن يطلُبَه الملك الظاهر منه، فلما طلبه الملك الظاهر سكت أمير علي عن عتقه لتنال جقمق السعادة بأن يكون من جملة مشتريات الملك الظاهر. تسلطن يوم خُلِعَ الملك العزيز يوسف، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ربيع الأول سنة 842. كان قد خرج عن طاعة الظاهر جقمق الأمير قرقماس، فواقعه الملك الظاهر، فانهزم قرقماس واختفى، ثم ظُفِرَ به وضُرِبَ عنقه. ثم خرج عن طاعته تغرى برمش نائب حلب، ثم أينال الجكمي نائب الشام؛ فجهز إليهما العساكر، فقاتلوهما واحدًا بعد الآخر، فظَفِرَ بهما وقتلهما. وبعد قتل هؤلاء صفا الوقت للملك الظاهر، وأخذ وأعطى، وقرب أقوامًا وأبعد آخرين. ولم يزل في ملكه والأقدارُ تساعدُه، إلى أن بدأ المرض به في آخر السنة الماضية وما زال يزداد به حتى قويَ عليه جدًّا في أواخر شهر محرم من هذه السنة، ثم لما كان يوم الأربعاء العشرون من المحرم، تكلم السلطان مع بعض خواصِّه في خلع نفسه من السلطنة، وسلطنة ولده المقام الفخري عثمان في حياته، فروجِعَ في ذلك فلم يقبَلْ، ورسم بإحضار الخليفة والقضاة والأمراء من الغد بالدهيشة، فلما كان الغد، وهو يوم الخميس الحادي والعشرين محرم حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء، وفي ظنِّ الناس أنه يعهد لولده عثمان بالملك من بعده كما هي عادة الملوك، فلما حضر الخليفة والقضاة عنده بعد صلاة الصبح، خلع نفسَه من السلطنة، وقال للخليفة والقضاة: الأمر لكم، انظروا فيمن تُسلطِنوه، أو معنى ذلك؛ لعِلمِه أنهم لا يعدلون عن ولده عثمان؛ فإنَّه كان أهلا للسلطنة بلا مدافعة، فلما سمع الخليفةُ كلام السلطان، لم يعدِلْ عن المقام الفخري عثمان، لِما كان اشتمل عليه عثمان من العلم والفضل، وإدراكِه سِنَّ الشبيبة، وبايعه بالسَّلطنة، وتسلطن في يوم الخميس ولقِّبَ بالملك المنصور، وعمره يومئذ نحو الثماني عشرة سنة تخمينًا، واستمرَّ الملك الظاهر مريضًا ملازمًا للفراش، وابنه الملك المنصور يأخذ ويعطي في مملكتِه، ويعزِلُ ويولي، والملك الظاهر في شُغلٍ بمرضه، وما به من الألم في زيادة، إلى أن مات في قاعة الدهيشة الجوانية بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء ثالث صفر وقرئ حوله القرآن العزيز، إلى أن أصبح وجُهِّزَ وغُسِّلَ وكُفِّن من غير عجلة ولا اضطراب، حتى انتهى أمرُه وحُمِل على نعشه، وأُخرِج به، وأمام نعشه ولده السلطان الملك المنصور عثمان ماشيًا وجميع أعيان المملكة إلى أن صلِّيَ عليه بمصلاة باب القلعة من قلعة الجبل، وصلى عليه الخليفة القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة، وخلفه السلطان المنصور عثمان والقضاة وجميع الأمراء والعساكر، ثم حمل بعد انقضاء الصلاة عليه وأُنزِلَ من القلعة، حتى دفِنَ بتربة أخيه الأمير جاركس القاسمي المصارع، ولم يشهد ولده الملك المنصور دفنَه، وكانت مدة سلطنته أربع عشرة سنة وعشرة شهور ويومين.
ضَعُفَ أمرُ الخلافة جِدًّا، وبعث الراضي باللهِ إلى محمَّد بن رائق- وكان بواسط- يدعوه إليه ليولِّيَه إمرةَ الأمراءِ ببغداد، وأمْرَ الخراجِ والمغلِّ في جميع البلاد والدواوين، وأمر أن يَخطُبَ له على جميعِ المنابِرِ، وأنفذ إليه بالخِلَع، فقَدِمَ ابنُ رائق بغداد على ذلك كُلِّه، ومعه الأميرُ بجكم التركي غلامُ مرداويج، وهو الذي ساعد على قتل مرداويج، واستحوذ ابنُ رائق على أموالِ العراقِ بكَمالِه، ونقل أموالَ بيت المال إلى داره، ولم يَبقَ للوزيرِ تَصَرُّفٌ في شيء بالكلية، ووهى أمرُ الخلافة جدًّا، واستقَلَّ نوَّابُ الأطراف بالتصَرُّفِ فيها، ولم يبقَ للخليفةِ حُكمٌ في غيرِ بغداد ومعاملاتها، ومع هذا ليس له مع ابنِ رائقٍ نفوذٌ في شيءٍ ولا تفَرُّدٌ بشيءٍ، ولا كَلِمةٌ تطاع، وإنَّما يَحمِلُ إليه ابنُ رائق ما يحتاجُ إليه من الأموال والنَّفَقات وغيرها، وهكذا صار أمرُ مَن جاء بعده من أمراءِ الأكابِرِ، كانوا لا يرفعونَ رأسًا بالخليفة، وأمَّا بقية الأطراف فالبصرةُ مع ابن رائقٍ هذا، يولِّي فيها من شاء، وخوزستان إلى أبي عبد الله البريدي، وقد غلبَ ابنُ ياقوت على ما كان بيده من مملكةِ تستر وغيرها، واستحوذ على حواصِلِها وأموالِها، وأمر فارسَ إلى عماد الدولةِ بنِ بُوَيه ينازعه في ذلك وشمكيرُ أخو مرداويج، وكرمانُ بيدِ أبي علي محمَّدِ بن إلياس بن اليَسَع، وبلادُ الموصِلِ والجزيرة وديار بكر ومُضَر وربيعة مع بني حمدان، ومصرَ والشَّام في يدي محمد بن ظغج الإخشيدي، وبلاد إفريقيَّة والمغرب في يد القائمِ بأمر الله ابن المهدي الفاطمي، وقد تلقَّبَ بأمير المؤمنين، والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمَّد، والملَقَّب بالناصر الأموي وقد لقَّبَ نفسَه كذلك بأمير المؤمنين، وخراسان وما وراء النهر في يد السعيد نصر بن أحمد الساماني، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، والبحرين واليمامة وهَجَر في يد أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي.
هو السُّلطانُ مُعِزُّ الدولة أبو الحسين, أحمدُ بنُ بُوَيه بن فنا خسرو بن تمام بن كوهي الديلمي الفارسي الشيعي, كان أبوه سمَّاكًا, وهو ربَّما احتطب. تملَّك العراق نيفًا وعشرين سنة بلا كُلفةٍ، ودانت له الأُمَم, ولَمَّا تغَلَّب على بغداد سنة 334 لقَّبَه الخليفةُ المستكفي بمعزِّ الدولة، وتولى منصِبَ أميرِ الأمراء، وبدا بتسَلُّطه على الخليفة فأصرَّ أن يُذكَرَ اسمُه مع اسمِ الخليفةِ في خُطبة الجمعة، وأن يُسَكَّ اسمُه على العملة مع الخليفة. ورتَّبَ للخليفة نفقاتِه خمسة آلاف درهمٍ في كل يوم. وكذلك كان الخليفةُ المطيع لله مقهورًا معه، أظهر أبو الحُسَين الرَّفضَ ودعَمَ التشَيُّع. وهو أوَّلُ من أجرى السُّعاةَ بين يديه ليبعثَ بأخبارِه إلى أخيه ركن الدَّولةِ سريعًا إلى شيراز، وحظِيَ عنده أهلُ هذه الصناعةِ, وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران، وهما فضل وبرغوش، يتعصَّبُ لأحدهما عوامُّ أهلِ السُّنَّة، وللآخر عوامُّ أهلِ الشيعة، وجَرَت لهما مَناصِفُ ومواقف، ولَمَّا كان الثالث عشر من ربيع الأول توفي أبو الحسن بعِلَّة الذَّرَب، فصار لا يَثبُت في مَعِدتِه شَيءٌ بالكُليَّة، فلمَّا أحسَّ بالموت قيل: إنه أظهر التَّوبةَ وأناب إلى الله عزَّ وجَلَّ، وترضَّى عن الصحابةِ, وأراق الخمورَ, ونَدِمَ على ما ظلم, وردَّ كثيرًا من المظالم، وتصَدَّق بكثيرٍ مِن ماله، وأعتق طائفةً كثيرةً مِن مماليكه، وعَهِدَ بالأمر إلى ولده بختيار عز الدولة، وقد اجتمع ببعضِ العُلَماءِ، فكَلَّمَه في السُّنَّة وأخبره أنَّ عليًّا زوَّجَ ابنَتَه أمَّ كُلثوم مِن عُمَرَ بنِ الخطاب، فقال: واللهِ ما سَمِعتُ بهذا قطُّ، فقيل إنَّه رجع إلى السُّنَّة ومتابعتِها- والله أعلم, ولَمَّا مات مُعِزُّ الدولة دُفِنَ بباب التبن في مقابر قريش، فبَعَث ابنُه عِزُّ الدولة ووليُّ عَهدِه إلى رؤوس الأُمَراءِ في هذه الأيام بمالٍ جزيلٍ لئلَّا يجتمعوا على مخالفتِه قبل استحكامِ مُبايعتِه، وهذا مِن دهائِه، وكانت مُدَّة ولاية معز الدولة إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهرًا ويومين.