لَمَّا شاع صنيعُ الحاكِمِ في الأمورِ التي خرَقَ العاداتِ فيها، ودُعِيَ عليه في أعقابِ الصَّلواتِ وظُوهِرَ بذلك، أشفَقَ وخاف، وأمَرَ بعمارةِ دارِ العِلمِ وفَرَشَها، ونقل إليها الكُتُبَ العظيمةَ، وأسكَنَها مِن شُيوخِ السُّنَّة شَيخينِ، يُعرَفُ أحدُهما بأبي بكرٍ الأنطاكيِّ، وخلَعَ عليهما وقَرَّبَهما ورَسَم لهما بحضورِ مَجلِسِه ومُلازمتِه، وجمع الفُقَهاءَ والمُحَدِّثينَ إليها، وأمَرَ أن يُقرأَ بها فضائلُ الصَّحابة، ورَفَع عنهم الاعتراضَ في ذلك، وأظهَرَ المَيلَ إلى مذهَبِ الإمامِ مالكٍ والقَولَ به، ولَبِسَ الصُّوفَ في هذه السَّنةِ يومَ الجُمُعةِ عاشِرَ شَهرِ رَمَضان، ورَكِبَ الحِمارَ، وأظهَرَ النُّسُك وملأ كَفَّه دفاتِرَ، وخطَبَ بالنَّاسِ يومَ الجُمُعةِ وصلى بهم، ومنَعَ مِن أن يُخاطَبَ يا مولانا، ومِن تقبيلِ الأرضِ بينَ يديه، وأقام الرَّواتِبَ لِمَن يأوي المساجدَ مِن الفُقراءِ والقُرَّاء والغُرَباء وأبناءِ السَّبيل، وأجرى لهم الأرزاقَ، وأقام على ذلك ثلاثَ سنينَ، ثم بدا له بعد ذلك، فقَتَل الفقيهَ أبا بكرٍ الأنطاكيَّ والشيخَ الآخَرَ، وخَلْقًا كثيرًا آخَرَ مِن أهلِ السُّنَّةِ، لا لأمرٍ يقتضي ذلك، وفعَلَ ذلك كُلَّه في يومٍ واحد. وأغلق دارَ العِلمِ، ومنَعَ مِن جميعِ ما كان فعَلَه، وعاد إلى ما كان عليه أوَّلًا من قَتلِ العُلَماءِ والفُقَهاء، وأزيدَ.
نتيجةً لموقف إنجلترا وفرنسا من مقرَّرات المؤتمر السوري الذي انعقد في مارس تمَّ عقدُ مؤتمر سان ريمو الذي حُدِّدت فيه مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية في المشرق العربي، فانعقد المجلس الأعلى للحلفاء، الذي يعتبَرُ امتدادًا لمؤتمر لندن المنعقد في (فبراير) 1920 في مدينة سان ريمو الإيطالية، في المدة ما بين التاسع عشر والخامس والعشرين من نيسان (أبريل) 1920؛ للبحث في شروط الحلفاء للصلحِ مع تركيا طبقًا لمعاهدة سيفر والمصادقة عليها، وذلك بعد إعلان المجتَمِعين في المؤتمر السوري -الذي عُقِدَ في مارس- استقلال سوريا ومناداتهم بفيصل ملكًا عليها. وقد قرر الحلفاء: استقلال سوريا تحت الانتدابِ الفرنسي. واستقلال العراق تحت الانتداب البريطاني. ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وكان ذلك سعيًا لتحقيق وعد بلفور لليهود فيها. ولم يكن قرارُ الانتداب في سان ريمو إلَّا تطبيقًا لاتفاقية سايكس بيكو المشهورة، وإصرارًا قويًّا من فرنسا على احتلال سوريا. وكان قرار المؤتمر ضربةً شديدة لآمال الشعب في استقلال سوريا ووحدتها، فقامت المظاهراتُ والاحتجاجات، واشتعلت النفوسُ بالثورة، وأجمع الناسُ على رفض ما جاء بالمؤتمر من قرارات، وكثرت الاجتماعاتُ بين زعماء الأمة والملك فيصل، وأبلغوه تصميمَ الشعب على مقاومةِ كُلِّ اعتداء على حدود البلاد واستقلالها.
عَظُمَ أمرُ الحَنابلةِ ببغداد، وقَوِيَت شوكَتُهم، وصاروا يكبِسونَ دُورَ القوَّادِ والعامَّة، وإن وَجَدوا نبيذًا أراقوه، وإن وجدوا مغنِّيةً ضربوها وكسروا آلةَ الغناء، واعترضوا في البيعِ والشِّراءِ، وفي مشيِ الرِّجالِ مع الصِّبيان, كان البربهاري شيخُ الحنابلةِ في عَصرِه مُقيمًا في بغداد, وله فضلٌ كبيرٌ في الدعوةِ إلى الرجوع إلى منهجِ السَّلَفِ في العقيدة وإنكارِ البِدَع والخُرافات، وله مواقِفُ شديدةٌ على أهل البِدَع والفِرَق وخاصَّةً الشِّيعة، وكان المخالِفونَ له يغيظونَ قَلبَ السُّلطانِ عليه. فرَكِبَ بدرٌ الخرشَنيُّ، وهو صاحِبُ الشُّرطة، ونادى في جانبَيْ بغداد، في أصحابِ أبي محمَّد البربهاريِّ الحنابلة، ألَّا يجتَمِعَ منهم اثنانِ ولا يتناظَروا في مذهَبِهم، ولا يصلِّي منهم إمامٌ إلَّا إذا جهر ببسمِ الله الرحمن الرحيم في صلاةِ الصُّبحِ والعشاءَينِ، فلم يُفِدْ فيهم، فخرج توقيعُ الراضي بما يُقرأُ على الحنابلة يُنكِرُ عليهم فِعلَهم، ويوبِّخُهم وأنَّ أميرَ المؤمنين يقسِمُ بالله قسمًا جَهدًا إليه يلزَمُه الوفاءُ به؛ لئِنْ لم تنتهوا عن مذمومِ مَذهَبِكم ومُعْوَجِّ طريقتِكم، ليُوسِعَنَّكم ضربًا وتشريدًا، وقتلًا وتبديدًا، وليستعمِلَنَّ السَّيفَ في رقابكم، والنَّارَ في منازِلِكم ومحالِّكم. وحُبِسَ منهم جماعةٌ ونُفِيَ بعضُهم إلى البصرة، واستتر الشيخُ البربهاريُّ إلى أن مات وهو مستَتِرٌ.
احتلَّ الفرنج مدينة صيدا من ساحل الشام. وسبب ذلك أنه وصل في البحر إلى الشام ستون مركبًا للفرنج مشحونة بالرجال والذخائر مع بعض ملوكهم؛ ليحُجَّ بيت المقدس، وليغزو –بزعمه- المسلمين؛ فاجتمع بهم بغدوين ملك القدس، وتقررت القاعدة بينهم أن يقصِدوا بلاد الإسلام، فرحلوا من القدس ونزلوا مدينة صيدا ثالث ربيع الآخر من هذه السنة، وضايقوها برًّا وبحرًا، وكان الأسطول المصري مقيمًا على صور، فلم يقدِرْ على إنجاد صيدا، فعمل الفرنج برجًا من الخشب وأحكموه وجعلوا عليه ما يمنع النارَ عنه والحجارة، وزحفوا به، فلما عاين أهل صيدا ذلك ضَعُفت نفوسهم، وأشفقوا أن يُصيبَهم مثل ما أصاب أهل بيروت، فأرسلوا قاضيَها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج، وطلبوا من ملكهم الأمان فأمَّنَهم على أنفسهم وأموالهم والعسكر الذي عندهم، ومن أراد المقام بها عندهم أمَّنوه، ومن أراد المسيرَ عنهم لم يمنعوه، وحلف لهم على ذلك، فخرج الوالي وجماعة كثيرة من أعيان أهل البلد في العشرين من جمادى الأولى إلى دمشق، وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان، وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يومًا، ورحل بغدوين عنها إلى القدس، ثم عاد إلى صيدا بعد مدة يسيرة، فقرر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار، فأفقرهم واستغرق أموالَهم.
بعد أن توفِّي السفاح البرتغالي بوكيرك شرع سكان الخليج العربي لتحريك ثورة تحت قيادة هرمز على الحكم البرتغالي، بحيث امتدت الثورة إلى جميع القواعد والحصون البرتغالية في منطقة الخليج العربي، فقام في تشرين الثاني من عام 1521م رئيس التجَّار بمهاجمة السفينتين الموجودتين في ميناء هرمز، وأشعل النار فيهما وهاجم السكانَ البرتغاليين وحاصروهم في القلعة، ونجحت الثورة نجاحًا جيدًا، ثم قام البرتغاليون بنقل التعزيزاتِ العسكرية إلى جزيرة هرمز مركز الثورة، وقضوا على الثورة بعد أعمالٍ وحشيَّة ونكَّلوا بالأهالي، ثم عاد العربُ إلى الثورة ثانيةً بعد خمسة أعوام وشاركهم حكَّامُ مسقط وقلهات. فأرسل البرتغال حملة عسكرية مؤلَّفة من خمس سفن برتغالية شنَّت هجومًا على ظفار، واستمرت كذلك حتى قضت على الثورة، ثم عادت البحرين للثورة في عام 1529م وفشل البرتغاليون في قمعِها، فقلَّت هيبتهم فثارت القطيفُ عام 1550م, واستمَرَّ الأمر على مثل هذه الثورات بين حينٍ وآخر حتى استطاعوا في النهاية القضاءَ على الوجود البرتغالي في الخليج العربي، وخاصة أنَّ العمانيين واصلوا استعداداتِهم لطرد لبرتغاليين من بلادهم وبخاصةٍ بعد خروج هرمز من يد البرتغال، وتنامت قوةُ العرب العمانيين من أسرة اليعاربة التي استطاعت حسم الصراع لصالحهم سنة 1069.
خرَقَت إسرائيلُ وقفَ إطلاقِ النار مع لُبنانَ الذي أبرَمَتْه في يوليو/ تموز بضغْطٍ أمريكيٍّ، وقامت القواتُ الإسرائيليةُ بغَزْوِ لُبنان في عمليةٍ أُطلِقَ عليها اسمُ (سلام الجَليلِ)، قالت إسرائيلُ: إنها تَهدِفُ لِقَطْعِ الطريقِ أمام صواريخ المقاومةِ الفلسطينية بجَنوب لُبنان. وفي 10/6/1982م وصَل الإسرائيليونُ إلى ضواحي بَيروت، واحتلُّوا ضواحي قصْرِ بعبدا يوم 12/6، وفي يوليو / تموز 1982م أحكمَتْ إسرائيلُ حِصارها لِبَيروتَ الغربية، الذي نتَج عنه كوارثُ إنسانيةٌ؛ حيث تعرَّضت لقصْفٍ إسرائيليٍّ أرضيٍّ، وجويٍّ، وبحريٍّ مُستمِرٍّ، كما تعرَّضت لقصْفٍ بالقنابل العُنقودية والقنابل الفُسفورية وقنابل النابَلم. ولم تَنْتَهِ مأساةُ بَيروت إلا يوم 19 أغسطس / آب 1982م بعد أنْ نجَح المبعوثُ الأمريكي فيليب حبيب في تَمرير خُطته القاضيةِ بإجلاء الفِلَسطينيين خارجَ لُبنان تحت غِطاء دَوليٍّ (فرنسي - إيطالي - أميركي). وفي نفْس اليومِ الذي قُتِلَ فيه الرئيسُ اللُّبنانيُّ بشير الجميل -أي: 14 سبتمبر 1982م- دخلَت القواتُ الإسرائيلية مِن جديدٍ بيروتَ الغربية مُطوِّقة مُخيم (صبرا وشاتيلا ) فيما بيْن 16-18 سبتمبر. وفي سنةِ 1985م انسحَب الجيشُ الإسرائيلي من بيروتَ مُحتلًّا الشريطَ الحُدودي بجَنوب لُبنان الذي استمر لمدة 22 سنةً.
بدأت اضطرابات محدودة من قِبَل المسلمين في جبل البشرات تمكَّن جنود مركيز مندخار (الحاكم العسكري) من إنهائها بسرعة, ومكَّن الهدوء النسبي الذي لحق ذلك بدء انتقال أعداد من شبان مدينة غرناطة إلى الجبال سرًّا للتدرُّب على استخدام السلاح. وفي الثالث والعشرين من ديسمبر اعتقد الثوارُ أن عددهم كان كافيًا للقيام بالخطوة التالية فشنُّوا هجومًا مباغتًا على مدينة غرناطة فيما كانت حاميتها تستعد للاحتفال بعيد الميلاد. وتمكَّن الثوار بقيادة فراس بن فراس من التوغل في المدينة والاشتباك مع جنود مركيز مندخار إلا أنهم لم يتمكنوا من أخذ المدينة، فانسحبوا وعادوا إلى البشرات بعد إيقاع خسائر كبيرة بجنود الحامية، وبدؤوا بإزالة كل أشكال السلطة والكنيسة القشتالية في المراكز المحررة. وحيال هذا التطور أصدر ملك أسبانيا فيليب الثاني أوامره إلى مركيز مندخار بإخماد ثورة البشرات، فقاد جيشًا من حوالي أربعة آلاف جندي إلى الجبال إلا أنه لم يشتبك معهم، وبدأ بدلًا من ذلك مفاوضات لوقف الثورة آخذًا على عاتقه محاولة إقناع الملك فيليب الثاني برفع الضغوط عن الأندلسيين. وأوقف الأندلسيون العمليات العسكرية فيما بدأ المركيز اتصالاته لإقناع الملك بإعطاء الثوار فرصة، إلا أن فيليب رفض الفكرة وأمر المركيز بقمع الثورة وضرب زعمائها ليكونوا عبرة لغيرهم ليس فقط في الجنوب وإنما في ممالكه الأخرى قاطبة. وفي هذه الأثناء أقدم بعضُ جنود المركيز على مذبحة في مدينة جبيل راح ضحيتها عدد من الأندلسيين، وتعرضت مدينة لورة إلى هجمات مماثلة، وفقد المركيز السيطرةَ على جنوده فأخذ هؤلاء يمارسون أعمال القتل بلا حساب فتحرَّك الأندلسيون بسرعة وبسطوا سيطرتَهم على البشرات. وفي غرناطة نفسها وصلت إلى الحامية إشاعات عن قيام الثوار الأندلسيين بقتل 90 قسيسًا و1500 قشتالي، فهاجم الجنود سجن البيازين وذبحوا مئة وعشرة أندلسيين كانوا فيه. وأمام انفلات الوضع أقرَّ مركيز مندخار بعجزه عن السيطرة على الوضع، ووضع نفسه تحت إمرة فيليب الثاني. وكانت نار الثورة بدأت تستعر بسرعة وتنتشر في مناطق جديدة في الجنوب عندما بدأ الملك تدارُس الوضع مع مستشاريه العسكريين. وفي هذه الأثناء بدأ العثمانيون يحققون الانتصار تلو الآخر في البحر الأبيض المتوسط، وراحوا يهددون شواطئ ممالكه هناك. وفي تلك السنة أيضًا اندلعت الثورة في قطالونيا وقطعت أساطيل البروتستانت الطرق البحرية إلى خليج بسقاية، وخشي فيليب الثاني أن يستفحِلَ خطر الثورة ويستغل العثمانيون استمرارها لمهاجمة صقلية والجزائر الشرقية وربما الجنوب الأندلسي، فاختار لمهمة القضاء على الثورة أخاه دون خوان النمسوي، وأوصى فيليب الثاني دون خوان بضرورة اتخاذ قرارات المجلس بالإجماع، وإذا لم يتحقق هذا يجب عليه العودة إليه لاتخاذ القرار النهائي. وكان على دون خوان التحرُّك بسرعة للقضاء على الثورة خوفًا من انتقالها إلى الأندلسيين في أرغون. ولما عرض دون خوان على أعضاء المجلس هذا الرأي أخذوا به، لكنَّ مركيز مندخار عارضه وأعرب عن اعتقاده أن التفاوض وليس الحرب هو طريق إنهاء الأزمة. وأمام هذا الموقف نشد المجلس موافقة فيليب الثاني، فكتب إليه دون خوان رسالة مُطوَّلة أوصى فيها بالحزم في التعامل مع الثوار، وتعهَّد لأخيه بالقضاء على الثورة سريعًا إن أعطاه الصلاحيات وأطلق يديه. لكنه تردد ولم يجبه، فاستغل الأندلسيون تردُّد الملك فالتحق بالثوار عدد كبير من المتطوعين حتى صار قوامهم نحو عشرة آلاف مقاتل، وبدؤوا يشنون الهجمات على مواقع القوات القشتالية، فامتلكوا عددًا منها، ثم نقلوا الحرب إلى مناطق قريبة من مدينة غرناطة ودارت معارك بينهم وبين القشتاليين قرب الأسوار. وسرت في القشتاليين المخاوفُ من انقلاب الأندلسيين الغرناطيين عليهم فتشدَّدوا في معاملتهم؛ مما أدى إلى فرار بعضهم من المدينة والالتحاق بمعاقل الثوار. وخلال فترة قصيرة اتسعت الرقعة التي بسط عليها الثوار نفوذَهم حتى شملت معظم المناطق المحيطة بمدينة غرناطة. ووصلت أخيرًا أوامر فيليب الثاني آخذًا في الاعتبار معظم توصيات أخيه، لكنَّه أمر بشطر القوات التي تجمَّعت شطرين أسند قيادة الأول إلى مركيز مندخار، والثاني إلى منافسه مركيز بلش مالقه، لكنه حظر في الوقت نفسِه على دون خوان الاشتراك في أي عمليات عسكرية. واعتبر باقي أعضاء المجلس هذا التكليف تشكيكًا من الملك بمركيز مندخار فانهزَّت الثقة به وخضعت قراراته للمساءلة وتصرفاته للمراقبة!
بعدَ أن تُوفِّي يَزيدُ وكان قد عَهِدَ بالخِلافَة لابنِه مُعاوِيَة، وكان شَابًّا مَريضًا، وكان ناسِكًا صالِحًا مُتَعبِّدًا لم تَدُمْ خِلافتُه بالنَّاس سِوى اليَسيرِ، ولم يُرِدْ الخِلافَةَ وقد عَلِمَ أنَّه ليس لها بأهلٍ، واعْتَزَل النَّاسَ وقال: إنَّه لم يَجِدْ للنَّاس مَن يَخلُفُه كما خَلَّفَ أبو بكرٍ للنَّاس عُمَرَ بن الخطَّاب، ولا وجَد في النَّاسِ سِتَّةً مِن أهلِ الشُّورى يكون الأمرُ بينهم كما وجَد عُمَرُ بن الخطَّاب للنَّاس أهلَ الشُّورى، فترَك الأمرَ للنَّاس يَختارون مَن شاءوا، واعْتَزَلهم حتَّى تُوفِّي.
بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحربِ العالمية الأولى، وإعلان هُدنةِ مودروس؛ وصل الجنرال اللنبي قائِدُ الإنجليز استانبولَ وطلب من الحكومةِ التركية تعيينَ مصطفى كمال قائدًا للجيش السادس بالقُربِ مِن الموصل حيث تهمُّ هذه المنطقة إنجلترا، وأثناء انسحاب مصطفى كمال من حلبٍ اقترح تشكيلَ وزارة جديدة برئاسةِ عزة باشا الأرناؤوط؛ لتخلُف وزارة الاتحاديين برئاسة طلعت باشا، وعلى أن يتولى هو في هذه الوَزارةِ الجديدة وزارةَ الحربية. تشَكَّلَت وزارةٌ جديدة برئاسة الأرناؤوط وضَمَّت عددًا ممن رشَّحهم مصطفى كمال لمناصِبَ وزارية، أما هو فلم يوافِقْ عليه الخليفةُ العثماني. فأخذ مصطفى يتقَرَّب من حزب أنصار الحرية والائتلاف الذي كان يتعاونُ مع سلطات الاحتلال، لكِنَّ الحزب لم يهتَمَّ به، ثم خطب مصطفى صبيحةَ بنت الخليفة العثماني وحيد الدين، فرفض طلَبه مباشرةً، كانت سلطاتُ الاحتلال تقبِضُ على كلِّ من يعود من القادة الأتراك من الجبهاتِ، ثم يُنفى إلى مالطة إلا مصطفى كمال فقد تركوه وشأنَه. كان الخليفةُ وحيد الدين ورئيسُ وزرائه فريد باشا يحسِنانِ الظَّنَّ بمصطفى كمال، فكَلَّفاه سرًّا بالقيام بثورة في شرق الأناضول، لعَلَّ هذه الثورة تُسهِمُ في الحدِّ من شروط الصلح القاسية التي فُرِضَت على الدولة. قَبِلَ مصطفى بالمهمَّة وزوَّده الخليفةُ بالمال ومَنَحَه منصِبَ مفتشٍ عامٍّ على الجيوش، ولَمَّا بُلِّغت الحكومةُ العثمانيةُ مِن الحلفاء بأنَّ الجيشَ اليونانيَّ سينزل أزمير، وعلى الحكومةِ عدَمُ مقاومتِه، فبعد نزولِ اليونانيين بيومين نزل مصطفى في ميناء أزمير من سفينة إنجليزية بشكلٍ مفاجئٍ للجميع، ثم أعلن الثورةَ على الدولة العثمانية، وتمرَّد على السلطان العثماني، وانزعجت الحكومةُ من تصرفاته، واحتجَّ الحُلَفاءُ في استانبول على الأعمالِ التي يقومُ بها مصطفى كمال في الأناضول؛ لإعطائه صفةَ الوطنية والإخلاصِ لأمَّتِه، فظهر كمال كمُنقذٍ للأمة، وتبعه وأيَّده كثيرٌ من الأتراك، ثم طلب الحلفاءُ مِن الحكومة استقدامَه إلى استانبول ووضْعَه تحت الرقابة، فدُعِيَ مِن قِبَل الوزارة، لكِنَّه لم يستجِبْ، فهدَّد الحلفاءُ بإعادة الحرب، فاضطرَّت الحكومةُ إلى إقالة مصطفى من منصِبِ المفتِّش العام، فقابل الإقالةَ بالاستقالة من الجيشِ، واتصل سرًّا بالإنجليز، ثم دعا إلى عقد مؤتمر في أرضروم، فانتُخب مصطفى رئيسًا له، ثم دعا مصطفى إلى مؤتمر أوسَعَ يشمَلُ تركيا كلَّها، فعُقِدَ مؤتمرُ سيواس في 13 ذي الحجة 1337هـ، وكانت الحكومةُ في استانبول ترى إلغاءَ المؤتمر واعتقالَ أعضائه، والحلفاءُ يؤيِّدون الحكومةَ في رأيهم لإعطاء مصطفى كمال مزيدًا من القوة، وجَعْله زعيمًا وطنيًّا يقاوم المحتَلَّ. عُقِد المؤتمَرُ وانتُخِبَ مصطفى رئيسًا له وشُكِّلَت فيه جمعيةٌ تُعنى بالدفاع عن كامل الوطنِ، وانتُخِبَت هيئةٌ تمثيليةٌ بقي أعضاؤها في سيواس. غادر مصطفى كمال سيواس إلى أنقرة التي اتخذَها مقرًّا له. احتلَّ الإنجليز باسم الحلفاء استانبول بشكلٍ كاملٍ في جمادى الآخرة 1338هـ / آذار 1920م، وبدأت الاعتقالاتُ في صفوف المؤيِّدين لمصطفى كمال، ثم نُفُوا إلى مالطة؛ لإظهارِ خلافهم مع مصطفى، وفَرَضت الحكومةُ الرقابةَ على الصحُفِ ووسائِلِ الإعلام، وراقب الإنجليزُ الوزارةَ وطلبوا بطاعةِ أوامر الخليفة؛ لينفِرَ منه الشعبُ ويتعلَّقَ أكثَرَ بمصطفى كمال الذي يعمَلُ فيما يبدو للناس ضِدَّ الإنجليز المحتلين، وأنَّه لم يتحرَّكْ ضِدَّ الخليفة إلا لأنَّه مؤيَّدٌ مِن قِبَل المحتلين، وهذا ما جعل الأتراك يرتبطون بكمال ويؤيدونه ويسيرون وراءه. في رجب 1338هـ حُلَّ المجلسُ النيابي وشُكِّل مجلِسٌ جديدٌ برئاسة فريد باشا صِهرِ الخليفة بطلبٍ مِن الإنجليز وضَغطٍ منهم؛ ليظهَرَ للنَّاسِ أن الخليفةَ وحكومتَه يسيرانِ برأي الأعداء، فيتَّجِهَ الناسُ أكثر إلى مصطفى كمال الذي يبدو أنَّه على خلاف مع المحتلين، وأنَّه عدوُّهم الأول، فلما استبَدَّ فريد باشا بحُكمِه تضايقَ السكانُ وأحبُّوا الخلاص منه، وليس لهم من طريقٍ سوى مصطفى كمال. جرت انتخاباتٌ ونجح مصطفى غيابيًّا عن أنقرة، فعُقِد مؤتمرٌ ونصب نفسه رئيسًا للمجلس وللهيئة التنفيذية، ثم أظهر التدينَ ولَبِسَ شعاره، وأعلن أن أولَ جلسة ستُفتتح بعد صلاة الجمعة في هذا اليوم المبارك في أنقرة، وعندما ألقى الخطبةَ الافتتاحية أكثَرَ من مدح الخلافةِ، وأنَّ كُلَّ ما فعله في الأناضول وانتقاله إليها كان بمعرفة الخليفة وأمرِه. أصدر شيخ الإسلام في استانبول فتوى ضدَّ مصطفى كمال فضَعُف مركزُه، وسيَّرَ الخليفةُ حملةً إلى كردستان فانضَمَّت لها كلُّ أجزاء الأناضول باستثناء أنقرة التي أرسل إليها الخليفةُ حملةً لإخضاعها لسلطانه، وكادت أوراقُ مصطفى كمال تتساقط وينتهي أمرُه، لولا تدارُكُ أسيادِه الإنجليز بإعلانِ معاهدة سيفر المجحفة بأسلوبٍ إعلامي مثيرٍ، فهاج الشعبُ ضِدَّ الخليفة الذي وقَّع عليها هو وحكومته برئاسة فريد باشا، وإن كانا مُكرَهينِ، فعاد الناسُ إلى تأييد مصطفى كمال ورجال الحملة التي وجهها الخليفةُ إلى أنقرة انقلبت من ضد كمال لتصبِحَ معه، حتى أصبح مصطفى يفكِّرُ في الهجوم على العاصمة استانبول، فالأمرُ في غاية الوضوح أنَّ الخليفةَ والحكومة مع الإنجليز في الظاهر، وهما أعداء لها واقعًا, ومصطفى كمال يهاجِمُ الإنجليز في الظاهر ويتَّفِقُ معهم في الحقيقة. جاء إعلان معاهدة سيفر في الوقت المناسِب، فانتصر مصطفى كمال على حملةِ الخليفة في أنقرة، وعلت مكانتُه وأرادت إنجلترا أن تقطِفَ ثمار تخطيطها؛ فقد غدا صنيعتُها في موقفٍ يؤهِّلُه لتسلُّم المنصِبِ الأول، فدعت بريطانيا إلى عقدِ مؤتمر في لندن لحلِّ المسألة الشرقية مع تركيا، فوجَّهت دعوةً لحكومة استانبول الحكومةِ الشرعيةِ، وهي المعنيةُ بالتفاوض بشأن الصلحِ، كما أن الإنجليزَ وجَّهوا دعوةً كذلك لحكومة مصطفي كمال في أنقرة، وهذا اعترافٌ منهم ضمنيًّا بحكومة أنقرة، وبلغ من جرأةِ حكومة أنقرة أنَّها رفضت دعوةَ حكومة استانبول؛ لأنَّها هي الممثِّل الوحيد للشعب التركي والمدافِع عن حقوقه. حضر في لندن ممثِّلون عن الحكومتين، وحرصًا على وحدة الصَّفِّ ترك وفدُ استانبول الحديثَ لوفد أنقرة، وفَشِلَ المؤتمر لكِنْ ظَهَرت حكومةُ أنقرة كممَثِّل رئيس للشعب التركي. اتصل مصطفى كمال بالفرنسيين واعترف لهم بحقِّهم في سوريا ولبنان، فكسب رضاهم واعترفوا به كممثِّل لدولة تركيا الحديثة، ثم اتصل بروسيا الشيوعية وعقدَ معهم معاهدةً في رجب 1339هـ / 16 آذار 1921م تنازل لها عن منطقة آجاريا (جورجيا) فرَضِيَت عنه واعترفت بحكومته في أنقرة، على أنها تمثِّل الدولة الحديثة للأتراك، واتصل بإيطاليا التي اعترفت بحكومتِه وتنازل لها عن منطقة أضاليا -جنوب غرب تركيا- التي دخلتها أثناء الحرب، فاتجهت الأنظارُ إلى مصطفى كمال كمنقذٍ لتركيا وممثِّل لدولة تركيا الحديثة، وأُغلِقَت كلُّ القنوات أمام الخليفة وبهذا نجحت اللعبةُ الدولية التي حبكتها إنجلترا مع دول الحُلفاء؛ وفي 17 ربيع الأول أُقيلَت حكومةُ السلطان في استانبول بضغطٍ مِن إنجلترا، وتنازل السلطانُ وأُبعِدَ عن البلاد، ثم بحثت إنجلترا مع حكومةِ أنقرة موضوع إلغاء السلطنة وإعلان تركيا دولة علمانيةً، وهو شرطُ اعتراف الحلفاء بدولة تركيا الحديثة، فأعلنت حكومةُ أنقرة إلغاءَ السلطنة، وفَصْل الدين عن الدولة، فسُرَّ الحلفاءُ بهذا الإعلان، ودَعَوا حكومةَ أنقرة إلى لوزان؛ لإعادة النظر في بنود معاهدة سيفر، وكان مصطفى كمال يشكِّل حكوماتٍ بدون برامج، ويعَيِّنُ من يشاء ويعزل من يشاء حسَبَ مزاجِه الخاص، أو ما يقَدَّمُ له من خِدماتٍ. تشكَّلَ الوفدُ إلى مؤتمر الصلح في لوزان من وزير الخارجية عصمت إينونو، ووزير الصحة، وخبير مالي، وجاء الحلفاءُ، وهم: إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان، واليونان، والولايات المتحدة الأمريكية، وكان الأمرُ كُلُّه بيد إنجلترا، وتم تعديل بنودِ معاهدة سيفر بعد جولتينِ تمَّت بين الأطراف بعد أن أعدَّ البنودَ الجديدة كبيرُ حاخام اليهود في الدولة العثمانية حاييم ناعوم، ومستشار إيطاليا ماتر سالم -يحمل جنسية عثمانية- مع الوفد التركي إلى لوزان، وكان إلغاءُ الخلافة وتَرْك الموصِل شرطين أساسيين لاستقلال تركيا. اجتمع المجلسُ النيابي في أنقرة بن20 ربيع الأول 1342هـ/ 30 أكتوبر 1923م وقرَّر إلغاءَ السلطنة وإعلان الجمهورية، وانتُخِبَ مصطفى كمال رئيسًا للجمهورية، وبعد يومين وُقِّع الصلحُ في لوزان، وأُطلِقَت المدافعُ في تركيا؛ ابتهاجًا بهذا التوقيع.
هو الفيلسوفُ أبو عليٍّ محمَّدُ بنُ الحَسَن بن الهيثم البصري أصلُه بصري، سكن الديارَ المصريَّةَ إلى أن مات. كان من أذكياءِ بني آدم، عديمَ النظيرِ في عَصرِه في العلمِ الرياضي. وكان متزهِّدًا زُهدَ الفلاسفة. لخَّص كثيرًا من كتُبِ جالينوس، وكثيرًا مِن كتب أرسطوطاليس. وكان رأسًا في أصول الطبِّ وكليَّاتِه. وكان قد وَزَر في أوَّل أمرِه، ثمَّ تزهَّد وأظهر الجنونَ، وكان مليحَ الخطِّ يَنسَخُ في بعضِ السَّنةِ ما يكفيه لعامِه من إقليدس والمجسطي. قال عنه الذهبي: "صاحِبُ المصنَّفات الكثيرةِ في علوم الأوائِلِ، وكان مقيمًا بالجامِعِ الأزهر, وهو على اعتقادِ الأوائِلِ لا رَحِمَهم الله, وقد صَرَّحَ بذلك نسألُ اللهَ العافيةَ" وله مُصَنَّفات كثيرة مُعظَمُها في الرياضيَّات والهندسة، وباقيها في الإلهيَّات، وعامتها مقالاتٌ صغار. قال ابن خلدون: " أشهَرُ مَن ألَّف في عِلمِ المناظرةِ مِن فروعِ الهندسة ابنُ الهيثم, وهو عِلمٌ يتبيَّنُ به أسبابُ الغلَطِ في الإدراك البصريِّ بمعرفةِ كيفيَّة وقوعِها بناءً على أنَّ إدراكَ البصر يكون بمخروط شعاعيٍّ رأسُه نقطةُ الباصِرِ وقاعدتُه المرئيُّ. ثمَّ يقع الغلَطُ كثيرًا في رؤية القريبِ كبيرًا والبعيدِ صغيرًا. وكذا رؤية الأشباح الصَّغيرة تحت الماء ووراء الأجسامِ الشَّفَّافةِ كبيرةً، ورؤيةُ النُّقطة النَّازلة من المطَرِ خطًّا مستقيمًا والسّلقة دائرة وأمثال ذلك. فيتبيَّنُ في هذا العلم أسبابُ ذلك وكيفيَّاته بالبراهينِ الهندسيَّة، ويتبيَّن به أيضًا اختلافُ المنظَرِ في القمَرِ باختلاف العَروضِ الذي يُبنى عليه معرفةُ رؤية الأهِلَّة وحصول الكُسوفات.".
كان الأميرُ قودن صار في جملة الأمير قماج، فلما توفي قماج، والسلطان بمرو، فاستوحش قودن، وأظهر المرض، وتأخَّرَ بمروٍ بعد مسير السلطان بركيارق إلى العراق، وكان من جملة أمراء السلطان أمير اسمه اكنجي، وقد ولاه السلطان خوارزم، ولقَّبه خوارزمشاه، فجمع عساكِرَه وسار في عشرة آلاف فارس ليلحقَ السلطان، فسبق العسكر إلى مرو في ثلاثمائة فارس، وتشاغل بالشُّرب، فاتفق قودن وأمير آخر اسمه يارقطاش على قتله، فجمعا خمسمائة فارس وكبسوه وقتلوه، وساروا إلى خوارزم، وأظهروا أنَّ السلطان قد استعملهما عليها فتسلَّماها، وبلغ الخبر إلى السلطان، فأعاد أمير داذ حبشي بن التونتاق في جيش إلى خراسان لقتالهما، فسار إلى هراة، وأقام ينتظر اجتماعَ العساكر معه، فعاجلاه في خمسة عشر ألفًا، فعَلِمَ أمير داذ أنَّه لا طاقة له بهما، فعبَرَ جيحون، فسارا إليه، وتقدَّم يارقطاش ليلحقه قودن، فعاجله يارقطاش وحده وقاتله، فانهزم يارقطاش وأُخذ أسيرًا، وبلغ الخبر إلى قودن، فثار به عسكرُه، ونهبوا خزائنَه وما معه، فبقيَ في سبعة نفر، فهرب إلى بخارى، فقَبَض عليه صاحبُها، ثم أحسن إليه، وبقِيَ عنده، وسار من هناك إلى الملك سنجر ببلخ، فقَبِله أحسنَ قبول، وبذل له قودن أن يكفيَه أمورَه، ويقومَ بجمع العساكر على طاعته، فقُدِّرَ أنه مات عن قريبٍ، وأما يارقطاش فبقِيَ أسيرًا إلى أن قتل أمير داذ.
هو شَيخُ الطائفة الشاذليَّة الزاهد أبو الحَسَن علي بن عبد الله بن عبد الجبَّار بن تميم المغربي الشاذلي المالكي، نزيلُ الإسكندرية، مؤسِّس الطريقة الصوفيَّة المشهورة بالشاذليَّة، ولد في غمارة قرب سبتة بالمغرب، وفيها نشأ وتعلم، رافق أبا القاسم الجُنَيد البغداديَّ الصوفيَّ، فأخذ عنه التصوفَ، ثم اتخذ في تونس رباطًا له في جبل وبدأ ينشُرُ أفكاره في بلدة شاذلة القريبةِ مِن رباطه فكَثُرَ أتباعه، ثم نُفِيَ إلى مصر واستقَرَّ في الإسكندرية، وتبعه خلقٌ كثير في مصر والشام. قال الذهبي: "وقد انتسَبَ في بعض مؤلفاته في التصوُّف إلى علي بن أبي طالب، وكان الأولى به تركَه هذا الانتسابَ وتَرْكَ كثيرٍ ممَّا قاله في تواليفِه من الحقيقة، وهو رجلٌ كبيرُ القدر، كثيرُ الكلام، عالي المقام. له شِعرٌ ونَثرٌ فيه متشابهات وعبارات، يُتكَلَّف له في الاعتذار عنها. ورأيت شيخنا عمادَ الدين قد فتَرَ عنه في الآخر، وبَقِيَ واقفًا في عباراته، حائرًا في الرجل؛ لأنه كان قد تصَوَّف على طريقتِه، وكان الشاذلي ضريرًا، ولخلقٍ فيه اعتقاد كبير". له تصانيف منها (عمدة السالك على مذهب الإمام مالك) وله (التسلي والتصبر على ما قضاه الله من أحكام التجبر والتكبر) وله أحزابٌ خاصة به، منها (الحزب الكبير) أو حزب البِرِّ، وحزب البحر، وحزب الإخفاء، وحزب النصر، وحزب الطمس على عيون الأعداء، وحزب اللطف وغيرها، توفي في حميترة من صحراء عيذاب في صعيد مصر، وفيها دفن.
جرت معركةٌ حاميةُ الوطيس في بلدةِ بسل الواقعة بين الطائفِ وتربة بين قواتِ محمد علي باشا والقوات السعودية بقيادة فيصل بن سعود, وذلك أنَّ فيصلَ بن سعود لَمَّا قدم إلى الحجاز ليتولى قيادةَ جموع المسلمين نزل تربة واستنفر رعايا دولتِهم في الحجازِ، فقَدِمَ طامي بن شعيب في أهل عسير وألمع وزهران وغامد في عشرين ألفًا، فلما أقبلوا على تربة وأرسلوا إلى فيصل يخبرونه بقدومِهم خرج فيصل من تربة ومعه عشرةُ آلاف مقاتل فاجتمعوا بالقربِ مِن بئر غزال قريب من تربة، ثم رحلوا منه إلى بسل حيث الرومُ (قوات محمد علي) قد اجتمعوا بعددِهم وعُدَّتهم، فنازلهم فيصل بجموعِه، ووقع بينهم قتالٌ وطِراد، وقُتلَ من الرومِ عددٌ كثير, ثمَّ في اليوم التالي قَدِم محمد علي بعساكِرَ كثيرة، ووقع قتال بين الفئتين، فثبت فيصل ومن معه ووقع كسرٌ في ناحية غامد وزهران، ثم في قوم طامي وغيرهم، واتصلت الكسرة على جموع المسلمين لا يلوي أحدٌ على أحد، ووقى الله شَرَّ القتل وكفَّ أيدي الروم عنهم وعن ساقتِهم, ولم يُقتَل إلا أقل القليل، وبعدها زحَفَت هذه القواتُ واحتلت تربة ورنية التي أصبحت فيما بعد معسكرًا عامًّا لقوات الروم, ثم رحل محمد علي إلى بيشة ونازل أكلب، وأطاعوا له، ثم سار إلى تبالة فضربها بالمدافِعِ والقنابر وقتلَ أمير الفزع و100 رجلٍ ممن معه.
بعد أن تولَّى محمد أنور السادات رئاسةَ مصرَ خلفًا لجمال عبد الناصر أعلن سيرَه على نفس الخُطى، إلا أنه بدأ بالميل إلى أمريكا؛ ففتح البابَ كاملًا للأمريكانِ. فاجأ الساداتُ العالمَ أجمعَ العربي والإسلاميَّ بزيارته للقدس، نجم عنها توقيع معاهدةَ السلام المصرية الإسرائيلية (كامب ديفيد) في الولايات المتحدةِ؛ وقَّع المعاهدةَ من الجانب الإسرائيليِّ رئيسُ الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، ومن الجانب المصريِّ الرئيسُ المصري أنور السادات، وُقِّعت المعاهدة بعد 12 يومًا من المفاوضات في مُنتجع كامب ديفيد الرئاسيِّ في ولاية ميريلاند القريبِ من عاصمة الولايات المتحدةِ واشنطن؛ حيثُ كانتِ المفاوضاتُ والتوقيع على الاتفاقيةِ تحت إشراف الرئيس الأمريكيِّ كارتر. تُمثل اتفاقية كامب ديفيد تحولًا تاريخيًّا في مجرى الصراع العربيِّ الإسرائيليِّ والقضية الفلسطينية؛ فقد اعترف الساداتُ في هذه الاتفاقية بشرعيةِ الوجود اليهوديِّ في المنطقة، وبحقِّهم في الأمنِ والسلامِ، وإقامة علاقات حُسن جوارٍ وتعاون معه، وأخرج مصر من حلَبة الصراع مع إسرائيلَ دون أن يقابلَ ذلك أيَّ كسب سياسيٍّ وغيره لمصر سوى الجلاء عن سيناءَ بعد إقامة قوى أمريكية في معظم أنحائها، وقد قوبل هذا الاتفاقُ بموجة عارمةٍ من السُّخط العربي والإسلامي، وفي 26 مارس / آذار 1979م بعدَ خمسة أيام من تصديق معاهدة السلام المصريةِ الإسرائيلية عُلِّقَت عضوية مصر في الجامعةِ العربية، ونُقِل مقرُّها من القاهرة إلى تونس.
أبو بَكرٍ جابرُ بنُ موسى بنِ عبدِ القادرِ بنِ جابرٍ المعروفُ بـ (أبو بكرٍ الجَزائريُّ). ولِدَ في قريةِ ليوة القريبةِ من طولقةَ، التي تقعُ اليومَ في ولايةِ بسكرةَ جنوب بلادِ الجزائرِ عامَ 1921م، وفي بلدتِه نشأَ وتلقَّى علومَه الأوليَّةَ، وبدأ بحِفظِ القرآنِ الكريمِ وبعضِ المتونِ في اللغةِ والفقهِ المالكيِّ، ثم انتقَلَ إلى مدينةِ بسكرةَ، ودرَس على مشايخِها جملةً من العلومِ النقليَّةِ والعقليَّةِ التي أهَّلَتْه للتدريسِ في إحدى المدارسِ الأهليَّةِ، ثمَّ ارتحَلَ مع أسرَتِه إلى المدينةِ المنورةِ، وفي المسجدِ النبويِّ الشريفِ استأنفَ طريقَه العِلْميَّ بالجلوسِ إلى حَلَقاتِ العلماءِ والمشايخِ؛ إذ حصَلَ بعدها على إجازةٍ من رئاسةِ القضاءِ بمكةَ المكرمةِ للتدريسِ في المسجدِ النَّبويِّ. فأصبحت له حَلْقةٌ يُدرِّسُ فيها تفسيرَ القرآنِ الكريم، والحديثَ الشريفَ، وغيرَ ذلك. عَمِلَ مُدرِّسًا في بعضِ مدارسِ وزارةِ المعارفِ، وفي دارِ الحديثِ في المدينةِ المُنوَّرةِ، وعندما فَتَحت الجامعةُ الإسلاميةُ أبوابَها عامَ 1380هـ كان من أوائلِ أساتذتِها والمدرِّسين فيها، وبقِيَ فيها حتى أحيلَ إلى التقاعدِ عامَ 1406هـ. له جهودٌ دَعْويَّةٌ في الكثيرِ من البلادِ التي زارها. تُوفِّيَ الشيخُ أبو بكرٍ الجزائريُّ عن عمرٍ ناهز 97 عامًا، وصُلِّي عليه صلاةَ الجنازةِ بعد ظهرِ يومِ وفاتِه في المسجِدِ النبويِّ الشريفِ، ووُورِيَ جُثمانُه في مقبرةِ البَقيعِ.
من أشهَرِ مُصنَّفاتِه: ((مِنهاجُ المُسلمِ))، و((أيسَرُ التفاسيرِ لكلامِ العليِّ الكبيرِ))، و((هذا الحبيبُ يا مُحِبُّ)).