هو أبو عبدِ الرَّحمنِ عبدُ الله بنُ أحمدَ بنِ محمد بن حنبل الشيباني البغدادي، الحافظ، مِن أهل بغداد، والده هو الإمامُ أحمد بن حنبل، ولد سنة 213 وأمُّه اسمها ريحانة، تزوجَّها الإمام أحمد بعد وفاةِ زوجته الأولى عبَّاسة أم ابنِه صالحٍ، وأنجبت له ريحانةُ ابنَه عبد الله. تعلَّمَ على يدِ أبيه فسَمِعَ منه المُسنَد، فكان مُكثِرًا في الروايةِ عن أبيه وعن غيره, وكان إمامًا ثِقةً حافِظًا ثَبتًا، قال ابن المنادي: لم يكُنْ أحدٌ أروى عن أبيه منه، روى عنه المسندَ ثلاثينَ ألفًا، والتفسير مائة ألفِ حديث وعشرون ألفًا، من ذلك سماعٌ، ومن ذلك إجازة، ومن ذلك الناسِخُ والمنسوخ، والمقَدَّم والمؤخَّر، والمناسِك الكبير والصغير، وغير ذلك من التصانيف، وحديث الشيوخِ، وقال- أي ابن المنادي: وما زِلْنا نرى أكابِرَ شيوخِنا يشهدون له بمعرفةِ الرِّجالِ وعِلَل الحديث، والأسماءِ والكُنى، والمواظبة على طلَبِ الحديث في العراق وغيرها، ويذكُرونَ مِن أسلافهم الإقرارَ له بذلك، حتى إنَّ بعضَهم أسرفَ في تقريظه له بالمعرفة وزيادةِ السَّماعِ للحديث عن أبيه"، ولَمَّا مَرِضَ قيل له أين تُدفَنُ ؟ فقال: صحَّ عندي أنَّ بالقطعيَّة نبيًّا مدفونًا، ولَأن أكونَ بجوارِ نبيٍّ أحَبُّ إليَّ مِن أن أكونَ في جوار أبي، مات عن سبع وسبعين سنة، كما مات لها أبوه، واجتمع في جنازته خلقٌ كثيرٌ من الناس، وصلَّى عليه زهير ابن أخيه، ودُفِنَ في مقابِرِ باب التين- رحمَه الله تعالى.
هو سلطان المغرب الملقب بأمير المؤمنين، عبد المؤمن بن علي بن علوي الكومي، القيسي، المغربي التلمساني. وُلِدَ بأعمال تلمسان، سنة 487, وكان أبوه يصنع الفخار. كان أبيضَ جميلًا، تعلوه حُمرة، أسود الشعر، معتدل القامة، جَهْوري الصوت، فصيحًا جَزلَ المَنطِق، لا يراه أحدٌ إلَّا أحَبَّه بديهةً، وكان في كِبَره شَيخًا وقورًا، أبيض الشعر، كثَّ اللحية، واضِحَ بياض الأسنان، وكان عظيمَ الهامة، طويل القعدة، غليظَ الكف، أشهلَ العين، على خَدِّه الأيمن خالٌ, وكان كامِلَ السُّؤددِ، عاليَ الهمة، خليقًا للإمارة، وكان شديدَ السطوة، كان في جُودِه بالمال كالسَّيلِ، وفي محبته لحُسنِ الثناء كالعاشق. مجلِسُه مجلس وقار وهيبةٍ، مع طلاقةِ الوجه. انعمرت البلادُ في أيامه، وما لبس قَطُّ إلا الصوفَ طُولَ عُمُرِه. وما كان في مجلسِه حُصرٌ، بل مفروش بالحَصباءِ، وله سجادة من الخوص تحته خاصة. ظهر أمر عبد المؤمن بعد أن التقى بابن تومرت مُدَّعي المهدية والانتساب لآل البيت, وهو في طريق رجعته من المشرق إلى إفريقية، حيث صادفه عبد المؤمن، فحَدَّثه ووانسه، وقال: "إلى أين تسافر؟ قال: أطلبُ العلم. قال: قد وجدتَ طَلِبَتَك. ففَقَّهه وصحبه، وأحبه، وأفضى إليه بأسرارِه لِما رأى فيه من سمات النُّبل، فوجد همَّتَه كما في النفس. قال ابنُ تومرت يوما لخواصِّه: هذا غلَّاب الدُّوَل" قال ابن خَلِّكان: "وجد ابن تومرت عبدَ المؤمن- وهو إذ ذاك غلام- فأكرمه وقدَّمَه على أصحابه، وأفضى إليه بسِرِّه، وانتهى به إلى مراكش، وصاحِبُها يومئذ علي بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين، فأخرجه منها، ثم توجه إلى الجبال وحشد واستمال المصامدة، وبالجملة فإن ابن تومرت لم يملك شيئًا من البلاد، بل عبد المؤمن ملَكَ بعد وفاته بالجيوش التي جهَّزها ابن تومرت والترتيب الذي رتبه، وكان ابن تومرت يتفَرَّس فيه النجابةَ ويُنشِدُ إذا أبصره: تكاملت فيك أوصافٌ خُصِصْتَ بها فكلُّنا بك مسرورٌ ومُغتَبِطُ السنُّ ضاحكةٌ والكَفُّ مانِحةٌ والنفسُ واسعةٌ والوجهُ مُنبَسِطُ" لما توفي ابن تومرت سنة 524، كتم أصحابُه خبر موته، وجعلوا يَخرُجون من البيت، ويقولون: قال المهدي كذا، وأمر بكذا، وبقي عبد المؤمن يُغِيرُ في عسكره على القرى، ويعيشون من النهب، وبعد خمسة أعوام أفصحوا بموت ابن تومرت، وبايعوا عبد المؤمن ولقَّبوه بأمير المؤمنين. وأوَّل ما أخَذَ عبد المؤمن من البلاد وهران، ثم تلمسان، ثم فاس، ثم سلا، ثم سبتة. ثم حاصر مراكش أحد عشر شهرًا، فأخذها في أوائل سنة اثنتين وأربعين. وامتد مُلكُه إلى أقصى المغرب وأدناه، وبلاد إفريقية، وكثير من الأندلس، وسمى نفسه: أمير المؤمنين، وقصدته الشعراء وامتدحوه, ولما قال فيه الفقيه محمد بن أبي العباس التيفاشي هذه القصيدة، وأنشده إياها: ما هَزَّ عطفيه بين البيض والأسل مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي فلما أنشده هذا المطلع أشار إليه أن يقتصرَ عليه، وأجازه بألف دينار". لم يزل عبد المؤمن بعد موت ابن تومرت يقوى، ويَظهَر على النواحي، ويدوخ البلاد. استولى على مراكش كرسيِّ مُلك أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. قال سبط ابن الجوزي: "لما استولى عبد المؤمن على مراكش، قطع الدعوةَ لبني العباس ثمَّ قَتَل المُقاتِلة، ولم يتعرَّضْ للرعية، وأحضر أهلَ الذمَّة وقال: "إن المهديَّ أمرني ألَّا أُقِرَّ الناس إلا على ملَّة الإسلام، وأنا مخيِّرُكم بين ثلاث: إما أن تُسلِموا، وإما أن تلحقوا بدار الحرب، وإمَّا القتل. فأسلم طائفةٌ، ولحق بدار الحرب آخرون، وخَرَّبَ الكنائِسَ ورَدَّها مساجِدَ، وأبطل الجزيةَ، وفعل ذلك في جميع مملكته، ثم فرق في الناس بيتَ المال وكَنَسَه، وأمر الناس بالصلاةِ فيه اقتداءً بعلي رضي الله عنه، وليعلم الناسُ أنه لا يُؤثِرُ جمعَ المال, وقال: من ترك الصلاةَ ثلاثةَ أيَّامٍ فاقتلوه. وكان يصلِّي بالناس الصلوات، ويقرأ كل يومٍ سُبعًا، ويلبَسُ الصوفَ، ويصوم الاثنين والخميس، ويقسم الفيء على الوجه الشرعي، فأحبه الناس", ثم تملك بجاية وأعمالها وأما الأندلس فاختلت أحوالها اختلالًا بَيِّنًا أوجب تخاذل المرابطين وميلَهم إلى الراحة، فهانوا على الناس، واجترأ عليهم الفرنجُ، وقام بكل مدينة بالأندلس رئيس منهم فاستبَدَّ بالأمر، وأخرج مَن عنده من المرابطين. وكادت الأندلسُ تعود إلى مثل سيرتها بعد الأربعمائة عند زوال دولة بني أمية, فجهز عبد المؤمن الشيخَ أبا حفص عمر إينتي، فعدى البحر إلى الأندلس، فافتتح الجزيرةَ الخضراء، رندة، ثم افتتح إشبيليَّةَ، وغرناطة، وقرطبة. وسار عبد المؤمن في جيوشه وعبَرَ مِن زقاق سبتة، فنزل جبلَ طارق، وسماه: جبل الفتح. فأقام هناك شهرًا، وابتنى هناك قصرًا عظيمًا ومدينة، فوفد إليه رؤساء الأندلس، ومدحه شعراؤها، فمن ذلك: ما للعدى جنة أوفى من الهَرَبِ أين المفرُّ وخَيلُ الله في الطَّلَبِ فأين يذهبُ مَن في رأس شاهقةٍ وقد رمته سهامُ الله بالشُّهُبِ حدث عن الروم في أقطار أندلس والبحر قد ملأ البرين بالعرب فلما أتم القصيدةَ قال عبد المؤمن: بمثل هذا تُمدَحُ الخلفاء. عبد المؤمن هو خليفة ابن تومرت وعلى طريقته ودعوته، فكان يمتحن الناس في عصمة ابن تومرت ودعواه أنه المهدي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي يقولون: إنه معصوم، ويقولون في خطبة الجمعة: الإمام المعصوم والمهدي المعلوم، ويقال: إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصومًا". كما اشتهر عن عبد المؤمن تساهلُه في استباحة دماء خصومه من المسلمين، وسَبْي نسائهم وذراريهم إذا انتصر عليهم. كما فعل في مراكش؛ قال ابن الأثير"فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عَنوةً، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين فقُتلوا، وجَعَل إسحاق يرتعد رغبةً في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقام إليه سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفًا فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمِّك؟! اصبر صبْرَ الرجال؛ فهذا رجلٌ لا يخاف اللهَ ولا يدينُ بدين. فقام الموحِّدون إلى ابن الحاج بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقُدِّمَ إسحاق على صِغَرِ سِنِّه، فضُرِبَت عنقه" وأما في دكالة، فقال ابن الأثير عن عبد المؤمن "فأخذ الملثمين السيف، فدخلوا البحر، فقُتِل أكثرهم، وغُنِمَت إبلهم وأغنامهم وأموالهم، وسُبِيَت نساؤهم وذراريهم، فبيعت الجارية الحسناء بدراهم يسيرة، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش منتصرًا، وثبت ملكه، وخافه الناس في جميع المغرب، وأذعنوا له بالطاعة". وغيرهما من بلاد المسلمين في المغرب والأندلس. وفي تلمسان قال ابن الأثير: "وأما العسكر الذي كان على تلمسان، فإنهم قاتلوا أهلها، ونصبوا المجانيق، وأبراج الخشب، وزحفوا بالدبابات، وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان، فدام الحصار نحو سنة، فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن، بغير علم الفقيه عثمان، وأدخلوهم البلد، فلم يشعر أهله إلا والسيف يأخذهم، فقُتِلَ أكثر أهله، وسُبِيت الذرية والحريم، ونُهب من الأموال ما لا يحصى، ومن الجواهر ما لا تحَدُّ قيمتُه، ومَن لم يُقتَلْ بِيعَ بأوكس الأثمان، وكان عِدَّةُ القتلى مائة ألف قتيل، وقيل: إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان" في العشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، توفي عبد المؤمن. كان قد أمر الجيش بالجهاز لجهاد الروم، واستنفر الناس عامة، ثم سار حتى نزل بسلا، فمرض، وجاءه الأجل بها، في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وارتجت المغرب لموته، وكان قد جعل ولي عهده ابنه محمدا، وكان لا يَصلُح لطَيشِه وجُذامٍ به ولِشُربه الخمر، فتملك أيامًا، ثم خلعوه، واتفقوا على تولية أخيه أبي يعقوب يوسف، فبقي في الملك اثنتين وعشرين سنة، وخلف عبد المؤمن ستة عشر ولدًا ذكرًا.
كانت جزيرة جربة مقابل تونس من بلاد إفريقية قد استولت في كثرة عمارتها وخيراتها، غيرَ أن أهلَها طغَوا فلا يدخُلون تحت طاعة السلطان، ويُعرَفون بالفساد وقَطْع الطريق، فخرج إليها جمعٌ من الفرنج، من أهل صقلية، في أسطولٍ كثير وجَمٍّ غفير، فيه من مشهوري فرسان الفرنج جماعة، فنزلوا بساحتها وأداروا المراكب بجهاتها، واجتمع أهلها وقاتلوا قتالًا شديدًا، فوقع بين الفريقين حرب شديدة، فثبت أهل جربة، فقُتِل منهم بشر كثير، فانهزموا ومَلَك الفرنج الجزيرة، وغَنِموا أموالها وسَبَوا نساءَها وأطفالها، وهلك أكثَرُ رجالها، ومن بقي منهم أخذوا لأنفُسِهم أمانًا من رجار ملك صقلية، وافتكُّوا أَسراهم وسَبْيَهم وحريمَهم.
هو الإمامُ، العَلَّامةُ، الحافظُ، ذو الفُنونِ، القاضي أبو الوَليدِ سُليمانُ بنُ خَلَفِ بنِ سعدِ بن أيُّوبَ التَّجيبيُّ الأندَلُسيُّ، القُرطُبيُّ، الباجيُّ، الفَقِيهُ المالكيُّ، صاحبُ التَّصانيفِ. وَلِدَ سَنةَ 403هـ أَصلُه من مَدينةِ بطليوس، فتَحوَّل جَدُّهُ إلى باجةَ -بُليدَة بقُربِ إشبيلية- فنُسِبَ إليها، وليست باجة المدينةَ التي بإفريقية، التي يُنسَب إليها الحافظُ أبو محمدٍ عبدُ الله بنُ محمدِ بن عليٍّ الباجيُّ، وابنُه الحافظُ الأَوحَدُ أبو عُمرَ أحمدُ بنُ عبدِ الله بن الباجيِّ، وهُما من عُلماءِ الأندَلُس أيضًا. كان أبو الوَليدِ أَحَدَ الحُفَّاظِ المُكثِرينَ في الفِقهِ والحَديثِ، سَمِعَ الحَديثَ ورَحلَ فيه إلى بِلادِ المَشرقِ فسَمِعَ هناك الكَثيرَ، واجتَمعَ بأَئمَّةِ ذلك الوَقتِ، كالقاضي أبي الطَّيِّبِ الطَّبريِّ، وأبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ، وجاوَرَ بمكَّةَ ثلاثَ سِنينَ مع الشيخِ أبي ذَرٍّ الهَرويِّ، وأَقامَ ببغدادَ ثلاثَ سِنينَ، وبالمَوصِل سَنةً عند أبي جَعفرٍ السمنانيِّ قاضِيها، فأَخذَ عنه الفِقهَ والأُصولَ، وسَمِعَ الخَطيبَ البغداديَّ وسَمِعَ منه الخَطيبُ أيضًا، ثم عاد إلى بَلدِه بعدَ ثلاث عشرة سَنةً بِعِلمِ غَزيرٍ، حَصَّلَهُ مع الفَقرِ والتَّقَنُّعِ باليَسيرِ، وتَولَّى القَضاءَ هناك، ويُقالُ: إنَّه تَولَّى قَضاءَ حَلَب أيضًا. له مُصنَّفاتٌ عَديدةٌ منها: ((المُنتقَى في الفِقْه)), و((المعاني في شرح الموطأ))، و((إحكام الفُصول في أَحكام الأُصول))، و((الجَرْح والتَّعديل))، وغيرُ ذلك، قال القاضي عِياض: "آجَرَ أبو الوَليدِ نَفسَه ببغداد لِحِراسَةِ دَربٍ، وكان لمَّا رَجعَ إلى الأندَلُسِ يَضرِب وَرَقَ الذَّهَبِ للغَزْلِ، ويَعقِد الوَثائقَ، قال لي أَصحابُه: كان يَخرُج إلينا للإقراءِ وفي يَدهِ أَثَرُ المَطرَقَةِ، إلى أن فَشَا عِلمُه، وهَيَّتَت الدنيا به -أي شَهَرَتهُ وأَظهرَت اسمَه-، وعَظُمَ جاهُه، وأُجزِلَت صِلاتُه، حتى تُوفِّي عن مالٍ وافرٍ، وكان يَستَعمِلُه الأَعيانُ في تَرَسُّلِهم، ويَقبلُ جَوائِزَهم، وَلِيَ القَضاءَ بمَواضِعَ من الأندَلُس" قال الأَميرُ أبو نصرٍ: "أمَّا الباجي ذو الوِزارَتَينِ فَفَقِيهٌ مُتكَلِّمٌ، أَديبٌ شاعِرٌ، سَمِعَ بالعراقِ، ودَرَسَ الكلامَ، وصَنَّفَ, وكان جَليلًا رَفيعَ القَدرِ والخَطَرِ، قَبْرُه بالمرية", وقال القاضي أبو عليٍّ الصَّدَفيُّ: "ما رَأيتُ مِثلَ أبي الوليدِ الباجي، وما رَأيتُ أَحدًا على سَمْتِه وهَيئَتِه وتَوقيرِ مَجلِسِه". وقد جَرَت بينه وبين ابنِ حَزمٍ مُناوَأَةٌ شَديدةٌ كما جَرَت بينهما مُناظراتٌ كَثيرةٌ، قال القاضي عِياض: "كَثُرَت القالةُ في أبي الوليدِ لِمُداخَلَتِه للرُّؤساءِ" تُوفِّي بالمرية ليلةَ الخميسِ بين العِشاءَينِ التاسع والعشرين من رجب وعُمرُه إحدى وسبعون سَنةً.
بعد انتصار المسلمين على النصارى في معركةِ وادي المخازن التي توفِّيَ أثناءها أبو مروان عبد الملك السعدي, تمَّت بيعةُ المنصور أحمد بن محمد الشيخ السعدي المعروف بالذهبي، بعد أن اجتمع عليه مَن حضر هناك من أهل الحَلِّ والعقدِ، ثم لَمَّا قفل المنصور من غزوته تلك، ودخل حضرةَ فاس يوم الخميس عاشر جمادى الآخرة من هذه السنة جُدِّدت له البيعةُ بها ووافق عليه من لم يحضُر يوم وادي المخازن، ثم بعث إلى مراكش وغيرها من حواضر المغرب وبواديه فأذعن الكلُّ للطاعة وسارعوا إلى الدخول فيما دخلت فيه الجماعة.
في هذه السَّنَةِ خَرجَ أرمانوس مَلِكُ الرُّومِ في مائتي ألفٍ من الرُّومِ، والفِرنجِ، والغَربِ، والرُّوسِ، والبجناك، والكرج، وغَيرِهم، من طوائفِ تلك البِلادِ، فجاءوا في تَجَمُّلٍ كَثيرٍ، وزِيٍّ عَظيمٍ، وقَصدَ بِلادَ الإسلامِ، فوَصلَ إلى ملازكرد من أَعمالِ خلاط. فبَلغَ السُّلطانَ ألب أرسلان الخَبرُ. وهو بمَدينةِ خوي من أذربيجان، قد عاد من حَلَب. وسَمِعَ بكَثرَةِ الجُموعِ التي مع مَلِكِ الرُّومِ، فلم يَتَمَكَّن من جَمْعِ العَساكرِ لبُعدِها وقُرْبِ العَدُوِّ، فسَيَّرَ الأَثقالَ مع زَوجتِه ونِظامِ المُلْكِ إلى همذان، وسار هو فيمن عنده من العَساكرِ، وهُم خَمسة عشر ألف فارس. وَجَدَّ في السَّيْرِ وقال لهم: إنَّني أُقاتِلُ مُحتَسِبًا صابرًا، فإن سَلِمْتُ فنِعمةٌ مِن الله تعالى، وإن كانت الشهادةُ فإنَّ ابني ملكشاه وَلِيُّ عَهْدِي. وساروا فلمَّا قارَبَ العَدُوَّ جَعلَ له مُقدِّمةً، فصادَفَت مُقدِّمَتُه، عند خلاط، مُقدِّمَ الرُّوسِيَّة في نَحوِ عشرة آلاف من الرُّومِ، فاقتَتَلوا، فانهَزمَت الرُّوسِيَّةُ، وأَسَرَ مُقدِّمَهم، وحُمِلَ إلى السُّلطانِ، فجَدَعَ أَنْفَهُ، وأَنْفَذَ بالسَّلَبِ إلى نِظامِ المُلْكِ، وأَمرَهُ أن يُرسِلَهُ إلى بغداد، فلمَّا تَقارَب العَسكرانِ أَرسلَ السُّلطانُ إلى مَلِكِ الرُّومِ يَطلُب منه المُهادَنة، فقال: لا هُدْنَةَ إلَّا بالرَّيِّ. فانزَعجَ السُّلطانُ لذلك، فقال له إِمامُه وفَقِيهُه أبو نصرٍ محمدُ بن عبدِ المَلِكِ البُخاريُّ، الحَنَفيُّ: إنَّك تُقاتِل عن دِينٍ وَعَدَ الله بِنَصْرِهِ وإِظهارِهِ على سائرِ الأديانِ، وأَرجو أن يكون الله تعالى قد كَتبَ باسمِك هذا الفَتحَ، فالْقِهِم يومَ الجُمعةِ، بعدَ الزَّوالِ، في الساعةِ التي تكون الخُطباءُ على المنابرِ، فإنَّهم يَدعُون للمُجاهِدين بالنَّصرِ، والدُّعاءُ مَقرونٌ بالإجابةِ. فلمَّا كانت تلك الساعةُ صلَّى بهم، وبَكَى السُّلطانُ، فبَكَى الناسُ لِبُكائِه، وَدَعا ودَعَوا معه وقال لهم: مَن أَرادَ الانصرافَ فليَنصَرِف، فما هاهنا سُلطانٌ يأمرُ ويَنهى، وأَلقَى القَوْسَ والنِّشابَ، وأَخذَ السَّيفَ والدَّبُّوسَ – الدَّبُّوس آلة من آلاتِ الحَربِ تُشبِه الإِبْرَة-، وعَقَدَ ذَنَبَ فَرَسِه بِيَدِه، وفَعلَ عَسكرُه مِثلَه، ولَبِسَ البَياضَ وتَحَنَّطَ، وقال: إن قُتِلتُ فهذا كَفَني. وزَحَفَ إلى الرُّومِ وزَحَفوا إليه، فلمَّا قارَبَهم نَزلَ السُّلطانُ عن فَرَسِه وسَجَدَ لله عزَّ وجلَّ، ومَرَّغَ وَجهَه في التُّرابِ وَدَعا الله واستَنصَرَهُ، فأَنزلَ الله نَصرَهُ على المُسلمينَ، ومَنَحَهم أَكتافَهم فقَتَلوا منهم خَلْقًا كَثيرًا، وأُسِرَ مَلِكُهم أرمانوس، أَسَرَهُ غُلامٌ رُومِيٌّ، فلمَّا أُوقِفَ بين يدي المَلِكِ ألب أرسلان ضَرَبَهُ بِيَدِه ثلاثَ مَقارِع وقال: لو كنتُ أنا الأَسيرَ بين يَديكَ ما كنتَ تفعل؟ قال: كلَّ قَبيحٍ. قال: فما ظَنُّكَ بي؟ فقال: إمَّا أن تقتل تَقتُلَني وتُشْهِرَني في بِلادِك، وإمَّا أن تَعفُو وتَأخُذ الفِداءَ وتُعيدَني. قال: ما عَزمتُ على غَيرِ العَفوِ والفِداءِ. فافتَدَى نَفسَه منه بألف ألف دِينارٍ وخمسمائة ألف دينار، فلما انتهى إلى بِلادِه وَجدَ الرُّومَ قد مَلَّكوا عليهم غَيرَه، فأَرسلَ إلى السُّلطانِ يَعتَذِر إليه، وبَعثَ من الذَّهبِ والجَواهِر ما يُقارِب ثلاثمائة ألف دينار، وتَزَهَّدَ ولَبِسَ الصُّوفَ ثم استغاث بملك الأرمن فأَخذَه وكحله وأَرسلَه إلى السُّلطانِ يَتَقَرَّبُ إليه بذلك.
كان جَدُّ السلاجقةِ بغاق من مشايخِ التُّركِ القُدَماء، الذين لهم رأيٌ ومَكيدة ومكانةٌ عند مَلِكهم الأعظَم، ونشأ ولدُه سلجوق نجيبًا شَهمًا، فقَدَّمه المَلِك ولقَّبه شباسي، فأطاعَتْه الجيوشُ وانقاد له النَّاسُ بحيث تخوَّفَ منه المَلِك وأراد قَتْلَه، فهرب منه إلى بلادِ المسلمين، فلمَّا خالط المسلمينَ أسلم فازداد عِزًّا وعلُوًّا، ثم توفِّيَ عن مِئَة وسبع سنين، وخلَّف من الأبناء أرسلان وميكائيل وموسى، فأمَّا ميكائيل فإنه اعتنى بقتالِ الكُفَّار من الأتراك، حتى قُتِلَ شَهيدًا، وخَلَّفَ ولديه طغرلبك محمد، وجعفر بك داود، فعَظُم شأنُهما في بني عَمِّهما، واجتمع عليهما التركُ مِن المؤمنين، وهم تُركُ الإيمانِ الذين يقول لهم النَّاسُ ترُكمان، وهم السَّلاجقة بنو سلجوق.
كان مَلِكُ قشتالة ألفونسو ملك النصارى قد طلب من محمَّدِ بنِ يوسف بن الأحمر حاكِمِ غرناطةَ الساحِلَ من مالقةَ إلى المرية فاستعان ابنُ الأحمر بالمتطَوِّعة والمجاهدين الذين وفدوا إليه من المغربِ فهزم الأسبان واسترد منهم مدينةَ شريش وقادس، وأخذ ألفونسو أسيرًا. ثم اجتمع العدوُّ المخذول في جمع كبير، ونازلوا غرناطة فانتصر عليهم المسلمون، وقتلوا منهم مقتلةً عظيمة، وجُمِع من رؤوسِهم نحو خمسة وأربعين ألف رأس، فعملوها كومًا، وأذَّنَ المسلمونَ فَوقَه، وأسروا منهم عشرة آلاف أسير. وكان ذلك في رمضان. وانهزم ألفونسو إلى إشبيلية، وهي له، وكان قد دَفَنَ أباه بها بالجامع، فأخرجه من قبرِه خوفًا من استيلاء المسلمين، وحمله إلى طليطلة. واسترجع المسلمون اثنين وثلاثين بلدًا، من جملتِها إشبيلية ومرسية.
وقَعَت مُفاداةُ الأُسارى بين المسلمينَ والرُّوم، واجتمع المسلِمونَ على نهرِ اللَّامس، على مسيرةِ يومٍ مِن طرسوس، واشترى الواثِقُ من بغداد وغيرِها من الروم، وعقَدَ الواثِقُ لأحمد بن سعيد بن سلم بن قُتيبة الباهلي على الثغور والعواصِم، وأمره بحضورِ الفِداءِ هو وخاقان الخادِم، وأمَرَهما أن يمتحنا أَسرى المُسلِمينَ، فمن قال: القرآنُ مَخلوقٌ، وإنَّ اللهَ لا يُرى في الآخرةِ، فوُدِيَ به، وأعطِيَ دِينارًا، ومن لم يقُلْ ذلك تُرِكَ في أيدي الرُّومِ. فاجتمع المسلِمونَ ومن معهم من الأَسرى على النَّهرِ، وأتت الرومُ ومَن معهم من الأَسرى، وكان النَّهرُ بين الطائفَتَينِ، فكان المسلِمونَ يُطلِقونَ الأسيرَ فيُطلِقُ الرُّومُ مِن المسلمينَ، فيلتقيانِ في وسط النَّهرِ، ويأتي هذا أصحابُه، فإذا وصل الأسيرُ إلى المسلمينَ كَبَّروا، وإذا وصل الأسيرُ إلى الرومِ صاحوا حتى فَرَغوا، وكان عِدَّةُ أسرى المسلمين أربعةَ آلافٍ وأربعَمائة وستين نفسًا، والنِّساء والصبيان ثمانيمائة، وأهلُ ذِمَّة المسلمين مائةُ نفس، وكان النهر مخاضةً تَعبُرُه الأسرى، وقيل، بل كان عليه جِسرٌ.
خَرَج بِحَضرمَوت طالبُ الحَقِّ عبدُ الله بن يحيى الكِندي إمامُ الإباضِيَّة؛ تَغلَّب عليها واجْتَمع عليه الإباضِيَّةُ. ثمَّ سار إلى صَنعاء وبها القاسِمُ بن عُمَر الثَّقفي فوقَع بينهم قِتالٌ كَثيرٌ، انْتَصر فيه طالبُ الحَقِّ وهَرَب القاسِمُ وقُتِلَ أخوه الصَّلْتُ، واسْتَولى طالبُ الحَقِّ على صَنعاء وأَعمالَها، ثمَّ جَهَّز إلى مَكَّة عشرةَ آلاف وبها عبدُ الواحد بن سُليمان بن عبدِ الملك بن مَرْوان فغَلَبوا على مَكَّة وخَرَج منها عبدُ الواحد، وكان على الجَيشِ أبو حَمزَة المُختار ثمَّ سارَ إلى المَدينَة وحَصَل قِتالٌ بينهم فاسْتَولى كذلك على المَدينَة، ثمَّ تَوجَّه إلى الشَّام فأَرسَل له مَرْوان جَيشًا بِقِيادة عبدِ الملك بن محمَّد بن عَطِيَّة الذي هَزَم جَيشَ أبي حَمزَة وأَكمَل سَيْرَهُ إلى المَدينَة ومَكَّة وصَنعاء.
بعد أن هرب السلطانُ العادِلُ كتبغا من حسام الدين لاجين وأمرائِه الذين حاولوا قتْلَه، كان قد قَدِمَ قبله إلى دمشق أميرُ شكاره وهو مجروح، ليُعلِمَ الأمير أغرلو نائب دمشق بما وقع، فوصَلَ في يوم الأربعاء آخر المحرم، فكثُرَ بدمشق القالُ والقيل، وألبس أغرلو العسكرَ السلاح ووقفوا خارجَ باب النصر، فوصل كتبغا في أربعةِ أنفس قبل الغروبِ وصَعِدَ القلعة، وحضر إليه الأمراءُ والقُضاة وجُدِّدَت له الأيمان، ثم أوقَعَ الحوطة على أموالِ لاجين، وقَدِمَ في أول صفر الأمير زين الدين غلبك العادلي بطائفةٍ مِن المماليك العادليَّة، وجلس شهابُ الدين الحنفي وزير الملك العادل كتبغا في الوزارة بالقلعةِ، ورتَّبَ الأمور وأحوال السلطنةِ، فاشتهرت بدمشقِ سلطنةُ الملك المنصور حسام الدين لاجين في اليومِ الثالث عشر من محرَّم، وأنَّ البشائِرَ دُقَّت بصفد ونابلس والكرك، فصار كتبغا مقيمًا بقلعة دمشق لا ينزِلُ منها، وبعث الأميرُ سيف الدين طقصبا الناصري في جماعةٍ لكشف الخبر، فعادوا وأخبروا بصِحَّةِ سلطنة لاجين، فأمر كتبغا جماعةً من دمشق، وأبطل عدَّةَ مكوس في يومِ الجمعة السادس عشر صفر، وكتب بذلك توقيعًا قُرِئَ بالجامع، فبعث المَلِكُ المنصور لاجين من مصرَ الأمير سنقر الأعسر وكان في خدمتِه، فوصل إلى ظاهِرِ دمشق في الرابع عشر صفر، وأقام ثلاثةَ أيام، فرَّقَ عِدَّةَ كُتُبٍ على الأمراء وغيرهم وأخذ الأجوبةَ عنها، وحلف الأمراءُ، وسار إلى قارا وكان بها عِدَّةُ أمراء مجرَّدين فحَلَّفَهم وحلَّف عدَّةً من الناس، وكتب بذلك كلِّه إلى مصر، وسار إلى لد، فأقام بها في جماعةٍ كبيرة لحفظ البلاد، ولم يعلَمْ كتبغا بشيءٍ من ذلك، وكان قد وصل الأميرُ سيف الدين كجكن وعِدَّةٌ من الأمراء كانوا مجرَّدينَ بالرَّحبة، فلم يدخلوا دمشق، ونزلوا بميدان الحصا قريبًا من مسجد القدم، فأعلنوا باسم السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين، وراسلوا الأمراءَ بدمشق فخرجوا إليهم طائفةً بعد طائفة، وانحَلَّ أمر كتبغا، فتدارك نفسَه وقال للأمراء: السلطانُ الملك المنصورُ لاجين خوشداشي- زميل مهنتي- وأنا في خِدمتِه وطاعتِه، وأنا أكونُ في بعض القاعات بالقلعةِ إلى أن يكاتِبَ السُّلطانَ ويَرِدَ جوابُه بما يقتضيه في أمري فأدخله الأميرُ جاغان الحسامي مكانًا من القلعة، واجتمع الأمراءُ بباب الميدان، وحَلَفوا للملك المنصور وكتبوا إليه بذلك، وحفظ جاغان القلعةَ ورَتَّبَ بها من يحفَظُ كتبغا، وغُلِّقَت أبواب دمشق كلُّها إلا باب النصر، ورَكِبَ العسكر بالسلاح ظاهِرَ دمشق، وأحاط جماعةٌ بالقلعةِ خَوفًا من خروج كتبغا وتحيُّزه في جهةٍ أخرى، وكثُرَ كلام الناس واختلفت أقوالُهم، وعظم اجتماعُهم بظاهر دمشق حتى إنَّه سقط في الخندقِ جماعةٌ لشدة الزحام فيما بين باب النصرِ وباب القلعة، فمات نحوُ العشرة، واستمر الحالُ على هذا ذلك اليوم، ثم دُقَّت البشائر بعد العصر على القلعةِ، وأعلن بالدعاء للملك المنصور لاجين، ودُعِيَ له على المآذِنِ في ليلة الأحد، وضُرِبَت البشائر على أبواب الأمراء، وفُتِحَت الأبواب في يوم الأحد، وحضر الأمراءُ والقضاة بدار السعادة وحلف الأمراء بحضور الأمير أغرلو نائب الشام، وحلف هو وأظهر السرور، وركب أغرلو والأمير جاغان البريد إلى مصر، وبلغ ذلك الأمير سنقر الأعسر بلد، فنهض إلى دمشق ودخلها يوم الخميس التاسِعَ عشر، وقد تلقاه الناس وأشعلوا له الشموع، وأتاه الأعيان، ونودي من له مَظلمةٌ فعليه بباب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وفي يوم الجمعةِ أوَّل شهر ربيع الأول خُطِبَ بدمشق للملك المنصور، فلما كان يومُ الجمعة ثامنه: وصل الأميرُ حسام الدين الأستادار بعسكر مصر ليحلِّفَ الأمراء، فحَلَفوا بدار السعادة في يوم السبت تاسِعَه، وقرئ عليهم كتابُ الملك المنصور باستقراره في المُلك وجُلوسِه على تخت الملك بقلعة الجبل، واجتماعِ الكلمة عليه وركوبه بالتشاريفِ الخليفيَّة والتقليد بين يديه من أمير المؤمنينَ الحاكِم بأمر الله أبي العباس أحمد.
هو السُّلطانُ الملك الأفضل علي بن يوسف بن أيوب بن شاذي. ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين، ولد يوم عيد الفطر سنة 565 بالقاهرة، وقيل: سنة ست وستين. وسمع من عبد الله بن بري النحوي، وأبي الطاهر إسماعيل بن عوف الزهري، وأجاز له جماعة. وله شِعر حسن، وترسُّل، وخط مليح. وكان أسنَّ إخوانه، وإليه كانت ولاية عهد أبيه. ولما مات أبوه، كان معه بدمشق، فاستقل بسلطنتها، واستقل أخوه الملك العزيز بمصر، وأخوهما الظاهر بحلب. ثم جرت للأفضل والعزيز فتن وحروب، ثم اتفق العزيز وعمه الملك العادل على الأفضل، وقصدا دمشق، وحاصراه، وأخذاها منه، فالتجأ إلى صرخد، وأقام بها قليلًا، فمات العزيز بمصر، وقام ولده المنصور محمد وهو صبي، فطلبوا له الملك الأفضل ليكون أتابكه، فقدم مصر، ومشى في ركاب الصبي. ثم إن العادل عَمِلَ على الأفضل، وقَدِمَ مصر وأخذها، ودفع إلى الأفضل ثلاثة مدائن بالشرق، فسار إليها، فلم يحصل له سوى سميساط، فأقام بها ولم يزَلْ بها إلى أن توفي بها، وكان خيرًا، وما أحسن ما قال القاضي الفاضل: "أمَّا هذا البيت، فإن الآباء منه اتَّفقوا فمَلَكوا، والأبناء منه اختلفوا فهلكوا". قال الذهبي: "كان فيه تشيُّع". وقد قال ابن الأثير " إنَّه ما ملك الأفضل شيئًا من البلاد إلا وأخذه عمُّه منه، بل ذكر أنه رأى عمودًا من الرخام الفاخر في بيت المقدس فقيل له إنه كان للأفضل، ثم أخذه منه عمه العادل"، ولما مات الأفضل اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى، ولم يقوَ أحد منهم على الباقين ليستبدَّ بالأمر.
هي المَلِكةُ عِصمةُ الدين أمُّ خليل شَجَرةُ الدر كانت تركيةَ الجنس، وقيل بل أرمنيَّة، اشتراها الملِكُ الصالح نجم الدين أيوب، وحَظِيَت عنده بحيث كان لا يفارِقُها سفرًا ولا حضرًا، هي أوَّلُ مَن ملك مصر من ملوكِ الترك المماليكِ، وذلك أنَّه لما قُتِلَ الملك المعظم غياث الدين توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب، اجتمع الأمراءُ المماليك البحرية، وأعيانُ الدولة وأهل المشورة، بالدهليز السلطاني، واتفقوا على إقامةِ شَجرةِ الدر أمِّ خليل زوجةِ الملك الصالح نجم الدين أيوب، في مملكةِ مِصرَ، وأن تكونَ العلاماتُ السلطانيَّة على التواقيعِ تَبرُز مِن قِبَلِها، وأن يكون مُقَدَّم العسكر الأميرَ عِزَّ الدين أيبك التركماني الصالحيَّ أحدَ البحرية، وحَلَفوا على ذلك في عاشر صفر، وخرج عزُّ الدين التركماني من المعسكَرِ إلى قلعة الجبل، وأنهى إلى شَجرةِ الدر ما جرى من الاتفاقِ، فأعجَبَها، وصارت الأمورُ كُلُّها معقودةً بها، والتواقيعُ تبرز من قلعة الجبل، وعلامتُها عليها والدةُ خليل، وخُطِبَ لها على منابِرِ مصر والقاهرة، ونُقِشَ اسمها على السكة، ومثالُه المستعصمة الصالحيَّة، ملكةُ المسلمين، والِدةُ الملك المنصورِ خليلٍ أمير المؤمنين، وكان الخطباءُ يقولون في الدعاء: اللهمَّ أدِمْ سلطان السِّترِ الرفيع، والحِجابِ المنيع، مَلِكة المسلمين، والِدَة الملك الخليل، وبَعضُهم كان يقول بعد الدعاء للخليفة: واحفَظِ اللهم الجُبَّةَ الصالحيَّة، ملكةَ المسلمين، عِصمةَ الدنيا والدين، أمَّ خليل المستعصميَّة صاحبة الملك الصالحِ.
اجتمع جماعةٌ مِن القوَّادِ والجُند والأُمَراء على خَلعِ المُقتَدِر وتوليةِ عبدِ الله بن المعتَزِّ الخلافةَ، فأجابهم ابنُ المعتَزِّ على ألَّا يُسفَكَ بسَبَبِه دَمٌ، وكان المقتَدِرُ قد خرج يلعَبُ بالصولجان، فقصد إليه الحُسَينُ بن حمدان يريد أن يفتِكَ به، فلما سمع المقتَدِرُ الصَّيحةَ بادر إلى دارِ الخلافةِ فأغلقها دونَ الجيشِ، واجتمع الأمراءُ والأعيانُ والقُضاة في دارِ المخرمي فبايعوا عبدَ الله بن المعتَزِّ، وخوطب بالخلافة، ولُقِّبَ بالمرتضي بالله، واستوزر أبا عُبَيد الله محمَّد بن داود وبعث إلى المقتَدِر يأمُرُه بالتحَوُّلِ من دار الخلافةِ إلى دار ابنِ طاهرٍ لينتَقِلَ إليها، فأجابه بالسَّمعِ والطاعة، فركِبَ الحُسَين بن حمدان من الغَدِ إلى دار الخلافةِ ليتسَلَّمَها فقاتله الخدَمُ ومَن فيها، ولم يُسَلِّموها إليه، وهَزَموه فلم يقدِرْ على تخليصِ أهلِه ومالِه إلَّا بالجَهدِ، ثم ارتحلَ مِن فَورِه إلى الموصِل وتفَرَّقَ نظامُ ابنِ المعتَزِّ وجماعتِه، فأراد ابنُ المعتز أن يتحوَّلَ إلى سامرَّا لينزِلَها، فلم يتْبَعْه أحدٌ من الأمراء، فدخل دارَ ابنِ الجصَّاص فاستجار به فأجاره، ووقع النَّهبُ في البلد واختبط النَّاسُ، وبعث المقتَدِرُ إلى أصحابِ ابنِ المعتَزِّ فقُبِض عليهم وقُتِلَ أكثرُهم، وأعاد ابنَ الفرات إلى الوزارةِ، فجَدَّد البيعةَ إلى المقتَدِر، وأرسل إلى دار ابنِ الجصَّاص فتسَلَّمَها، وأحضر ابنَ المعتَزِّ وابنَ الجصاص فصادر ابنَ الجصَّاص بمالٍ جزيلٍ جِدًّا، نحوُ ستة عشر ألفَ ألف درهم، ثم أطلَقَه واعتقل ابن المعتَزِّ، فلما دخل في ربيع الآخر ليلتان ظهَرَ للنَّاسِ مَوتُه وأُخرِجَت جُثَّتُه، فسُلِّمَت إلى أهله فدُفِن، وصَفَحَ المُقتَدِر عن بقيَّةِ مَن سعى في هذه الفتنةِ حتى لا تفسُدَ نيَّاتُ الناس، قال ابن الجوزي: "ولا يُعرَفُ خليفةٌ خُلِعَ ثم أعيدَ إلَّا الأمينُ والمُقتَدِر".
في هذا الشَّهرِ كانت وقعةُ أهلِ الذِّمَّة، وهي أنهم كانوا قد تزايد تَرَفُهم بالقاهرة ومصر، وتفَنَّنوا في ركوب الخَيلِ المُسَوَّمة والبَغلات الرائعة بالحُليِّ الفاخرة، ولَبِسوا الثيابَ السريَّة، ووُلوا الأعمالَ الجليلة، فاتفق قدومُ وزير ملك المغرب يريدُ الحَجَّ، واجتمع بالسلطانِ والأمراء، وبينما هو تحت القلعة إذا برجلٍ راكب فرسًا وحَولَه عِدَّةٌ من الناس مشاةٌ في ركابِه، يتضَرَّعونَ له ويسألونه ويقَبِّلون رجليه، وهو مُعرِضٌ عنهم لا يعبأُ بهم، بل ينهَرُهم ويصيح في غِلمانِه بطَردِهم، فقيل للمغربي: إنَّ هذا الرَّاكِبَ نصرانيٌّ، فشَقَّ عليه، واجتمع بالأميرين بيبرس وسلار وحدَّثهما بما رآه، وأنكر ذلك وبكى بكاءً كثيرًا، وشَنَّعَ في أمر النصارى وقال: كيف ترجون النَّصرَ والنصارى تركَبُ عندكم الخيول وتلبَسُ العمائِمَ البِيضَ، وتُذِلُّ المسلمين وتُشبِهُهم في خدمتِكم؟! وأطال القولَ في الإنكار وما يلزَمُ وُلاةَ الأمور من إهانةِ أهل الذِّمَّة وتغيير زيِّهم، فأثَّرَ كلامُه في نفوس الأمراء، فرَسَم أن يُعقَدَ مَجلِسٌ بحضور الحُكَّام، واستُدعِيَت القضاة والفُقَهاء، وطُلِبَ بطرك النصارى، وبرز مرسومُ السلطان بحَملِ أهل الذمة على ما يقتضيه الشَّرعُ المحَمَّدي، فاجتمع القضاةُ بالمدرسةِ الصالحية بين القصرين، ونُدِبَ لذلك من بينهم قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي الحنفي، وطُلِبَ بطرك النصارى، وجماعةٌ من أساقفتهم وأكابر قِسِّيسِيهم وأعيان مِلَّتِهم، وديَّان اليهود وأكابِر مِلَّتِهم، وسُئِلوا عما أقَرُّوا عليه في خلافة أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه مِن عَقدِ الذِّمَّة، فلم يأتوا عن ذلك بجواب، وطال الكلامُ معهم إلى أن استقَرَّ الحالُ على أنَّ النصارى تتميَّزُ بلباس العمائِمِ الزُّرقِ، واليهودَ بلُبسِ العمائم الصُّفر، ومُنِعوا من ركوبِ الخَيلِ والبِغالِ، ومِن كُلِّ ما منعهم منه الشارِعُ صَلَّى الله عليه وسلم، وأُلزِموا بما شَرَطَه عليهم أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالتزموا ذلك وأُشهِدَ عليه البطرك أنَّه حَرَّم على جميع النصرانية مخالفةَ ذلك والعُدول عنه، وقال رئيس اليهود ودانهم: أوقعت الكَلِمةَ على سائِرِ اليهود في مخالفةِ ذلك والخروج عنه وانفَضَّ المجلس، وطُولِعَ السلطان والأمراء مما وقع، فكتب إلى أعمالِ مِصرَ والشام به، ولَمَّا كان يوم خميس العهدِ وهو العشرون من شهر رجب جُمِعَ النصارى واليهود بالقاهرة ومصر وظواهِرِها، ورُسِمَ ألَّا يُستخدَمَ أحَدٌ منهم بديوانِ السُّلطانِ ولا بدواوينِ الأمراءِ، وألَّا يَركَبوا خيلًا وبغالًا، وأن يلتَزِموا سائِرَ ما شُرِطَ عليهم، ونودِيَ بذلك في القاهرةِ ومصر، وهدد من خالفه بسفك دمه، فانحصر النصارى من ذلك، وسَعَوا بالأموال في إبطالِ ما تقَرَّر، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير في إمضاءِ ما ذُكِرَ قيامًا محمودًا، وصَمَّم تصميمًا زائدًا، فاضطر الحالُ بالنصارى إلى الإذعان، وأسلَمَ أمين الملك عبد الله بن العنام مستوفي الصحبةِ وخَلقٌ كثيرٌ، حرصًا منهم على بقاءِ رياستِهم، وأنفةً مِن لُبسِ العمائِمِ الزُّرقِ وركوب الحَميرِ، وخرج البريدُ بحَملِ النصارى واليهود فيما بين دنقلة من النوبة والفرات على ما تقَدَّمَ ذِكرُه، وامتَدَّت أيدي العامَّة إلى كنائس اليهود والنصارى، فهَدَموها بفتوى الشَّيخِ الفَقيهِ نجم الدين أحمد بن محمد بن الرفعة، فطَلَب الأمراءُ القُضاةَ والفقهاءَ للنَّظَرِ في أمر الكنائس، فصَرَّحَ ابن الرفعة بوجوب هَدمِها، وامتنع من ذلك قاضي القضاةِ تقي الدين محمد بن دقيق العيد، واحتَجَّ بأنَّه إذا قامت البيِّنةُ بأنها أُحدِثَت في الإسلامِ تُهدَمُ، وإلَّا فلا يُتعَرَّض لها، ووافَقَه البقيَّةُ على هذا وانفَضُّوا، وكان أهلُ الإسكندريةِ لما ورد عليهم مرسومُ السلطان في أمر الذمَّة ثاروا بالنَّصارى وهَدَّموا لهم كنيستين، وهَدَّموا دُورَ اليهود والنصارى التي تعلو على دُورِ جيرانِهم المُسلِمينَ، وحَطُّوا مساطِبَ حوانيتِهم حتى صارت أسفَلَ مِن حوانيت المسلمين، وهُدِمَ بالفيومِ أيضًا كَنيستانِ، وقَدِمَ البريد في أمر الذمَّة إلى دمشق يوم الاثنين سابع شعبان، فاجتمع القضاةُ والأعيان عند الأمير أقش الأفرم، وقرئ عليهم مرسومُ السلطان بذلك، فنودي في الخامس عشر أن يَلبَسَ النصارى العمائِمَ الزُّرقَ، واليهودُ العمائمَ الصُّفرَ، والسَّامرةُ العمائِمَ الحُمر، وهُدِّدوا على المخالفة، فالتزم النصارى واليهود بسائِرِ مملكة مصر والشام ما أُمِروا به، وصَبَغوا عمائِمَهم إلَّا أهل الكركِ؛ فإن الأمير جمال الدين أقش الأفرم الأشرفي النائبُ بها رأى إبقاءَهم على حالتِهم، واعتذَرَ بأنَّ أكثَرَ أهل الكرك نصارى، فلم يغَيِّرْ أهلُ الكرك والشوبك من النصارى العمائِمَ البيض، وبَقِيَت الكنائسُ بأرض مصر مدة سنةٍ مُغَلَّقة حتى قَدِمَت رسل الأشكري ملك الفرنج تشفَعُ في فتحِها، ففُتِحَت كنيسةُ المُعَلَّقة بمدينة مصر، وكنيسة ميكائيل الملكيَّة، ثم قدمت رسل ملوك أخر، ففُتِحَت كنيسةُ حارة وزويلة، وكنيسة نقولا.